newmultkaschool
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

newmultkaschool

ملتقى الأبحاث الاتاريخية
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 12:52 pm


المغول ( التتار )
بين
الانتشار والإنكسار

علي محمد محمد الصَّلاَّبِّي

الفصل الأول:
المشروع المغولي وغزوهم لبلاد المسلمين

المبحث الأول: الجذور التاريخية للمغول:
أولاً: أهمية دراسة تاريخ المغول: يصادف المؤرخ عقبات عسيرة عند محاولته دراسة تاريخ المغول، إذ أن سيرة القبائل البدوية تبدو كأنها لن تتسق أو تنتظم، فإن أحداث تاريخها بلغت من شدة الاضطراب، ما يجعل من المستحيل التماس خيط واحد يضم هذه القبائل بأسرها، فالأحداث الداخلية والحروب التي نشبت دائماً بين القبائل والتي لا بد للمؤرخ من تتبعها حتى يقف على ما يجري بين هذه القبائل من محالفات، كانت من العوامل التي تضلل المؤرخ وتعطله على المضي في دراسته، يضاف إلى ذلك ما أحاط بالتاريخ المبكر للمغول من الغموض والاختلاط بالأساطير، فضلاً عن الافتقار إلى السجلات والوثائق التي يصح الركون إليها ، ومن المتاعب التي يصادفها الباحث أيضاً امتداد واتساع الأراضي التي كانت تنزل فيها الشعوب المغولية، فليس لتاريخ المغول حدود جغرافية، فقد زالت الحواجز التي تحد من استقرارهم، وما اتصف به المغول من بسالة خارقة حملهم على أن يتغلبوا على أخطار الصحاري المترامية الأطراف وأن يجتازوا الجبال، وأن يعبروا البحار والأنهار وأن يقهروا قسوة المناخ، وأن يصبروا على ما تعرضوا له من الأوبئة والمجاعات، فلا يخشون المخاطر، ولا تصدهم المعاقل ولا يحركهم كل توسل للرحمة والرأفة وأينما سرح خيالهم سارت جموعهم، فكم من المدن الزاهرة اندثرت في ليلة واحدة، ولم يبق لها من الأثر سوى الخرائب والتلال التي أقامتها جثث الضحايا وما كان يعقب الغزوات المغولية من هدوء لم يكن في الواقع هو الهدوء الذي يسيطر على عالم سئم القتال والتقاتل، وحرص على أن ينعم من جديد بثمار المدنية، بل كانت الأنفاس الأخيرة التي تلتقطها الأمم قبل أن تتوارى وتختفى نهائياً ، ومن بواعث الاهتمام بدراسة تاريخ المغول، ما كان لهم من تاريخ بالغ الشدة، أو المساحات الشاسعة التي كانت مسرحاً لأعمالهم، فكل محاولة لتقدير طبيعة الدراسة وما نجم عنها من نتائج، سوف تكون شيقة ومثمرة، والمعروف أن المغول قاموا بغزو روسيا والمجر وسيليزيا، وما أوجدوه من تغييرات على مستوى الساحة الأوربية، وهذا التغيير يعكس أيضاً ما نشب من الحروب الصليبية بين المسلمين، والمسيحيين، وما كان من عداء بين البابوية والإمبراطورية، وما تعذر على أوربا والشام من تدمير قوة الحشيشية، كان أمراً بالغ السهولة عند المغول الذين دمروا معاقلهم ومواطنهم سنة 1256م والواقع أن اسم المغولي كان مصدراً للرعب والخوف عند الأوربيين، فأضحوا عاجزين عن مقاومتهم ولو لم ينهض السلطان المملوكي قطز سنة 1260م، لرد الغزاة في لحظة حاسمة، فليس ثمة أدنى شك في أن جانباً كبيراً من أوربا خضع لهم، على أن ما تعرضت له أوربا من خطر المغول، لم يبلغ من الشدة ما بلغه هذا الخطر في آسيا، فما حدث من تدمير بغداد وزوال الخلافة العباسية سنة 1258م واستئصال شأفة أسرة كين، سنة 1234م وهي الأسرة التي كانت تحكم شمال الصين فضلاً عن غزو جنوب الصين وخوارزم وفارس وسائر الأقاليم المجاورة، وإقامة حكم المغول قي الهند، وهذا ليس إلا طائفة من الأحداث التي يكفي الواحد منها الدلالة على أهمية دراسة تاريخ المغول، ومن الظواهر الجديرة بالاهتمام، أنه كلما سقطت حضارة أو مدنية عقبها حركة إحياء ضخمة، تنبعث من بين أنقاض وآثار الحضارة التي دمرتها الغارات المتتالية، فمثلاً بعد استيلاء الرومان على بلاد اليونان، حدثت حركة إحياء في مجال الفنون والآداب وحدث بعد استيلاء العثمانيين على أملاك الدولة البيزنطية بأن ازداد الإقبال على دراسة كنوز المعرفة، وبعد دخول المسلمين لأسبانيا وفتحها وصل إلى أوربا في العصور الوسطى شعاع العلم والطب والفلسفة والشعر، وهذه النماذج تنطبق على المغول، إذ أن سقوط بغداد في أيامهم أدى إلى انتقال مركز الدراسات الإنسانية إلى مصر، وفي نفس الوقت تفرق العلماء والأدباء في أنحاء العالم الإسلامي، فزاد ذلك من قوة الجامعات والمدارس بالجهات التي حلوا بها ، يضاف إلى ذلك أن انتقال مركز الجاذبية من بغداد إلى القاهرة، هيأ للعالم الغربي أن يحصل على ثقافة الشرق وعلومه، بالإضافة إلى الاحتكاك في زمن الحروب الصليبية.
ومن ناحية أخرى، يعتبر ظهور المغول بالغ الأهمية لما حدث في آسيا من تطورات أخرى وأول هذه التطورات وأجدرها بالصدارة، ما جرى من توحيد آسيا، غير أنه لا يصح تفسير هذا بالمعنى المعروف لنا الآن عن الوحدة السياسية أو التجانس فالحكومة المغولية كفلت السلام والأمن في إمبراطورية مترامية الأطراف، فالطرق سابلة مفتوحة، يطمئن المسافر إلى اجتيازها، ما لم يصادف أثناء سيره موكب جنازة لأحد الخانات وعندئذ يكون مصيره الموت المحقق ، ومن خصائص المغول أيضاً، ما اشتهروا به من التسامح الديني، على أن ما جرى من تعليل ذلك التسامح، بأنه يرجع إلى ما اشتهر به المغول من عدم الاكتراث بالدين، يعتبر حكماً لا يستند إلى أساس متين والراجح أن هذا التسامح لم يكن المقصود منه سوى الإفادة من الأشخاص الأكفاء مهما اختلفت ديانتهم .
ثانياًـ التعريف بالمغول: ظهر المغول على مسرح أحداث التاريخ العالمي في أواخر القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي ثم برزوا، كقوة عالمية ذات شهرة دولية واسعة النطاق خارج نطاق موطنهم الأصلي ـ منغوليا في خلال العقدين الأول والثاني من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي وقد استطاعوا أن يؤسسوا لهم أكبر إمبراطورية عالمية عرفها تاريخ البشرية في اقصر مدة، حيث تكونت إمبراطوريتهم الواسعة الأرجاء، والمترامية الأطراف في خلال الثلاثة عقود الأخرى من الجزر اليابانية والمحيط الهادي شرقاً إلى قلب القارة الأوربية غرباً، ومن سيبريا وبحر البلطيق شمالاً إلى الحدود الشمالية للجزيرة العربية وبلاد الشام وفلسطين جنوباً ولقد عرَّفهم مؤرخونا، العرب منهم على وجه الخصوص والذين عاصروا أحداث ظهور المغول وغزواتهم للعالم الإسلامي بأنهم هم، التتر أو التتار وقد نهج منهجهم من جاء بعدهم من المؤرخين، بل وحتى الأغلبية من مؤرخي المغول في عصرنا الحاضر، على أن هذه التسمية الخاطئة لم تقتصر فقط على المؤرخين المسلمين من العرب، بل وسار على ذلك التعريف الخاطئ المؤرخون والرحالة الأوربيين الأقدمون منهم على وجه التخصيص، إلا أن المؤرخين الأوربيين المستشرقين الكبار، أمثال بريتسكنيدر وبارثولد الروسيين، وسيولر الألماني وبويل الإنجليزي وغيرهم، عرفوا الفرق بين التتار والمغول وذلك من خلال ما كتبه المؤرخ المسلم رشيد الدين الوزير، وخاصة ما كتبه في كتابه المشهور"جامع التواريخ"، ثم ما كتبه المؤرخون الصينيون، والتي ترجمت كتبهم إلى بعض اللغات الأوربية الحديثة، كالروسية، الألمانية والفرنسية، والإنجليزية، كما عرف المستشرقون ذلك أيضاً مما كتب باللغة المغولية، ويتمثل ذلك بصورة رئيسية بالكتاب المعروف بـ"التاريخ السري للمغلول أو تاريخ المغلول السري" بناء على هذا، نجد أن المغول شيء والتتار شيء آخر، ويمكن أن توجد صلة تعريفية بين الاثنين ـ المغول والتتار ـ فتقول بكلمات مقتصرة: أن التتار مغول وليس المغول تتراً، فالتتار شعبة متفرعة من المغول، وليس المغول فرع من التتار، فالأصل هنا هم المغول، وليس الأصل التتار، وعلى الرغم من أن التتار تفرعوا أصلاً من المغول، وأصبح لهم دولة مستقلة، سيطرت على المغول حقبة من الزمن ـ إلا أنه في الفترة التي نتكلم عنها الآن، وكما سيأتي بإذن الله، جاء المغول تحت زعامة جنكيز خان، فهزم التتار، فقتلوا رجالهم/ وسبوا نساءهم واسترقوا أطفالهم، ولهذا نجد أن التتار قد تلاشوا على يد الزعيم المغولي العظيم، وأصبح المغول هم أصحاب الدولة والغلبة، فأسسوا إمبراطورية لهم عرفت في التاريخ بالمغول وليست بالتتار .

ثالثاً: موطن المغول الأصلي:
عاشت القبائل المغولية في المنطقة الواقعة في وسط آسيا بين نهري "سيحون وجيحون" من الغرب حتى حدود الصين الجبلية من جهة الشرق ممتدة حتى أقصى الشمال الشرقي لآسيا ، وتوسع البعض في حدودها حتى امتدد بها إلى البحر الأدرياتيكي ويمكن هضبة منغوليا وسلاسل جبال "تيان شان" وجبال "التاي" وما بينهما من سهول وصحراء جنوبي وحول بحيرة "بايكال" وضفاف الأنهار الموجودة في تلك المنطقة ، الموطن الرئيس لهذه القبائل، التي كانت تستقر في السهول الواقعة بين سلاسل الجبال ومناطقها الدافئة شتاءً حيث تتوفر المراعي لحيواناتهم، وفي الصيف يستقرون في المرتفعات وأعالي الجبال لمدة شهرين أو ثلاثة حيث تكون المنطقة باردة وتتوفر فيها المياه والمراعي.
إن بعد هذه المناطق الشديد عن البحار فضلاً عن ارتفاعها أسهم في أن يخصها بمناخ "قاري" ـ إذ تتراوح درجة الحرارة في معظم أجزائها ما بين 38 فوق الصفر و42 تحت الصفر ـ مما يؤدي إلى تجمد أنهارها وبحيراتها فترة طويلة من أشهر السنة، بالإضافة إلى الرياح الشديدة التي تهب من المنطقة الجنوبية في سيبريا الواقعة شمالاً ، وتنعكس هذه الحالة في فصل الصيف حيث ترتفع الحرارة وتهب الرياح الشديدة المحملة بالرمال وفي هذه البيئة القاسية، كانت هذه القبائل التي تعيش على الصيد والرعي تجري وراء المياه القليلة في "صحراء جوبي" التي يعني اسمها الجدب والفقر ، وفي السهول بين الجبال وتعتلي المرتفعات وراء العشب والمرعى وكلما زحف الجفاف أو قلت الأعشاب انتقلوا إلى أرض مجاورة يدفعهم إلى ذلك تزايد عدد القطعان والماشية، وهذا الارتحال والتنقل هو القاعدة الطبيعية لحياتهم، وإذا احتبست الأمطار أو تعرضت المراعي للآفات وقلة الأعشاب تبعاً لذلك وجد الراعي نفسه أمام خطر فقدان ماشيته ـ وهي مصدر رزقه ـ ثم التعرض للمجاعة وهذا بدوره يدفعه إلى السرقة، والنهب والسلب ممن يجاورونه من السكان الذين يشتغلون في الزراعة، ومن هنا تقوم الحروب والغارات والاعتداءات والأخذ بالثأر ، وبالرغم من وحدة أصول هذه الأقوام، إلا أنه كانوا ينقسمون إلى قبائل عديدة تتزايد أعدادها يوماً بعد يوماً بحكم انقسامها على نفسها وانفصالها عن بعض حاملة أسماء جديدة، تفرعت إليها وعرفت بها .

ربعاً: القبائل التي تكون منها المجتمع المغولي.
في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي "السادس الهجري" كان ينزل شمال منشوريا، ومنغوليا، وتركستان، قبائل بدوية متأخرة تتخذ من الرعي والصيد مهنة لها، تنتقل وراء العشب من مكان إلى آخر وتنتمي هذه القبائل من الناحية اللغوية إلى مجموعات: مجموعة تركيا، ومجموعات منغولية، ومجموعات تنفوذية، ويصعب على المؤرخ أن يفصل بشكل قاطع بين هذه المجموعات وذلك لأن صلات معينة قامت بينهم جعلت ألقابهم، وعاداتهم وكلامهم متقاربة، ومن هذه المجموعات:
أ‌. القبائل التركية:
ـ قبيلة توركش: وهذه القبيلة من أشهر القبائل التركية في الغرب، وكانت رؤساؤها يلقبون بلقب "خان" وبقية هذه القبيلة محافظة على استقلالها إلى أن قضى عليها العرب المسلمون بقيادة "نصر بن سيار"، ومن ولاة الدولة الأموية في عهد "هشام بن عبد الملك" عام 121هـ 739م.
ـ قبيلة القرغيز: وهم من الترك الذين كانوا ينزلون في أعالي نهر "ينسي"، وكان أميرهم يلقب بـ"خاقان" اشتهروا سياسياً حوالي سنة 250هـ، 840م، حينما تغلبوا على "الأويغور" من منغوليا ولكن "الخطا" هزموهم وطردوهم من منغوليا في أوائل القرن الرابع الهجري، ثم احترفوا الزراعة، وبعد ذلك خضعوا للمغول زمن "جنكيز خان" سنة 1218م.
ـ قبيلة الأغوز "الغُز في اللغة العربية": وهم من القبائل التركية وذكرتهم نقوش "أرخون" في القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي" باسم "التغزغز" ـ أي القبائل العشرة ـ لأنهم كانوا يتألفون من عشر قبائل. دخل "الغز" إلى البلاد الإسلامية في نهاية القرن الرابع الهجري "العاشر الميلادي" وينتمي السلاجقة إلى قبيلة "الغز"، وقد أقاموا إمبراطورية امتدت من تركستان حتى حدود مصر .
ـ قبيلة القارلوق: أصبحت لهم أهمية سنة 149هـ "766م" حينما احتلوا وادي نهر "جو" بعد سقوط إمبراطورية "خاقان" الترك الغربيين/ لم يتخذ أمراؤهم لقب "خاقان" وإنما اكتفوا بإتخاذ لقب "يبغوا"، وكانوا كفاراً حتى القرن الرابع الهجري "العاشر الميلادي" ويقول "ابن حوقل" ان بلادهم كانت تمتد من "فرغانة" مسافة يجتازها المسافر في ثلاثين يوماً، ولقربهم من البلاد الإسلامية، تأثروا بالحضارة الفارسية، ولم يلبثوا أن اشتغلوا بالزراعة، وجرت الاشارة إليهم لآخر مرة في القرن الثالث عشر الميلادي "الرابع الهجري"

ب ـ القبائل غير التركية:
الخطا (أو قرة خيتاوي) أو خيتاوي وكلها أسماء لشعب خيتاي:
الراجح أنهم من القبائل التونفوزية "ويرى البعض أنهم مغول" كانوا أعداءً للترك الذين ينزلون أقصى الشرق في المنطقة التي بلغها "الأتراك" في حملاتهم وفي بداية القرن الرابع الهجري "العاشر الميلادي" قام "الخيتاي" بحملات حربية من أجل التوسع، فاستولوا على شمال الصين، كما اخضعوا شمال منشوريا ووطدوا نفوذهم في جنوب الصين، بعد ذلك امتدت مملكتهم من بلاد القرقيز ـ على نهر ينسي ـ شمالاً حتى بلغ جنوباً، ومن خوارزم غرباً إلى بلاد الأويغور شرقاً وكانت "بالاساغن" عاصمتهم وكانت لقب ملكهم "الكورخان" ـ أي اخان الخانات ـ ولما تحطمت مملكتهم وحلت مملكة الأمير "كجلك" النايماني في جانب من أملاكهم، اتخذ آخر ملوك "قره خيتاي" العادات والملابس الإسلامية، وبقى إقليم ما وراء النهر في أيديهم، إلى أن انتزعه منهم علاء الدين محمد خوارزم شاه سنة 612هـ، وتداعت مملكتهم بفضل نشاط الأمراء المسلمين في الغرب، وطغيان المغول في الشرق .
ـ التتار: وكان التتار في القرن الثاني الهجري "الثامن الميلادي" قسمين: الأول: تسع قبائل، والثاني: ثلاثين قبيلة، وكانوا يسكنون جنوب غربي بحيرة "بايكال"حتى نهر "كيرولين"، وهم ثلاث أقسام:
• التتار البيض: وهم الذين ينزلون خارج سور الصين.
• التتار السود: وكانوا ينزلون شمال صحراء "جوبي"، وكانوا بدواً رحلاً.
• تتار الغابة: وكانوا يعيشون حول الروافد العليا لنهري "أونون" و"كيرولين"، ومارسوا حياة الصيد.

وعلى الغرم من أن المغول الذين قاموا بالغزوات والفتوح المشهورة في القرن السابع الهجري "الثالث الميلادي" كانوا يعرفون باسم "التتار" في كل مكان وكان يسحب هذا الاسم على أسلاف "جنكيز خان" وعلى النايمان فقد كان "التتار" قبائل مستقلة عن المغول، بينما صار اسم "مغول" يطلق على جميع الشعوب التي خضعت لجنكيز خان بعد قهرها، ولم تلبث لفظة "تتار" أن تغلبت عليها/ خاصة في الجهات الغربية من الإمبراطورية المغولية، وهنا ينبغي أن نوضح حقيقة هامة هو أن لفظي "المغول" و"التتار" اسمان لقبيلتين كانت تعيشان في القسم الشرقي من آسيا الوسطى وفي الشمال الغربي من الصين، على أنهار اولدزا وكيرولين، وأرخون، وأونون وسائر روافد نهر عامور .
ـ قبيلة الكرايت: أقاموا لهم مملكة احتلت المنطقة الممتدة من نهر أرخون وجبال كنتاري حتى سور الصين، وقد تغلبت على جميع العناصر المغولية، وتحولوا إلى النسطورية بين عامي 400ـ 402 هـ ( 1007ـ 1009م) على يد أسقف نسطوري مقيم في "مرو" ومنذ ذلك الحين صاروا يدينون" بالنسطورية" وفي القرن السادس الهجري" الثاني عشر الميلادي" اتخذوا زعماؤهم أسماء مسيحية وكان طغرل من أشهر ملوكهم استطاع أن يطرد عمه الذي كان ينافسه على العرش، وذلك بمساعدة رئيس مغولي هو" يوسحاي" والد"جانكيز خان" الذي ظل من أتباعه ـ واستطاع طغرل أن يهزم" التتار" وبذلك صار أقوى ملك في منغوليا ومنحه الإمبراطور"كين" لقب"وانج" واشتهر بـ"وانج خان" .
ـ قبيلة النايمان:
يبدو من إسمهم أنهم مغول" نايمان" ـ معناها ثمانيةـ ولكن ألقابهم كانت تركية ولذا يصح اعتبارهم(تركاًـ مغول) كان النايمان يسكنون غرب منازل" الكرايت" وامتدت منازلهم حتى نهر" ارتيش". كانت ديانتهم" الشامانية" إلا أن النسطورية نفدت اليهم .
ـ قبيلة برجقين المغولية: كانت تسكن عند أنهار "تولا، أرنون، وكيرولين"، وإلى هذه القبيلة ينسب "جانكيز خان"، توالى نزول القبائل المغولية على ضفاف هذه الأنهار بالقرب من هذه القبيلة ابتداء من "كيرولين" شرقاً حتى بحيرة "بيكال" غرباً .
كان المغول الأصليون ـ أجداد جانكيز خان ـ يشتغلون بالرعي ويعيشون على الصيد، وذلك لأن منازلهم كانت تقع بين السهول والغابات ويفصل نهر سرداريا "سيحون" بين العالم التركي المغولي والعالم الإسلامي ولهذا السبب ظل المغول الترك محافظين على تقاليد عنصرهم بأن بقوا وثنيين، أو بوذيين، أو نساطرة، وكانت الحضارة الصينية أشد الحضارات تأثيراً عليهم .

خامساً: حياة المغول الاجتماعية: كان المجتمع المغولي يقوم على الطبقية، فقد كانت القبيلة مقسمة إلى ثلاث طبقات(طبقة النبلاء، وكانوا يلقبون بالألقاب "بهادر" أي الباسل "وتوبان" ـ أي النبيل ـ "وستسن" ـ أي الحكيم ـ، والطبقة الثانية هي طبقة الـ"نوكور" ـ أي الأحرار ـ وعلى هؤلاء كان يرتكز النظام العسكري والسياسي في منغوليا، زمن "جنكيز خان" وكانوا يؤلفون طبقة المحاربين والموالين له.
والطبقة الثالثة، هي طبقة العامة، وطبقة الأرقاء وكان لكل جماعة أو عشيرة من المغول رئيساً، قد يكون ملكاً "خان ، قان" أو زعيماً "باكي أو بكي، وبهذا اللقب اشتهر رؤساء قبائل الغابة أمثال "أويرات، ومركيت . وكانت بعض القبائل الصغيرة تلجأ أحياناً إلى إحدى القبائل الكبيرة على عادة البدو في كل مكان،وذلك لعجزها عن الدفاع عن نفسها كما حدث لقبيلة "الجلائر" في علاقاتها مع أجداد "جنكيز خان"، وما جرى أيضاً لقبيلتي "القنقران، والأويرات" حينما خضعتا لجنكيز خان، لقد أثرت البيئة التي عاشت فيها تلك القبائل تأثيراً كبيراً على حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، فمناخها القاري والسعي وراء الأعشاب لرعي الماشية والأغنام فرضت عليهم مع مرور الزمن نمطاً معيناً من الحياة، فقد عاش الترك المغول الذين أقاموا في منطقة الغابات، حول بحيرة "بايكال" ونهر عامور، عيشة المتبربرين ، ويعيشون على صيد الحيوانات في الغابات، وعلى صيد السمك في الأنهار والبحيرة، وأما الذين كانوا يعيشون في الاستبس فقد عاشوا على تربية الخيل والماشية والأغنام،يلتمسون العشب، ويسير الرجل في أثر قطعانه وتوزيع المراعي والمياه حدد مجال تحركهم في فصول السنة وكثيراً ما كانت تحركاتهم نحو المراعي سبباً في المنازعات والغارات والسلب والنهب وما كان يمارسه الرعاة من التدريب المستمر على ركوب الخيل والسعي لاكتشاف المراعي والمياه، واستخدام الأسلحة، وما يتصفون به من قوة الاحتمال، ومعاناة الجهد والتعب، والشجاعة، والميل إلى الحركة، وحب المخاطر، واتساع الأفق، وحب التسلط، كل ذلك جعل رجال هذه القبائل عبارة عن جنود بارعين وجيش جاهز في كل لحظة، وعندما جاء "جنكيز خان" واستطاع توحيد هذه القبائل تحت حكمه، نظم لهم نوعاً من الحياة الاجتماعية مستفيداً من التجارب التي عاشها والشدائد التي عاناها، وما قام به من حروب وغزوات، وكيف ما نظمه فيما يعرف بـ"الياسا" ذلك لأنه كان حريصاً على جمع كلمة القبائل الخاضعة له، وعلى كبح جماحها، والزامها بالنزول على حكمه، فاشتمل هذا القانون على عقوبات بالغة الصرامة، حتى يقضي على أسباب الفوضى، ويعيد الأمن إلى نصابه، وتحدد في هذا القانون علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة المحكومين بعضهم ببعض، وعلاقة الفرد بالمجتمع وقد نجح جنكيز خان، في هذا الغرض واستطاع ان يحول جموع المغول إلى جيوش منظمة، تسير وفقاً لخطط حربية مرسومة وكان المغول يتخذون من لحوم الحيوانات على اختلافها من خيول وكلاب وذئاب وثعالب وفيران، وغذائهم قليل وخاصة في الشتاء إذ تقسوا عليهم الطبيعة، ولهم طريقة في حفظ اللحوم، وهي انه إذا مات عندهم حيوان قطعوا لحمه شرائح رقيقة وعلقوها في الشمس والهواء لتجف دون أن تعتريها العفونة وكانت ملابسهم بسيطة جداً تتفق والبيئة التي يعيشون فيها وكانت في الغالب مصنوعة من أصواف أو وبر الإبل أو من جلود الحيوانات ولم يكن فرق كبير بين ملابس الرجال وملابس النساء وكان من عادة المغول انهم لا يغيرون ملابسهم طول فصل الشتاء، وأما في الصيف فيكتفون لتغيرها مرة واحدة كل شهر، ومن عادتهم ألا يغسلوا ثيابهم أبداً بل يلبسونها حتى تبلى وكان من عادتهم ان يطلوا أجسادهم بالشحم اتقاء البرد والرطوبة .
ـ سادساً: دين المغول:
وأما عن ديانتهم فإن دارس تاريخ هؤلاء الأقوام يجد صعوبة في التعرف على المبادئ الصحيحة، فبعض المراجع تذكر نتفاً قليلة لا تشفى غليلا وبعضهم لا يذكر شيئاً، فقد قال ابن كثير عن عقيدتهم: وهم مع ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت، ولا يحرمون شيئاً، ويأكلون ما وجدوه من الحيوانات والميتات ، ويحتوي"الياسا" كما ذكر ابن كثير نقلا عن الجويتي بعض المبادئ التي منها: .. أنه من زنى قتل محصناً أو غير محصناً، وكذلك من لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن انغمس فيه قتل، ومن أطعم أسيراً أو رمى إلى أحد شيئاً من المأكول قتل، بل يناوله من يده إلى يده، ومن أطعم أحداً شيئاً فليأكل منه أولاً ولو كان المطعوم أميراً لا أسيراً ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل، ومن ذبح حيواناً ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولاً . وقد جاء في حديث لأحد ملوكهم وهو "منكو خان" "1251م ـ 1260م" في لقائه مع الرحالة "رويركي" قال: "… نحن المغول نعتقد بأن هناك إلهاً واحداً له نحيا وله نموت وعندنا قلب يخفق بحبه، لكن الله أعطى اليد أصابع مختلفة كذلك أعطى الناس طرقاً مختلفة، فقد أعطاكم الكتاب المقدس، لكن المسيحيين لم يحافظوا عليه، وقد أعطى "الشماناس" ونحن نفعل ما يأمروننا به ونعيش بسلام . وذكر الجويني: … أن "جنكيز خان" لم يكن متحمساً لدين معين وأن أولاده مالوا مع رغباتهم فمنهم من مال إلى الإسلام ومن مال إلى المسيحية وآخرون إلى عبادة الأصنام، وغيرهم حسب قاعدة الآباء والأجداد ، وأما ابن فضل الله العمري فيقول: … الظاهر من عموم مذاهبهم الإدانة بوحدانية الله وأنه خلق السماوات والأرض .
وفي تعريف الديانة الشمانية يقول الدكتور القزاز: كانت الديانة الرسمية للمغول تسمى"بالشامانزم" وتتمثل بعبادة مظاهر الطبيعة وخاصة الشمس، وتمتاز بشدة الطاعة لكهنتها الذين يتولون بدورهم الحياة الخاصة لأتباعها، كما يدل على ذلك حديث"منكوخان" إلى الرحالة"رويركي" الذي مر ذكره، ولم تستطع تعاليمها الصمود أمام الديانات الأخرى التي احتك بها المغول، الأمر الذي أدى إلى ذوبانها وتحول المغول عنها إلى البوذية في الصين، والإسلام في البلاد الإسلامية والمسيحية في روسيا . وأما أرنولد فقد كتب كانت"الشامانية" الديانة القديمة للمغول، الذين كانوا على رغم اعترافهم بإله عظيم قادر، لا يؤدون له الصلوات، وإنما كانوا يعبدون طائفة من "الآلهة" المنحطة وبخاصة تلك "الآلهة"الشريرة التي كانوا يتقدمون إليها بالقرابين والضحايا لما كانوا يعتقدون فيها من السلطان والقدرة على إيذائهم.
كما كانوا يعبدون أرواح أجدادهم القدامى التي كانوا يعتبرونها ذات سلطان عظيم على حياة أعقابهم، ولكي يوفق المغول بين هذه القوى السماوية والعالم السفلي كانوا يلجأون إلى القسيسين، وهم "الشامان" والسحرة أو إلى رجال الطب، الذين كانوا يعتبرونهم ذوي نفوذ خفي وسلطان غريب على عناصر الموتى وأرواحهم، ولم يكن دينهم معدوداً من تلك الأديان التي تستطيع أن تقاوم كثيراً جهود هذه الأديان الكثيرة الأتباع والأنصار ذات اللاهوت المنظم الذي يملك قوة الإقناع وسد حاجات العقل، وذات الهيئات المنظمة، للمعلمين الدينيين، ومن ثم تأثر المغول بديانات تلك الشعوب ، فهذه عقيدة المغول المنحرفة والفاسدة ، ويرى الباحث إسماعيل عبد العزيز الخالدي، بأن عقيدة المغول المشوهة والتي أشار إليها المؤرخون هنا وهناك ما هي إلا بقايا عقيدة صحيحة كانت صيحة جاءت عن طريق بعض الرسل، مصدقاً لقوه تعالي: "إن أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلافها نذير" ـ فاطر ، الآية: 24 ـ ولكن الانحرافات البشرية المتمثلة في تدخل بعض الناس حكاماً أو زعماء، أو علماء ـ في العقيدة ـ بالإضافة أو الحذف إتباعاً للشيطان والهوى أو وصولاً إلى شهوة ‎، أو رغبة في انتقام أو إظهاراً لمكانة.. أو.. كل ذلك جعل هذه العقيدة تصل إلينا بشكل مشوه، ولكن الذي يتفحص هذه النتف القليلة يرجع أن هذه النصوص ما هي إلا بقايا عقيدة وصلتنا مشوهة، وهم يعترفون بوجود إله واحد وأنه خلق السماوات والأرض ولكنهم يشركون معه بعض المخلوقات مثل "الشمس" "والأرواح" وغيرها، وهم يستنكرون القتل والزنا واللواط، والكذب، والسحر، والتجسس، وكلها من صميم النواهي والمحرمات التي حرمها الله سبحانه وتعالى على عباده بواسطة الرسل الكرام، وإذا وجدنا العقاب قاسياً على بعض هذه الجرائم، فإن هذه القسوة علامة التشويه التي وضعتها يد الإنسان الظالمة ظانين أنهم بهذا إنما يكملون نقصاً أو يستفيدون من تجربة ، وخلاصة القول إن الأستاذ إسماعيل الخالدي رجح بأنه كان لهذه الأمة عقيدة صحيحة تشوهت مع مرور الزمن ثم ترك كثير من أوامرها إلى أن جاء "جنكيز خان" فأمر بكتابتها بالخط "الأويغوري" وكتبت بعد أن أضاف إليها ما يعتقد أنه ينفع أمته ويقوي ملكه .
هذا وقد امتدت اليد الإنسانية إلى العقائد السماوية، بالتبديل والتحريف والتشويه، ابتداء من العقيدة التي أنزلت على آدم عليه السلام ومروراً بعقيدة إبراهيم وإسماعيل التي شوهت في الجزيرة العربية، وعقيدة موسى التي شوهت على أيدي اليهود، وانتهاء بعقيدة عيسى التي شوهت على أيدي "النصارى ، وقد أكد القرآن هذه الحقيقة في أكثر من موضع وكفى به قولاً وفصلاً وذلك في مثل قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم، إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا" ـ النساء، آية : 171 ـ وقال تعالى عن اليهود: "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه…" ـ المائدة ، الآية : 13 ـ.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 12:54 pm

سابعاً: تداعي المجتمع المغولي قبيل جنكيز خان:
1 ـ الفوضى في منغوليا: الواقع أنه باستثناء الترك الأويغور والخطا اللذين استقروا في جنوب منطقة الاستبس، وباستثناء منغوليا الأصلية، هوت بقية منغوليا إلى حالة بالغة من الشدة والاضطراب والهمجية، فلم يكن بين التتار والمغول والكرايت، والنايمان ما كان معروفاً باسم مدن البلاط، فليست مدن الأويغور سوى معسكرات مدورة تقوم حول مخيم الزعيم، والواضح أن هذا المعسكر ينقض إذا ارتحل الزعيم أو الخان ـ على أنه حدث عند ولادة جنكيز خان، أنه لم يكن بالاستبس المغولي أو ما يليها من الغابات شيء من هذه المعسكرات، ففي منغوليا، في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، لا نكاد نلتقي إلا بالدساكر الصغيرة التي ينزلها جماعات قليلة من الأسرات التي تمتهن الرعي وفي كثير من الأحيان لا نصادف إلا سكرة واحدة، وهذا مثال إنما نلمسه في نوع الحياة السائدة، أثناء حداثة جنكيز خان وأخوته، حينما تخلى عنهم أعمامهم، وأضحوا مضطرين إلى ممارسة الصيد، وحياة الكفاف ، والواقع أن الروابط السياسية والاجتماعية تمزقت في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، بسبب الفوضى التي استمرت زمناً طويلاً، فلم يكن للمغول التايجيوت ولا غيرهم خانات، فعاشوا في فوضى شاملة، لما حدث من التنازع بين التايجوت وجنكيز خان، ولما وقع من الخصومة بين جنكيز خان وجاموكا، يضاف إلى ذلك ما نشب من التشاحن بين القبائل والعشائر المغولية على مواطن الرعي، ومواقع المعسكرات، ومن الدليل على ذلك ما كان من محاولات جنكيز خان، بعد وفاة أبيه، تجميع شتات العشائر، وما درج عليه المغول من الزواج من خارج قبيلتهم أما عن طريق التراضي والمفاوضات وأما عن طريق الاختطاف مثلما حدث في زواج جنكيز خان، ووالده، كل ذلك أدى في ظروف كثيرة إلى الحروب .
2 ـ محاولات توحيد القبائل المغولية: جرت محاولات عديدة قبل ظهور جنكيز خان، لتوحيد القبائل المغولية، غير أن هذه المحاولات ذهبت أدراج الرياح، وقد تحدث المؤرخون عن جد المغول، بدانتسار، الذي اشتهر بالمكر والخديعة واستطاع أن يفوز بالزعامة على قبيلة تعيش في الجهات المجاورة لمنازله على الشاطئ الشرقي لبحيرة بايكال ولم تلبث أسرات عديدة أن التمست حماية ابنه قيدو، فتزايد عدد رعاياه ولم يلبث أن اتخذ لقب خان، هذه كانت النواة الأولى لمملكة المغول وكان لقيدو ثلاثة أبناء، كان أكبرهم جداً لأسرة قيات التي ينتمي إليها جنكيز خان، بينما كان الثاني جداً لأسرة التايجيوت وشهد جنكيز خان في حداثته ما وقع بين الأسرتين من تنافس وتنازع وبلغت الملكية الأولى للمغول ذروتها زمن كايل حفيد قيدو، بعد أن توطدت العلاقة بين المغول وأسرة كين التي كانت تحكم بشمال الصين، نظراً لما تتعرض له من تهديد من جانب منغوليا غير أنه وقع من المشاحنات بين خان المغول"كايل" وملك الصين "تاي سونج" ما أدى إلى نشوب الحرب بينهما سنة 1135م، وحلت الهزيمة بجيش الصين سنة 1139م ويعتبر هذا التاريخ بداية لنهوض المغول وعلى الرغم من سيادة أسرة كين على منشوريا، وشمال الصين، فإنها أضحت تحس بخطر المغول بعد أن امتد سلطانهم نحو الشمال الغربي لمنغوليا، وبعد أن أخضعوا التتار النازلين على الضفة الجنوبية لنهر كيرولين، ولم يسع إمبراطور الصين الشمالية "التان خان" من أسرة كين إلا أن يثير العداء بين المغول والتتار، فنشبت معارك عديدة اشترك فيها "يسوكاي" من سلالة كايل والد جنكيز خان، والذي صرع أحد زعماء التتار واسمه "تيموجين" ولتخليد هذا الانتصار أطلق "يسوكاي" على ابنه عند ولادته اسم "تيموجين"، وهو الذي صار يعرف فيما بعد باسم "جنكيز خان"، وتلى ذلك فترة أضحى فيها للتتار النفوذ والسلطان بفضل مساندة أسرة كين بما بذلته لهم من الإمدادات الحربية، وبما لجأت إليه من أساليب السياسة والدهاء والمكر، فضلاً عن جيوش التتار، كل ذلك أدى إلى تداعي مملكة المغول الناشئة، وسيطرت التتار على شرق صحراء جوبي، بعد أن كان في حوزة المغول، وصار التتار مصدر خطر على أسرة كين ذاتها، فلم تلبث هذه الأسرة الملكية بالصين الشمالية أن انقلبت عليهم، فهيأت الفرصة لأن ينتصر جنكيز خان عليهم، وعلى الرغم من أن يسوكاي لم يكن إلا رئيس أسرة بورجقين، من عشرة قبات، فقد اشتهر يسوكاي بأنه كان محارباً شجاعاً وقائداً بارعاً، وسبق الإشارة إلى ما أحرزه من انتصار على أحد زعماء التتار، واسمه تيموجين، ثم نهض إلى مساعدة طغرل زعيم الكرايت في الغرب لاسترداد عرشه، وتحالف الاثنان على أن يكونا يداً واحدة، وأفاد جنكيز خان فيما بعد من هذا التحالف ، وقد تزوج يوسكاي بهادور "الباسل" من هوئيلون "يولون" من قبيلة المركيت وأنجب منها أربع أبناء أكبرهم تموجين، ثم جوش قسار وقاتشيون، وتيموجي فضلاً عن ابنة. وكان له من زوجتين أخريين بكتر ويلجوتاي .

ثامناً: أحوال العالم الإسلامي قبيل الغزو المغولي.
كان العالم الإسلامي في المرحلة التي بدأ فيها ظهور المغول منقسماً إلى مجموعة من الممالك والدويلات الصغيرة بعضها قوي وبعضها ضعيف سواء من الناحية العسكرية أو الاقتصادية، كما تميزت هذه الممالك والدويلات بالتنازع مع بعضها البعض من أجل السيطرة أو التوسع على حساب الأخرى ، وكان الحكام المتنازعون يؤثرون مصالحهم الشخصية على مصالح المسلمين العليا متناسين قول الله تعالى: "… ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" ـ الأنفال ، الآية 47 ـ وكانوا في سلوكهم الخاص ومعاملاتهم لشعوبهم أو لبعضهم بعضا قد تخلوا عن قواعد الإسلام ومبادئه وانحرفوا عنه انحرافاً شديداً وانتشرت بينهم الموبقات، من معاقرة للخمر، وقتل الوقت بحضور حفلات الرقص الماجن وارتكاب الفواحش، واللهو الخليع، وقد تبعهم في ذلك كبار قادتهم، وكثير من يلوذ بهم من الناس، ولما لا؟ والناس على دين ملوكهم، وكان من نتيجة تخليهم عن أخلاق الإسلام فقدان روح التضحية وحب الاستشهاد مما أضعف الروح المعنوية في حروبهم مع المغول وذلك هو "الوهن" الذي حذر منه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه حين قال: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثر ولكنهم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ، وكانت الأمة قد تفرقت وتمزقت، ففي كل ناحية سلطان وفي كل قبيلة أمير ورحم الله القائل:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

وانتهوا إلى بلاء شامل قال الله تعالى فيهم: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً واحلوا قومهم دار البوار" ـ إبراهيم ، الآية 28 ـ لقد غلبت عندهم المعيشة، ورخص الإنسان وعمرت المراقص والحانات، وخربت دور العبادة وقل عدد الملتزمين من الحكام وخاصتهم بالفضائل، وأطلقوا العنان لشهواتهم وأكرموا أهل النفاق والكفر فكانوا كما قال الله عز وجل: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" ـ النحل ، آية 112 ـ وما يعنينا من العالم الإسلامي في هذا الموضوع هو الجانب الشرقي منه، أما الغربي منه في المغرب والأندلس فلقد كان هناك أيضاً الصراعات الداخلية بالإضافة إلى مقاومة حركة الاسترداد، والجانب الشرقي من العالم الإسلامي كانت تتقاسمه عدة دول، ففي بلاد فارس أو إيران كانت تقوم الدولة الخوزمية التي امتدت حدودها من جبال أورال في الشمال إلى الخليج العربي في الجنوب، ومن جبال السند شرقاً إلى حدود العراق غرباً، وفي العراق كان الخليفة العباسي في بغداد وله السيادة الروحية، أما القوة السياسية والعسكرية فقد زالت عن هذه الخلافة، ولم يعد لهذا الخليفة من القوة إلا أن يطلب الدعوة على المنابر في صلاة الجمعة أو المناسبات أو الأزمات بأن يوفق الله المسلمين، أو الاستنفار للجهاد ، أما الدولة الأيوبية في مصر والشام، فقد كان لها مشاكلها خاصة مع مملكة بيت المقدس والإمارات الصليبية على الساحل الشامي، ومما يزيد المشكلة تعقيداً أنه مع ظهور أخطأ المغول كانت الحملة الصليبية الخامسة قد استولت على برج مدينة دمياط عام 1218م، مما أدى إلى وفاة الملك العادل، ثم انقسام البيت الأيوبي إلى عدة ممالك أهمها مصر وعلى رأسها الملك الكامل 615 ـ 636هـ / 1218 ـ 1238م، ودمشق على رأسها الملك المعظم عيسى 615 ـ 624هـ / 1218 ـ 1227م. وكان هناك دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى، وهي الدولة التي ظلت في مواجهة الإمبراطورية البيزنطية منذ نشأنها حتى نهايتها، يضاف إلى ذلك أخطار الصليبيين في بلاد الشام ثم العالم الغربي بعد سقوط القسطنطينية في أيدي الصليبيين من قوات الحملة الصليبية الرابعة، عام 1204م .

1 ـ طائفة الإسماعيلية الباطنية.
يعتبر الحسن الصباح المؤسس الحقيقي للطائفة الإسماعيلية في إيران، إذ أخذ في الاستيلاء على كثير من البلاد والقلاع المجاورة فـي "فوهستان" وكانت أهمها قلعة "الموت" التي استولى عليها سنة 483هـ ـ 1090م ـ فصارت عاصمة للإسماعيلية وقاعدة لملكهم، ولم يقف أمر "الصباح" عند هذا الحد، بل استطاع بمعاونة أتباعه ـ أن يستولي على المنطقة جنوبي بحر قزوين بأكملها ، وقد اشتهرت الطائفة الإسماعيلية في التاريخ بأنهم قوم محاربون أشداء، بثوا الرعب في النفوس، وعاثوا في الأرض فساداً، وقاوموا سلاطين السلاجقة واهتزت بسببهم السلطنة والخلافة، فلا غرو إن كان العداء شديداً بينهم وبين سائر المسلمين، كان لهم جهاز رهيب، وتنظيم سري يتكون من طائفة من الشبان المغامرين الشجعان، الممتلئين قوة وحماسة وتضحية وتفانياً في الدفاع عن عقيدتهم، وكان هؤلاء الفدائيون يجيدون فن التخفي وساعدهم على ذلك طبيعة الدعوة الإسماعيلية الباطنية التي كانت تجري في سرية تامة، بحيث أنه كان يتعذر على المرء أن يميز الشخص الباطني من غيره، وكان أعضاء هذا الجهاز يختارون في سن مبكرة ويدربون تدريبات شاقة مضنية على استعمال السلاح، وأساليب القتال، وطرق الاغتيال وسفك الدماء ، وكانت القاعدة عندهم أنه إذا ظهر حاكم قوي في البلاد الإسلامية المجاورة، أسرع الفدائيون منهم إلى اغتياله ليأمنوا جانبه، وكان هدفهم الأول من وراء ذلك هو بث الرعب والفزع في نفوس الجميع ونشر الاضطرابات والفتن وإشاعة الفوضى في صفوف المعادين لمذهبهم، فراح ضحيتهم كبار الشخصيات في الدولة السلجوقية حتى جردوها من قوتها الفعالة وعقولها المدبرة، مما أدى بها إلى نهايتها المؤسفة، فلقد قتلوا أعظم وزراء السلاجقة على الإطلاق وأكبر عقلية مفكرة في دولتهم، ألا وهو الخواجة "نظام الملك"، وكان ذلك بأن تقدم إليه أحد الفدائيين من هذه الطائفة على هيئة رجل صوفي، وطعنه بخنجره طعنة نجلاء خر على أثرها صريعاً سنة 485هـ ـ 1092م ـ فكان أول شخصية كبيرة فقدها العالم الإسلامي بسبب هذه الطائفة الدموية . وقد قام الولاة والحكام المسلمون بتسليط بعض أفراد هذه الطائفة ضد بعضهم بعضاً، ومن أمثلة ذلك عندما قام الصراع بين الخلفاء العباسيين والسلاجقة، اتهم السلطان "مسعود" بأنه هو الذي أوعز إلى جماعة من الفدائيين بالتخلص من الخليفة "المسترشد" فقتلوه سنة 529هـ ـ 1134م ـ ومثلوا به أشنع تمثيل، إذا أنهم قطعوا أنفه وأذنيه وتركوه عرياناً ، كذلك قتل ابنه "الراشد" بمدينة "أصفهان" سنة 532هـ ـ 1137م ـ لأن محاربة الخلفاء العباسيين هدف يتفق مع مبادئهم، كما سبق أن قامت هذه الطائفة باغتيال "أغلمش" نائب الخوارزميين في العراق العجمي، بإيعاز من الخليفة "الناصر"، وقد قام صراع بين الإسماعيلية والدولة الخوارزمية سبب للطرفين خسائر فادحة ، كما قامت هذه الطائفة بأعمال إجرامية ضد الطوائف الإسلامية التي تخالفهم في العقيدة، فأشاعوا الرعب والإرهاب، وظلموا وجاروا حتى لقد تمنى المسلمون زوال حكمهم، بل لقد شجعوا المغول وحثوهم على محاربتهم والقضاء عليهم، فقد ذكر "ابن طباطبا": حدثني الملك إمام الدين يحي بن الافتخاري قال: أذكر ونحن بقزوين إذ جاء الليل وجعلنا جميع مالنا من أثاث وقماش ورحل في سراديق لنا في دورنا غامضة خفية، ولا نترك على وجه الأرض شيئاً خوفاً من كبسات "الملاحدة" فإذا أصبحنا أخرجنا أقمشتنا فإذا جاء الليل فعلنا، كذلك، ولأجل ذلك كثر حمل "القزاونة" للسكاكين وكثر حملهم للسلاح، وما زال الملاحدة على ذلك حتى كان من أمر "شمس الدين" قاضي قزوين وتوجهه إلى "قا آن" وإحضار العسكر وتخريب قلاع الملاحدة ـ ما كان ويذكر "الجوزجاني" أن القاضي شمس الدين أحمد الكافي القزويني كان على اتصال بالمغول، وكان إماماً كبيراً، ذهب مرة إلى "منكوخان" وطلب منه أن يضع حداً لشر الملاحدة، ويخلص الناس من فسادهم، وفي أثناء حديثه وبينما كان مندفعاً بحماسة المسلم المتدين صدرت منه كلمات جافة أغضبت "منكوخان"، وكان لها أثر عميق في نفسه إذ نسب إليه الضعف والعجز، لأنه لم يستطع أن يستأصل شأفة هذه الطائفة الذين يدينون بدين يخالف ديانات النصارى والمسلمين والمغول، وما ذاك إلا لأنهم استطاعوا أن يغروا "منكوخان" بالمال بينما هم يتحينون فرصة ضعف دولته فيخرجون من الجبال والقلاع لينقضوا على البقية من المسلمين ويعفوا آثارهم، وخلاصة القول إن الطائفة الإسماعيلية كانت من أهم العوامل التي أسهمت في إضعاف المسلمين والدعوة الإسلامية ودعاة الإسلام وزيادة الفرقة بينهم وتدهورهم تدهوراً كاملاً سهل على المغول مهمة القضاء عليهم في الوقت المناسب .
2 ـ الخلافة العباسية: كانت علامات الضعف قد ظهرت على الخلافة العباسية في بغداد قبل ظهور خطر المغول، وهذا الضعف كانت له جذوره العميقة التي بدأت منذ سيطرة العناصر الفارسية بمنصب الوزارة في الخلافة العباسية، الأمر الذي أظهر خلافاً بين العرب والفرس وما تلى ذلك من أحداث أدت إلى دخول العناصر التركية إلى السلطة في بغداد، وبذلك أصبح يتطلع إلى السلطة ثلاثة عناصر، هي العرب والفرس والأتراك وقد نتج عن هذا كله طمع حكام بني بويه ـ الذين أقاموا دولتهم في جنوب غربي إيران في السلطة وكان لهم ما أرادوا حيث نجحوا في السيطرة على الخليفة في بغداد، وقد استأثر حكامهم بالسلطة، واتخذوا لقب السلطان وطغى نفوذهم على نفوذ الخلفاء العباسيين وكان بوسعهم إلغاء الخلافة العباسية تماماً، ولكنهم لم يقدموا على هذه الخطوة خشية العالم الإسلامي السني، لأن دولة بني بوية كانت من طائفة الشيعة، وكان لهذا كله أثره الكبير على هيبة الخلفاء العباسيين وبدأ حكام الولايات في الاستقلال، بولاياتهم، والاكتفاء بالولاء الأسمى للخلافة العباسية، ومن هنا تمزقت الروابط القوية التي تربط الخلافة بتلك الولايات، ومع هذه الحركات الاستقلالية أو الانفصالية بدأت ملامح فساد الإدارة داخل الخلافة، الأمر الذي أدى إلى محاولة البعض الإنفراد بالسلطة وتعرضت الخلافة العباسية، لسيطرة الأتراك السلاجقة ـ بعد أن أزالوا النفوذ البويهي من بغداد ـ وهم مسلمون من السنة، وقد سيطر هؤلاء على الخلافة واتخذ حكامهم لقب سلطان وعرف حكامهم الأوائل بإسم السلاطين العظام، وبقي الخليفة في بغداد أو بالأحرى في قصره لا حول له ولا قوة، وتصرف هؤلاء السلاطين في الأراضي والمدن ومنحوها إقطاعيات للأمراء وذوي الشأن، وعندما انهار سلطان السلاجقة العظام كانت أعالي الفرات وشمال الشام ثم جنوبه دويلات لا تتعدى المدينة وما حولها عمل الزنكيون على توحيدها ودخلت في صراع مع الدولة الفاطمية بمصر، وانفصلت أقاليم الدولة عن الحكومة المركزية في بغداد وأصبحت عاجزة عسكريا عن مواجهة أي غزو عسكري ولم يكن الخطر المغولي كأي خطر عادي / هذه هي أوضاع الخلافة قبل الحروب التي شنها المغول على البلاد الإسلامية ولا يمنع هذا من ظهور خليفة قوي تساعده بعض الظروف على القيام ببعض الإصلاحات، ولكنها صحوات تشبه صحوات الذي يعاني سكرات الموت ، ولم يكن بوسع الخليفة المستعصم (640 ـ 656هـ 1242 ـ 1258م) آخر خلفاء بني العباس، وهو الرجل الضعيف الذي سيطر عليه رجال السوء أن يفعل شيئاً ضد هذا الخطر الجارف .

3 ـ الأيوبيون في مصر والشام: بعد أن توفي صلاح الدين سنة 589هـ/1193م تفككت أملاكه، ووزعت بين أبناء البيت الأيوبي ذلك لأنهم اعتبروا مملكته تركة خاصة وقد قسمت إلى خمسة عشر قسماً، تزيد وتنقص حسب نتيجة المعارك التي كانوا يخوضونها ضد بعضهم بعضاً، أو ضد أعدائهم، إذا ما لبثت عوامل الانقسام والشقاق إن دبت بين أبناء صلاح الدين أنفسهم وانتهز الملك العادل تلك الفرصة، ورأى أن يجمع هذا الشتات تحت إمرته فلم يتردد في فرض سلطانه على مصر إلى جانب أملاكه في الشام، وهكذا لم يمض على وفاة "صلاح الدين" سوى سبع سنوات حتى طوى "العادل" معظم أولئك الأبناء فقد قال: إنه قبيح بي أن أكون أتابك صبي مع الشيخوخة والتقدم، والملك ليس هو بالإرث وإنما هو لمن غلب ، ورغم كل ذلك فإن "العادل" لم يستطع أن يسيطر على كل ما تركه صلاح الدين، بل ظلت الدولة مقسمة إلى سبعة أقسام وكثيراً ما استقل بعضها استقلالاً تاماً عن مصر، وخضع لها البعض الآخر خضوعاً اسمياً، وكثيراً ما كان يحتدم النزاع بين حكام هذه البلاد فيستعين الواحد منهم على الآخر، بعدو ثالث، بل وصل الأمر إلى استعانة بعضهم بالصليبيين على أقاربهم من الأيوبيين ، وعلى هذا فإن بلاد الشام أيضاً كانت في حالة من الانقسام والحزازات والتباغض والشحناء أشد مما كانت عليه إيران، وخراسان والعراق، أضف إلى ذلك أن هذه البلاد كانت قد وصلت إلى حالة شديدة من الضعف نتيجة للحروب الصليبية التي خاضتها لمدة قرن من الزمان، تصد تلك الحملات، فلما شن "المغول" غاراتهم المدمرة على البلاد الإسلامية كان من الطبيعي أن يقف حكام تلك المناطق في حالة عجز تام عن مد يد العون لإخوانهم في الشرق، وكل ما فعلوه أنهم وقفوا يرقبون المعركة في غير اهتمام ولا بعد نظر منتظرين ما سيحل به ، كما أن سلاجقة الروم المسلمين كانوا في نزاع دائم مع الدولة البيزنطية ثم مع الصليبيين، فهم أول من تصدى للحملة الصليبية الأولى من القوى الإسلامية، كما أن حكام هذه الدولة كانوا في نزاع مستمر مع غيرهم من السلاطين المسلمين، ومن هذا العرض السريع يمكننا أن نتوقع النتيجة الحتمية للمعركة القادمة التي ستنشب بين المسلمين من ناحية وبين القبائل المغولية من ناحية أخرى ، ومن أراد التوسع فليراجع كتبي عن دولة السلاجقة وعصر الدولة الزنكية، وصلاح الدين، والحملات الصليبية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة.

4 ـ انتشار الموبقات في العالم الإسلامي: قال تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً" ـ الإسراء ، آية 16 ـ ومن الموبقات التي انتشرت في العالم الإسلامي في ذلك العهد:
أ ـ الخمر: قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" ـ المائدة ، آية 90 ، 91 ـ قالوا: انتهينا يا رب، وقام كل واحد منهم إلى ما عنده من الخمر، وسكبها فجرت في سكك المدينة . وقد انتشر شرب الخمر بين الأمراء والوزراء وكبار رجال الدولة وعلية القوم، وبعض عامة الناس في تلك الفترة، وكان الذين يشتغلون في الحانات ـ رجالاً ونساءً ـ من غير المسلمين بل المشرفون عليها كانوا من اليهود والنصارى، وكانوا حريصين جداً على نشر هذه الآفات في المجتمع الإسلامي، ونشر الشعر الذي يدعو إلى الخلاعة وتلحينه وغنائه، ونشر الشراب ودفع الشباب إلى التفتيش عن المرأة وجمالها ووصلها، ذلك لأنهم يعلمون أن هذه هي أقصر الطرق إلى تسهيل القضاء على المسلمين وذلك بتحطيم المجتمع الإسلامي من الداخل وذلك بدفع الشباب المسلم إلى إشباع البطن والفرج وحصر تفكيره ونشاطه في ذلك، وكانت الحانات مملوءة بالجواري الفاتنات، وغالباُ ما كن أجنبيات من أجناس مختلفة، والشباب والشعراء يأتون إليهن، وكن يعرضن أنفسهن على الشباب والشعراء، بلا تحفظ، وبلا حشمة أو كرامة، وكن يتفنن في الحيل التي يجذبن بها الشباب، ويستكثرن من العشاق بطرق غير مستقيمة، فكن سبباً في كثير من الفجور والمجون وكل شيء حولهن يدفعهن إلى هذا السلوك الآثم ، وفي سبيل القضاء على الدعوة الإسلامية وتحطيم الإسلام في نفوس المسلمين حول بعض النصارى أديرتهم إلى دور للعبث واللهو الماجن، وساعدهم على ذلك ما كانت تحويه تلك الأديرة من خمور معتقة تقدمها لروادها، وكانت هذه الأديرة متناثرة في ضواحي بغداد وسامراء وفي طول البلاد الإسلامية وفي عرضها، فأكثر الشعراء والشباب من الاختلاف إليها طلباً للخمر والمجون، وأكثروا من التغني بها ووصف متاعهم بخمورها ونشوتها وسقاتها من الرهبان والراهبات، حتى لقد أُلفت الكتب في ذلك مثل كتاب "الديارات" "للشباشتي" وهو يكتظ بأشعار ابن المعتز وغيره، وكل لكل دير عيد تقريباً يخرج فيه الناس للهو والمجون، وكان هذه الأديرة تستغل أعياد النصارى لدعوة شباب المسلمين وتسهيل وصولهم إلى الموبقات، ومن تلك الأعياد "عيد الميلاد" الذي كان يكثرون فيه إيقاد الشموع والنيران وكنها عيد "الشعانين" أو عيد "الزيتونة"، وكان يقام في "أكتوبر" عيد للقديسة "أشموني" في "قُطرَبُّلْ" وهي قرية في شمال بغداد كانت أشبه بحانة للخمارين، وكان الناس يذهبون من بغداد وسامراء إلى هذا العيد عن طريق الدواب براً، والسفن في دجلة بحراً متنافسين فيما يظهرونه هناك من زيهم، وزينتهم، ومباهين بما يعدونه لقصفهم، وكان يضربون في شط القرية وديرها وحاناتها وأكنافها الخيم والفساطيط، وتعزف عليهم القيال، وهم يحتسون كؤوس الخمر، وبالمثل كانوا يسمعون في عيد "الزندورد" بالجانب الشرقي لبغداد . بالإضافة إلى أعياد النصرانية التي كانت تقام فيها الحفلات الماجنة الداعرة أحيا الفرس أعيادهم القديمة، وأخذوا يحتفلون بها ويقدمون من الخمور والمأكولات ما لا يتصوره عقل ، ومنها "عيد النيروز" في أول الربيع وهو للسنة الفارسية "وعيد المهرجان" في أول الشتاء، ولا شك في أن كل ما ذكرناه أعد لانتشار المجون والخلاعة في "بغداد" "وسامراء"، بل وفي كثير من البلاد الإسلامية، إذ كانت الخمر منتشر إنتشاراً كبيراً ومعها القيان المبتذلات وعمَّ تبعاً لذلك الشعر الصريح بل المفرط في الإباحية وفي التعبير عن الغرائز الجسدية التي تدفع الشباب إلى الجري إلى إشباع غرائزهم تاركاً واجبه نحو الدعوة الإسلامية، والثغرة التي هو عليها ليؤتي الإسلام من ناحيته، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ب ـ الجواري والنساء: عن أبي سعيد الخضري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ". لقد انتشر الرقيق في المجتمع، فقد كان موجوداً في كل مكان، في القصور والأكواخ والمصانع والمزارع، وكان منهم الزنجي الأفريقي والحبشي والتركي والصقلي ومنهم الصيني، والخرساني والأرمني، والبربري، فكان المجتمع الإسلامي في تلك الفترة يجمع كل الأجناس وقلد المسلمون الشعوب الأخرى فشاركوهم في تجارة الرقيق وخرجوا بها عن حدودها الشرعية، فبنوا لها في كل مدينة كبيرة سوقاً خاصة يقوم على مراقبتها موظف يسمى "قيم الرقيق" . وقد انتشر الخصيان في المجتمع الإسلامي انتشاراً سريعاً مع أن الإسلام حرم الخصاء تحريماً قاطعاً، فكان العبيد يخصون خارج حدود الدولة الإسلامية ثم يجلبون ويباعون في أسواق الرقيق في بغداد، وغيرها من المدن الإسلامية، وكان عدد الجواري والإماء في البيوت والقصور أكثر من الخصيان والرجال الأرقاء، وكان كثير من الرجال يفضلونهن على الحرائر اللواتي كانوا يتزوجون بهن وهم لا يعرفونهن، بخلاف الجواري اللائى كن معروضات لهم في الأسواق وبيوت النخاسين، فكانوا يختارونهن على حسب وقوعهن في نفوسهم ومن أجل ذلك كان يندر تزوجهم بأكثر من واحدة من الحرائر، فقد كفاهم اتخاذ الإماء هذا التعدد، فأقبلوا عليه إقبالاً كبيراً متخذين من الخلفاء والأمراء وقدوة لهم، بل كانت أمهات عدد من الخلفاء أمهات أولاد ، خاصة التركيات، والروميات، وكن يتدخلن في شئون الحكم ، وكان الناس يغدون ويروحون إلى سوق الرقيق، ودور النخاسين يتفرجون على الوافدات الجديدات من الجواري الحسان وكثيراً ما كانوا يحملون معهم الهدايا للجواري، وللنخاسين، وكان هذا يكلفهم كثيراً من الأموال وكانت الجواري يظهرن حبهن الشديد لهؤلاء الزوار وكلفهن بهم، وحزنهن لفراقهم أو لتأخرهم في الزيارة، وربما زودت الواحدة منهن من تظهر له الحب بخصلة من شعرها أو قطعة من ثيابها ، وكان النخاسون في سبيل الحصول على المال والهدايا ـ يتغافلون عن سفاهة بعض الزوار الذين كانت تمت أيديهم للعبث بأجسادهن خاصة إذا كُن راضيات عن ذلك .
ج ـ انتشار الغناء والطرب: وكان للجواري في ذلك الجو المشبع بالموسيقى والغناء أثر كبير في شيوع الخلاعة والانحلال الخلقي بين الشباب، وكثير من الشيوخ، ومُجَّات الشعراء، إذ أصبحت قلوبهم مشغولة باللهو والطرب، والسعي وراء إشباع الغرائز، كما انتشر في العصر العباسي الثاني حب الغلمان والغزل بهم، واتخاذهم بدل الخليلات، وقد انتشرت هذه الموبقات بين قادة الجيش والسلاطين وقد قال أحدهم عن غلامه: ضياع هذا الغلام مني أشد عليَّ من أخذ بغداد من يدي، بل أرض العراق كلها ، وكان أحدهم يقبل"المردان" من غير ريبه او خجل ، وكانت تقام الحفلات والسهرات، للغناء والطرب وكان إذا طرب الملك أو السلطان أعطى عطاء لا يتصور ، وكان للزانيات والفساق بيوت تكاد تكون معروفة للجميع، وتنتشر في بغداد وغيرها من البلاد الإسلامية الكبيرة وكان يردها عدد كبير من الناس يقتلون فيها ثروتهم وأعمارهم غير مبالين بدين ولا هيابين من سلطة ولم لا؟ والناس على دين ملوكهم . ولم يقتصر الفساد على الجواري والغلمان بل تعداه في أوقات كثيرة إلى الحرائر، ولا شك في ذلك فقد قال رسول الله صلى عليه وسلم: "عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم" وكاد زمان آخر الخلفاء العباسيين ينقضي أكثره في سماع الأغاني ومما اشتهر عنه أنه كتب إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يطلب منه جماعة من ذوي الطرب وفي نفس الوقت وصل رسول "هولاكو" إلى صاحب الموصل نفسه يطلب منه منجنيقات، والآت حصار، فقال بدر الدين: انظروا إلى المطلوبين، وأبكوا على الإسلام وأهله .
ولا يعني هذا أن المجتمع الإسلامي كله انقلب إلى مجتمع فاسد بعيد عن الإسلام، فقد كان المجتمع مجتمعاً إسلامياً وكانت طبقة العامة فيه ـ التي تمثل الأغلبيةـ حسنة الإسلام تتمسك بفرائضه وسننه، وشعائره، ولم تكن تعرف الترف ولا ما يجر إليه من مجون وانحلال وفساد في الأخلاق، إنما كانت تعرف الشظف والبؤس والحرمان، وكانت ساخطة سخطاً شديداً على المجَّان والمنحلين وكان المؤمنون يعمرون مساجد الله، وكان الدعاة إلى الله لا يزالون يُذكّرون الناس بالله واليوم الآخر وانهم معرضون يوم الحساب فإما الجنة والنعيم وإما النار والجحيم ونشأة في تلك الفترة طبقة من الزهاد، عاشوا معيشة كلها شظف وتقشف وتبتل وعبادة، ولا يخلو الفساد في عامة الناس ولكن الطبقة الفاسدة المترفة هي التي كانت تقود الأمة وتمسك بزمامها فقادتها إلى محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة، تحقيقاً لرغبات هؤلاء المترفين وإرضاء لشهواتهم ثم سيطرت طبقة (العسكر) على أمور الناس فقادوهم إلى محاربة بعضهم بعضاً وصولاً إلى الحكم، ولتوسيع رقعة الأرض التي تحت أيديهم، فأضعفت هذه التصرفات الغبية الأمة الإسلامية وجعلتها هشة ضعيفة خائرة مثل بيت العنكبوت، فانهارت تحت ضربات أعدائها المتربصين بها من كل جانب ، كما سنبين بإذن الله في الصفحات القادمة.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 12:57 pm


المبحث الثاني: ظهور جنكيز خان على مسرح الأحداث:

أولا: نشأته وتربيته:
ولد جنكيز خان على نهر "أوتون" سنة 1155م، وفقاً لروايات كثير من المؤرخين، وهناك من يرى أنه ولد عام 1167م، وكان أبوه يسوكاي غائباً وقت ولادته، إذ كان يقاتل التتار، وقد صرع زعيم لهم اسمه تيموجين، وعاد يسوكاي مظفراً إلى منزله، فلقى مفاجأة سعيدة بأن زوجته، يولون، أنجبت له ابناً، وحينما فحص الطفل، لحظ بأن بداخل قبضة يده قطعة من الدم المتجمد، كأنها حجر أحمر، فتراءى للزعيم المغولي الذي يؤمن بالأساطير أن هذا الحدث يشير إلى أن ما أحرزه من انتصار على زعيم التتار، ولذا أطلق على ابنه اسم هذا الزعيم تخليداً لانتصاره، ولما بلغ تيموجين التاسعة من عمره صحبه أبوه يسوكاي لزيارة أخواله فالتقى أثناء الرحلة بأحد زعماء المغول القنقراد، فتنبأ لتيموجين بمستقبل باهر، وحرص على أن يزوجه من ابنته، بورتة، التي لم تتجاوز وقت ذاك العاشرة من عمرها، ولم يلبث يسوكاي أن مات أثناء عودته إلى دياره، وترددت الشائعات أن التتار دسوا له السم فمات سنة 1176م .

1 ـ كفاح والدة جنكيز خان:ساءت أحوال أرملة يسوكاي وأطفاله بعد وفاته، فالمعروف أن يسوكاي استطاع أواخر أيامه أن يجمع تحت سلطانه عدداً من القبائل الموالية، فضلاً عن قبيلة قيات التي يتولى زعامتها، ولم تلبث أحقاد خصومه بسبب ما أحرزه من انتصارات إن انطلقت بعد وفاته، وكان من أشد القبائل عداوة وضراوة قبيلة التايجيوت، التي أنكرت على تيموجين الزعامة، ولما احتج عليهم، أجاب العصاة المتمردون أن أشد الآبار عمقاً قد يصيبها الجفاف، وأن الحجارة صلابة وقد تنكسر، فلماذا نتعلق بك، كان لزاماً على زوجة يسوكاي أن تبذل كل ما تستطيع من جهد لتحصل على الزاد الضروري لأفراد أسرتها، فصارت تلتقط لهم الثمار، وما ينبت بالأرض من ثمار، ولم يطرق اليأس إلى قلوب أفراد هذه الأسرة، وأكبرهم لازال حدثاً صغير السن، ومع ذلك فإن هذه الجماعة احتفظت، بما اشتهرت به قبيلتهم من الحماس والنشاط والصبر على تحمل المتاعب، فأخذ الصبيان يصيدون من نهر أنون ما يلزم لاعاشتهم، وحرصت يولون على أن تتوطد المودة بين أفراد الأسرة، فلما وقع الخصام بين أبناء يسوكاي الأشقاء وغير الأشقاء وأسفر هذا الشقاق عن مصرع بكتار، ابن يسوكاي من زوجة أخرى انفجرت يولون في وجه ولديها تيموجين وقسار، اللذين تسببا في هذا الحادث وقالت لهما: أيها القتلة، فحينما ولدت يا تيموجين كنت تقبض على قطعة دمٍ متجمدة، لستم إلا نمرة تنقض على فريستها ولستم إلا كالأسُد الغاضبة، ولستم إلا كالبزاة تحلق في الجوزاء فوق ظلالها، وكالأبل تقضم في أثناء غضبها أبنائها، وكالذئاب التي تنقض على فريستها في غمرة العاصفة، فليس لدينا، فيما عدا ظلالنا، رفاق، وما تعرضنا له من الشرور على أيدي التايجوت، بلغ من العنف ما لا نستطيع تحمله، فلا بد من الانتقام منهم، وتعرض تيموجين وأخوته وأمه لغارات التايجوت، الذين حرصوا على إذلالهم، فلم يسع تيموجين وأسرته إلا أن ينتقلوا بمعسكرهم إلى جبال بروقان كالدون،، إلى جبل كنتاي، الذي كان له من القداسة عندهم، ما حمل تيموجين على الاعتقاد بأنه هو الذي حماه وعصمه من الأعداء ، ولم يتخل البؤس عن تيموجين وأخوته، فكل ما كانوا يملكون لم يتجاوز تسع أفراس، وقع منها ثمانٍ في أيدي المغيرين دفعة واحدة .

2 ـ تيموجين يطارد اللصوص: أصر تيموجين على أن يطارد اللصوص، حتى التقى بعد أربعة أيام بغلام تبدو عليه سمات النبل، اسمه بورتشو، أحس بالميل والعاطفة نحو تيموجين، فاشترك معه في البحث عن الأفراس، حتى عثرا عليها فساقاها بعد أن أظهرت براعة تيموجين في مراماة أعدائه وإجبارهم على أن يتخلوا عن اللحاق به، وكان من أثر هذه المغامرة أن توطدت الصلة بين تيموجين وبورتشو، وكانت بداية طيبة لأمجاد بورتشو المقبلة ونستطيع أن نستخلص من هذه الأفعال ما كان لتيموجين من الطباع والصفات، فما يبهرنا فعلاً، ما كان له من شخصية بلغت من القوة أنها فرضت نفسها على كل من تلتقي به، فمنذ هذه اللحظة انجذب إليه بورتشو، وربط مصيره بمصير تيموجين، وسوف نلحظ ما يشبه ذلك، حينما إنحازت إلى تيموجين القبائل الواحدة بعد الأخرى، وقد جذبتها مواهبه في القيادة وإحساسه بالعدالة وإخلاصه لأصداقه واعترافه بما يؤدي له من خدمات، أضحت محبته لأصدقائه الأوئل مضرب الأمثال، ومن طباع سكان الخيام، المحبة الشديدة للأصدقاء التي لا يضارعها إلا الكراهية البالغة للخصوم . ومن الدروس والعبر:
إن الزعماء يمرون بظروف قاسية تظهر حقيقة معدنهم ويتعلمون من أحداث الزمان ويتربون على تحمل المشاق، ومن أهم صفات قادة الأمم والشعوب والدول، الشجاعة والإقدام وأجادت المهارات اللازمة، مع شخصية كارزمية متفوقة على من حولها، مع الترفع عن المصالح الذاتية من أجل الصالح العام، ولا يخلو الزعيم من أخلاق يأسر بها الأتباع مع طموح كبير وإصرار لتحقيق الهدف.
3 ـ زواج تيموجين وبذله يمين الولاء لزعيم الكرايت: أنجز تيموجين من الأعمال، ما جعله يفكر بعدها في الزواج، ولا سيما أن أباه عقد له خطبة على بورتة ابنة زعيم القنقرات النازلين على نهر كيرولين، وزاد في فرح صهره وسروره ما أصبح عليه تيموجين من متانة البناء والقوة، ولم يلبث أن انتقل تيموجين وزوجته وسائر أفراد أسرته إلى منبع نهر كيرولين، وارتفع شأن تيموجين، بعد أن نجا من مؤامرات التايجوت وأضحى الرجل القوي أن تنشده سائر القبائل، فصار في مقدوره أن يشترك في الأحوال السياسية، بأن يكون من البارزين من رجال المغول الذين يتنازعون السيطرة على شرق منغوليا وما اشتهر به تيموجين من روح عملية، أثارت فيه الميل إلى السلطان، وحملته على أن يفكر في الإفادة من مركز قوي، بأن يعقد معاهدات واتفاقيات خارج قبيلته، وإذ أسهم أبوه يسوكاي في توطيد مركز زعيم الكرايت، حتى صار من أقوى ملوك الاستبس، حرص تيموجين على أن يسير على نهج أبيه، فتوجه إلى حيث ينزل طغرل على نهر تولا، وبذل له يمين الولاء بأن يكون من أتباعه وخاطبه:سبق أن توطدت أواصر المحبة بينك وبين أبي، فأنت الآن في مقام أبي وارتاح طغرل لهذه التبعية، ووعد بأن يساعده بأن يجتمع تحت زعامة تيموجين من جديد، سائر رجال العشيرة الذين هجروا منزله أثناء حداثة سنه والواقع أن أحوال تيموجين أخذت تستقر، وذاع أمره، وسعى الناس من القابئل المختلفة لكسب صداقته، فصار جيلمي، الذي تقدم به أبوه لأن يكون خادماً له، من أخلص الرفاق، شأنه في ذلك شأن بورتشو، وبفضل نصائح طغرل ملك الكرايت، والذي دان له تيموجين بالتبعية، إنحاز إليه زعيم مغولي آخر، اسمه جاموكا، رئيس قبيلة جاجيرات، فقام بهما من المحبة والود ما جعل منهما أخوين، غير أن النزاع لم يلبث أن دب بينهما، فانفرط عقد التحالف، وانحاز إلي كل منهما جماعة من الموالين له، وإذ جرى التنبؤ بأن زعامة القوم سوف تؤول إلى تيموجين، ازداد انحياز القبائل والعشائر إلى جانبه، ومن الذين انحازوا إليه، أربعة أمراء من المغول يجري في عروقهم الدم الملكي بعد أن انفصلوا عن جاموكا .

ثانيا : اختيار تيموجين خانا على المغول: اجتمع الأمراء الأربعة وتشاوروا بينهم، واستقر أمرهم باعتبارهم يمثلون أقدم الأسرات الملكية، وأعرقهم نسباً، على أن يختاروا تيموجين خانا على المغول، والمعروف أن تيموجين ينتمي إلى هذه الأسرة، غير أنه لم يكن له من الحقوق في ولاية الحكم، ما يفوق حقوق التاي الذي كان ابن قوتولا، آخر حاقان للمغول. ومع ذلك فإن ما كان من ولاء وإخلاص بين تيموجين وبين هؤلاء الأمراء تمثل فيما جرت به الرواية من أنهم خاطبوه: لقد قررنا بأن ننادي بك خانا، وسوف نكون في المقدمة عند خوض المعارك ضد عدد لا حصر له من الأعداء، فما نسبيه من النساء الجميلات، والفتيات الحسناوات، وما يقع في أيدينا في الجياد الأصيلة، سوف نبذله لك، وما نحصل عليه من الصيد، سوف نجعله لك فإذا حدث أن عصينا أوامرك أثناء الحرب أو برمنا بك أثناء السلم، فلتفرق بيننا وبين زوجاتنا وتنتزع منا متاعنا، ولتهجرنا ولتجعلنا منبوذين، وقد التزموا هذا القرار، واختاروا تيموجين خانا وأطلقوا عليه اسم جنكيز خان، والواقع إن ما حدث من اختيار جنكيز خان ليتولى الحكم، وهو الانتخاب الذي اشترك فيه التان ابن قوتولة، والأمراء الذين يمثلون الأسر الملكية السابقة ولم يكن غرض منه سوى وقف ما حدث من تشتت العشائر، والقبائل المغولية وإعادة السيادة إلى أسرة قيات، وترقب الفرصة المواتية للانتقام من التتار ، فاختار أقاربه وبنو عمومته، لما لمسوه فيه من أنه زعيم في الحرب والصيد، وما اشتهر به الخان الجديد من العبقرية في التنظيم والشدة في التزام النظام يعتبر من أهم صفاته ، وكانت الأخلاق القيادية بارزة في جنكيز خان، كالمكر، والدهاء وسعة الحيلة، والكرم والوفاء لأصدقائه المخلصين، وممارسة الشورى مع من حوله من القادة المعاونين.
1 ـ حروب جنكيز خان وبداية توحيد القبائل تحت زعامته:
حرص جنكيز خان على أن يوزع بين أنصاره الموالين له الوظائف الأساسية الحربية والمدنية، فجعل من أقرب الناس إليه، وأشهرهم في الرماية حرساً خاصاً له، وخص آخرين بأمر توفير المؤن والسقاية وإعداد العربات، والتماس المراعي، والإشراف على الخدام، ورياضة الخيل، ونقل الأوامر الملكية والمحافظة على النظام عند انعقاد مجلس أعيان القبيلة (قوريلتاي) ولم ينس أمور بورتشو وجيلمي، فمن المأثور عن جنكيز خان أنه قال: إنني لا أنسى أنكما كنتما رفيقي حينما لم يكن لي رفاق، ولذا جعلت لكما الرياسة على جميع هؤلاء، ثم وجه الخطاب إلى رعاياه، إنكم جميعاً تخليتم عن جاموكا، وحرصتم على الانحياز إلى جانبي، فأنتم جميعاً يا أصدقائي القدامي، خير رفاق لي في المستقبل ، وقام جنيكز خان بإرسال الرسل إلى رؤساء القبائل القوية المجاورة، يخبرهم بأنه قد نُصَّب أميراً على القبائل التي قبلت به وكان أول من راسلهم طوغرل خان صديق والده بالأُخُوة و((جاموكا)) صديقه بالأخوة كان جواب الأول الموافقة والتأييد، وجواب الثاني الاستهزاء والغضب، حسداً لجنكيز خان وغيرة منه بعد أن أصبح جنكيز خان أميراً، وزادت قوته، أخذ خصومه ينصبون له العداء حسداً له، فلم ينتقل "جنكيز خان" إلا بأسلوب القتال، فعندما ينتقل بعشيرته من مراعيها الصيفية إلى مراعيها الشتوية يتخذ تشكيل القتال، فيقسم قوته إلى أقسام أربعة: المقدمة، المجنبة، والمؤخرة، وفي وسطهم تسير الماشية وعربات العائلات .
أ ـ معركة العجلات: في إحدى المرات، وبعد مسيرة طويلة بالطريقة الآنفة الذكر، أخبرت الكشافة التي أمام المقدمة بوجود غبار كثيف في الأفق ينحدر بسرعة وإذا بقبيلة "تيدجون" المؤلفة من ثلاثون ألف يقودهم "تارجو تاي" قرر "جنكيز خان" القتال فوراً وكانت قوات "جنكيز خان" المحاربة تتألف من الخيالة فقط، وهي على نوعين:
ـ الخيالة الثقيلة: يرتدي رجالها الدروع الحديدية والخوذ الفولاذية وخيولهم مكسية بوشاح من الجلد المدبوغ السميك، وكان سلاحهم الرماح وترساً صغيرة، يتقون بها ضربات الأعداء.
ـ الخيالة الخفيفة: يكسو رجالها وخيولها دروع من الجلد المدبوغ فقط، وكانت خيول هذا الصنف من الضامرات خيول السباق، وكان سلاحهم القسي والنبال، وكان تسليح العدو وتجهيزاته شبيهة بما لدى جنكيز خان.
قسم جنكيز خان رجاله إلى سرايا، وكل سرية من ألف محارب، منظمين بعشرة صفوف، في كل صف مائة محارب، أما (تارجو تاي) فقد تقدم بسراياه وكل سرية تتألف من خمسمائة محارب منظمين بخمسة صفوف، في كل صف مائة محارب، وكان الصفان الأولان من الخيالة الثقيلة، والصفوف الثلاثة الأخيرة من الخيالة الخفيفة .
أسند "جنكيز خان" جناحه الأيمن إلى غابة كثيفة كانت في ميدان القتال، وجمع جميع العجلات التي تركبها نساؤهم وتحمل أمتعتهم، وشكل منهم مربعاً كبيراً، أسند إليه في جناحه الأيسر ووضع النساء والأطفال في العجلات، تاركاً أمر حراستهم لصبيان القبيلة، بعد أن سلحهم بالقسي والنبال، ووضع الخيالة الخفيفة في الأمام، عكس عدوه وجعل الخيالة الثقيلة في الخلف .
هجمت خيالة "تارجو تاي" الثقيلة على خيالة "جنكيز خان" الخفيفة فاستقبلتها هذه برشقات هائلة من سهامها، وأوقعت فيها الهلاك والدمار ولم تنجح هذه الخيالة في اختراق صفوف "جنكيز خان" لأن عمقها كان عشرة صفوف، ففشل هجومها وحاولت الخيالة الخفيفة إصلاح هذا الفشل، فتغلغلت بين صفوف الخيالة الثقيلة المعادية المتقدمة المكدسة أشلاؤها على الأرض، عندئذ أطلق "جنكيز خان" خيالته الثقيلة لمقابلتها، ففعل الرمح والسهم فعله في هذه الصفوف وكانت هزيمة الأعداء، لقد سميت هذه المعركة بمعركة العجلات . وكانت هذه المعركة قاسية، دامت طيلة النهار، حتى حلول الظلام، انتصر فيها "جنكيز خان" وكان هذا الانتصار الأول له، وأصاب عدوه (5 ـ 6) ألف قتيل، واقتيد إليه (70) رئيساً بسلاسل سيوفهم، وألقوا عند قدميه، وسيوفهم وكنانهم معلقة في رقابهم، ويذكر أن "جنكيز خان" أمر بقتل هؤلاء الـ70 قتلة غريبة، وذلك بغليهم في القدور أحياء . فافتتح بذلك إثارة الخوف والرعب في نفوس الخصوم، وصار ذلك من لوازم حكومته وترتب على هذا الصدام إن انصاع لأوامر جنكيز خان القبائل التي تحالفت عليه .
ب ـ صراع التحالفات: اقتضت مصلحة "جنكيز خان" أن يتحالف مع طوغرل خان وذلك للقضاء على التتار أعداء الاثنين، فنجح الاثنان في حربهما مع التتار وقضيا عليهم ولا سيما قبيلة المركيت، وجانب من قبائل النايمان والمعروف أن النايمان أضعفهم ما وقع من نزاع بين ملكهم "تايانك خان" وأخيه "بويوروف" الذي تعرض لهجوم جنكيز خان وطغرل وساعد على ذلك ما وقع من أحداث في منغوليا في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أثارتها سياسة الحكومة الصينية فضلاً عن عوامل محلية، إذ انتهجت أسرة كين في الصين الشمالية، السياسة التي درجت عليها أسرات صينية عديدة وهي سياسة الإيقاع بين القبائل، وبين الزعماء وحرص ملك الصين الشمالية على أن يتخذ من الكرايت والمغول حلفاء له، وفي سنة 1194م تقرر مصير الحرب لصالح الحلفاء، وعلى سبيل المكافأة حظي ملك الكرايت بلقب "وانج"، وظفر ابنه بترقية في سلك الجيش، بأن صار "سنجون"، وحاز جنكيز خان أيضاً لقباً من ألقاب التشريف، غير أنه لم يضارع في الرفعة الألقاب الأخرى، على أن القبائل التي أحست بالتهديد من جانب جنكيز خان، ألفت حلفاً، دخل فيه، قبائل جاسيرات والمركيت والتايجيون والقنقرات والتتار، ومن ملوكهم "توكتا" ملك المركيت وجاموكا ملك الجاسيرات، واتفق هؤلاء الحلفاء على أن يختاروا جاموكا كروخان إمبراطور على القبائل التركية المغولية وذلك سنة 1201م، ولم يلبث الجيش الذي حشده جاموكا أن انهزم وتبدد سنة 1201 ـ 1202م، غير أن جاموكا نجح فيما بعد في اكتساب ثقة سنجون ووالده طوغرل خان، وفي تحولهما عن حليفهما السابق جنكيز خان .
جـ ـ حرب جنكيز خان مع ملك كرايت: في سنة 599هـ/1203م كان المسيطر على قبائل الترك المشارقة (وانج خان) من قبيلة كرايت أو كريت أو القاريات التي تدين بالنصرانية، وكان جنكيز خان من غير قبيلته، ولكنه مؤيد له وملازم له منذ الطفولة، لم يرق انتصار جنكيز خان في عيون رؤساء قبائل الكرايت حلفائه فأضمروا له الشر سراً ووشوا عنه إلى وانج خان حتى اتهمه الأخير بالخيانة، وهم باعتقاله، وأرادوا قتله بزعامة "توكتابك بن طوغرل بك"، و(جاموكا) عدو جنكيز خان اللدود وفي مساء أحد الأيام، بينما كان جنكيز خان مع ستة ألف من محاربيهم تصحبهم العائلات معسكراً في أحد المناطق، أخبرته دورياته بأن قبائل الكرايت تتجمع، وتتقرب من معسكرهم دلالة على عزمهم الهجوم ليلاً على المعسكر، وقرر جنكيز خان التملص من عدوه لأنه ضعيف تجاه خصمه من ناحيتي القوة والسرعة، لأن العائلات برفقته، تركب العجلات التي تسحبها الثيران، والعجلات التي تجرها الجمال، في هذا الوقت، انضم إلى جنكيز خان غلامان من خدم وانج خان، فأعلماه بالقضية وأن وانج خان يريد القبض عليه .
وضع جنكيز خان خُطَّته وطلب من قادته تنفيذها حرفياً بكلِّ دقة وهُدُوء وانتظام وكانت خطته:
أ ـ سحب الماشية والعائلات على أن تركب عجلات الجرِّ الخفيفة التي تجرُّها الجمال، وتسير إلى موضع مستور إلى خلف منطقه المعسكر بـ 12 كم.
ب ـ ترك الخيام منصوبة، والنار مضرمة فيها، والعجلات بثيرانها، كما لو كان المعسكر آهلا.
ج ـ قيام "جنكيز خان" وجماعة بستر انسحاب الماشية والعائلات في صباح اليوم التَّالي، انحدرت قبائل الكرايت إلى معسكر جنكيز خان ولما رأوا المعسكر خالياً وأدواته فيه، اعتقدوا بأن جنكيز خان قد فرَّ برجاله وعائلاته خوفاً وفزعاً، ما جعلهم يتباطئون في تعقبهم، كان جنكيز خان مُتخفياً مع رجاله وراء أرض مرتفعه، يفصلها عن أعدائه، نهر صغير، تاركاً أمر مراقبة الجبهة للخفراء، ولمَّا تقدَّمت خيَّالة"الكرايت" الخفيفة منها تسبق الثقيلة، انقض"جنكيز خان" وجماعته فجأة ـ عليهم وقتلوا جميع مقدِّمة العدوِّ، وأبادوهم دون أن يكون للقسم الأكبر علم بذلك. وبعد مدة ظهر وانج خان وقادته يقودون القسم الأكبر من قوَّاته وهكذا فقد دنت ساعة المعركة الحاسمة فوضع جنكيز خان خطَّته كالآتي:
أ ـ الهجوم عل أعدائه قبل مهاجمتهم له.
ب ـ عدم القيام بهجوم جبهوي، لأنَّ أعداءه أقوى منه.
ج ـ الإستفادة من الأرض جهد الإمكان، لتلافي نقض العدد في هذه الأثناء، هجمت خيَّالة العدوِّ وأربكت"جنكيز خان" حيث استدعى أشجع قادته، وحامل لواء القبيلة(جلدار)، وكلفَّة بإحاطة جناح العدوِّ الأيسر واحتلال تلِّ"جويتا" الكائن خلف هذا الجناح، ونجح جلدار بحركته، مما أجبر قوَّة الكرايت على الانسحاب قليلاً، بينما كانوا في أوج هجومهم واستمر القتال حتى حلول الظلام، حيث قام جنكيز خان بهجوم عنيف ستر به انسحاب جلدار وتحت جنح الظلام وانسحب"جنكيز خان" برجاله شرقاً، لعلمه بأنه لا يستطيع منازلة أعدائه صباح اليوم التَّالي وهو بقوته هذه وبعد انسحاب جنكيز خان انقسمت جُوبي إلى معسكرين متنافسين:
أ ـ معسكر"وانج خان" ومن انضمّ إليه بعد انتصاره على جنكيز خان.
ب ـ معسكر جنكيز خان ومن توافد إليه لإسناده وقرّر جنكيز خان إبادة خصمه، فجهَّز حملة قوية، وتقدَّم نحو معسكر وانج خان دون سابق إنذار، ولكي يتأكد من عدوِّه استخدم" الرَّتل الخامس" فأرسل أحد قادته المشهورين بصفة لاجئ، حاملاً معه أحد أعلام" جنكيز خان" لكي يتظاهر بأنه جاء لاجئاً، هَرَبا من سوء معاملة جنكيز خان له ولما وصل هذا الرسول إلى معسكر وانج خان لم يقتنع الأخير بادِّعاء الرّسول، فأراد التأكد من صحة المعلومات فأرسل معه عدداً من رجال خيالته لاستطلاع المنطقة من على قمم مشرفة بالقرب من معسكر وانج خان وعلى تل مشرف بجواره، أراد رسول جنكيز خان أن يعطي إشارة لسيده تدله على معسكر الأعداء ولما لم يتمكن من ذلك، ابتكر حيلة وطبقها بسرعة وهي ركز علم جنكيز خان الذي استصحبه معه على قمة التل، ثم ترجل عن جواده، ماسكاً حافر حصانه بيده، ولما سئل عما يفعل، أجاب: أنه وجد حجراً في حافر حصانه، وقبل أن ينتهي هذا الرسول من رفع الحجر الموهوم من حافر حصانه كانت مقدمة جنكيز خان قد أطبقت على رجال وانج خان وأسرتهم، ولم يعد رسل وانج خان بنتيجة استطلاعه، بل جاءت خيول جنكيز خان على حين غرة، فأعملت السيوف في رقاب رجاله .
جرح وانج خان وابنه توكتا بك، وفرا هاربين، ونهبت العشيرة وسبي النساء ووقع جاموكا بيد جنكيز خان، فأمر بخنقه بخيوط من الحرير ، وقطعت أوصاله وأعضاء جسمه ، كما قتل وانج خان وابنه بعد فرارهما من قبل أتباعهما وأرسل رأس الأب بصفيحة من فضة هدية إلى جنكيز خان ، وبذلك انقرضت قبيلة القاربات، وأخذت القبائل الضعيفة منها والقوية على اختلاف أديانها تعرض الطاعة والإخلاص لسيد آسيا الجديد، جالبة معها كل ما لديها من آثار المدينة وخلاصة العلوم، وبعد هذا أنعم جنكيز خان على الغلامين اللذين أعلماه بهجوم وانج خان وذريتهم، فجعلهم (ترخانية) ـ أي أحرار ـ لا يكلفون بشيء من الحقوق السلطانية، وما يغنمونه من الغزوات تكون لهم بالكامل، ولا يأخذ منهما أي شيء للملك، كما أعطاهم الحق لدخولهم إلى الملوك بدون إذن، وعدم معاقبتهم على إي ذنب إلى تسعة ذنوب .
ومن الذين وقعوا في أسر جنكيز خان تاتأنجو، وهو من الأويغوريين وكان يعمل كاتباً لملك النايمان، فأدخله جنكيز خان في خدمته، وقرر استخدام الأويغورية، وتولى هذا الرجل تعليم هذه اللغة وكتابتها لأبناء جنكيز خان وأبناء الطبقة الراقية من المغول، وكان لهم نفوذ1 قوي على أكوتاي بن جنكيز خان وخليفته في الحكم .

ثالثاً: مملكتا، النيمان وخضوعهما تحت سيطرة جنكيز خان.
كان النيمانيون يمثلون إحدى القوى الكبرى التي جابهت المغول في ظهوره وبروزهم كقوة عالمية ذات إمبراطورية شملت معظم أراضي قارة آسيا وأجزاء كبيرة من أوربا، والنيمان يرجعون في أصلهم إلى العنصر التركي، وقد كانت أراضي (النيمان) قديماً تعد ضمن الحدود التقريبية التالية، حيث يحدها من الشمال أراضي قبائل (القرقيز)، كما تحدها من الجنوب ممتلكات قبائل (الاويغوريين)، أما حدودها من الشرق ملاصقة لأراضي قبائل (كرايت) و(المركيت)، أما من الناحية الغربية، فيحدها (القراخطائيون)، وكان ملوكهم أو خاناتهم يسمون (كوتشلوك خان)، وهي كلمة تعني العظيم، الجبار، القوي…. الخ، كما يخبرنا بذلك رشيد الدين، وأما طريقة حياتهم ونظام مجتمعهم، وعاداتهم وتقاليدهم فقد كانت شبيهة من المجتمعات المجاورة لها، كالمغول وغيرهم من القبائل البدوية الرعوية الأخرى .
وقد كانت دولة (النيمان) من أكبر الدول في وسط آسيا وذا سلطان واسع ويحكمها ملك واحد، إلا أنه في الوقت الذي ظهر فيه جنكيز خان، على رأس قبائل المغول، نجد أن المملكة النيمانية مقسمة إلى قسمين، شرقي وغربي، ويحكمها أخوين كل واحد مستقل عن الثاني، فكان (بويرون خان) يحكم مملكتهم الغربية، و(بيبوقاتايانك) يحكم المملكة الشرقية، ونظراً لمتاخمة الحدود الشرقية لمملكة (النيمان) الشرقي لحدود (كرايت) و(المركيت)، فقد كان من نتائج كارثة معركة (وركو) وقتل (أونك خان) أن أصبحت الأراضي (النيمانية) مفتوحة على مصراعيها أمام اللاجئين من قبيلة كرايت الهاربة من سيف جنكيز خان، فنتج عن ذلك تجدد الصراع بين جنكيز خات من ناحية وملكي (النيمان) الأخوين من ناحية أخرى، فقد انتهى ذلك الصراع الدامي المرير بزوال الدولتين (النيمانيتين) والقضاء بصورة نهائية على استقلالهما كقوتين مستقلتين في وسط قارة آسيا، فقد قتل الأخوين على التوالي، وامتصت إمبراطورية جنكيز خان الشابة الناهضة المملكتين والتهمت أراضيهما لتصبح جزء لا يتجزأ من أراضي دولة المغول.
وفي عام 602هـ لشهر رجب، سنة 1206م فبراير ـ مارس، عقد جنكيز خان مجلساً عاماً، واجتماعاً عمومياً، حيث تم تنصيبه كخان أعظم على جميع ساكني الخيام في منغوليا وما جاورها في البلدان وفي هذا الاجتماع، أعلن جنكيز خان عن خطة جديدة لفتوحاته وقرر الخروج خارج نطاق منغوليا، ونشر في هذا الاجتماع قوانينه المشهورة في التاريخ، المعروفة بالياسا .

رابعاً: بناء الإمبراطورية المغولية:
لم تقتصر جهود جنكيز خان على توحيد القبائل المغولية، بل كانت خطوة التوحيد نقطة انطلاق لبناء إمبراطورية تشمل معظم أنحاء العالم المعروف آنذاك، فكان عليه لتحقيق مشروعه الطموح، أن يتحرك في جميع الاتجاهات، وأن يواجهه خصوصاً متعددي الجنسيات والثقافات وتحرك جنكيز خان لتحقيق أهدافه وفق سير العمليات العسكرية المركزة والشديدة التعقيد، وذلك حسب ما يلي:

1ـ الجبهة الصينية:
ـ العمليات العسكرية ضد بلاد الصين الشمالية:
أ ـ مملكة التانغوت:
هاجم جنكيز خان أولاً مملكة التانغوت، أو مملكة سي ـ هيا، في التبت وهي اضعف الممالك الثلاث التي تقاسمت النفوذ في الصين، فبإستيلائه على هذه المملكة يستطيع ان يتحكم بطريق الصين إلى تركستان ويحاصر من جهة الغرب مملكة كين، العدو التقليدي للمغول.
قام جنكيز خان بثلاث غزوات ضد مملكة التانغوت في السنوات 602هـ / 1205م، 604هـ /1207م، 606هـ / 1209م فاكتسح جميع أراضيها ولكنه لم يفلح في دخول عاصمتها ننج ـ هسيا التي حاصرها طويلاً، ولم يفك عنها الحصار إلا بعد أن وافق عاهلها على القبول بالسيادة المغولية على أراضيه عام 606هـ / 1209م، ودفع الجزية لجنكيز خان ، وبذلك أصبح جنكيز خان سيد مملكة التانغوت، أي إقليم كانسو الصيني الحالي، وسهوب أوردوس وألدشان التي كانت تعتبر منطقة حدودية مع الصين، فكان على القائد المغولي، إذا ما أراد أن يتخذ لنفسه موطئ قدم في أراضي الصين أن يهاجم مملكة كين التي كانت تتبع لها بعض طوائف الترك والمغول .
ب ـ مملكة كين"مملكة الذهب":
واجهت جنكيز خان، في هجومه على مملكة كين القوية، صعوبات لم يصادفها خلال غزوه لمملكة التانغوت، وتتمثل تلك الصعوبات بالتحصينات المنيعة، وحروب الحصار التي لم يكن جيشه قد اعتاد عليها بعد، إضافة إلى وجود سور الصين العظيم، وحصونه الممتدة من الشرق إلى الغرب، مما شكل خط دفاع مستمر لحماية مملكة الذهب، وتوجهت أنظار جنكيز خان أولاً إلى التحالف مع قبائل الأنغوت المقيمة شمال سور الصين في منغوليا الداخلية حالياً،ونجح في إقامة حلف مع ملكها، بعد أن وافق على تزويج إحدى بناته للملك الأونغوتي الذي كان يعتبر، نظراً لموقع مملكته الإستراتيجي، والمعاهدات المعقودة بينه وبين ملك كين حارساً للحدود الصينية، ومراقباً أميناً فيما وراء السور العظيم ولهذا، فعندما حالف جنكيز خان مملكة الأنغوت، بدا وكأنه فكك وسائل دفاع مملكة كين، دون أدنى جهد ممكن، وأوصل حدود إمبراطوريته إلى الخطوط الأمامية من مواقع الخصوم .وكان جنكيز خان لديه بدائل متعددة لتحقيق أهدافه، فإذا عجز عن تحقيقها بالقوة فالحل بالسياسة والحيلة والرأي. وفي عام 607هـ / 1211م، جمع جنكيز خان جيشاً عظيماً في منغوليا الشرقية، على ضفاف نهر كيرولين استعداداً للهجوم على بكين، وبطبيعة الحال لم يجد جنكيز خان صعوبات تذكر في اختراق دفاعات الأتراك والأنغوت المتحالفة معه (كما أسلفنا)، ووصل جيشه إلى شمال الصين، وخرب البلاد التي اجتاحها، من دون أن ينجح في الاستيلاء على مدنها الرئيسية، فقد كان ينقصه المهارات الهندسية لذلك، كما وقف جيشه طويلاً وهو ينتظر أمام قلاع سور الصين ومضى عاما 608هـ / 609هـ / 1211م /1212م، ولم يستول جنكيز خان سوى على مراكز قليلة الأهمية، لكون تلك البلاد صعبة التضاريس، وتتخللها سلاسل جبلية متداخلة، ويمر سور الصين خلالها، من خليج بتشيلي إلى النهر الأصفر، ثم إلى الشمال من بكين وتاتونج، عند شمال شان سي، فاكتفى القائد المغولي بإحراز بعض الانتصارات غير الحاسمة، كما حصل عام 607هـ / شباط ـ آذار 1213م في معركة جبل يي ـ هو الواقع بين بكين وكالجان وتحين جنكيز خان الفرصة السانحة، في ربيع الأول 608هـ / 1212م عندما ثار أحد أمراء الخطاي الخاضعين لسيادة كين، وأعلن تأييده للفاتح المغولي، فأسرع الأخير إلى دعم الأمير الثائر وأرسل أحد أعوانه القائد "جيبي" إلى إقليم لياو ـ يانج جنوب منشوريا، لكن القوة المغولية انهزمت أمام أسوار مدينة لياو ـ يانج، فتراجع جيبي إلى منطقة مجاورة ليعيد تنظيم قواته، ثم باغت المدينة واحتلها وأعلن يي ـ لو ـ ليو ملكاً على شعب الخطاي تحت السيادة المغولية . وفي عام 610هـ/1123م، توجه جنكيز خان إلى الصين للمرة الثانية وكان هدفه السيطرة على طريق كالجان ـ بكين الإستراتيجي، فاستولى على هسوان ـ هوا، وهي أول مدينة حصينة على هذا الطريق وسقطت بيده، تباعاً، باور ـ آن، وهواي ـ لاي، ثم اجتاز ممر تشو ـ يونج ـ كوان"نان ـ كو" المظلم، جنوب غربي هواي ـ لاي، الذي تتحكم فيه حصون منيعة تسيطر على المنطقة التي ينحدر منها السور العظيم نحو بكين، ثم وصل جنكيز خان إلى مدخل سهل شرقي الصين الكبير الممتد من بكين إلى نان ـ كنج، فسيطر بذلك على الطريق المؤدية إلى الأراضي الصينية وفي المنطقة الشمالية الشرقية استولى على قلعة كويبي ـ كو التي تتحكم بالممر الرئيسي ما بين جيهول "شانغ ـ تي" وبكين في الشمال الغربي للبلاد، استولت قواته على تا ـ تونغ المعقل الهام الذي يقع بين خطي سور الصين، ويسيطر عل إقليم شان ـ سي انتهز جنكيز خان حالة الفوضى الناتجة عن قيام أحد الأمراء بقتل ملك الذهب وي ـ شاو، في ربيع الآخر 610هـ/آب/أيلول 1213م، وقام بهجوم واسع على وسط مملكة كين من ثلاثة محاور.
ـ قاد بنفسه الجيش الأوسط ومعه ابنه تولوي"تولي" وزحف من السهل العظيم، سهل الصين الشرقي إلى وسط الصين، متجنبا الهجوم على بكين بعد أن وضع قوات قبالتها، ثم انعطف إلى الجنوب، فنهب المدن تباعاً، بدءاً من باو ـ تونج جنوباً حتى بكين شمالاً، ومن بكين قطع جنكيز خان مسافة جاوزت 300ميل من الشمال إلى الجنوب ولم يتوقف إلا عند وصوله إلى هو ـ باي، على النهر الأصفر حيث لم تستطع خيوله عبور النهر لغزارة مياهه وسرعة جريانه وبعد ذلك توجه جنكيز خان إلى المنطقة الجنوبية الشرقية ووصل إلى سهل شانتونج الخصيب، وأحتل مدينة تسي ـ تان ثم انتقل إلى مرتفعات تاي ـ شان وسار نحو الشرق وسيطر على مدينة لان ـ شان على الجانب الأقصى لحدود إقليم شانتونج، فسقطت بيده القلاع الصينية الواحدة تلو الأخرى ، باستثناء بعض الحصون المنيعة التي عجز عن اقتحامها، ثم رجع سور الصين العظيم، بعد ان نهب سهل الصين الشرقي .
ـ أما الجناح الأيمن من الجيش، الذي قاده جوجي وجغتاي وأوكتاي، أولاد جنكيز خان، فسار إلى القطاع الغربي من هو ـ باي عن طريق بوا ـ تنبح وشانتو، واقترب من هواي ـ كنج في مقاطعة هانون، شمال النهر الأصفر، وعبر آخر التلال المنخفضة في تاي ـ هانج وصعد بعدها إلى إقليم شان ـ سي، ثم توجه عبر حوض نهر"فن" الذي يقسم الإقليم المذكور إلى قسمين في مجراه المتجه من الشمال إلى الجنوب، وبسط سيطرته على المدن الواقعة على ضفتيه"فن" وفي جواره وهي مدن: باي ـ بانج، فن ـ تشي، وهسن ـ تشو، كما استولى على مدينة تاي ـ يوان، حاضرة إقليم شان سي، ثم رجع إلى سور الصين العظيم عن طريق تاي تشو وتاتونج.
ـ أما الجيش الثالث الذي قاده قاسار أخو جنكيز خان فسار بمحاذاة بكين متبعاً الطريق الساحلية شمالاً وأخضع المنطقة الواقعة ما بين شان ـ هاي كوان وجيهول" شانغ تي" ثم توجه للسيطرة على منشوريا العليا، في إقليم نهري نوتي وسنجاري وصولاً إلى نهر آمور وفي عام 611هـ/1214م انتهز جنكيز خان فرصة مبادرة إمبراطور الصين إلى عرض الصلح على ان يضم جنكيز خان كافة البلاد التي فتحها في الصين سواء كانت داخل سور الصين أم خارجه، فأعلن جنكيز خان موافقته على طلب الإمبراطور وما إن اجتاز القائد المغولي سور الصين، في طريق عودته إلى منغوليا، من ممر تشو ـ يونج ـ كوان، حتى عدل الإمبراطور عن فكرة الصلح وشرع في تحصين قلاعه وحصونه، ونقل عاصمة ملكه إلى مدينة كاي فونج، في جنوبي البلاد، لتكون أقرب إلى ساحة القتال تاركاً بكين في عهدة ولده، فما كان من جنكيز خان إلا ان استدار بجيوشه وعاد مسرعاً إلى الصين واشتبك مع الجيش الصيني في معركة فاصلة سقطت على أثرها بكين في أيدي المغول عام 612هـ/1215م .

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 1:00 pm

خامساً: مقومات المشروع المغولي في عهد جنكيز خان:
كان جنكيز خان يتحرك من خلال مشروع يخدم أهداف المغول في التوسع والسيطرة والنفوذ والهيمنة على قيادة العالم آنذاك وقد لاحظت في دراستي أهم مقومات المشروع المغولي والتي منها:
1 ـ شخصية جنكيز خان: كانت شخصية جنكيز خان قيادية من الطراز الأول سمحة له بالتغلب العسكري على كل من وقف في وجهه من دول العالم وشعوبه في القرن الميلادي الثالث عشر، وقد أقام من نفسه حاكماً على نصف العالم المعروف في ذلك الزمن، وأثار لدى البشر خوفاً رهيباً استمر قائماً في أعماق النفوس أجيالاً عديدة، كان اسمه تيموجين، أي الرجل الفولاذي، ويعرفه التاريخ باسم جنكيز خان وكان هذا القائد المغولي نابغة في:
ـ التنظيم وبناء الجيش.
ـ الاستراتيجية.
ـ التكتيك.
ـ التخطيط.
ـ معرفة الرجال.
ـ اختيار الأعوان.
ـ اكتشاف نقاط الضعف لدى الآخرين وتسخيرها لصالحه وهذه المميزات كلها هامة للعسكريين والمدنيين على سواء، والعاقل من يسعى إلى المعرفة مهما يكن مصدرها، لأن المعرفة قوة، ولأنها نبراس يبدد ظلام الجهل والارتجال ، ويهدي إلى معرفة الحقائق وأسرار التاريخ، وقيام الدول، وتوسع الحضارات.
كان هذا الزعيم المغولي طويل القوام، متين البنية، قوي البدن أصلع الرأس باستثناء بعض الشعر الرمادي اللون، وعيناه كعيني الهر وكان لا يتكلم غير المغولية بالإضافة إلى عبارات صينية وفي حياته الخاصة، كما في حياته العامة، فإنه نادراً ما كان يتطرف في تصرفاته، الخاصة ولذلك احتفظ بنشاطه العقلي والبدني، حتى النهاية، ويذكر الباحثون بأنه لم ينغمس قط في التطرف الجنسي وكانت المتع المفضلة لدى جنكيز خان لعبة البولو ورحلات الصيد، وكان في كليهما مبدعاً ولم يكن غريباً عن ملذات الخمرة، ويشترك في هذه المتعة مع جميع بني قومه، ولكن على عكس ابنه وخليفته أوغوداي، فإنه لم يسمح للشراب بأن يكون متسلطاً عليه وكان يعبر عن رأيه في هذه العادة بقوله: إذا المرء لم يستطع الامتناع عن الخمرة، فليكتف بالشرب ثلاث مرات في الشهر وإن هو فعل اكثر من ذلك فإنه يرتكب جريمة بحق نفسه، وإذا شرب مرتين في الشهر فلذلك افضل، وإذا شرب مرة واحدة في الشهر فلذلك اعظم فضلاً، وإذا لم يشرب المرء خمراً بالمرة فذلك يكون عملاً عظيماً يستحق الثناء والتقدير .
ـ شجاعته:كان يتمتع بشجاعة فائقة ويقدر الشجاعة لدى الأصدقاء والأعداء على السواء وقد شق طريقه إلى السلطة بالعمل ضد أناس كانوا على شجاعة خارقة، ومن الأمثلة على إعجابه بالشجاعة أنه في نهاية المعركة التي أنتصر فيها على السلطان الخوارزمي جلال الدين، عند نهر السند عام 1221م فقد بلغ إعجابه بشجاعة خصمه الشاب، رغم ما اعتراه من أسف لفراره بالقفز مع جواده إلى النهر إلى حد حمله على أن يهتف قائلاً كمثل هذا يجب أن تلد النساء وقد اعتبر جلال الدين صنواً له في الشجاعة والإقدام ، وسألهه (بالاخراجا) يوماً وكان قائداً أسيراً لديه قائلاً له: إنهم يدعونك بطلاً عظيم القدرة فما هو دليلك على ذلك؟ فأجاب جنكيز خان في صباي، كنت يوماً أسير على جوادي وحيداً في الفلاة وقد اعترضني ستة رجال كانوا يكمنون لقتلي عند مخاضة وقد هاجمتهم بسيفي تحت وابل سهامهم، وقتلتهم جميعاً، وتابعت طريقي دون أن أصاب بأذى، وقد مررت بطريق عودتي، بالمكان الذي قتلت فيه أولئك الأعداء فوجدت خيولهم طليقة ومن لا يعتني بها، فاستوليت عليها. قص جنكيز خان هذه الحادثة كجواب على سؤال (بالاخراجا) وكدليل على شجاعته وبأسه والأهم من ذلك أنه كان يؤكد بهذه القصة اعتقاده بأنه يتمتع بحماية سماوية: لقد قررت السماء ـ على حد قولهم ـ أنه لن يموت قتلاً وقد قتل جميع أعدائه واستولى على خيولهم .
ـ السخاء والكرم: كان سخياً في مكافأة ضباطه لكل عمل يظهرون فيه شجاعة فائقة، وكان معروفاً بالجود والكرم، ومما ذكره الجويني عنه في هذا الخلق، أنه قدم له بعض الفلاحين بالصين ثلاث بطيخات، فلم يتفق أن عند جنكيز خان أحد من الخزاندرية فقال لزوجته "خاتون": أعطيه هذين القرطين اللذين في أذنيك، وكان فيهما جوهرتان نفيستان جداً فشحت المرأة بهما وقالت: انظر إلى غيره، فإن هذا لا يدري ما هما، فقال: أدفعيهما إليه فإنهما لا يبيتان هذه الليلة إلا عندك، وهذا الرجل لا يمكننا أن ندعه يذهب عنا مقلقل الخاطر وربما لا يحصل له شيء بعد هذا، وإن هذين لا يمكن أن أحداً إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك، فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح، فطار عقله بهما، وذهب بهما فباعهما لبعض التجار بألف دينار، ولم يعرف قيمتها فحملها التاجر إلى الملك فردهما على زوجته . واجتاز يوماً في سوق، فرأى عند بقال عناباً فأعجبه لونه، ومالت نفسه إليه فأمر الحاجب أن يشتري منه ببالس، فاشترى الحاجب منه بربع بالس، فلما وضعه بين يديه أعجبه وقال: هذا كله ببالس؟ فقال: وبقي منه هذا وأشار ما بقي معه من مال، فغضب وقال: متى يجد من يشتري منه مثلي، تمموا له عشرة بوالس . وأهدى له إنسان رمانة فكسرها وفرق حبها على الحاضرين، ثم أمر له بعدد حبها بوالس وأنشد الجويني عند ذكر هذه الحادثة:
فلذلك تزدحم الوفود ببابه
مثل ازدحام الحب والرمان

ـ غيرته: كان مفرطاً في الغيرة على كل شيء يعتبره ملكاً له، فبعد احتلال مدينة جورخند، عام 1221م، تقاسم أولاده: جوشي، وجغطاي وأوغوداي، جميع الغنائم والأسلاب بينهم، دون أن يرفعوا منها شيئاً كحصة لأبيهم، وعند عودتهم إلى المقر الإمبراطوري وجدوا أباهم في حالة الغضب الشديد واستحال عليهم أن يقابلوه وفي آخر الأمر رأى الأوخونات: موخالي، ويوركوجي، وشيكي أن عليهم أن يتدخلوا في الأمر، فذهبوا إلى مقابلة جنكيز خان يعاتبونه على موقفه قائلين: لقد غلبنا الخوارزميين أولادك وكل في المدينة ملك يديك، وقد انتصرنا في هذه الحرب بمعونة السماء والأرض، ونحن ضباطك، مفعمون فرحاً واغتباطاً، لماذا أنت غاضباً على هذه الصورة؟، لقد اعترف أولادك بخطئهم وهم خائفون، لقد أعطوا إنذاراً للمستقبل، أسمح لهم الآن أن يمثلوا في حضرتك، خف غضب جنكيز خان بعد هذه الكلمات، ووافق على استقبال أولاده، إلا أن غضبه عاوده للحال عند رؤيتهم، وأخذت أجساد الأمراء الثلاثة تتصبب عرقاً وعندئذ بادر ثلاثة أفراد من الحرس الخاص بالتوسط بدورهم قائلين: أولادك هم كصقور ولم يتلقوا غير أول تدريبهم، أنهم يخوضون أول حروبهم، فإذا أنت ثابرت على معاملتهم على هذا النحو، فقد تتحول عواطفهم عنك في المستقبل، هناك أعداء من مشرق الشمس إلى مغربها، فارسلنا ضدهم وسنقاتلهم كالكلاب التيبيتية، وإذا ساعدتنا السماء وانتصرنا، فسوف نأتيك بكل ما يملكون من ذهب وفضة وحرير، وفي الغرب هناك خليفة بغداد، فأرسلنا ضده وكان أن زال غضب جنكيز خان وعفا عن الأمراء .
ـ قسوته وفظاعته: ارتكب جنكيز خان فظائع رهيبة ومذابح عديدة مريعة تقشعر لذكرها الأبدان، وهذه الأعمال الوحشية لم تكن غريبة على المجتمع المغولي في ذلك العصر وفي (البيليك) ـ أي الأقوال المأثورة عن جنكيز خان ـ ما يلقي الضوء على هذه الناحية من مسلكه، فقد جاء فيها عن لسانه: إن أعظم مسرة للمرء هي هزيمة أعدائه، طردهم أمامه، الاستيلاء على كل ما يملكون، رؤية أعزائهم يبكون، امتطاء خيولهم، ضم نسائهم وبناتهم بين ذراعيه. وكان جنكيز خان بمثل هذه الأحاسيس، يعبر عن مشاعر بني قومه وعادات عصره وبيئته .
ـ إخلاصه لأصدقائه: كان صديقاً مخلصاً لكل أولئك الذين كانوا يخلصون في خدمته، ولنا في معاملته لضباطه أحسن مثال على ذلك، وكان يمدهم بالنصائح القيمة، ومن الأمثلة على ذلك: وصيته لسوبوداي، عندما أرسله ضد المركيت عام 1216م والتي جاء فيها: سيكون عليك، لبلوغ هدفك، أن تسير عبر مضائق جبلية عالية وأنهار كثيرة، وكلما طالت الطريق كلما دعت الحاجة إلى مداراة خيالتك والاقتصاد في مؤونتك حتى لا ترهق خيلك قبل أن تدرك العدو وعليك أن تنتبهه دائماً لكلي لا يتسبب اللجام أو الحزام تحت الذيل بجرح مطاياك، وإذا خالفك أحد فابعث به إلي إذا كنت أعرفه وإلا فعاقبه بنفسك. ولما كان ولده البكر جوشي موجوداً مع الجيش بصفة قائد أسمى فربما يكون جنكيز خان قد استهدفه بهذه الكلمات وخاصة ما كان منها متعلقاً بالصيد، لأن جوشي كان مغرماً به بصورة مفرطة، ولم يكن هناك أدنى شك بأن القائد الفعلي للحملة كان سوبوداي، القائد العظيم والجنرال الخبير المجرب. وكان جنكيز خان يشجع على النجاحات التي يحققها القادة ويهتف بها، ففي عام 1223م، أثنى علناً على سوبوداي للنتائج المذهلة للحملة التي قادها مع زميله جيبة ـ توفي عام 1222 ـ منذ صيف عام 1220 إلى شتاء عام 1222 في غرب إيران، وجورجيا، والقوقاز، وروسيا الجنوبية، وبلغاريا الكبرى، ومما قاله علناً بهذه المناسبة: لقد نام سوبوداي على ترسه، وفاز في معارك دموية عنيفة، وعرض حياته لأعظم الأخطار والمهالك في سبيل عائلتنا، وإنا لراضون عنه أشد الرضى، وبعد سنين من ذلك التاريخ نوه بموخالي ـ وهو جنرال عظيم أيضاً ـ على نفس الصورة لإنجازاته المدهشة في الصين ، وكان يتصرف بوعي كبير عند حصول ما لم يكن يتوقعه، كأن يمنى أحد جنرالاته بالهزيمة مثلاً، ومن ذلك أنه بعد أن تفقد ميدان القتال في وادي بيروان في أفغانستان، حيث مني ابنه بالتبني شيكي كوتوكو بهزيمة على يد السلطان الخوارزمي جلال الدين، فإنه لم يعمد إلى لوم أو تعديد للهفوات والأخطاء وإنما اكتفى فقط بانتقاد اختيار القائد لميدان المعركة، ثم وجه كلامه إلى من كان حوله قائلاً: إن من عادة شيكي كوتوكو أن ينتصر دائماً، ولم يسبق له أن ذاق مرارة الهزيمة وقسوتها والآن، وبعد أن عانى من ذلك، فإنه سيكون أكثر حذراً واحتراساً وحتى مخالفات الضباط، وهي تعاقب عادة بصرامة، فإنه يعالجها أحياناً برفق وتساهل، ومن ذلك أنه في عام 1220م عندما أرسل سوبوداي وجيبة وتوكوشار إلى مطاردة سلطان خوارزم فقد أمرهم جميعاً أن يسيروا خلال ممتلكات عاهل هرات أمير الملك دون الإساءة إلى أحد من السكان، وقد تقيد سوبوداي وجيبة بهذا الأمر، لكن توكوشار سمح لجنوده بنهب جزء من الإقليم ولما بلغ جنكيز خان ذلك مال في بادئ الأمر إلى إعدام الجنرال المخالف، لكنه عاد فعدل عن ذلك بعد تفكير، واكتفى فقط بتوجيه لوم عنيف إلى توكوشار، وبعث إليه بضابط يشاركه في القيادة ، وهكذا بالثقة، والإقرار بالفضل، والتحرر من الغيرة والحسد اللذين أضرا كثيراً بالعلاقات بين الأسكندر المكدوني ونابليون بونابرت مع جنرالاتهما، وباستطاعته السيطرة على الغضب، اكتسب جنكيز خان لنفسه وعائلته وفاء لا حدود له، وولاءً مطلقاً من كل أولئك الذين عملوا معه، وكان هؤلاء جميعاً يتقيدون بعزم وتصميم، في تنفيذ أوامره وتعليماته، ونادراً ما فشلوا في تذليل الصعوبات والتغلب على الموانع والمشاق .
ـ معرفته للرجال وقيادته للقادة: تميز جنكيز خان بمعرفته الفائقة للرجال وقدرته على قيادة القادة، ولذلك نبغ في الإمبراطورية المغولية، قادة عظام خاضوا حروباً كبيرة بتخطيطهم وعلى مسئوليتهم الكلية وكان هؤلاء القادة عندما يكونون برفقة جنكيز خان، فإنهم كانوا يساهمون إلى حد كبير ولاشك، بوضع الخطط وتنفيذها تحت إشرافه المباشر، وكانت جميع العمليات الرئيسية التي جرت في حياته تصدر عن قراراته ولذلك يعود له الفضل الأول في جميع انتصارات المغول المدوية التي جعلته على مثل تلك الشهرة من القيادة المتفوقة، إذا رجعنا حروب الإمبراطورية المغولية، فمنذ عام 1221م إلى خريف عام 1222م عندما كان أعظم جنرالاته بعيداً عنه، موخالي في الصين، وسوبوداي وجيبة في روسيا في أوربا الشرقي، فإن جنكيز خان لم يحتل خوارزم وخراسان فحسب، بل سار بعد ذلك منتصراً خلال جبال أفغانستان المخيفة، دون أن يتعرض جيشه ولو مرة إلى خطر من أي نوع، وبعد موته، وحتى بقيادة أشهر الجنرالات وأولاده وأحفاده فإن المغول لم يحققوا إنجازات مثيلة لإنجازاتهم أثناء حياته وتحت قيادته، وقد استطاع جنكيز خان انتزاع الإعجاب والتفاني من الفريق القيادي الذي كان معه من أمثال وزيره الصيني الحكيم يلوي ـ تشو سي ـ ومن تلك الكوكبة الفريدة من القادة اللامعين الذين أحاطوا به، من المغول: بوكورجي، موخالي، سوبوداي، جيبة وساموخا وغيرهم كثير، مما يدل أن جنكيز خان لم يكن وحده شخصية كبيرة فذة فحسب، بل أن فراسته ومعرفته بالرجال، واختيارهم ما هي إلا العبقرية بعينها ، ومن الأدلة على معرفته بالرجال اختياره أثناء حياته خليفته، ودلَّ هذا الاختيار على حكمته واتساع أفقه وقوة فكره ونفاذ بصيرته، فلم يغتر بما اشتهر به تولوي من مواهب عسكرية أو بما اتصف به جغتاي من صرامة، يستطيع أن يفيد منها في تحقيق المبادئ الأساسية التي ينطوي عليها نظام جنكيز خان، بل ركز اهتمامه في أوكتاي الذي تعلقت به القلوب، لما اشتهر به من طلاقة الوجه والسخاء ونظراً لأن ما اشتهر جنكيز خان من قوة الإرادة، التي لم يرثها أحد من أبنائه، كان لا بد أن يشترك جميع أفراد الأسرة بعد وفاته في إدارة البلاد، إذ أن وحدة الإمبراطورية لا يحفظها إلا رجل يتصف بقوة الإرادة، والتفكير السليم، ويتحلى بخلال خلقية تجعله مقبولاً عند الناس .
ـ رجل دولة وسياسة: لم يكن جنكيز خان رجل حرب متفوقاً فحسب، بل كان إلى جانب ذلك رجل سياسة ودولة، وكان من خصاله البارزة العزم الذي لا ينثني والمقدرة على ألا يتعدى حدود إمكاناته الشخصية، وفي حين كان عظيم المطامع، فقد كان مع ذلك حريصاً على أن تكون مشاريعه أبداً في حدود إمكاناته إنه لم يمن قط بأية هزيمة، ولا أصيب بكارثة، وقد ترك لأولاده إمبراطورية مترامية الأطراف شاسعة الأرجاء، وأقوى جيش في ذلك العصر، وإذا قارنا بين جنكيز خان وبعض القادة وتاريخ الإنسانية رأينا الفرق الكبير، فمثلاً نابليون بونابرت ألمع القادة الأوربيون تراجع عاجزاً أمام مدينة صغيرة كعكا وتخلى عن جيش كامل في مصر، وارتكب حماقة في أسبانيا وخلف جيشاً كبيراً في ثلوج روسيا وانتهى أخيراً إلى الهزيمة الساحقة في ميدان واترلو، ومات سجيناً لدى ألد أعدائه في جزيرة نائية، وقد تحطمت إمبراطوريته تحت سمعه وبصره، ومزق دستوره وحرم ولده من الوراثة في حياته، وإذا تحولنا إلى الاسكندر الكبير، ذلك الفتى المنتصر، الذي فتح العالم في زمانه بعبقريته أخذ جنرالاته حالاً بعد موته يتقاتلون على وراثته ويضطرون ابنه الرضيع إلى الفرار ليقتل مع أمه وجدته لأبيه، وأما جنكيز خان، فقد جعل من نفسه سيداً مطلقاً على الأرض من كوريا حتى أرمينيا، ومن التبت سقف العالم حتى الفولغا وخلفه ولده دون أي احتجاج، وعاش حفيده، قبلاي خان، حاكماً على نصف العالم .

2 ـ دستور الدولة (الياسا):
اقتضت حياة المغول رغم بدائيتها وبساطتها أن تكون لهم قبل جنكيز خان مجموعة من الآداب والتقاليد، ولكنها لم تكن مدونة، لأنهم كانوا يجهلون الكتابة، فلما جاء جنكيز خان، أعاد النظر في هذه العادات، ورد بعضها وقبل معظمها وأضاف إليها بعض الأحكام والقواعد وجعل لها صبغة رسمية، وأمر بأن يتعلم الأطفال المغول الخط الأويغوري، كما أمر بأن تدون تلك النظم والأحكام بهذا الخط، وأن يحتفظ بها في خزائن أمراء المغول ، وقد أطلق على كل حكم من هذه الأحكام والقواعد اسم (ياسا)، وهي كلمة مغولية تأتي بمعنى حكم وقاعدة وقانون، وتكتب بصورة مختلفة في الكتب العربية والفارسية فنجد ياسا وياسه ويساق وياساق ويسق، وتطلق على الحكم الذي صدره الملك أو الأمير، ولما كان كتاب الياسا يشتمل على جزء كبير من الأحكام التي تتعلق بالجزاء والعقاب وغالباً ما يكون ذلك بإعدام الشخص المذنب، صار أحد معاني هذه الكلمة (ياسا) القتل والموت ، وأما مجموع هذه الأحكام المكتوبة التي أقرها جنكيز خان فإنه يطلق عليها (كتاب الياسا الكبير) ، وكان جنكيز خان يعتقد بأن تعاليم الياسا صالحة لكل زمان ومكان، وفرضها على الجميع بدون استثناء، بما هو نفسه وأفراد سلالته ، يقول الراهب المؤرخ للإنوكاربيني، في هذه الصدد، أنه جرى تطبيق الياسا بصرامة، وأن هذا التطبيق جعل من المغول أكثر شعوب العالم طاعة لرؤسائهم إلى حد يفوق طاعة الرهبان لأمراء الكنيسة، وكانت الياسا أول خطوة اتخذها جنكيز خان لإضعاف النزعات والميول الإقطاعية الضارة بالوحدة ، لقد رأى الخان الأعظم للمغول، أنه لا يمكن جمع كلمة هؤلاء القبليين المتعطشين للدماء إلا بتشريع قانون يلتفون حوله، وينزلون جميعاً على حكمه، ولابد أن تكون مواد هذا القانون مشتملة على عقوبات فيها جد وصرامة توقع على المذنبين في غير ما شفقة ولا رحمة، لأن هؤلاء الأتباع إن تركوا وشأنهم يحيون حيتهم القديمة، فإنهم يعودون إلى ما كانوا عليه من الفوضى، وقتل بعضهم البعض والتطاحن من أجل الأسلاب والمراعي، ولكن، إذا كانت الياسا قد فضت النزاع والخصام بين المغول الذين كانوا يعيشوا من قبل كقطعان الذئاب التي لا ضابط لها ولا رابط، فإنها من جهة أخرى قد حولتها إلى جيوش منظمة، تعرف كيف ترسم خططها بدقة وإحكام، وتغير على الأمم المتحضرة كأنها الإعصار المدمر أو كأسراب الجراد التي تنزل على الحقول المورقة، فتلتهمها التهاماً وتأتي على كل ما فيها .
وقد تعود المغول أن يرجعوا إلى نصوص الياسا يستشيرونها، ويعملون وفق ما تشير به وذلك في الأحوال الآتية:
ـ عندما يجلس خان جديد على عرش المغول.
ـ عندما يعقد مؤتمر عام يحضره الأمراء لمناقشة السياسة العامة للدولة.
ـ في حالة تعبئة الجيوش والاستعداد للقتال .
لقد أصدر جنكيز خان مجموعة القوانين المعروفة بالياسا، والتي نسخت كل ما سبق من قوانين العرف في الإستبس، لكي يربط أقاليمه معاً، في ظل حكم موحد، وهذه الياسا التي صدرت مجزأة طول حكم جنكيز خان حددت ما لرؤساء العشائر من حقوق وامتيازات وما هو مقرر للخان من شروط الخدمة العسكرية وغيرها من الخدمات، وقواعد نظام الضرائب فضلاً عن مبادئ القانون الجنائي والمدني والتجاري، وبعبارة أخرى يمكننا أن نقول: إن هذا القانون قد نظم علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة المحكومين بعضهم ببعض، كما حدد علاقة الفرد بالمجتمع وتتلخص أحكام الياسا قي أمور ثلاثة هي:
• الخضوع لجنكيز خان.
• والاتحاد في قبيلة واحدة، أي اندماج خمسون قبيلة من قبائل المغول في مشروع واحد.
• والعقاب الصارم لكل مخطئ .
أ ـ نصوص تاريخية عن الياسا:يحدثنا المقريزي عن الياسا فيقول: إن جنكيز خان القائم بدولة التتار في بلاد الشرق لما غلب الملك أونك خان، وصارت له الدولة قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه ياسه، ومن الناس من يسميه يسق، والأصل في اسمه ياسه، ولما تم وضعه، كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده حتى قطع الله دابرهم، وكان جنكيز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، كما تعرف هذا إذا كنت أشرفت على أخباره، فصار الياسا حكماً باتاً بقي في أعقابه لا يخرج عن شيء من حكمه . وقال: وأخبرني العبد الصالح الداعي إلى الله أبو هاشم أحمد بن البرهان ـ رحمه الله ـ أنه رأى نسخة من الياسه بخزانة المدرسة المستنصرية بغداد ومن جملة ما شرعه جنكيز خان في الياسه:
ـ أن من زنى قتل، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن.
ـ ومن لاط قتل، وتعمد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحدهما على قتل الآخر.
ـ ومن بال في الماء أو على الرماد قتل.
ـ ومن أعطى بضاعة فخسر فيها، فإنه يقتل بعد الثالثة.
ـ ومن أطعم أسير أو كساه بغير إذنهم قتل.
ـ ومن وجد عبداً هارباً أو أسيراً قد هرب ولم يرده على من كان في يد قتل.
ـ وأن الحيوان تكتف قوائمه ويشق بطنه ويُمْرَس قلبه إلى أن يموت، ثم يؤكل لحمه وأن من ذبح الحيوان كذبيحة المسلمين ذبح.
ـ ومن وقع حمله أو قوسه أو أي شيء من متاعه وهو يكر أو يفر في حالة القتال، وكان وراءه أحد، فإنه ينزل ويناول صاحبه ما سقط منه، فإن لم ينزل، ولم يناوله قتل.
ـ وشرط أن لا يكون على أحد من ولد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ مؤنة ولا كلفة وأن لا يكون على أحد من الفقراء ولا القراء ولا الفقهاء ولا الأطباء ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة.
ـ وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى، وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى.
ـ وألزم قومه أن لا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أولاً، ولو أنه أمير، ومن يناوله أسير وألزمهم أن لا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه، بل يشركه معه في أكله وألزمهم أن لا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه ولا أحد ناراً ولا مائدة، ولا الطبق الذي يؤكل عليه وأن من مرَّ بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل، ويأكل معهم من غير إذنهم وليس لأحد منعه.
ـ وألزمهم أن لا يدخل أحد منهم يده في الماء ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه به، ومنعهم من غسل ثيابهم، بل يلبسونها حتى تبلى.
ـ ومنع من أن يقال لشيء أنه نجس، وقال: جميع الأشياء طاهرة، ولم يفرق بين طاهر ونجس.
ـ وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب، ومنعهم من تفخيم الألفاظ ووضع الألقاب، وإنما يخاطب السلطان ومن دونه، ويدعى باسمه فقط.
ـ وألزم القائم بعده بعرض العساكر وأسلحتها إذا أرادوا الخروج إلى القتال، وأنه يعرض كل ما سافر به عسكره وينظر الإبرة والخيط، فمن وجده قد قصر في شيء مما يحتاج إليه عند عرضه إياه عاقبه.
ـ وألزم نساء العساكر بالقيام بما على الرجال من السخر والكلف في مدة غيبتهم في القتال.
ـ وجعل العساكر إذا قدمت من القتال كلفة يقدمون بها إلى السلطان ويؤونها إليه.
ـ وألزمهم عند رأس كل سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان ليختار منهن لنفسه وأولاده،.
ـ ورتب لعساكره أمراء، وجعلهم أمراء أولوف وأمراء مائتين وأمراء عشروات.
ـ وشرع أن أكبر الأمراء إذا أذنب، وبعث إليه الملك أخس من عنده حتى يعاقبه، فإنه يلقى نفسه إلى الأرض بين الرسول، وهو ذليل خاضع حتى يمضي فيه ما أمر به الملك من العقوبة ولو كانت بذهاب نفسه.
ـ وألزمهم ألا يتردد الأمراء لغير الملك، فمن تردد منهم لغير الملك قتل، ومن تغير عن موضعه الذي يرسم له بغير إذن قتل.
ـ وألزم السلطان بإقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته.
ـ وجعل حكم الياسه لولده جغتاي بن جنكيز خان، فلما مات التزم من بعده أولاده وأتباعه حكم الياسه، كالتزام أول المسلمين حكم القرآن وجعلوا ذلك ديناً، لم يعرف عن أحد منهم مخالفته بوجه .
ب ـ ما كتبه المؤرخ الفارسي الجويني عن الياسا: قبل المقريزي 845هـ بما يزيد عن قرن ونصف، كتب المؤرخ الفارسي عطا الملك الجويني ت 681هـ عن الياسه بتفصيل أكثر ولكن عبارة المقريزي تعتبر في الحقيقة خلاصة وافية لما جاء عند الجويني، على أن الأخير قد زاد في الحديث عن ناحية هامة لها أكبر الأثر في حياة المغول العسكرية هي مباريات الصيد ، التي كانوا يعنون بها عناية كبيرة كلما فرغوا من القتال، إذ كانت في الحقيقة هي رياضتهم المحببة إلى نفوسهم، ولكنهم كانوا يتخذونها وسيلة لإعداد أنفسهم إذا ما جد الجد ودعوا لحمل السلاح وخوض غمار المعارك، فهم في حلبات الصيد يدربون أنفسهم على ما سيفعلونه في وقت الحرب، ويقفون صفوفاً منتظمة كما يقفون في ميادين القتال تماماً ويأخذون منهم الآلات والأسلحة اللازمة للتدريب على استعمالها، وهم بالإضافة إلى هذا مكلفون بتسقط أخبار الأعداء والتجسس عليهم، يقول بارتولد: ومن الوسائل القيمة التي تعمل على حفظ النظام وتدريب الجند واختبارهم، حملات الصيد التي كانت تعد على نطاق واسع، وفيها تراعى جميع الأوامر الخاصة بالنظام الحربي بنفس الدقة التي تراعى بها إبان الحرب . وكان يشرف على ميادين الصيد كبار الأمراء الذين يصطحبون معهم الخوانين والسراري، ويتزودون بمختلف المأكولات والمشروبات، وتمتد هذه المباريات من شهر إلى ثلاثة أشهر وعلى الجنود المشتركين فيها أن يباشروا الصيد في تأن وحذر وأن ينظروا إلى الحيوانات كما ينظرون إلى أعدائهم، فلو فرض وأن جندياً قد أخطأ في إصابة الهدف فإنه يعاقب على ذلك بالضرب بالعصا، وكثيراً ما يكون العقاب بالقتل، بل إنهم كانوا لا يترددون عن توقيع الجزاء على أي شخص ينسب إليه الإهمال والخطأ مهما كان هذا الخطأ بسيطاً تافهاً، بعد ذلك توفد الرسل إلى الخان وهي تحمل إليه تقارير مفصلة عن كل ما دار في هذه المباريات التي تشبه إلى حد كبير مناورات الجيوش في العصور الحديثة، وذلك للإبقاء على تدريب الجند ومن حملات الصيد أيضاً، يحصل المغول على اللحوم اللازمة لمد الجيش والبلاد، وكانوا إذا ما قتلوا عدداً كبيراً من حيوانات الصيد، أكلوا أكبر قدر من لحمها يمكنهم أكله، وذلك حتى يبعدوا عنهم شبح الجوع في الأيام العجاف التي تنتظرهم ، والمغول يعتبرون الصيد جزء لا يتجزأ من حياتهم، ويحرصون على ممارسته منذ الصغر ويروى أن جنكيز خان سقط ذات يوم من فوق جواده، وأصيب حين كان يصطاد خنزيراً برياً وشاء حسن حظه ألا يهاجمه الخنزير وهو ملقى على الأرض، إذ كان قد انتحى جانباً فقال له الكاهن: كان ذلك نذيراً لك،لقد فعلت شراً برغبتك في قتل روح حيّ ولولا رحمة السماء لنطحك الخنزير وقضى عليك. فرد جنكيز خان عليه قائلاً: لقد أدركت ذلك شخصياً، وأعلم أن نصيحتك تستهدف الخير ولكنا نحن المغول قد اعتدنا منذ حداثتنا أعمال الصيد وليس من السهل علينا أن نغير عاداتنا . وكان للمغول نظم وقواعد يلتزمونها أثناء الصيد، ويقومون بتنفيذها بكل دقة .
جـ ـ من أخلاق المغول: نصَّ جنكيز خان في الياسا على أنه يمقت السرقة والفحش مقتاً خاصاً، وإن عقاب مرتكبيها الإعدام وصرَّح بأنه يغضب إذا علم بولد لا يطيع أبويه، أو بأخ صغير يخالف أمر أخيه الأكبر، أو بافتقار الزوج إلى الاعتماد على زوجته أو بمخالفة المرأة لزوجها أو بتمنع الغني عن إعانة الفقير أو بعدم احترام المرءوسين لرؤسائهم، ونهى أتباعه عن الإغراق في شرب الخمر فقال: إن الرجل السكران كالرجل المضروب على أم رأسه، يفقد عقله وكفاءته فاشربوا ثلاث مرات في الشهر الواحد لا أكثر والأفضل ألا تشربوا أبدا، ولكن من الذي يستطيع الإحجام عن الشراب مطلقاً ؟.
ح ـ موقف الشريعة الإسلامية من الياسا:
إن المتأمل في نصوص الياسا يلاحظ أن بعضها يوافق الشريعة الإسلامية الغراء، ولكن أكثرها مخالف لها، فالشريعة الإسلامية تقوم على احترام حقوق الفرد، وتمنع الطغيان والاستبداد وتدعو إلى السعي والكفاح لينتفع الناس بتجاربه، ويجد ثمرة عمله، أما الياسا، فإنها تقوم على أسس جائرة ظالمة، تلغي شخصية الفرد، وتحجر على حريته، وتكبله بقيود الذل والعبودية، وإذا كان المغول يعتبرون الكذب جريمة بنص القانون، فإنهم أحلوه لأنفسهم، لا سيما في وقت الحروب، وذلك على سبيل الخديعة والتفرقة بين المتحاربين من الأعداء ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن المغول تحللوا من المواثيق ونكثوا بالعهود لما ركب في نفوسهم من اللؤم والغدر والميل إلى الانتقام، فمثلاً كان الترك ـ من بين سائر القوميات ـ أقرب إلى المغول، بل كانت منهم كتائب بجيش جنكيز خان، وكانت التقاليد البدوية في آسيا الوسطى، تزيد الترك قرباً من المغول، ورغم هذا كله لم يحاول المغول الاتحاد مع الترك، وإشراكهم معهم في الفتح ولم تكن المحادثات التي يجرونها أحياناً مع الترك إلا ضرباً من الخدع الحربية المألوفة عندهم، فقد كانوا يحاولون بتأكيداتهم الكاذبة لأواصر الصداقة ـ أن يفرقوا أعداءهم ثم يجهزوا عليهم واحداً فواحداً، ونحن نعلم أن جنكيز خان أكد صداقته لأم السلطان محمد خوارزشاه مستغلاً الجفوة التي كانت بينها وبين ابنها، وذلك لكي يحول بينها وبين التدخل في الحرب، إذ كانت تحت إمرتها عدد من الكتائب ومع هذا فقد كان مصيرها الأسر والنفي، حيث ماتت في أرض الغربة ذليلة مهانة . وفي غرب آسيا لعب حفيد جنكيز خان "هولاكو" نفس الدور، ففي وقت ما، كان يجري المحادثات مع الإسماعيلية ومع الخليفة العباسي، ولكنه ما لبث بعد ذلك أن استأصل شأفتهم جميعاً.
ـ تفاني الفرد في سبيل المجموع: وإذا كان المغول ينادون بالتعاون، فإنما يقصدون التعاون الذي يقوم على تفاني الفرد في سبيل المجموع، وعدم الاعتراف بأي حق للمرء في حريته الشخصية، فنصت الياسا على ألا ينفرد أحد بكل شيء وغيره يراه، بل عليه أن يشركه معه في أكله، ولا يجوز أن يتمتع أحد بالشبع دون أصحابه، بل يقسم الطعام بالتساوي، ومن مر بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل ويؤاكلهم من غير إذنهم وليس لأحد منعه، فمثل هذه النصوص الجائرة تكشف لنا عن روح هذا المجتمع التعاوني الشاذ الذي يحرم الإنسان نتيجة سعيه وكفاحه .
ـ الإباحية: ودعت الياسا إلى الإباحية إذا ألزمت التتار عند رأس كل سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان ليختار منهن لنفسه ولأولاده وفي هذا هدم لكيان الأسرة التي هي عماد الاستقرار .
ـ أكل المحرحمات: والحقيقة أن كثيراً من عادات المغول وطباعهم كانت تدعو إلى الاشمئزاز، وتثير في نفوس المسلمين النفور، والكراهية لمنافاتها لتعاليمهم، فكانوا على استعداد لأن يأكلوا كل ما حرمه الإسلام، بل انهم لا يتورعون عن أكل الحيوانات الدنسة وكانوا يكرهون الاستحمام والاغتسال، وحرموا غسل الأيدي والثياب في المياه الجارية، ولذلك كانوا يتركون الثياب حتى تبلى ومن خالف هذه التعليمات اعتبر مجرماً خارجاً على القانون وعقوبته الإعدام، كذلك اعتبروا ذبح الحيوان بقطع حلقه من الجرائم التي لا تغتفر أيضاً، فحرموا على المسلمين ذبح حيواناتهم وفقاً للطريقة التي أجازها الشرع واستعاضوا عن ذلك بطريقتهم الوحشية الخاصة التي تقوم على تعذيب الحيوان، دون أن تأخذهم به شفقة ولا رحمة، فكانوا يشقون بطن الحيوان، ثم يمدون أيديهم إلى جوفه، فإذا وصلوا إلى قلبه امسكوه ونزعوه من مكانه .
س ـ تأثر مسلمي المغول بالياسا:يقول القلقشندي: ثم الذي كان عليه جنكيز خان في التدين، وجرى عليه أعقابه بعده، الجري على منهاج ياسة التي قررها، وهي قوانين ضمنها من عقله وقررها من ذهنه، رتب فيها أحكاماً وحدد فيها حدوداً ربما وافق القليل منها الشريعة المحمدية وأكثرها مخالف لذلك وسماها الياسة الكبرى وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزائنه توراث عنه في أعقابه، وأن يتعلمها صغار أهل بيته…إلى غير ذلك من الأمور التي رتبها مما هم دائنون به الآن، وربما دان به من تحلى بحلية الإسلام من ملوكهم . إن ما صرح به القلقشندي من أنه ربما دان بالباسا من تحلى بحلية الإسلام، ليطابق الحقائق التاريخية تمام المطابقة، فقد اعتنق الإسلام ((بركة)) خان القبيلة الذهبية في القيجاق ولم يكن الخان وحده هو المسلم بل كان نساؤه ورجال حاشيته مسلمين، وكان لكل أمير عنده، ولكل خانون مؤذن وإمام، وكانت مدارس تحفيظ القرآن كثيرة، وعلى الرغم من هذا، فإن هؤلاء المغول المسلمين، كانوا لا يزالون متمسكين بكثير من عادات التتر وتقاليدهم المتبعة في منغوليا مما تضمنته الياسا، فمن ذلك عادة تتعارض مع تقاليد الإسلام، وهي عدم استعمال مياه النهر لا للغسل ولا للاغتسال، وقد نُبه على السفراء الذين كان يرسلهم السلطان الظاهر بيبرس إلى بلاط "بركة" لتوثيق الروابط بين الطرفين ـ بألا يغسلوا ملابسهم في الاوردو ولكنهم كانوا يغسلونها خفية، إذا ما اشتدت حاجتهم إلى ذلك .وأما المغول الذين قدموا إلى مصر وعاشوا فيها، فكانوا متأثرين بالمدنية الإسلامية قبل أي اعتبار آخر، ومع هذا كانوا لا يزالون في بعض شئونهم ـ يتبعون نصوص الياسا ) وكانوا إنما رُبوا بدار الإسلام ولُقنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديئ .والواقع أن نصوص الياسا كانت محترمة جداً لدى المغول إلى درجة تبلغ التقديس، فكانت عندهم بمثابة القرآن عند المسلمين بحيث أنه لا يجرؤ شخص حتى السلطان نفسه على مخالفة أحكامها، أما إذا خرج عليها أي شخص آخر مهما كانت منزلته فإنه يكون عرضة للامتهان والعقاب .
ش ـ تيمور لنك يتمسك بالياسا:كذلك ظلت أحكام الياسا موضع عناية الأقوام التركية حتى بعد أن زالت دولة الأيلخانين في إيران، فقد سار عليها التيموريون، وكانوا يتبعون تعاليمها في إدارة دفة السياسة وشئون الحكم، وفي الولائم والحفلات يقول ابن عربشاه: وكان تيمور معتقداً للقواعد الجنكز خانية…وكذلك كل الجفتاي وأهل الدست والخطا وتركستان وأولئك الطغام كلهم يمشون قواعد جنكيز خان ـ لعنه الله ـ على قواعد الإسلام، ومن هذه الجهة أفتى كل من مولانا وشيخنا حافظ الدين البزازي ـ رحمه الله ـ ومولانا وسيدنا وشيخنا علاء الدين محمد البخاري ـ أبقاه الله ـ وغيرهما من العلماء الأعلام وأئمة الإسلام بكفر تيمور، وبكفر من يقدم القواعد الجنكيز خانية على شريعة الإسلام، ومن جهات أخر أيضاً. وقيل إن شاه رخ أبطل التوراة والقواعد الجنكيز خانية وأمر أن تجري سياستهم على جداول الشريعة الإسلامية، وما أظن لذلك صحة، فإن ذلك عندهم صار كالملة الصريحة والاعتقادات الصحيحة .

ع ـ تسجيل أقوال ملوك المغول: درج المغول على تسجيل أقوال ملوكهم وتعليقها بعد موتهم، لكنهم لم يكونوا أحراراً في كتابة كل ما قاله هؤلاء الملوك، فكانوا يدونون فقط ما يجيزه الخان، وهذا القسم من أحاديث المغول كان يقدره رعاياهم وينزلونه من أنفسهم منزلة التوقير والاحترام، وكانوا يطلقون عليه كلمة (بيليك) بمعنى (حكمة). وقد جمعت حكم جنكيز خان وصارت مرجعاً لجميع الطوائف المغولية، يستشهدون بها، يستشيرونها في مختلف شئون حياتهم، كما يستشيرون أحكام الياسا من هذه الحكم التي وردت على لسان جنكيز خان.
ـ لا يؤذ بعضكم بعضاً في أمور الدنيا، فإذا شعر بعضكم بألم من الآخر فليسارع لإزالته حالاً لتكونوا بمأمن من شرور الأعداء.
ـ إن من يدبر بيته أحسن تدبير، يتمكن من إدارة المملكة.
ـ من تمكن من إدارة عشرة أفراد وأحسن سوقهم، يتيسر له سوق جيش عظيم.
ـ من تمكن من نظافة بيته، يستطيع أن يحرس حكومته من السراق وأهل الشقاء .

3 ـ تنظيم واجبات خدمة الخان: بعد أن نجح جنكيز خان في توحيد القبائل، بدأ في وضع نظام للبلاد، وقد حدد هذا النظام في مجموعة وظائف، يتولى أمر كل وظيفة شخص أو أكثر، وإذا كانت هذه الوظائف من الوظائف الهامة أو الحساسة تولى أمرها أحد أقارب الخان الأعظم، وكانت هذه الوظائف كما يلي:
أ ـ أربعة أشخاص لحمل السهام والأقواس.
ب ـ ثلاثة أفراد يتولون الإشراف على الطعام والشرب.
ت ـ فرد واحد يتولى إعداد المراعي للأغنام والماشية وثلاثة للمحافظة على هذه المراعي.
جـ ـ شخص واحد لإعداد العربات العسكرية ووسائل النقل والحمل .
ح ـ فرد واحد للإشراف على الموظفين والخدم في قصر الخان.
د ـ أربعة أفراد يتولون الحراسة بالتناوب وحمل السيوف.
ذ ـ اثنان يتوليان أمر المحافظة على الخيول.
س ـ أربعة أشخاص لتبليغ رسائل الخان.
ش ـ اثنان من النبلاء للمحافظة على النظام في اجتماعات المغول .
وكان لحرس الخان الأعظم شأن كبير في دولة المغول، فقد كان الجندي الواحد منهم أعلى مرتبة من قائد الألف رجل في الجيش، ويتم اختيار هؤلاء بعناية، وكان يتولى أمر الحراسة منهم مجموعتان أحدهم للنهار وأخرى لليل، وقد بلغ حوالي عشرة آلاف ممن عرفوا بالقوة وشدة البأس، ومن هؤلاء يتم اختيار ألف رجل يسمى كل واحد منهم (بهادر) ـ أي الشجاع المبارز ـ وهؤلاء الألف يقومون بخدمة الخان ويلازمونه ولا يخرجون للقتال إلا مع الخان نفسه ولا يتلقون الأوامر إلا منه، بالإضافة إلى الخان الأعظم وحراسه، كانت هناك طبقة الأمراء وهم معفون من الضرائب ولهم حق الاستيلاء على الغنائم أثناء الحروب، وكان هؤلاء الأمراء لا يستأذنون عند الدخول على الخان وكان من عادة الخان إكرامهم وذلك بأن يقدم لهم الشراب بنفسه ، واعتبر كافة المغول جنوداً في الجيش وعليهم حمل السلاح إذ ما دعت الحاجة، ولذلك اعتبر المغولي راعياً للأغنام والماشية في السلم جندياً في أوقات الحرب، وكان على الجميع تدريب أنفسهم وإعداد الأسلحة اللازمة للقتال، وقد عرف المغول جميعاً بالطاعة العمياء لقوادهم، كما عرفوا بالخيانة وعدم الوفاء بالعهود في أعدائهم، ومن كانوا يحاربون دون رحمة لا فرق بين الأطفال أو النساء أو الشيوخ، أو المريض ولذلك اتسمت حروبهم بالقسوة والتدمير والتخريب .
واستطاع جنكيز خان أن يكسب احترام جيشه، فقد كان يعتبرونه رئيسهم الأعلى، يقدسون أوامره، وينزلون على طاعته، كما رفعوه إلى مرتبة التأليه، ولم يكن أحدهم يستطيع مخالفة الخان الأعظم ويعكس النظام العسكري الذي وضعه جنكيز خان مهارته وكفاءته ودهاءه .
أ ـ تنظيم الجيش المغولي: لقد نظَّم (جنكيز خان) جيشه على التدرج العسكري كالآتي:
• التوكان (تومان): يتكون من عشرة آلاف شخص (محارب) ويسمى فائدة (نُويان)، أو (نوين).
• الكوكبة: تتألف من خمسين شخصاً (مُحارب) ويُسمَّى آمره (يوزباشي).
• المقدِّمة: تتألف من خمسين شخصاً (مُحارب) ويُسمَّى آمره (أونباشي).
• الجماعة: تتألف من عشرة أشخاص (محاربين) وتعتبر هذه أصغر وحدة مقاتلة، قد يجوز تجزئتها، فتقاتل وتعيش وتموت سويّة .
كانت جميع الوحدات مزوَّدة بخيول من لون واحد وبمعدَّل خمسة خيول احتياطيَّة لكلِّ محارب؛ إذا إنَّ الجواد كان السلاح الرئيسي في جيش المغول، فكانت جيوشهم تتألف من الخيالة فقط عدا المدفعية والهندسية التي كانت أدواتها تُحمل على عجلات، ولا يُوجد مُشاة بينها كانت هذه الخيَّالة مقسَّمة إلى ثلاثة أنواع:
ـ السرايا الفدائيَّة، واجبها"فتح المعركة" وذلك بالشروع بالقتال والاشتباك مع العدو
ـ سرايا الصاعقة وهي الخيَّالة الثقيلة، واجبها التغلغل في صفوف الأعداء واستثمار الفوز.
ـ السَّرايا الخفيفة، وهي من الخيَّالة الخفيفة، واجبها المطاردة، وستر الجناحين في القتال.
كان سلاح خيَّالة الصَّاعقة(الثقيلة) السيف وقوسين للسِّهام وسهاماً كافية، وفأساً ثقيلة.
أما تجهيزاتهم؛ فكانت الدروع الجلديَّة لحمايتهم وحماية خيولهم وخوذ فولاذية مظلَّة فولاذية ـ أيضاًـ لحماية الرأس والرَّقبة وحقيبة للسهام واقية ضد الرطوبة، يحفظ فيها الجندي سهامه الاحتياطية مع مسَن لسنِّ السِّهام، وحَدِّها، وأوتاراً احتياطية للأقواس، بالإضافة إلى ذلك، كان المقاتل يحمل حبلاً طويلاً ذا اُنشوطة يستخدمه في جرِّ أدوات الحصار، أو سحب العجلات الغاطسة في الأوحال، أو المنقلبة أو العاطلة عن السَّير. وكان يحمل المقاتل ـ أيضاً إناء لغلي الحليب وحقيبة يضع فيها أرزاقه الاحتياطيّة من اللحم المجفَّف والخبز واللبن الخاثر، الذي يضعه في إنائه، ويضع فوقه الماء، ويغليه، ويستعمله كالحليب، وقربة صغيرة للماء، أما سلاح السَّرايا الفدائية، والخيَّالة الخفيفة، فكان الرمح مع القوس وكانت تجهيزاتهم تُشبه الخيَّالة الثقيلة عدا الفأس الثقيلة والحبل ذي الأنشطة إلا أن فرقة الحرس تمتاز عن بقيَّة الخيَّالة بالترس الذي كان يحمله الخيَّال ليتلافى به ضربات سُيوف الأعداء وكان لكل فارس في الجيش أربعة أو خمسة خيول احتياطية عدا الذي يركبه وكانوا يعتمدون في جميع عمليَّاتهم الحربية على خطَّة حركتهم الرَّائعة، وتحركاتهم الخاطفة وكان لجنكيز خان احتياط عام كما كان له محاربون للمحافظة على مصالح الإمبراطوريَّة في الخلف، ومحاربون آخرون لإدارة المقاطعات المحتلة كما كان لديه هيئة خاصة للاستخبارات، وأنشأ(رتلاً خامساً) في الدول المجاورة ـ معتمداً ـ في ذلك على الهدايا والوعود والزواج وأخيراً شكل جيشاً بقيادة معونه( جيي نويان) تحت تصُّرف الإمبراطور الصيِّن (إمبراطور الكين) لمقاتله سُلالة السُّنج وهكذا، تمكن" جنكيز خان" من التَّعرف على إمبراطوريَّة الكين، وأساليبها، وخُططها وكشف سرِّ قلاعها، وحصونها، ونقاطها الحيويَّة، ومواردها الإقتصادية .
ب ـ من وصايا جنكيز خان لجيشه:
ـ يُمنع اتِّصال قائد التُّومان"النُّيان" بآخر مثله وليس له أمر على الآخرين.
ـ عدم تقصير الفرد في تجهيزاته من الخيط والإبرة إلى ملابسه، وإلى كل ما يكون مسؤولاً عنه من تجهيزات، والمخالف يعاقب بأشد العقوبة.
ـ المعاقبة ـ بشدَّة ـ لكل من لم يسمع كلام أبيه من الأولاد، والأخ الأكبر من أخوته، والزوجة من زوجها.
ـ يجب مراعاة السّلسلة في تنفيذ وإصدار الأوامر فالفرد لا يراجع إلا آمره، وهكذا إلى أعلى الرتب.
ـ المعاقبة ـ بشدة ـ لكل من يسرق ويقطع الطريق، أو يقوم بجريمة.
ـ يكلف بالقيادة من كان عاقلاً شجاعاً، ويجعل الأفراد من سائر الناس، وأما الضعفاء، والعجزة فيتخذهم رعاة، فيوزع الأعمال بهذه الصورة.
ـ على جميع القادة من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى مواجهة جنكيز خان في السنة مرة، ليتلقوا منه الأوامر، ويصغوا إلى نصحه،وقال إن من فعل ذلك تمكن من أن يصير قائداً لجيش عظيم .
ج ـ التسلح والتجهيز: كان الجواد في الجيش المغولي يعتبر السلاح الأساسي، ويُسلَّح المقاتل بسيف ورمح وقوسين، أحدهما للرَّمي أثناء رُكُوب الخيل، والثاني للرَّمي بدقة، كما كان يُجهِّز الثلاث جُعب مُعبَّأة بسهام مختلفة، وبأدوات حفر خفيفة وأرزاق احتياطية، وقُربة تُعلَّق بذيل الجواد، لوضع أجهزته فيها، وتساعده في اجتياز الأنهار والتُّرع والجداول المائية، وكان المقاتل يتدرَّع بدرع من الجلد ، وأمَّا القادة فبالإضافة إلى الأسلحة فكانوا يزودون بجلد رقيق مُستدير، تحيط حافته عُري يربط فيها حبل، بحيث يصبح جيباً مستديراً يُلقون فيه ملابسهم، وأسلحتهم وغيرها من الأمتعة، حتى يمتلئ تماماً، ويقفل، ثم يضعون وسط كل هذا أسرجتهم وأمتعتهم بالقارب إلى ذيل الجواد، ويكلِّف رجل بالساحة، ويجر الجواد خلفه، ويزودون ـ أحياناً ـ بمجاذيف تعينهم على العبور، ثم يدفعون الخيل الباقية لتشبع ذلك الجواد، وأما المقاتلون الآخرون، فكان يحمل كل منهم قرية متينة الحياكة يضع فيها كُلَّ أمتعته، ثم تُعقد فوهتها، وتربط بذيل جواد لعبور النهر، كما تستخدم هذه القرية نفسها لخزْن الماء حين اجتياز الصَّحاري .
س ـ أساليب القتال: كان الجيش المغولي يتقدم بقيادة جنكيز خان على جبهة عريضة وبثلاثة أرتال: جناح أيمن، وجناح أيسر ووسط كان الجناحان الأيمن والأيسر يتقدمان على مستوى واحد تقريباً في حين كان وسط الجيش يتقدم متأخراً قليلاً عن الجناحين الأوَّلين، بحيث يسمح له بمساندة أي منهما، دون أن يعرض نفسه للصدمة المعادية، كما يسمح ـ في الوقت نفسه ـ للجناحين الآخرين بتطويق مؤخرة العدو إذا تعرض الوسط للمهاجمة، لقد اعتمد جنكيز خان في بناء جيشه على مبدأ الشعب المسلح، كما اعتمد خطط الحرب الخاطفة، وكانت المسافة الأرتال الثلاثة لا تتعدى مسيرة يوم واحد، وكان جنكيز خان يتقدم بجيشه ليلاً ونهاراً، فقد تمكن جيشه من قطه مسافة 1130كم في خمسة عشر يوماً أثناء حملته على بولونيا ومسافة 450كم في مدة ثلاث أيام أثناء حملته على هنغاريا، وقبل وصوله إلى هدفه بأيام قليلة كان تقدمه ليلاً فقط، وفي منتهى الكتمان، ثم يعقب ذلك التسلل هجوم عنيف ومفاجئ فجراً، وكان يستخدم إشارات الميدان أثناء القتال، وكان يستعمل الأعلام نهاراً والمصابيح أو إضرام النار ليلاً، ولقد استخدم جنكيز خان في حروبه جميع خطط المخادعة والمباغتة، وكان يعقد المعاهدات مع خصومه لشلهم وبذل الشقاق في المملكة التي يريد دمارها قبل إعلان الحرب عليها، وكان يرسل عناصر من استخباراته لشن حرب نفسية على أعدائه قبل أية معركة، وكان يستخدم حرب الصاعقة لقهر جيوش أعدائه، وعلى الرغم من أن جنكيز خان سفاح ووثني، إلا أنه إمتاز بالزعامة والقيادة وتمكن من تأليف أقوى جيش، وتأسيس أقوى إمبراطورية عرفها تاريخ القرون الوسطى .

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 1:07 pm

ش ـ الاتصالات في الجيش المغولي: لقد اهتم جنكيز خان كثيراً بالاتصالات، لقد كانت الاتصالات في الجيش المغولي، كالآتي:
ـ الاتصالات بين التشكيلات، وكانت تقام بأسلوبين ـ الأول: بواسطة المخابرة البصرية، وتتم نهاراً لاعطاء الإشارة بالعلم الذي حمله حامل العلم المرافق لقائد التومان، وليلاً بواسطة فانوس أحمر، وكانت إشارة واحدة من العلم أو الفانوس كافية لتحريك السراية بالنظر إلى الحركة المطلوبة. الثاني: الاتصالات بين مقر الجيش في الجبهة ومجلس الحرب الأعلى في العاصمة (قرة قورم) وتتم هذه بواسطة آمر خط المواصلات، وكالآتي: كان الطريق بين الجبهة والعاصمة يقسم إلى قواطع، يكون مركز كل منها في أكبر مدينة في ذاك قاطع، كان (الداروجا) أو آمر خط المواصلات آمراً لمركز الاتصالات أو كما يسميه المغول (يام)، يوجد في هذا المركز آمر مركز الاتصالات، وكاتب لتسجيل وقت مرور السعاة ومغادرتهم المركز، والأشخاص الذين مروا بهم في ذهابهم إلى الجبهة أو إيابهم إليها، وعدد من الأشخاص لحراسة المركز، وعدد كبير من الخيول السريعة التي كان كثير منها مسرجاً متهيئ للحركة، كانت واجبات الرجال المخصصين بواجبات المراسلة من أولئك الذين يستطيعون قطع (80 ـ 100كم) في اليوم الواحد، وكان قد تم تخصيص (300 ألف) جواد لإدامة هذه الاتصالات .
ع ـ القيادة: كان جنكيز خان يعين قادته من بين حرسه الخاص، وبهذا الأسلوب، جعل قيادة القوات العسكرية في جميع أنحاء الإمبراطورية الشاسعة بأيدي رجال يعرفهم جنكيز خان معرفة شخصية مباشرة، وقد جربهم بنفسه، وأن ما قام به أولئك القادة من أعمال مجيدة بالنسبة للمغول خير دليل على مقدرته على اختيار قادته ، وكان يقول: إن من يدبر بيته أحسن تدبير يتمكن من إدارة المملكة، وقال أيضاً: من تمكن من إدارة عشرة أفراد، وأحسن سوقهم تيسر له جيش عظيم ، ولم يكن قادة المغول أكثر من منفذين ماهرين بإرادة إمبراطورهم ، وكان يقتطع الوحدات من جيشه ويجحفلها من جديد طبقاً لمتطلبات الأحوال والظروف، وكان يتخذ إجراءاته سريعاً، ويتحاشى نتائج الفشل الذي قد تتعرض له قواته أحياناً ، ولقد أعطي لقب (النوين الأكبر) لأصغر أبناء جنكيز خان (تولوي) والذي كان اليد اليمنى لأبيه في الشئون العسكرية، كما حمل لقب (نوين) اخوة جنكيز خان الأصغران وهما (تموغا) و(بلغوطاي)، لم يتمتع أحد من صلب اخوة جنكيز خان بحقوق الإمارة، إلا سلالة (جوجي قسر) بينما دخل الباقون طبقة الأرستقراطية ـ النبلاء ـ وحمل أعضاء الأرستقراطية العسكرية لقب (طرخان)، ويتمتع حامل لقب طرخان بالامتيازات الآتية: الاعفاء من الضرائب، لهم الحق في الغنائم التي تقع في أيديهم في الحرب والصيد، واستطاعتهم دخول البلاط في أي وقت يشاؤون، دون إذن خاص، غير مسئولين عن جريمة يرتكبونها، إلا عند الجريمة التاسعة (الجرائم التي عقوبتها الإعدام)، يأخذون موضع الشرف في المآدب، ويقدم لكل منهم كأس من النبيذ، وكان في عهد جنكيز خان ثلاثة من قادة التومانات أحدهم (موقالي)، وكان يقود الميسرة أو الجبهة الشرقية، والثاني (بوكورجي) قائد الميمنة أو الجبهة الغربية، والثالث (أنايا) يقود قوة الوسط، وكان الأمراء ـ النويد ـ يكونون أعلى طبقة أرستقراطية في البلاد، أما الكتل الشعبية، فإنها لم تكن سوى أداة في أيدي مساعدي جنكيز خان .
4 ـ أساليبهم في الحرب وسلوكهم مع المغلوبين: قبل أن يقوم المغول بغزو إقليم من الأقاليم، كانت تطرح الخطة الحربية ـ التي سوف يتبعونها ـ على بساط البحث في جلسة "القوريلتاي" حتى إذا ما أستقر الرأي على الغزو، أطلق المغول جواسيسهم في بلاد العدو، فيجمعون الأخبار من هنا وهناك، ويستقصون حالة الجيش، ويختبرون حصون المدن، ثم يعودون بهذه المعلومات إلى بلادهم ويطلعون قادة الجيش عليها وبعد ذلك يرسل الخان رسلاً من قبله إلى حكام الأقاليم وسكان المدن يدعونهم إلى التسليم والنزول على طاعته وكانت أعمال المغول الإرهابية تلقي الفزع في نفوس سكان البلاد التي يزمعون الإغارة عليها وكانت قلوبهم تنخلع رعباً وفزعاً حينما يوجهون إليهم إنذارهم المعتاد، "ولسنا نعلم ماذا تفعل بكم الأقدار إذا لم تسرعوا إلى تقديم الخضوع والاستسلام والله وحده هو الذي يعلم ما هو نازل بكم ، فإذا رفضوا التسليم وأصروا على المقاومة، تقدم المغول لمحاربتهم، حتى إذا ما شارفوا أبواب المدينة، دعوا الناس للمرة الأخيرة إلى الدخول في طاعتهم، فإذا خرج عظمائهم وذوو الرأي فيهم، وحملوا إليهم الهدايا والتحف، وقبلوا تزويد الجيش المغولي بما يحتاج إليه من مؤن، فإن المغول لا يتعرضون لهم بالأذى، ويكتفون بأن يرسلوا إلى المدينة حاكماً من قبلهم، يصدر الخان مرسوماً بذلك حتى يكون لهذا الحاكم الاحترام والمهابة في النفوس وكان التسليم في هذه الحالة معناه التبعية المطلقة ، وتسليم عشر خيرات الإقليم أو المدينة،أما إذا اتخذ السكان طريق العصيان، وسلكوا سبيل المقاومة خسر المغول خسارة قليلة أمام المدينة المحاصرة، فإنهم لا يعقدون مع أهلها صلحاً في حالة عجزهم على مواصلة القتال واضطرارهم إلى التسليم، بل يصدر الخان أوامره بقتل جميع السكان، لا فرق عنده بين صغير وكبير، ولا بين رجل وإمرأة، كذلك يأمر قواته بتخريب المدينة وإباحة القتل العام، والطريقة المتبعة في ذلك، أن يدعو المغول الأهالي بالخروج إلى ظاهر المدينة، ويبقوا على الصناع وأرباب الحرف وبعد ذلك يرسلونهم إلى تركستان ومنغوليا، ويختارون من بين الأسرى من يصلح للقتال، فيكونون منهم قوات غير نظامية، يطلقون عليهم اسم (حشر) ثم يعملون سيوفهم في الباقين، فإذا أصر أهالي المدينة على المقاومة، رغم فرض الحصار عليها مدة طويلة فإن المغول يهاجمونها ويستولون عليها عنوة، أما إذا التقى المغول بجنود أعدائهم في أرض سهلة، فإنهم يهاجمونهم ليلاً ونهاراً حتى ينهكوا قواهم، وتكون النتيجة أما أن يستسلموا لهم، وأما يلوذوا بالفرار، وبعد المعركة يعطي الخان كل محارب من جنوده نصيباً عادلاً من الغنائم والأسلاب، كما يترجل عن حصانه ليعطيه من هو في حاجة إليه . وكانت طريقة القتال التي سلكها المغول وجميع البلاد المتحضرة (الصين وغرب آسيا ثم في روسيا فيما بعد) واحدة على الدوام، فقد كانوا في كل مكان يسوقون سكان القرى العزل أفواجاً لشد أزرهم في حصارهم للمدن الحصينة، واعتاد المغول عند اقتحام الحصون أن يجعلوا هؤلاء السكان التعساء في المقدمة لكي يتلقوا هم السهام المنهالة عليهم، وليمهدوا الطريق للجيش الذي يتبعهم وكانت الأعلام في بعض الأحيان توزع عليهم لإيهام العدو بأن الجيش وافر العدد، ويقال إن عدد المغول عند حصار (خنجد) كان عشرين ألف فقط، بينما كان عدد الأسرى الذين أجبروا على مصاحبة الجيش خمسين ألف نسمة ، كذلك كان هؤلاء الأسرى يكلفون بحفر الخنادق، ونصب أدوات الحصار وما يراه المغول ضرورياً من الأعمال الحربية العنيفة الشاقة والأسرى المغلوبون على أمرهم من جراء ذلك معرضون للأخطار الجسيمة، دون أن يجدوا سبيلاً للفرار، إذ أن أعين المغول من ورائهم ساهرة عليهم، حتى إذا ما أنهك الأسرى قوى أعدائهم، يجيء دور المغول للإجهاز عليهم . ووصف ابن الأثير المؤرخ المعروف ذلك وقال: وكانت عاداتهم إذا قاتلوا مدينة، قدموا معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون، فإن عادوا قتلوا، فكانوا يقاتلون كرهاً، وهم المساكين، كما قيل كالأشقر، أن تقدم ينحر وأن تأخر يعقل، وكان هم يقاتلون وراء المسلمين، فيكون القتل في المسلمين الأسارى، وهم بنجوة منه . وكذلك برع المغول في الالتجاء إلى وسائل الخداع والتمويه، فكانوا إذا حاصروا مدينة من المدن وطال حصارهم لها دون جدوى تظاهروا برفع الحصار عنها، والعودة من حيث أتوا، حتى إذا اطمأن أهالي المدينة إلى رحيل أعدائهم وألقوا سلاحهم، عاد إليهم المغول، وانقضوا عليهم فجأة قبل أن يستعدوا فتسقط المدينة في أيديهم على الفور .
5 ـ الاهتمام بالخبرات: بالرغم مما اشتهر به جنكيز خان من الصلابة والعناد في سياسته فإنه لم يغفل الإفادة من تجارب المتحضرين، إذ تلقى المساعدة من أرباب الخبرة والمرشدين وذوي الاطلاع فيما يتعلق بالشئون الإدارية والمخابرات التي تساعده على القيام بأعماله الحربية، والمعروف أن تنظيم الإدارة المدنية عند جنكيز خان في مستهل حكمه كان أمراً بالغ الصعوبة، فلا شك أن المغول وقتذاك لم يبلغوا من المستوى الحضاري ما بلغته القبائل التي خضعت لهم كالكرايت والنايمان، ولذا أضحت الحاجة ماسة إلى الإفادة من الشعوب الخاضعة الموالية له عقب توحيد منغوليا، وكان التجار المسلمون أول من ظهر في بلاد المغول من أصحاب الحضارات، بل أن ثلاثة من المسلمين كانوا من أشد الناس إخلاصاً لتيموجين (جنكيز خان) في الأيام الحالكة التي صادفها في حياته المبكرة، وهؤلاء هم: جعفر خوجا، وحسن، ودانشمند الحاجب، وأفاد جنكيز من حسن ودانشمند في حملته على مملكة خوازمشاة بما قاما به من مفاوضات باسم سيدهما مع السكان الأصليين، بل حدث حينما عزم جنكيز خان على مهاجمة الصين الشمالية، أن أنفذ إلى الملك التون خان، رسولاً اسمه جعفر، ولم يلبث أن نقل إلى جنكيز خان أحوال البلاد ووصف الطريق الذي سلكه، فأفاد جنكيز خان من هذه المعلومات في حملته التي انتصر فيها على التون خان، واتخذ جنكيز خان له مستشارين من الموالين له على اختلاف عناصرهم، ومن هؤلاء: محمود يلواج من المسلمين، وتا ـ تا ـ تونجا من الأويغوريين، ولي ليو تشو تساي، من الصينيين وهو الذي خدم آخر ملوك النايمان وعلّم أبناء جنكيز خان الكتابة الأويغورية والراجح أن محمود يلواج هو محمود الخوارزمي، أحد السفراء الثلاثة الذين وجههم جنكيز خان إلى محمد خوارزمشاه، سنة 1218م ومنذئذ ظل يعمل مستشاراً لجنكيز خان، فعينه حاكماً على إقليم ما وراء النهر بعد سقوطه في أيدي المغول فأحسن إدارته. وليو تشو تساي الخيتائي الصيني، فكان من أهالي الصين الشمالية وقد شغل أبوه منصب الوزارة لأسرة كين، وأشتهر يي ليو تشو تساي بثقافته العالية ـ يأتي عنه الحديث منفصلاً ـ حيث استفاد جنكيز خان من خبرته وأفكاره في إدارة الدولة، فقد أقام جنكيز خان أصول الإدارة المغولية على أفكار وثقافات الآخرين التي استفادها من الخبراء والمستشارين من الشعوب والأمم الأخرى، كالحضارة الصينية والاويغوريين وغيرها.
6 ـ حكيم من الصين:وقع على يلوي شو تسي أن يلعب دوراً هاماً وصعباً أثناء قيام الإمبراطورية المغولية، فقد حظي بإعجاب جنكيز خان منذ أن وقعت عينه عليه وكان أول فيلسوف صيني يلتحق بالجيش المغولي ولم يجعل المغول الأمور ممهدة أمام هذا الطالب للفلسفة والطب والفلك وحدث مرة أن سخر ضابط معروف بمهاراته في صنع الأقواس بالصيني العالي القامة والطويل اللحية، يقول له: ما هي الفائدة من وجود رجل كتب مع محاربين؟ فرد الصيني: إن صنع أقواس جيدة يحتاج إلى نجار، وأما عند ما يستدعي الأمر إدارة إمبراطورية، فالحاجة تدعو إلى صاحب حكمة، وصار حظيا لدى جنكيز خان وأثناء حروبه الكثيرة والطويلة، بينما كان المغول يجمعون الأسلاب والغنائم، كان هذا الحكيم يجمع الكتب والجداول الفلكية والأعشاب الطبية، وقد سجل جغرافية الحملات والمعارك والمواقع، وعند ما اجتاحت الجيش موجة من الوباء، فقد تأمنت له الفرصة عندئذ للأخذ بثأره من الضباط الذين كانوا يهزأون به وبكتبه لقد سقاهم من ماء أعشابه وجعل الله لهم فيه شفاء.
كان جنكيز خان يقدره لعلمه ونزاهته، ولم يترك الحكيم الصيني فرصة تمر إلا حاول فيها إيقاف القتل الذي كان يفرش طريق الجيش المغولي، وتقول أسطورة إن جنكيز خان شاهد مرة في مضائق جبال هملايا السفلى، حيواناً، عجيباً بشكل أيل، لكن أخضر اللون وبقرن واحد لا غير، فاستدعى هذا الصيني ليسأله عن ذلك الحيوان، فأجاب هذا بصوت خفيف وقور: هذا هو كيو ـ توان. إنه مخلوق يعرف جميع اللغات الأرضية، ويحب الأحياء من بني الإنسان، ويشمئز كثيراً من أعمال التقتيل. إن ظهوره هو بلا شك تحذير لك أيها السيد الخان، ودعوة إلى الكف عن اتباع هذا السبيل ، وتعتبر كتابات الحكيم الصيني ـ ليو تشو تسي من أدق المصادر وأوثقها، ويرجع إليه الفضل فيما كان للمدينة الصينية من تأثير على جنكيز خان وفي حد المذابح التي كان يجريها المغول في السكان بعد الاستيلاء على بلادهم وفي انقاد الكتب من النهب والحريق الذي تعرضت له المدن على أبدي المغول ومن مظاهر اهتمامه أيضاً، ما أجراه من أبحاث لاستخلص عقاقير طبية، لمكافحة ما يصدر عن جثث الضحايا من أوبئة وعلى الرغم من إخلاص بي لوي تشو تسي لدولة المغول، ولأسرة جنكيز خان، فإنه لم يستطع أن يخفي شعوره وعاطفته حينما يطلب الرأفة بمدينة أو إقليم، حل به قضاء المغول وحكمهم ويشير إلى ذلك اوكيتاي ابن جنكيز خان بقوله: ألا تزال تبكي على هؤلاء القوم. ومع ذلك كان لوساطته الفطنة الحكيمة أهمية في وقف إجراءات يتعذر تلافيها أو إصلاحها، فنظراً لأنه ينتمي أصلاً للعنصر المغول ولأنه تشبع بالحضارة الصينية يعتبر وسيطاً طبيعياً بين عنصر المغلوبين على أمرهم وبين الطغاة المغول، على أنه ما كان ليسعى مباشرة عند المغول للدفاع عن قضية إنسانية، خوفاً من أنه لا يجري الاستماع إليه، بل حرص على أن يثبت لهم أن الرأفة من دواعي السياسة السليمة وبذلك كان يحقق غرضه، فما كان يرتكبه المغول من همجية ووحشية، ويرجع إلى ما اشتهروا به من الجهل، وحدث في أثناء الحملة الأخيرة التي قادها جنكيز خان على كانسو، أن أشار قائد مغولي إلى أنه لا جدوى من الرعايا الصينيين الجدد، لأنهم ليسوا صالحين لاستخدامهم في الحرب ولذا يحسن استئصال شأفة كل هؤلاء السكان، الذين يبلغ عددهم نحو عشرة ملايين نسمة، حتى يصبح تحويل جانب من الأرض إلى مراعي لخيل العساكر، وأعرب جنكيز خان عن تقديره لهذه النصيحة غير أن الحكيم الصيني لم يلبث أن أعلن للمغول الذين لا يرتابون في إخلاصه مطلقاً ما يعود عليهم من المزايا باستغلال الأراضي الخصبة والإفادة من هؤلاء الرعايا المجدين وشرح أن ما يفرض من الضرائب على الأرض، ومن مكوس على المتاجر سوف يتحصل منها كل سنة نحو 500 ألف أوقية من الفضة، و80 ألف ثوب من الحرير، 400 ألف غرارة من الحبوب، فكسب بذلك المعركة، وعهد إليه جنكيز خان أن يضع على هذه القواعد مقدار ما يتحصل من الضريبة . ومما يذكر لجنكيز خان تقديره واحترامه واستفادته من المتحضرين والمثقفين وأصحاب الخبرات وفي عهد أوغوداي، خليفة جنكيز خان وابنه، كان هذا الصيني يدير الإمبراطورية بمفرده تقريباً، وقد استطاع أن يأخذ أمر تنفيذ العقوبات من أيدي الضباط المغول القساة القلب ليضع ذلك في أيدي قضاة عينهم لهذا الواجب، كما عين جباة ضرائب لصالح الخزينة، وكانت شجاعته وحكمته وسرعة خاطره، وذكاؤه يستدعي إعجاب القادة المغول وكان يعرف كيف يؤثر فيهم، فمثلاً كان الخاقان أوغوداي مدمناً على الشراب بكثرة وكان للحكيم الصيني رغبة كبيرة في أن يظل هذا الخاقان على قيد الحياة أطول مدة ممكنة ولما رأى أن نصائحه لأغوداي واعتراضه على إغراقه في شرب الخمر لا تجدي فتيلاً، جاءه يوماً بوعاء من حديد تحتفظ به الخمرة، وقد تآكلت حافته بفعل الكحول، عرض هذا الوعاء على العاهل المغولي وهو يقول: إذا كانت الخمرة تحدث مثل هذا التأثير في الحديد، فاحكم بنفسك كيف يكون تأثيرها في أحشائك وتأثر أوغوداي بهذه البرهنة، فاعتدل في شرابه، ومرة غضب أوغوداي لعمل قام به الوزير الصيني وأمر بإلقائه في السجن، ولكنه غير رأيه بعد فترة وأمر بالإفراج عنه ولكن الصيني لم يرغب في مغادرة السجن، وأرسل أوغوداي يستفسر عن السبب الذي منعه عن الظهور في البلاط فأجاب: أنت جعلتني وزيراً لك وأنت وضعتني في السجن، إذن فإني مذنب، وأنت أطلقت سراحي، إذن فأنا برأي، إنه لسهل عليك أن تجعل مني ألعوبة في يديك ولكن كيف أستطيع بعد ذلك أن أدير شؤون الإمبراطورية؟ وأعيد بعد ذلك لوظيفته وكان بعض الضباط المغول يتهمونه باطلاً بجمع ثروة كبيرة من وراء عمله مع جنكيز خان وأوغوداي ولذا عمدوا بعد موته إلى تفتيش مسكنه لكي لا يجدوا من الثروة المزعومة غير أدوات موسيقية متحفية ومخطوطات، وخرائط وجداول وحجارة عليها كتابات منحوتة .
7 ـ الكوريلتاي "المجلس العام" وأركان الدولة:كان المجلس العام "الكوريلتاي" يعقد كل عام وكان المكان، الذي اختير لانعقاد آخر كوريلتاي في حياة جنكيز خان، مرجعاً تبلغ دائرته 40 كلم تقريباً، وكان مكان مثالياً، وفقاً للتفكير المغولي، فالعشب يغطي الأرض على جوانب النهر والكلأ وفير والصيد كثير، وكان الوقت أوائل الربيع وهو الشهر المفضل لاجتماع الكوريلتاي وأخذ قادة الجيش يفدون في المواعيد المحددة، ولم يتأخر قليلاً سوى سوبوداي المستدعى من أوروبا، لقد قدموا من جميع أركان المعمورة المعروفة، جنرالات، خانات، ملوك وسفراء، قاموا برحلة طويلة للوصول إلى مجلس نبلاء الإمبراطورية المغولية وقد أحضروا معهم عدداً كبيراً من البطانة والحاشية وكانت المركبات القادمة من الصين مجرورة بالبقر ومغطاة بالحرير وكانت ترفرف فوقها الأعلام المغتنمة وكانت مركبات الضباط القادمين من سفوح التيبيت مسقوفة مذهبة ومبرنقة، مجرورة بجمال التيبيت(الياك)، ذوات القرون العريضة والأذيال الحريرية البيضاء، العظيمة القيمة لدى المغول، الذين يستعملونها زينة للرايات والأعلام، وجاء تولي أمير الحروب، قادماً من خراسان جالباً معه عدداً كبيراً من الجمال البيضاء وجاء جغطاي، هابطاً من ثلوج الجبال يقود مائة ألف رأسي من الخيل هدية لأبيه، كان الجميع يرتدون ألبسة من ذهب وحرير ومعاطف من فراء السمور، ويتدثرون إضافة بأردية من جلود الذئاب وقاية لملابسهم الثمينة وكانت الخيل، عوضاً عن الجلد المبقع بفعل الأنواء والمناخات، مبردعة بقمصان من الزرد المجلجل، وسروجها تلمع بالفضة المجلوة وتخطف الأبصار بأضواء الجواهر النفيسة واجتمع الكل في فسطاط أبيض كان من الضخامة بحيث يستوعب ألفي شخص، وكان للفسطاط مدخل لا يستعمله سوى الخاقان، وكان الجنود حاملوا التروس من الشدة والصرامة بحيث لم يكن قط ليجرؤ أحد على المجازفة بالاقتراب من مقر جنكيز خان وكما فعلوا في مناسبات سابقة، فقد أتوا معهم بهدايا للخاقان، بأحسن أسلابهم من الخيل والنساء والأسلحة وبالكنوز الملتقطة بعناية عن خزائن نصف العالم تقريباً ويقول مؤرخ مغولي إنه لم يسبق قط أن شاهد المغول مثل هذه الفخامة والأبهة من قبل. أمراء الإمبراطورية يشربون الآن، عوضاً عن حليب الأفراس، خمر العسل ونبيذ فارس الأبيض المعتق وكان جنكيز خان محباً لنبيذ شيراز . جنكيز خان يجلس الآن على العرش الذهبي الذي كان للسلطان محمد الخوارزمي، وقد جئ به من سمرقند وكان إلى جانبه تاج وصولجان السلطان الراحل، وعندما اجتمع الكوريلتاي في أول جلساته، واستهل جنكيز خان أول جلسة بأن أعطى للحضور خلاصة عن حملات السنوات الثلاثة الأخيرة إلى أن قال: لقد جنيت سطوة عظيمة، وسلطاناً كبيراً بفضل"اليسا" وعليكم جميعاً أن تعيشوا في طاعة القوانين ، لم يتبجح جنكيز خان الداهية بإنجازاته، وكان الشيء الأهم في نظره، والوجب تحقيقه، هو الخضوع لدستور الإمبراطورية المغولية(الياسا)، إنه لم يعد بحاجة إلى توجيه نصح لضباطه، ولا إلى قيادتهم بنفسه، فهم الآن قادرون على شن الحروب على مسئوليتهم وكان يرى بوضوح مدى الخطر الكبير الذي كان من المتوقع أن ينجم عن وقوع التفرقة والتراع فيما بينهم وقد التفت إلى أولاده الأشقاء الثلاثة وقال: ـ لا تسمحوا أبداً للخصومات أن تحل بينكم! وجرت حفلات ومآدب لمدة شهر، ثم انفرط عقد الحشد، فغادر جغطاي إلى جباله وتوجه آخرون في طريقهم إلى كراكوروم وعلى رأسهم جنكيز خان وكان سوبوداي يسير إلى جانبه ويحدثه عن مغامراته في عالم الغرب وكرّس جنكيز خان بعد ذلك مابقي من حياته لتوطيد دعائم إمبراطوريته العظيمة، التي امتدت من كوريا حتى الخليج العربي، وجرى تنظيم الإدارة بصورة كاملة، دقيقة ومنظمة بإشراف الحكيم الصيني يلوي شو تسي وربما كان الشيء الأكثر إلفاتاً للنظر، في هذه الإمبراطورية تعدد الديانات، وقد جمع جنكيز خان حوله مستشارين من جميع الأديان وثنيين ومسيحيين وبوذيين ومسلمين .
8 ـ الاستراتيجية المغولية: كان المغول على مقربة من الحضارة الصينية، لذا فإن تأثير الثقافة الصينية المتفوقة على المجتمع المغولي أمر لا يمكن إهماله ، وهناك احتمال بأن يكون جنكيز خان قد تأثر، بالتفكير العسكري الصيني في مجال المحاربة وسبب ذلك أن جنكيز خان، بعد أن نجح في تدمير إمبراطورية كين الصينية، التي كانت تعرف بالإمبراطورية الذهبية أكره عدداً كبيراً من العلماء والعسكريين وأصحاب الحرف والفنون الصينيين على العمل في خدمته، وكان المغول ولا شك حتى قبل اجتيازهم لجدار الصين الكبير، قد تأثروا بمن كانوا يزورهم من الصينيين من تجَّار وعلماء ومنفيين سياسيين وعسكريين فارين من حاميات الحدود والسر في ذلك النجاح العجيب للمغول في قيادة الجيوش، هو تفهم الكامل لطبيعة الحرب، فلقد قاتلوا بدهاء غير معطين غير إمهال، ينتزعون المبادرة ويحتفظون بها دون تراخ أو مهادنة، ويعملون في نفس الوقت على تسكين مخاوف الخصم بحمله على شعور بالأمن الكاذب وذلك قبل أن يتحركوا منقضين عليه كالصاعقة، لقد كان المغول يعدون بعناية ودقة خططهم لكل حرب في المجلس العام (الكوريلتاي) الذي كان نوعاً من مجلس حربي أيضاً، لقد كانوا يرسلون العملاء والجواسيس إلى أراضي العدو ليأتوا بأعلام عن أموره العسكرية، والسياسية والاقتصادية، والجلوغرافية وكانوا يستعملون بحذق ودهاء تكتيكات ما يعرف اليوم باسم الرتل الخامس، ويتعاطون المحاربة النفسية، وقد استخدموا في الصين وأوربا الشرقية، سياسة الإرهاب الكلية، وادَّعوا في فارس وبلاد ما وراء النهر، بأنهم غضب الله وكان يترك لقادة الميدان، بعد وضع الخطة، كامل الحرية في استخدام مواهبهم ومبادراتهم، في نطاق حدود واسعة لتنفيذ الاستراتيجية العامة عند بداية فصل الحصاد، وبينما يكون الفلاحون في البلد الضحية، غارقين عاكفين على حصاد مزروعاتهم، وإذا بهم يفاجئون بنزول المغول عليهم كالجراد، لالتقاط حاجتهم من الحبوب، ولإتلاف ما يزيد عن هذه الحاجة .
وقد وصف كاتب أوربي أسلوب القتال والمحاربة المغولية ووقعه على الأوربيون كما يلي: إن أوربا تدرك اليوم معنى المحاربة المغولية وأبعادها، كانت تعليمات جنكيز خان تقضي بأن يعم الرعب والهلع جميع الأرجاء عقب الضربة الأولى، وأن يعمّ الشلل الأرض ومن عليها بإثارة إحساس بالعجز التام كالذي تحدثه كارثة طبيعية لا رماد لها ولا وقاية منها، وبحيث يكون الشعور بأن كل مقاومة لن تكون سوى الجنون المطبق بعينه، إن الشياطين أخوان الشياطين، وقد أرسلهم الله غضباً ولعنة .لقد اظهر جنكيز خان للعالم بصورة دراماتيكية، وكشف عن القيمة الحقيقية للمزج العسكري من الاستعداد والإعلام، والانضباط، والحركية وضربة المطرقة والدروس المستفادة من حروب جنكيز خان من حيث الجوهريات لا تزال اليوم صالحة كما كانت في أيامه ولذلك أن واضعي نظرية القتال الميكانيكية الحديثة والداعين إلى حرب الدبابات ومنظريها، كالجنرال فوللر والسير ليدل هارت وآخرين قد لجأوا إلى حروب جنكيز خان، ليستوحوا منها التوجيه والإرشاد .
إن الدرس الجوهري الذي نتعلمه من الإستراتيجية المغولية وإنجازاتها العسكرية يتمثل في واقع أنه ما لم يكن الجيش مجبولاً ومشرباً بروحية واحدة شاملة من التفاهم، والانسجام، والمسعى الواحد والتكرس للهدف والغاية، ابتداء من القائد الأعلى حتى جندي الصف، فإن ذلك الجيش لا يستطيع أن يقاتل ويفوز .
لقد تميز التخطيط الاستراتيجي المغولي بالتركيز على المؤسسة العسكرية والتي اشتهرت بالعمليات الحركية السريعة الخاطفة، واستعمال الخداع والمخاتلة على سلم كبير وإخضاع المجتمع كله لأغراضها الخاصة وجني طاقة عمل ضخمة من شدة الانضباط والتقيد بالقوانين والسهر على تطبيقها، وتتميز هذه العسكرية أيضاً في الأمور التالية:
ـ تأمين الإعلام الاستراتيجي اللازم لمناورات المخادعة والتضليل، بقصد تشتيت العدو.
ـ توسيع الخلافات الداخلية لدى الخصم.
ـ استغلال السرعة وطاقة الاحتمال للمناورة والمفاجأة.
ـ تجنيد الطاقة البشرية المحلية المغلوبة، لتغطية الخسائر في الصفوف وتدثيرها.
ـ احتلال المدن قبل أن تظهر فيها أية مقاومة جدية.
ـ التنسيق الصحيح، وفي حينه، بين مفارز متباعدة.
وهذه الميزات جميعها تؤدي إلى الحفاظ على الطاقة البشرية المحدودة وإلى الانتصار، ولم يقم النجاح العسكري المغولي على كفاءة واحدة ، وإنما قام على اشتراك وتعاون من جميع الكفاءات، ولو غير مغولية، كان الصينيون ينتجون مهندسين أفضل/ والأتراك خيالة أسرع، والمسلمون أكثر بطولة، إلا أن المغول كانوا يظهرون جميع إمكانياتهم وخواصهم، المادية والروحية والنفسية، في نموذجية عسكرية صالحة لشعب مكرَّس بكليته للحرب، لقد حول المغول رابطة قبيلة طوعية إلى دولة عسكرية عديدة الأوجه والأدوار، وحافظوا جيوشهم قوية بالانضباط الصارم وافتراس العدو، وكانت الشبكات البريدية ومحطاتها المرحلية تسمح بالاستجابة عاجلاً إلى كل تحد على حدودهم المترامية الأطراف، وكانت استراتيجيتهم ذاتية المنبع، قامت وتطورت، حسب الاستطاعة التكتيكية والإمكانات الاستراتيجية المتاحة لهم .
9 ـ عادات وتقاليد اجتماعية: كان للمغول عادات وتقاليد اجتماعية سار عليها جنكيز خان وأبناؤه من بعده، ونظراً لغربتها وطرافتها، نشير إلى أهمها، لكونها جزء من مقومات المشروع المغولي في عهد جنكيز خان، فمن المعروف عن المغول أنهم كانوا يسكنون الخيام، كما هو المتبع عند البدو، وكانوا يسمون أمكنة إقامتهم في المصايف والمشاتي ((يورث)) أو ((أوردو))، وجرياً على هذه العادة كانوا يختارون أماكن معينة يقضون فيها الصيف، يقال لها ((بيلاق))، وأخرى يمضون فيها الشتاء تسمى ((قيشلاق))، واستمروا يسيرون على هذا التقليد حتى بعد أن فتحوا كثيراً من البلاد المتمدنة، واضطروا إلى سكن العواصم، فكانت لهم أمكنة يقيمون فيها صيفاً وأخرى يقيمون فيها شتاء وهذه الخيام في المصايف والمشاتي، كانت تتخذ صفة المدينة الكبيرة إذ أنه بالإضافة إلى كثرة الخيام والأكواخ، فإن السكان الذين يصحبون الخان، كانوا يمثلون جميع الطوائف من قواد الجيوش لإلى القضاة والكتاب والصناع والتجار وغيرهم، وكان أرباب الحرف والصناعات يزاولون عملية البيع والشراء، ويمدون هذه المدن المتنقلة بما يلزمها من الحاجيات، وكانت عادة المغول في حالة حدوث أمر هام، كتنصيب ملك جديد أو القيام بحملة حربية أن يدعى أمراء المغول وأقاربهم إلى الاجتماع بواسطة رسل يقام لهم ((إيلجيان)) مفرد ((يلجي)) أي مبعوث أو سفير للتشاور في مختلف المسائل المطروحة على بساط البحث. وهذه المجالس يقال لها بالمغولية ((قوريلتاي))، وأما عن الزواج، فقد كان للخان أن يتزوج بمن يشاء من النساء، وكان يأخذ بمبدأ تعدد الزوجات والعادة المتبعة أنه إذا تغلب على ملك أو أمير أو عقد معه اتحاداً أو تحالفاً، فإنه كان يتزوج من ابنته أو أخته وأمه إذا تغلب عليه وقتله، فكان يتزوج من امرأته، وكان جنكيز خان يسير على تلك الطريقة، ويقال إن عدد زوجاته كان يزيد عن 500 زوجة، وكان المغول يفضلون أبناءهم من الزوجة التي يؤثرونها على غيرها من النساء، وبعد موت الخان كانت تئول جميع نسائه إلى أكبر أبنائه، وله الحق في أن يتزوج بمن يشاء منهن، وذلك باستثناء والدته، كما أن له أن يمنحهن لأصدقائه أو يطلق سراحهن ، وأما مجموع الأبناء والأقارب والأشخاص الذين هم من عشيرة الخان أو الأمير، فقد كان يطلق عليهم كلمة ((أُرُوغ)) بمعنى ((عشيرة)) أو ((سلالة))، أما رعايا الخان الذين يخضعون لسيطرته، فقد كان يطلق عليهم لفظة ((أولوس)) .
10 ـ الخرافات بين المغول: كان المغول يعتقدون أن للشياطين تأثير كبير على حياتهم، وكانوا يخشون السحر، ويخافونه وقد تضمنت الياسا أحكاماً شديدة رادعة توقع على كل من يتهم بالسحر والشعوذة بقصد الأضرار بالغير وكانوا ينظرون إلى طائفة الكهنة من البوذيين على أنهم وحدهم هم الذين يستطيعون إبطال تأثير السحر ودفع ضرره، ويعرف كل واحد منهم باسم ((بخش))، والساحر الملم بضروب السحر يقال له ((قام))، ولقد كان هؤلاء الكهان يزعمون أنهم يستطيعون تسخير الشياطين، كما أن ذوي الأرواح الشريرة يألفونهم ويأتمرون بأمرهم، وأنهم قديرون على التنبؤ بالغيب عن طريق تحضير الشياطين والأرواح، فعند قصف الرعد أو ظهور البرق، كانوا يقفون مشدوهين صامتين كأن على رؤوسهم الطير، وإذا اتفق أن أصابت صاعقة شخصياً ولم يهلك، فإن أفراد أسرته وقبيلته يطردونه على الفور، ولا يصرحون له بالعودة إلى الخيمة قبل مضي ثلاث سنوات، والغريب أنهم كانوا يتصورون أنه إذا جلس شخص في الماء وقت الربيع أو الصيف، أو غسل يده في النهر و وضع الماء في أواني ذهبية أو فضية، أو ألقى بلباس مغسول في الصحراء، فإنه ينتج عن هذا كله رعد وبرق كثير، وهو أخشى ما يخشاه المغول، وتجنباً لكل هذا، نصت الياسا على عقوبات قاسية تنفذ فوراً فيمن يقترف هذه الخطايا وهكذا كان المغول يخشون قوة السماء الأبدية ـ كما كانوا يسمونها ـ أكثر من أي آخر، فمن السماء تأتي الأعاصير والرعد والبرق والعواصف الثلجية، ومن السماء أيضاً يأتي دفء الربيع الذي يهب الحياة والأمطار التي تغذي الحشائش وفي بعض الأوقات كان جنكيز خان يتجه بمفرده إلى قمة جبل مرتفع ليتضرع إلى هذه القوة الخفية في السماء قائلاً: ابعث إلي بأرواح طبقات الهواء العليا لتصادقني، أما على الأرض فأبعث إلي برجال يكونون عوناً لي ، كذلك وقر في نفوس البعض منهم أنه بدون التمتمات والطقوس والخزعبلات التي يلجأ إليها الساحر، لا يمكن أن ينزل المطر والثلج وكانوا يعاملون المرضى معاملة قاسية وكانت عاداتهم عندما يمرض أحد منهم، يعزل عن مرقده وتوضع علامة على مسكنه تشير إلى وجود مريض في الداخل، وإلى عدم دخول أحد عليه، ولا يزور المريض أحد أبداً إلا من يتولى خدمته وقد توضع حربة خارج خيمة المريض، تلف حولها قطعة من الصوف الأسود وبذلك لا يجرؤ شخص غريب على دخولها وعندما تشتد علة المريض، يتركه الجميع، لأنه ليس مصرحاً لمن يشاهد موته أن يدخل قصر الإمبراطور، أو مسكن عظيم من العظماء حتى يبزغ القمر الجديد، فكأنهم بسلوكهم هذا ينظرون إلى المريض نظرتهم إلى ملوث نجس . وهكذا ذاعت تلك الخرافات، وانتشرت بين أقوام المغول انتشاراً عجيبا، وقد تحدث عنها اغلب المؤرخين والرحالة ، وكان المغول يقدرون الأشخاص الذين يؤدون لهم خدمات جليلة، أو يقدمون لهم مساعدات قيمة في أوقات المحنة والشدة واعترافاً بهذه المنة، كانوا يعنون بمثل هؤلاء الأشخاص، ويتعطفون عليهم وهذا العطف والتقدير يسمى بالمغولية "سيورغاميش" ويهبونهم الأراضي والأملاك ليستغلونها، ولينتفعوا بما تدره عليهم، ثم تئول تلك الأملاك إلى أعقابهم بالوراثة ويعرف هذا في المغولية بما يسمى ((سيورغال)) وأحياناً كانوا يعطونهم لوحات شبيهة بالميداليات في العصر الحديث وهي من الذهب أو الفضة أو الخشب حسب مقام كل شخص، وهي في حجم كف اليد، وينقش عليها اسم الله واسم الخان، وأسمى الأنواع منها ما كانت تزينها صورة الأسد، وأما إذا شك الخان في أحد أتباعه، فإنه يقيله إلى المحاكمة لمحاكمته ، وكان المغول يعتقدون أنه لا يصح أن يوجد إلى جانب حاكم آخر على ظهر الأرض ينازعه السيطرة والسلطان ((رب في السماء وحاكم في الأرض))، وكانوا يعتقدون أن الخروج على طاعة جنكيز خان ومخالفة أوامره، يعد جرماً عظيماً لا يغتفر في نظر المغول، ذلك لأن أوامره في عقيدة هؤلاء القوم إنما تصدر من السماء، فعصيان رئيسهم، إنما عصيان لله، وكان ينظر أيضاً إلى أفراد أسرته تلك النظرة القدسية، فالدنيا تقوم وتقعد إذا اعتدى على واحد منهم أو أصيب بأذى، وأن تخريب مدينة ((نيسابور)) وجعل أعاليها أسافلها بسبب قتل (( طغاجار)) صهر جنكيز خان، وتسوية ((باميان)) بالأرض على إثر قتل ((موتوجن)) ابن ((جغتاي)) وحفيد جنكيز خان، ليؤيد هذه الحقيقة .
لم يكن المغول يعرفون البلاط والعاصمة في بداية أمرهم، لذا فلم تكن لديهم مراسم محددة للتتويج والاستقبال الرسمي والمجلس الملكي العام، بل كانت مراسم هذه الرسميات تتسم بالبساطة، وبعد وفاة جنكيز خان وعندما أراد كبار رجال العشيرة تتويج ابنه ((أقطاي خان)) عليهم، قاموا أولاً بتحديد يوم السعد عن طريق السحرة والمنجمين، ثم رفعوا قلانسهم حسب عاداتهم، ثم أمسك ((جغتاي)) يد أخيه اليمنى وأمسك "أوتكين)) شقيق جنكيز خان يد "أقطاي" اليسرى وأجلساه على العرش، وقدم تولي له شراباً ثم جثا الحاضرون جميعاً على الأرض ثلاث مرات احتراماً وهنأوه وهم راكعون، وبعد انتهاء مراسم التتويج خرج "أقطاي" من المعسكر في معية سائر الأمراء، وجثوا أمام الشمس ثلاث مرات، ثم جلسوا لتناول الشراب والاحتفال ، وبعد انتهاء الحفل، ظل المغول يطهون الطعام لثلاث أيام متوالية على روح جنكيز خان، واختاروا أربعين فتاة من نسل الأمراء وأركبوهن في كامل زينتهن وألبسوهن أفخر الثياب وزينوهن بأقيم أنواع الجياد، ولكنهم قتلوهن في النهاية، كما قتلوا أجيادهن معتقدين أن في ذلك الإجراء إرضاء لروح جنكيز خان . هذه بعض الخرافات والعادات والأعراف التي شكلت وكانت جزء من المشروع المغولي.

المبحث الثالث: إزالة المغول للدولة الخوارزمية:
اتفق الجغرافيون المسلمون في تحديدهم لإقليم خوارزم، فذكروا أن حدوده من الغرب بلاد الترك الغزية.ومن الجنوب خراسان، ومن الشرق بلاد ما وراء النهر ومن الشمال بلاد الترك أيضاً ، واعتبر الاصطخري إقليم خوارزم من أقاليم ما وراء النهر، بينما عده جغرافي آخر من أهل القرن الخامس الهجري من مدائن خراسان ، ولعل السبب في إضافته إلى خراسان في القرن الخامس يرجع إلى خضوعه للسلاجقة في سنة 430هـ /1038م ، وهذا تحديد فرضه الواقع السياسي لا الواقع الجغرافي وأما ياقوت الحموي المتوفى سنة 626هـ / 1228م، فقد ذكر عن هذا الإقليم إنه منقطع عن خراسان وعن ما وراء النهر ، وأما خوارزم في وقتنا فتقع ضمن الاتحاد السوفيتي ـ سابقاً ـ ووزعت بين جمهوريتين هما اوزبكستان وتركمانستان السوفيتين سابقاً، وذلك بعد غزو الروس لها وخلعهم أميرها خان خيوة السيد عبد الله خان بهادر في سنة 1924م .
أولاً: سلاطين خوارزم: ينسب سلاطين الدولة الخوارزمية في الأصل إلى أنوشتكين وهو عبد تركي كان مملوكاً للأمير السلجوقي بلكباك، اشتراه من بلاد الغور التي تقع في أفغانستان الحالية ويبدو أن هذا الأمير السلجوقي قد رأى في أنوشتكين ملامح نجابة اتضحت في تكوينه الجسمي المنسق، وصفاته النفسية الهادئة، ومن ثمة قدمه إلى بلاط السلطان السلجوقي ((ملكشاه)) حيث حظي بوظيفة الساقي . وقد هيأت له هذه الوظيفة فرصة الترقي حتى عين شحنة على إقليم خوارزم، سنة 470هـ/1077م، فاستمر مداوماً عليها حتى وفاته في سنة 490هـ/1096م، ولما كان انوشتكين قد أرسل أكبر أبنائه قطب الدين محمد إلى مدينة مرو ليتلقى آداب الرئاسة ورسوم الإمارة، فقد أتاح ذلك لقطب الدين فرصة الترقي حين رأي الأمير السلجوقي ذاد حبشي الذي كان يحكم خراسان من قبل السلطان السلجوقي، بركياروق تعيينه والياً على إقليم خوارزم، ولقبه خوارزم شاه سنة 490هـ ، وفي نفس العام آلت إمارة خراسان إلى الأمير سنجر السلجوقي من قبل أخيه السلطان بركياروق في خامس جمادي الأولي وأبقي قطب الدين محمد في منصبه، فظل هذا الأمير طوال فترة ولايته على إقليم خوارزم 490/521هـ تابعاً لسنجر وملتزماً بطاعته ، وقد يرجع ذلك في الغالب إلى ما كان عليه قطب الدين محمد من كياسة وفطنة وعرفان بالجميل للسلاجقة أصحاب الفضل عليه وعلى أبيه، كما يرجع أيضاً لما كانت عليه دولة السلاجقة من قوة آنذاك وبخاصة الفترة الأولى من حكم السلطان سنجر السلجوقي ولم يستطع آتسز بن قطب الدين محمد ((522/551هـ)) أن يصبر على هذه الطاعة طويلاً، فخرج على إطارها منذ عام 530هـ ودخل في صراع طويل مع السلطان سنجر، فنجم عن ذلك تعرض مدينة خوارزم للحصار السلجوقي ثلاث مرات في أعوام 533هـ، 538، 542هـ، وفي كل مرة كان آتسز يضطر إلى إعلان الخضوع والتماس العفو وتقديم الهدايا، وكان السلطان السلجوقي سنجر يقبل ذلك منه . وفي الحقيقة لم يكن السلطان سنجر متفرغاً لمواجهة عصيان آتسز فقد تعرض جيشه الضخم لهزيمتين فادحتين: الأولى أمام قبائل القراخطاي الوثنيين الذين كانوا يحكمون تركستان ويهددون المدن الإسلامية في بلاد ما وراء النهر، وقد وقعت هذه الهزيمة سنة 536هـ عند قرية قطوان التي تقع على خمسة فراسخ من سمرقند حيث هلك جيش سنجر ووقع قواده في الأسر وكذلك زوجته وهرب هو بنفسه إلى مدينة ترمز، فسقطت بذلك بلاد ما وراء النهر كلها في أيدي القراخطاي . وعلى الرغم من أن آتسز كان ضالعاً في استحضار القراخطاي تحريضهم ضد السلطان سنجر بدافع الانتقام منه، إلا أنه اضطر أمام تفاقم خطرهم، وتهديدهم لإقليم خوارزم إلى مصالحتهم على أن يدفع خراجاً سنوياً مقداره ثلاثون ألف دينار . وأما الهزيمة الثانية لسنجر فكانت أمام قبائل الغز التركمانية التي كانت تقيم حول مدينة بلخ، وقد وقعت هذه الهزيمة عند مدينة مرو سنة 548هـ/1153م، وفيها قتل قواد سنجر، ووقع هو مع زوجته في الأسر ، وقد أدى ضعف السلاجقة في إيران إبان الفترة الأخيرة من حكم سنجر إلى اختلال التوازن العسكري والسياسي في آسيا الوسطى ففي الشرق تفاقم خطر القراخطاي في تركستان وبلاد ما ورء النهر، وفي الجنوب إزدادت سطوة قبائل الغز وبخاصة في كرمان ومكران، وفي الشمال ظهرت أطماع الخوارزميين في الاستيلاء على إقليم خراسان بثرواته الطبيعية، وعلى هذا لم تتوقف وفاة السلطان الخوارزمي آتسز في التاسع مع جمادي الآخرة سنة 551هـ/1156م ، أو وفاة السلطان السلجوقي سنجر بعده في الرابع عشر من ربيع الأول سنه 552هـ/1157م ، حتمية الصراع بين الطرفين، فقد شرع أيل أرسلان بن اتسز 551 هـ ـ 568هـ في بسط سلطانه على غربي خراسان عقب وفاة سنجر وبعد ذلك تمكن السلطان الخوارزمي علاء الدين تكش بن ايل أرسلان(568هـ ، 596هـ) من هزيمة السلطان السلجوقي طغرل الثالث عند مدينة الري في شهر ربيع الأول سنه 590 هـ 1193م، فأزال بذلك سلطان السلاجقة عن العراق ، فأصبحت أملاك الدولة الخوارزمية متاخمة لأرضي الخلافة العباسية .
ثانياً: الصدام بين الخوارزميين والخلافة العباسية: ولم يؤدي هذا التجاور المكاني إلى نتيجة حاسمة ترضي الطرفين فالخليفة العباسي الناصر لدين(575 ـ 622هـ) والذي حرّض الخوارزميين في محاربة السلاجقة أملاً في أن يخلصوه من سيطرتهم قد أدرك بجلاء أنه استبدل خصماً هرماً بآخر فتى عنيد، فهؤلاء الخوارزميين القادمون من الشرق لن يكتفوا باحتلال أملاك السلاجقة فحسب وإنما لتمتد أطماعهم إلى نيل ما كان لهؤلاء السلاجقة من مظاهر السيادة على بغداد نفسها والتي تمثلت في فرض اسمهم على الخطة والسكة ودار خاصة للسلطان الخوارزمي تطاول دار الخلافة العباسية وتعلوا عليها .
ولم يتغير وفاة السلطان الخوارزمي علاء الدين تكش في التاسع عشر من رمضان سنة 596هـ/ 1200م شيئاً من الناحية السياسية، إذ لما تولى ابنه علاء الدين محمد مكانه"596هـ ـ 617هـ" عاود الخوارزميين المطالبة بكل ما كان للسلاجقة من مزايا لدى الخلافة العباسية، فوجد الخليفة الناصر نفسه مضطراً إلى إتباع نهجه القديم، فشرع في استعداء الغوريين على الخوارزميين ، ثم أمعن في ذلك فعمل على إثارة الأمراء والحكام المحليين في غربي إيران ضدهم، بل أنه تحالف أيضاً مع جلال الدين الحسن الثالث الإسماعيلي (607 ـ 618هـ) صاحب قلاع الإسماعيلية في قهستان، وآلموت، ورودبان، وكان قد تظاهر بترك مذهب الإسماعيلية واعتناق مذهب أهل السنة والجماعة ، وعلى هذا فقد شرع الخوارزميون في أحكام سيطرتهم على إيران كلها، فبالشمال تم الاستيلاء على إقليم مازندران الواقع جنوبي بحر قزوين، وضمه سنة 606هـ إلى دولتهم ، وفي الجنوب جرى الاستيلاء على إقليم كرمان سنة 607هـ ثم إقليم مكران سنة 611هـ، وتضمن ذلك الساحل المطل على المحيط الهندي بما فيه ميناء هرمز التجاري المهم ، وفي أقصى الشرق كان الخوارزميون قد نجحوا في احتواء مدينتي هرات وبلخ سنة 603هـ، وهما من أملاك الدولة الغورية التي سقطت عاصمتها غزنة في أيديهم سنة 612هـ فآل حكمها إلى جلال الدين منكبرتي أكبر أبناء السلطان الخوارزمي علاء الدين بن تكش، وموجز القول هنا، أن الدولة الخوارزمية قد بلغت آنذاك أقصى اتساعها وأصبح اصطدامها بالخلاقة العباسية وشيكاً . وبالفعل سار السلطان الخوارزمي سنة 614هـ/1217م صوب الغرب على رأس حملة وجهتها بغداد ولم يجد السلطان الخوارزمي حرجاً في أن يعلن إسقاط اسم الخليفة العباسي الناصر لدين الله من الخطبة، مستنداً إلى فتوى أصدرها جماعة من علماء بلاد ما وراء النهر، قضت بعدم أهليته للخلافة، وبالتالي فقد اختار هو واحداً من سلالة أبناء الحسين بن علي بن أبي طالب في مدينة ترمذ، ويدعى علاء الدين أبو المكارم محمد بن أبي جعفر بن طاهر الحسيني ونصبه خليفة وخطب له على المنابر ونقش اسمه على السكة ، ولم يكن بوسع الخليفة العباسي أن يقف مكتوف اليدين حيال هذا التحدي الخطير من قبل الخوارزميين بعد أن رأى بنفسه تهاوي حلفائه تباعاً تحت وطأتهم ، فبادر للاستعداد لهذا الخطر الداهم وعجز الخوارزميون عن تحقيق هدفهم في الاستيلاء على بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وإسقاط الخليفة العباسي الناصر لدين الله، إذا هبت على جيوشهم عند أسد آباد الذي تقع غربي همذان عواصف ثلجية عنيفة أهلكت أعداداً كبيرة من الجند والدواب والمؤن، وأطمعت فيهم الأكراد من ساكني إقليم الجبال المجاور، فلم يجد السلطان الخوارزمي مناصاً من العودة من العودة إلى بلاده .

ثالثاً: أسباب الغزو المغولي للخوارزميين:
فكر جنكيز خان في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان، لأن المسافة ضخمة بين الصين والعراق، ولابد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش المغولية في منطقة متوسطة بين العراق والصين، كما أن هذه المنطقة التي تعرف بالقوقاز غنية بثرواتها الزراعية والاقتصادية، وكانت من حواضر الإسلام المشهورة وكنوزها كثيرة، وأموالها وفيرة، هذا بالإضافة لا يستطيع ـ تكتيكياً ـ أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة تحاربه أو تقطع عليه خطوط الإمداد، كل هذه العوامل جعلت جنكيز خان يفكر أولاً في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، والتي تعرف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية، وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية هامة مثل أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وكازاخستان وطاجكستان وباكستان وأجزاء من إيران، وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة أوجندة في تركمنستان حالياً، وكان جنكيز خان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم ((محمد بن خوارزم شاه)) على حسن الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيز خان من أولئك الذين يهتمون بعقودهم، أو يحترمون اتفاقياتهم، ولكنه عقد هذا الاتفاق مع ملك خوارزم ليؤمن ظهره إلى أن يستتب له الأمن في شرق آسيا، وأما وقد استقرت الأوضاع في منطقة الصين ومنغوليا، فقد حان وقت التوسع غرباً في أملاك الدولة الإسلامية ، وحتى تكون الحرب مقنعة لكل الطرفين، لابد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، وإلى الادعاء بأن الاتفاقيات لم تعد سارية، وقد بحث جنكيز خان عن سبب مناسب . وانتظر حتى جاء ذلك السبب الرئيسي سيأتي الحديث عنه بإذن الله، ولكن ثمة أسباب خفية كانت هي البواعث لهذا الغزو، من أهمها:
1 ـ الجدب الذي كان يسود أقاليم آسيا الشرقية، حيث كانت حاضرة جنكيز خان ((قراقورم)) وما ترتب عليه من قحط نشأت عنه حاجتهم الدائمة إلى الكثير من المواد الغذائية اللازمة لحياتهم وحياة دوابهم، كما كانوا في حاجة ماسة إلى اقتناء ما يقيهم عاديات الطبيعة من ملبوسات وغيرها، وكان لقيام علاء الدين محمد خوارزمشاه بمنع الميرة عنهم من الكسوات والأقوات وغيرها، وسده طرق التجارة في وجوههم، أثره في توجيه أنظارهم إلى الدولة الخوارزمية .
2 ـ حالة اليقظة والنشاط المغولي:كان المغول في هذه الفترة في حالة يقظة ونشاط، يعيشون أمجاد انتصاراتهم السابقة في الصين وغيرها، وبسبب ذلك، وضعوا لأنفسهم خطة للسيطرة على المناطق المجاورة لهم، وقد سمعوا عن سعة الدولة الخوارزمية التي غدت أملاكها مجاورة لهم، وعن ثراءها الضخم وحضارتها الرائعة يطلعوا إليها .

يتبع باقي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 1:14 pm

3 ـ مقتل بعض تجار المغول: وأما السبب المباشر والرئيسي، فإنه مقتل بعض رجال المغول الذي أشعل الحرب: كان جنكيز خان قد أرسل إلى علاء الدين محمد خوارزمشاه عند عودته إلى مدينة بخارى، بعد محاولته الفاشلة لغزو بغداد سنة 615هـ/1218م وفداً من ثلاث تجار مسلمين هم: محمود الخوارزمي، على خواجة البخاري، يوسف كنكا الأتراري، محملين بالهدايا من منتجات آسيا الوسطى رغبة في قيام علاقات تجارية وطيدة تخدم الطرفين . وأرسل مع الوفد رسالة وصفها بعض المؤرخين بأنها رقيقة من مغولي ذلك الوقت، يعرض فيها المسالمة والموادعة وعقد اتفاق تجاري بين البلدين، وفيما يلي نص الرسالة: ((ليس يخفى علينا عظيم شأنك، وما بلغت من سلطانك، وقد علمت بسطة ملكك، وإنفاذ حكمك في أكثر أقاليم الأرض، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات، وأنت عندي مثل أعز أولادي وغير خافٍ عليك أيضاً أنني ملكت الصين وما يليها من بلاد الترك، وقد أذعنت لي قبائلهم، وأنت أخبر الناس بأن بلادي مثارات العساكر، ومعادن الفضة، وأن فيها الغنية عن طلب غيرها، فإن رأيت أن تفتح للتجار في الجهتين سبيل التردد، عمت المنافع وشملت الفوائد .)) وبغض النظر عن الجدل الذي ثار حول هذه الرسالة بين بعض الكتاب، وهل كان مدلولها يحتوي على ازدراء شأن الأمير الخوارزمي أو على إطراء له وملاطفة، فإن الذي حدث هو أن علاء الدين خوارزمشاه أظهر استياءه منها، وبيت نية العدوان على جنكيز خان، واستدعى أحد رسله وهو محمود الخوارزمي، وانفرد به دون سائرهم، ووعده بالإحسان إن صدقه فيما يسأله، وأعطاه من معضدته جوهرة نفيسة علامة الوفاء بما وعد، وشرط عليه أن يكون عيناً له على جنكيز خان، فأجابه إلى ما سأل رغبة ورهبة ، ثم بدأ يستخبره عن حقيقة ما جاء في رسالة جنكيز خان إليه، فلما صدقه الجواب غضب الأمير الخوارزمي وعاد يسأل عن عدد عسكر جنكيز خان في حدة هنا أعرض الرسول عن الإجابة الصحيحة إبقاء على حياته وطلباً للسلامة، ورد في حذق وكياسة: ليس عسكره بالنسبة إلى هذه الأمم والجيش العرمرم إلا كفارس في خيل، أو دخان في جنح ليل، ولكن علاء الدين خوارزمشاه عرف رغم هذه الإجابة، حقيقة موقفه، فصرف الرسل لما طلبوه من الموادعة والموافقة على تردد التجار بين البلدين .
4 ـ تردد التجار بين الطرفين ومقتل تجار المغول: على إثر توقيع هذا الاتفاق التجاري حمل جنكيز خان بحزم على تأمين التجارة بين شرق آسيا، حيث ممتلكاته وغربها، حيث دولة خوارزم وما يليها غرباً، وسعى جاداً لتوسيع نطاقها، وتأمين طرقها من قطاع الطرق، وتزويد المسالك الرئيسية بحراس سماهم ابن العبري ((قراقجية)) ـ أي مستحفظين ـ لخفر التجار وصيانتها أثناء مرورها بها، وأصدر أوامره إلى هؤلاء المستحفظين بمرافقة كل أجنبي يحمل تجارة حتى يوصلوه إلى معسكرات المغول . لقد حرص جنكيز خان على البعد الاقتصادي وبناء قوة اقتصادية سارت التجارة بين شرق آسيا وغربها بنظام تام، وحدث في هذا العام أن وصلت إلى بلاد جنكيز خان قافلة تجارية قوامها ثلاثة من أهل بخارى يحملون بضائعهم من الثياب المذهبة والكرباس ، وغيرها مما يليق بخانات المغول، وكان عند أحدهم ويدعى أحمد، ثوب رآه المستحفظون يليق بمقام جنكيز خان نفسه، لذا قادوهم إلى بلاطه، فلما مثل أحمد بين يديه طلب ثمناً باهظاً لبضاعته التي تعلق بها جنكيز خان، الأمر الذي أغضب الخان، وحمله على مصادرة بضاعة أحمد وتوزيعها بين أفراد حاشيته وزج هذا التاجر في السجن، أما صاحباه، فقالا: عندما سئلا عما يطلبانه ثمناً لبضاعتهما: هذا كله إنما أتينا به لنقدمه خدمة للخان، لا لنبيعه عليه ، ولم تجد محاولة حملهما على تقييمه عندئذ أمر جنكيز خان بإعطائهما ثمناً مجزياً من الذهب والفضة، عن بضاعتهما، ورق للتاجر أحمد فعامله بالمثل ، وعفا عنه وأصدر جنكيز خان عقب أوامره إلى الأولاد والخواتين والأمراء أن ينفذوا معهم جماعة من أصحابهم ومعهم بواليش الذهب والفضة، ليجلبوا من طرائف البلاد ونفائسها ما يصلح لهم، وقد اختلف المؤرخون في عدد هؤلاء التجار، وبينما ذكر النسوي أنهم أربعة، قال ابن العبري أنهم مائة وخمسون تاجراً ما بين مسلم ونصراني وتركي ، وقدرهم الجويني بأربعمائة وخمسين رجلاً كلهم من المسلمين . بينما لم يشر ابن الأثير ولا ابن خلدون إلى أي عدد لهم ، ومهما يكن أمر عددهم فإن جنكيز خان بعث معهم رسولاً مغولياً من قبله يحمل رسالة إلى السلطان محمد خوارزمشاه يقول فيها: إن التجار وصلوا إلينا وقد أعدناهم إلى مأمنهم سالمين غانمين ، وقد سيرنا معهم جماعة من غلماننا ليحصلوا من طرائف تلك الأطراف، فينبغي أن يعودوا إلينا آمنين ليتأكد الوفاق بين الجانبين، وتنحسم مواد النفاق من ذات البين .
5 ـ قتل التجار المغول ومصادرة أموالهم: وصل تجار المغول إلى مدينة أترار الواقعة في أقصى الحدود الشرقية للدولة الخوارزمية، وكان تعد مفتاح التجارة بين شرق آسيا وغربها، وكان بها حاكم من قبل خوارزمشاه يدعى ينال خان، وهو ابن خال خوارزمشاه، في عشرين ألف فارس، يقول النسوي فشرهت نفسه الدنيئة إلى أموال أولئك، وكاتب السلطان مكاتبة خائن مائن، يقول إن هؤلاء القوم قد جاءوا إلى أترار في زي التجار وليسوا بتجار، بل أصحاب أخبار، يكشفون منها ما ليس بوظائفهم ، وأخذ يحسن له القضاء عليهم، ويغريه بما معهم من أموال، ويطلب، إذنه في مصادرتهم وقتلهم، ولم يزال كذلك حتى أذن له خوارزمشاه في الاحتياط عليهم إلى أن يرى فيهم رأيه، غير أن ينال خان تعدى حدوده، فلم يكتف بالاحتياط عليهم ، وانتظار رأي أمير خوارزم فيهم، بل تجاوز ذلك فقبض عليهم وخفى بعد ذلك أثرهم، وانقطع خبرهم، وتفرد المذكور بتلك الأموال المعدة والأمتعة المنضدة مكيدة منه وغدراً .
هذا ما يقوله النسوي، ويؤيده السيوطي، أما ما يقوله غيره، من المؤرخين فيختلف عنه من عدة وجوه نعرض لها فيما يلي:
أ ـ يذكر النسوي أن ينال خان رغب، في كتابه إلى السلطان، أن يؤدن له في مصادرة أموالهم وقتلهم، على حين يقول غيره أنه لم يفعل أكثر من أنه رفع الأمر إليه بعد وصولهم، وسأله رأيه فيما يفعل بهم.
ب ـ بينما يذكر النسوي أن السلطان أمر بالاحتياط عليهم حتى يرى رأيه فيهم، وأن ينال خان تعجل وتجاوز صلاحياته فقتلهم دون إذن السلطان ، يذهب غيره إلى القول: إن خوارزمشاه أمر أولاً بالاحتياط عليهم، ثم أتبعه بأمر قتلهم ومصادرتهم.
جـ ـ يذكر النسوي أن ينال خان استأثر بأموالهم لنفسه دون السلطان، ويروي غيره أنه بعد أن قتلهم سير ما معهم إلى السلطان الذي فرقه على تجار بخارى وسمرقند، وأخذ ثمنه منهم ، وقد علق فامبري على مقتل أولئك التجار بقوله: وإنا لنرى الجويني على حق حين يقول: إن دمهم أهرق، ولكن كل قطرة منه قد كفر عنها بسيل جارف من الدماء وأن رؤوسهم قد سقطت، ولكن كل شعرة فيها قد كلفت مئات الألوف من الناس حياتهم . ولم ينج من أولئك التجار إلا واحد أتيح له الهرب من محبسه، ولما وصل إلى بلاط جنكيز خان نقل إليه ما شاهده من مأساة أصحابه التجار .
6 ـ الدبلوماسية المغولية لحل المشكلة: رأى جنكيز خان أن يسوي هذا الأمر مع الخوارزميين بالطرق السلمية فأراد أن يستطلع حقيقة الأمر ولم يستعجل وحرص على حل المشكل بالطرق السلمية، وهذا يدل على حكمته وبعد نظره، كما يظهر من خلال الأحداث بأنه كان لخوارزمشاه هيبته عند جنكيز خان فعمل على تدميرها نفسياً وسياسياً وعسكرياً وأخلاقياً، فأرسل ابن كفرج بغرا، وفي صحبته اثنان من المغول، رسلاً من قبله يطلبان تفسيراً وإيضاحاً لما حدث، وبعث معهم رسالة إلى علاء الدين محمد خوارزمشاه يقول فيها: إنك قد أعطبت خطك ويدك بالأمان للتجار،، وألا تتعرض إلى أحد منهم،فغدرت ونكثت، والغدر قبيح، ومن سلطان الإسلام أقبح، فإذا كنت تزعم أن الذي ارتكبه ينال خان كان من غير أمر صدر منك فسلم ينال خان إليَّ لأجازيه على ما فعل، حقناً للدماء، وتسكيناً للدماء، وإلا فأذن بحرب ترخص فيها غوالي الأرواح، وتتعضد معها عوامل الرماح , وبلغ من استياء علاء الدين محمد من هذه الرسالة أن أمر بقتل ابن كفرج بغرا، أما الرسولان اللذان صحباه، فقد أطلق سراحهما، وسمح لهما بالعودة إلى الخان ليرويا له ما حدث ، ولما وصل نبأ العدوان إلى جنكيز خان قال غاضباً: لا تجتمع شمسان في سماء واحدة ولا يجوز أن يبقى خاقانان على أرض واحدة، وأرسل إلى خوارزمشاه رسالة مقتضبة تنذره بسوء عاقبة ما فعل (أنت الذي اخترت الحرب، ولا مرد للقدر، وأننا نجهل العاقبة، وعلمها عند الله ). وهكذا نجد أن علاء الدين محمد خوارزمشاه قد حدد بهذه السياسة غير الرشيدة، موقف المغول تجاه الخوارزميين، ولم يتح لهم أي مجال للبحث على أمل للعيش معهم في سلام، ولم يترك أمامهم إلا سبيلاً واحدة هي الحرب ، ويؤكد برو أن مسئولية علاء الدين عن خطر الغزو المغولي الذي تعرض له المسلمون بقوله: والرأي السائد أنه لم يكن هناك ما يحول دون وقوع غارة المغول، ولكنها من غير شك سهلت ويسرت حدوثها بواسطة ما عرف عن ملك خوارزم علاء الدين محمد من طمع وخيانة وتردد، وأما خيانته فظاهرة، لأنه أقدم على قتل رسل المغول وتجارهم، فأعطى بذلك لجنكيز خان الحجة الدامغة لتبرير الهجوم عليه، كذلك من أنهم عند أول صدمة تلقاها من المغول أسرع إلى إظهار الفزع والخوف بدل ما كان يبديه من غطرسة وتحدٍ . ولم يكن إقدام علاء الدين محمد على قتل تجار ورسل المغول هو العامل الوحيد الذي أثار المغول وشجعهم على غزو الأقطار الشرقية للدولة الإسلامية، بل أن قضاء الأمير الخوارزمي على حكام جميع البلاد التي استولى عليها في توسعه شرقاً وغرباً، قوي عزمهم على الزحف على هذه الأقطار، وبسط سيطرتهم عليها، يقول ابن الأثير: فإن هؤلاء التتار إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع، وسبب عدمه أن خوارزمشاه محمداً كان قد استولى على البلاد وقتل ملوكها أفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وهناك من يرجع سبب الغزو المغولي إلى تحريض الخليفة العباسي الناصر لدين الله جنكيز خان على غزو الدولة الخوارزمية، وقد جاء اتهام الناصر بذلك في ابن الأثير، حيث قال: وكان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحاً من أنه هو الذي أطمع التتار في البلاد، وراسلهم في ذلك، فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم . وقد تابع ابن الأثير في هذا الاتهام فريق من المؤرخين الأقدمين كابن الوردي وابن الفرات ، كما جاء الاتهام في كتب بعض المستشرقين، ومن هؤلاء براون، فقد أورد هذا الاتهام في معرض حديثه على الناصر وعلاقته بخوارزمشاه بقوله: وأخذ يشجع المغول على مهاجمته ، ومن بينهم هارولد لام وكارتن فقد ذكرا أن الخليفة عرض على جنكيز خان في رسالته أن يقوم هو بمهاجمة الدولة الخوارزمية من الشرق، ويتولى الناصر مهمة مهاجمتها من الغرب، وبذلك يطبقان عليها . إن من يتأمل ما ذكره ابن الأثير يتضح له كراهيته للخليفة الناصر، لذا وصمه بهذا الاتهام تشهيراً به، ولما أحس الأمر قد ينكشف وتتضح براءة الناصر، نسب روايته إلى مصدر مطعون في صدقه، وهو العجم أي الخوارزميين، ومما يجدر ذكره أن هناك مؤرخين غير ابن الأثير عاصروا هذه الفترة، ولم يشيروا إلى اتصال الناصر بالمغول، من أمثال النسوي، وسبط ابن الجوزي، وابن شداد، وأبي شامة، ويليهم ابن واصل، واليونيني، وابن طباطبا، ولا نغفل أن المؤرخين الصينيين الذين رافقوا حملة جنكيز خان وأولاده وأرخوا لهم تاريخهم، لم تكن مدوناتهم مجهولة للمؤرخين المسلمين الذين خدموا المغول فيما بعد ، ولذلك فإنا نرجح عدم صحة اتهام الناصر بتحريض المغول على غزو الدولة الخوارزمية، أو تسببه بأية صورة في وقوع ذلك الهجوم، ونرى أن ما فعله خوارزمشاه كان وحده كافياً لقيام جنكيز خان بذلك الغزو المدمر لشرق بلاد الإسلام .

رابعاً: غزو المغول بلاد ما وراء النهر والعراق العجمي:
1 ـ بلاد ما وراء النهر: كان علاء الدين محمد خوارزمشاه قد بعث ـ على إثر مقتل تجار المغول وهو مقيم بمدينة بخارى ـ بعض جواسيسه إلى بلاط جنكيز خان، للوقوف على مدى استعداد المغول للحرب، فقضوا مدة طويلة، استطاعوا خلالها أن يؤدوا المهمة التي عهد إليهم بها، وقالوا بعد عودتهم: ان عدد المغول لا يبلغه الحصر، وأنهم من أصبر الناس على القتال، وأعرفهم بفنونه ولهم مصانع للسلاح، تكفي حاجتهم منه، ومواد تموينهم وافرة، وأوضح أولئك الجواسيس أن حقائق الأمور هناك تشير إلى أنه لا قبل لأحد بمقاتلة المغول . ودرس علاء الدين محمد خوارزمشاه بإمعان هذه المعلومات، فأدرك فداحة ما وقع فيه من خطأ بقتله تجار المغول ورسلهم، وندم على ذلك، ولكن ليست ساعة مندم، ثم أخذ يعمل فكره ويدبر أمره ، واستشار رجلاً يثق به ويدعي الشهاب الخيوفي الفقيه، فلما مثل بين يديه قال له: قد حدث أمر عظيم لابد من الفكر فيه، وإجالة الرأى فيما نفعل وذلك أنه قد تحرك إلينا خصم من الترك في عدد لا يحصى . فأشار عليه الخيوفي بإعلان النفير العام، ودعوة من بقي من ملوك الأطراف ليلحقوا به في جيوشهم، فإذا اكتملت تعبئة الجيوش سار بها إلى جانب نهر سيحون حيث حدود دولته الشرقية مع المغول ، غير أن أمراء وأرباب المشورة في دولته رأوا عكس هذا الرأي، وأشاروا بأنه من الأصوب ترك المغول حتى يعبروا سيحون، ويتقدموا في الوهاد، والصحارى والمضايق والوديان التي يجهلون مسالكها، حتى إذا وصلوا بخارى كان التعب قد أخذ منهم كل مأخذ، وبذلك يمكن الظهور عليهم، وإفناؤهم عن بكرة أبيهم ، ولم يلبث خوارزمشاه أن عمل على تجهيز جيشه للقاء المغول ، وبينما كان خوارزمشاه يسير في اتجاه الشرق، مجداً في طلب المغول عقب استعداده على هذا النحو، كان جنكيز خان يعبيء جيشاً كبيراً، ويلقي في جنده عند بداية الزحف غرباً هذه الأوامر الصارمة: سيروا معي لنمحق بقواتنا الرجل الذي ازدرى بنا واحتقرنا، إنكم ستشاركونني في انتصاراتي، وليكن قائد العشرة آمر الحظيرة منكم منتبهاً مطيعاً، كقائد العشرة آلاف: قائد الفرقة، ومن يخالف أو يفشل في إنجاز واجبه سيفقد حياته ونساءه وأولاده .
أ ـ الاستيلاء على مدينة أترار: بدأ جنكيز خان غزوه شرق الدولة الإسلامية في عام 615هـ/1218م، فقد وصل إلى حافة نهر سيحون على مقربة من مدينة أترار على رأس جيش قوامه نحو ستمائة ألف من خيرة جنده، وكانت غاية الجيش في المرحلة الأولى الاستيلاء على بلاد ما وراء النهر، المحصورة بين نهرسيحون في الشرق، وجيحون في الغرب، لذا وضع خطته على أساس الأطباق على هذه البلاد من أربعة جوانب، بحيث يتعذر على الجيش المدافع صد الهجوم ،، وهكذا تحركت الجيوش الأربعة في وقت واحد للانقضاض على بلاد ما وراء النهر والاستيلاء عليها وبدأ الخوارزميون بمهاجمة قوات المغول، وسرعان ما قامت الحرب سجالاً بين الفريقين، وكان الجانب المغولي فيها بقيادة أحد أبناء جنكيز خان، وقدر عدد القتلى من المسلمين عشرين ألفاً، ومن المغول بما لا يحصى كثرة وفي الليلة الرابعة من القتال افترق الجيشان، ورجع المسلمون إلى بخارى حيث أمر خوارزمشاه أهلها وأهل سمرقند بالاستعداد للحصار، وترك في بخارى عشرين ألفاً وفي سمرقند خمسين ألفاً، ثم عاد إلى خوارزم وخراسان ليجمع العساكر ، كانت مدينة أترار محصنة تحصيناً قوياً، وبها حامية قوامها خمسون ألف رجل يعاونها جيش آخر بنحو عشرة آلاف على رأسهم ((فراجة)) وزير الأمير محمد خوارزمشاه، ودام الحصار خمسة أشهر، مما ترتب عليه عجز الجيش الخوارزمي عن المقاومة، ثم هزيمته، وبذلك تيسر لقوات المغول الاستيلاء على مدينة أترار التي تعد مفتاح ما وراء النهر ، لقد كان هجوم المغول على هذه المدينة عنيفاً، فقد كانوا يتوقون للثأر من ((ينال خان)) حاكم هذه المدينة وقاتل التجار، لقد استولوا على هذه المدينة عنوة سنة 616هـ/1219م) ونهبوها وطاردوا سكانها، وقد تقهقر ينال خان إلى قلعة المدينة واحتمى بها نحواً من شهر، فقد في أثناءه معظم رجاله، ومع ذلك ظل يدافع دفاع اليائس المستميت، ولما وجد نفسه محاصراً من كل جانب قذف بنفسه إلى سقف أحد المنازل، فتبعه جنديان مغوليان وهو لا يملك أن يدافع عن نفسه إلا بقذفهما بالحجارة التي كان يناوله إياها بعض النسوة، وأخيراً وقع في أيدي المغول الذين قادوه إلى معسكر جنكيز خان الذي كان في ذلك الوقت أمام مدينة سمرقند، ولكي ينتقم جنكيز خان منه عمد إلى التنكيل به، فأمر بعض رجاله أن يصهروا كمية من الفضة ويسكبوها في عينيه وأذنيه، وهكذا نفذ جنكيز خان وعيده في قاتل تجاره ورسله، وبسقوط أترار سقط مفتاح بلاد ما وراء النهر .
ب ـ الاستيلاء على مدينة جند: أما عن الجيش الثاني الذي كان تحت قيادة جوجي أكبر أبناء جنكيز خان، فكانت قبلته مدينة ((جند)) إحدى معاقل المسلمين على نهر سيحون، وقد وصل هذا القائد إلى هذه المدينة بعد أن استولى على كثير من المعاقل والمدن الواقعة على نهر سيحون، وتمكن بذلك من السيطرة على كل مجرى هذا النهر تقريباً، فلما اقترب من مدينة جند غادرها حاكمها ليلاً تاركاً لسكانها أمر الدفاع عن أنفسهم وعن مدينتهم، وقد نصب المغول المجانيق حول المدينة استعداداً لتحطيم أسوارها، وإزاء هذا الاستعداد من قبل المغول انقسم الأهالي على أنفسهم، فرأى فريق منهم ضرورة الدفاع عن المدينة، ورأى فريق آخر لا فائدة من الدفاع وآثر أن يسلم المدينة في الحال، لعل الأهالي يجدون في ذلك خير شفيع ينجيهم من الوقوع تحت سيوف المغول، والظاهر أن هذا الرأي كان يناصره أكثرية السكان بدليل أن المغول لم يجدوا مقاومة ما داخل المدينة، وهم يدكون أسوارها من جميع جهاتها، وأخيراً سلمت المدينة وسلم من سلم من أهلها، وقُتل من قتل المغول، وبعد أن وضع جوجي على المدن المفتوحة حكاماً مخلصين، أصدر أوامره لجنوده بالعبور إلى إقليم خوارزم .
ت ـ الاستيلاء على بنكت وخجنده: أما ثالث جيوش جنكيز خان التي سيرها للاستيلاء على بلاد ما وراء النهر، فقد سار إلى مدينة بنكت على نهر سيحون و((خجندة)) إلى الجنوب منها، وقد تمكن المغول من دخول مدينة بنكت بعد أن سلمها الأهالي، وكان المغول قد أمنوهم على حياتهم، لكن هؤلاء المغول الذين لا يعرفون معنى للعهود والمواثيق، لما دخلوا المدينة فصلوا الجند عن المدنيين واعملوا القتل في رقاب الفريق الأول، واختاروا من الفريق الثاني خيرة شبابه لينتفعوا به في أعمالهم الحربية، ثم سارت هذه الفرقة المغولية نحو الجنوب ميممة شطر مدينة خجندة الواقعة على نهر سيحون، وهي مدينة جميلة اشتهرت بحدائقها وانتعاش التجارة فيها، كما اشتهرت بشجاعة أهلها وقوة بأسهم، ومما يسترعي النظر أن ((تيمور ملك)) قائد الحامية الخوارزمية فيها، فضل أن يغادر المدينة مع ألف من جنوده إلى جزيرة صغيرة في وسط النهر، بعيد عن شاطئيه، حتى يكون في مأمن من غارات المغول، وعلى بعد كافٍ من مرمى سهامهم، وقد سار ما يزيد على عشرين ألف جندي مغولي، من أولئك الذين انتصروا انتصاراً مبيناً على الخوارزميين في مدينة أترار وغيرها من المدن، يتبعهم خمسين ألفاً من خيرة شباب الخوارزميين، لمساعدة هذه الفرقة المغولية التي كانت تحاصر ((تيمور ملك))، وقد كلفت هذه الجموع بإحضار الأحجار من الجبال المجاورة وإلقائها في النهر، ليكونوا بذلك طريقاً يستطيع المغول أن يعبروا منها إلى هذا الخوارزمي الذي كان معتصماً في جزيرته على أن ((تيمور ملك)) صمم على إفساد خطتهم، فصنع اثني عشرة سفينة كبيرة غطى جدرانها بالجلود، وكان يرسل في كل يوم ستاً من هذه السفن للإغارة على المغول الذين كانوا يعملون في هذا الطريق الموصل إلى الجزيرة فيرمونهم بسهامهم، ولكن ((تيمور ملك)) وجد في النهاية أن مقاومته لن تجدي نفعاً فصمم على الهرب، وبعد أن شحن جنوده وأمتعته في سبعين مركباً، سار في النهر متجهاً نحو الشمال على أن المغول كانوا يراقبونه من جانبي النهر، وقد علم وهو يسير في النهر أن جوجي بن جنكيز خان قد حشد قوة كبيرة من المغول على مقربة من جند على جانبي نهر سيحون، وأنه سد هذا النهر بقنطرة من السفن، واضطر ((تيمور ملك)) أن يترك النهر إلى الساحل حيث امتطى جواده وقاتل أعداءه قتال اليائس، ومع ذلك استطاع أن يخدع مطارديه وأن يصل في النهاية إلى مدينة خوارزم حيث كان يرابط جلال الدين منكبرتي بن علاء الدين خوارزمشاه .
ث ـ استيلاء المغول على بخارى: كانت مدينة بخارى من بين مدن بلاد ما وراء النهر التي طمع المغول في الاستحواذ عليها، فنزل جنكيز خان بظاهرها في أواخر عام 616هـ/1219م وبدأ لفوره يضرب حصاراً محكماً عليها، وكانت القوة الإسلامية التي وكل إليها أمر الدفاع عنها تتكون من عشرين ألفاً . واستمر الهجوم على بخارى ثلاثة أيام، وهي الآن ((في دولة أوزبكستان حالياً))، وهي بلدة الإمام الجليل والمحدث العظيم محمد إسماعيل البخاري صاحب صحيح البخاري. وبعد ثلاثة أيام ظهر بعدها للجيش الخوارزمي المدافع ضعفه وقلة حيلته، وعندئذ قرر التقهقر إلى خراسان، التماساً للنجاة، ولكن كيف السبيل إلى الانسحاب مع هذه الصفوف المتراصة من الجيش المغولي؟ لقد عول الجيش الإسلامي على مواصلة الحرب، وحقق شيئاً من النجاح، لكنه أرغم أخيراً على الارتداد، ولم يزل يطاردهم المغول على مقربة من نهر جيحون حتى أنزلوا بهم هزيمة ساحقة ولم ينج من القتل إلا شرذمة يسيرة ، وأحس الخوارزميون الذين بقوا في المدينة ـ إثر ذلك ـ أن قوتهم ضعفت وبدأ اليأس يدب في نفوسهم وهم يرون خيرة الجند يغادرها، فأرسلوا قاضي المدينة بدر الدين يعرض تسليم المدينة ويطلب الأمان، فأجابه جنكيز خان إلى ذلك، وفتحت أبوابها رابع ذي الحجة سنة 616هـ/1219م . ودخل جنكيز خان المدينة ومر أمام مسجد هاشم دخله ممتطياً جواده وسأل عما إذا كان هذا هو قصر السلطان، فلما قيل له أن هذا إنما هو بيت الله، نزل إلى أرض المسجد وصعد المنبر وصاح قائلاً بأعلى صوته لقد قطع العلف أعط الخيل طعاماً. وقد فهم المغول من هذه العبارة أن جنكيز خان يشير إلى جنده بأن ينهبوا المدينة، وقد حمل المغول إلى فناء المسجد عدة صناديق تحوي نسخاً كثيراً من القرآن الكريم وقعت تحت حوافر الخيل، كما أهان المغول الدين الإسلامي، بإحضارهم قرب الخمر إلى المسجد، كما أحضروا المغنيين من المدن المختلفة، وأخذوا يشربون ويطربون ، وأعيان البلد وكبار الأئمة يقومون بخدمة الجند في مجالس الشراب أو يؤدون لهم الرقصات وفق رسم المغول على توقيع الآلات الموسيقية، وكان من هؤلاء الفقهاء الأجلاء من دفع به كذلك ليسوس البغال . وخرج جنكيز خان بعد ذلك وجمع سكان المدينة وطلب منهم أن يعينوا لهم أكثر هذا الجمع ثراء، فعينوا له مائتين وعشرين بينهم ثمانون من الأغراب، فطلب منهم أن يقتربوا منه، وأخذ يتحدث إليهم، وبعد أن بين لهم أن الغرض من حملته هو أن يثأر من السلطان الخوارزمي قال: لقد ارتكبتم خطأً فاحشاً، وإن الرؤساء هم المجرمون، وإذا سألتموني عن نفسي قلت لكم إنني نقمة الله على الأرض، فإذا لم تكونوا مجرمين فإن الله ما كان يسمح لي بأن أعاقبكم ، وبعد أن فرغ جنكيز خان من حديثه أمرهم أن يخرجوا كنوزهم المدفونة وألا يبالوا بما ليس مدفوناً لأنه يستطيع أن يعثر عليه ، وقد ترك جنكيز خان كل رجل من هؤلاء الأغنياء في حراسة رجل مغولي على أنه وجد أن هناك أربعمائة فارس خوارزمي لم يخرجوا من المدينة مع سائر رجال الحامية فأرغمهم على الالتجاء إلى القلعة، وقد جند المغول من سكان المدينة من يقدر على حمل السلاح وساروا إلى القلعة وحاصروها وبعد أن أحدثوا في حوائطها عدة ثغرات دخلوها، وحينئذ لم يتركوا فيها شخصاً واحداً على قيد الحياة، على أن هذه الحامية الصغيرة دافعت عن نفسها بكل شجاعة أحد عشرة يوماً، وقتلت عدداً كبيراً من المغول، كما قتلت عدداً كبيراً من السكان الذين استخدموا في الحصار . ويظهر أن جنكيز خان ركب رأسه عندما سقط عدد كبير من المغول ضحايا في ساحة القتال، فأمر جميع السكان أن يخرجوا من المدينة مجردين من أموالهم، لا يحمل أحداً منهم غير ملابسه التي يرتديها ثم دخل المغول المدينة فأعملوا فيها النهب وقتلوا من صادفهم من السكان ، ووصف ابن الأثير ما فعله المغول في بخارى فقال: ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه وأحاط جنكيز خان بالمسلمين، فأمر أصحابه أن يقتسموهم، فاقتسموهم، فكان يوماً عظيماً من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان، وتفرقوا أيدي سبأ، وتمزقوا كل ممزق، واقتسموا النساء أيضاً، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس . وأما ابن كثير فقد قال: فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله ـ عز وجل ـ وأسروا الذرية، والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهلهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب وكثر البكاء والضجيج بالبلد . ومما هو جدير بالذكر أن المغول أشعلوا النار في المدينة فاحترقت بأسرها، إذ أن معظم مبانيها كانت من الخشب، ولم يبق من مباني المدينة إلا تلك المبنية من الآجر، وأخيراً نزح من بقي من أهلها إلى إقليم خراسان، وهكذا شرد المغول أهالي مدينة بخارى الذين اشتهروا بولعهم بالعلوم والفنون، ومما هو جدير بالذكر أن أحد سكان هذه المدينة لما وصل إلى إقليم خراسان أجمل ما أحدثه المغول في مدينته في هذه العبارة القصيرة التي عبر فيها تعبيراً صادقاً عما حدث: ((أتوا فخربوا وأحرقوا وقتلوا ونهبوا ثم ذهبوا ))، وقد أصبحت مدينة بخارى أطلالاً بالية واستمرت على هذا النحو حتى أخذ جنكيز خان نفسه في إصلاحها وإعادة بنائها، قبل موته بزمن قصير .

ح ـ اجتياح سمرقند 617هـ: فبعد أن دمر التتار مدينة بخارى العظيمة، وأهلكوا أهلها وحرقوا ديارها ومساجدها ومدارسها انتقلوا إلى المجاورة ((سمرقند)) وهي أيضاً في دولة أوزبكستان الحالية واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من آثار المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول إبن الأثير: فساروا بهم على أقبح صورة، فكل من أعيى وعجز عن المشي قتل ، وكانوا يصطحبون الأسارى معهم لأسباب كثيرة منها:
ـ كانوا يعطون كل عشرة من الأسارى علماً من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظن أنهم من التتار وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل رهيب، فلا يتخيلون أنهم يحاربونهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدب في قلوب من يواجهونهم.
ـ كانوا يجبرون الأسارى على أن يقاتلوا معهم ضد أعدائهم ومن رفض القتال أو لم يظهر فيه قوة قتلوه.
ـ كانوا يتترسون بهم عند لقاء المسلمين، فيضعونهم في أول الصفوف كالدروع لهم، ويختبئون خلفهم، ويطلقون من خلفهم السهام والرماح وهم يحتمون بهم.
ـ كانوا يقتلونهم على أبواب المدن لبث الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار.
ـ كانوا يبادلون بهم الاسارى في حال أسر الرجال من التتار في القتال، وهذا قليل لقلة الهزائم في جيش التتار .
كانت سمرقند من أكبر مدن بلاد ما وراء النهر وأعظمها على الإطلاق، فهي حاضرة هذا الإقليم، وكانت إلى جانب ذلك مركزاً مهماً للتجارة، ولذلك أحيطت بأسوار ضخمة، يعلوها عديد من الأبراج، للدفاع عنها، وكانت حاميتها عندما فر منها محمد خوارزمشاه ـ غرباً تتألف من خمسين ألف مقاتل من الخوارزمية على ما يذكر ابن الأثير ، ويرى ابن العبري، أنها كانت أربعين ألف فارس، وكان جنكيز خان على علم بكل هذه الاستعدادات الدفاعية، لذا وضع خطته الأصلية على أساس أنه سيخوض عند أسوارها حرباً شديدة قاسية، فرتب أموره على أن تلتقي كل قواته ـ والتي بدأ بها غزو بلاد ما وراء النهر من شرق أترار، عند سمرقند، واصطحب معه عدداً كبيراً من أسرى بخارى ليستعين بهم في عملية الحصار ، ولما يبغ مشارف سمرقند وجد أن جنوده من الكثرة بحيث أنه استغنى عن ثلاثين ألف منهم، عهد إليهم مطاردة الأمير علاء الدين محمد خوارزمشاه ، ومهد جنكيز خان للاستيلاء على سمرقند بإخضاع جميع المناطق التي كانت تحيط بها إخضاعاً يتعذر معه أن يستفيد خصومه منها أثناء حصاره لها، ونجح في تحقيق هذه الغاية ، وكان الخان المغولي يقدر أن حصن المدينة لن يتيسر له فتحه قبل بضعة سنوات، مستنداً في هذا الاعتقاد إلى ما أبداه قائدا حاميتهما من ضروب الشجاعة، فضلاً عما أنزلاه بقوات المغول من خسائر، لكنه رأى أن يتولى بنفسه قيادة الهجوم على هذه المدينة ، فحالفه النجاح في الاستيلاء على بعض أبوابها مما ترتب عليه قيام قادة الجيش الخوارزمي، فبينما رأت أكثرية الحامية التي تنحدر من أصل تركي ضرورة التسليم، رأى الفريق الآخر ضرورة القتال، وارتدوا إلى القلعة محاربين . ووافق جنكيز خان على فكرة التسليم، ووعد هؤلاء الأتراك بأنهم سيدخلهم في جيشه، لذا خرجوا إليه مع عائلاتهم، وانضموا إلى عسكر المغول، وأراد جنكيز خان أن يؤكد ـ عملياً ـ وعوده، فأمر حلق شعورهم على عادة المغول ـ خداعاً وتمويهاً ـ غير أنهم ما كاد المساء يقبل حتى قتلوا منهم ثلاثين ألفاً من أبرزهم أمراؤهم ، وكان من أكثر ذلك أن أيقن أهل المدينة ومن بقي من أفراد حاميتها بالهلاك فأوفدوا في اليوم الرابع للقتال قاضي المدينة وبعض علمائها، يعرضون على جنكيز خان التسليم، مشترطين أن يأمنهم على حياتهم، فأجابهم الخان إلى ما طلبوا، وحينئذ فتحت الأبواب على أن المغول لم يرعوا عهدهم إذ أمروا السكان بالخروج من المدينة، ثم وضعوا السيف فيمن لم يخرج، واستولوا على قلعتها، ونهبوا البلد، وأحرقوا الجوامع، وكان ذلك في المحرم سنة 617هـ/1220م وأرغم جنكيز خان القادرين من أهل سمرقند على حمل السلاح جنوداً في صفوف المغول، وبعث مهرة البستانيين من أهلها إلى ((قراقورم))، لتزيينها بمنتزهات على نحو مغاني سمرقند ، كما ألحق مهرة الصناع وبخاصة نساجو الحرير والقطن بخدمة زوجات جنكيز خان وأقربائه كرقيق، وسير بعضهم مع الخان إلى خراسان ، وسمح لخمسين ألفاً من السكان بالعودة إلى المدينة بعد أن دفعوا مائة ألف قطعة ذهبية ، وقد قدر ابن العبري هذه الفدية بمائتي ألف دينار، قام بجمعها اثنان من كبار رجال سمرقند، وهكذا تم استيلاء المغول على هذه المدينة في أوائل سنة 617هـ/1220م، ووصف ابن الأثير ما أحدثه المغول في المدينة فقال: فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلهم مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد، ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه وأحرقوا الجامع…، وافتضوا الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال وقتلوا ما لم يصلح للسبي ، ورغم ما حدث من تخريب في هذه المدينة فقد فرض جنكيز خان على أهلها جزية سنوية قدرها ثلاثمائة ألف دينار ، ولكي ندرك ما حل بحاضرة بلاد ما وراء النهر إثر الغزو المغولي نورد ما ذكره شانج شون، وهو أسقف صيني صحب جنكيز خان في غزواته وكتب مؤلفاً بالصينية عن هذه الرحالة، فقد ذكر أن مدينة سمرقند كانت قبل اكتساح الدولة الخوارزمية تضم أكثر من مائة ألف أسرة، ولكن بعد استيلاء المغول على هذه المدينة لم يبق فيها سوى ربع عدد سكانها، وذكر أن كثيرين من العمال الصينيين انتشروا في هذه المدينة، ورغم أن الممتلكات ظلت في أيدي المسلمين فإن إدارتها كانت تحت إشراف جيش الاحتلال المغولي . وبعد سقوط عاصمة السلطان محمد، سمرقند، وهروب الشاه الخوارزمي من وجه القوات المغولية، أصبحت أراضي الأسرة الخوارزمية مفتوحة على مصراعيها دون حامٍ ضد قوات جنكيز خان التي أصبحت حرة تسير عبرها طولاً وعرضاً دون أن تجد معارضاً لها، لذلك فلا عجب أن نجد المدن والمقاطعات تتساقط واحدة تلو الأخرى، في أيدي القوات المغولية المنتصرة الزاحفة وما أن قارب فصل ربيع ذلك العام حتى أكمل المغول فتحهم لجميع أراضي السلطان محمد في إقليم ما وراء النهر، من مدينة جند في الشمال إلى بخارى وسمرقند في الجنوب، فبناكت وخنجد في الوسط . وهكذا بانهيار جميع بلاد ما وراء النهر انهارت خطوط الدفاع التي اعتمد الجيش الإسلامي عليها، وتيسر للمغول بعد ذلك الاستيلاء على أقاليم شرق الدولة الإسلامية الباقية من غير عناء .

2 ـ اجتياح الأقاليم الغربية من الدولة الخوارزمية ووفاة محمد خوارزمشاه:
يبدو أن الضربات التي أنزلها المغول ببعض أجزاء الدولة الخوارزمية، وانتهت بسقوط حصون ومدن أترار وبجند وبنكت وخجندة وبخارى، وغيرها، كان لها تأثير بالغ في نفس علاء الدين محمد خوارزمشاه فعوَّل بعد وصوله إلى سمرقند من بخارى على الرحيل إلى مكان أمين يجير فيه أمره أو يبحث عن إمكانية التصدي لهذا العدو الغاشم، لذا عقد في سمرقند مجلساً ضم وزراءه وكبار قواده للبحث فيما يمكن عمله لمقاومة المغول، وظهر في هذا الاجتماع اتجاهان: أولهما يرى عدم جدوى الدفاع عن بلاد ما وراء النهر، وأن يركز الخوارزميون اهتمامهم على حماية الأقاليم التي تقم غربي جيحون، وثانيها يفضل الإنسحاب جنوباً إلى غزنة ، وقد استصوب خوارزمشاه الرأي الأخير، وتوجه نحو غزنة، وبينما هو سائر إليها قدم عليه وهو بمدينة بلخ وزير ابنه ركن الدين قد وجهه إلى أبيه لينتفع بخبرته في ظاهر الأمر وللتخلص من حكمه واستبداده في الحقيقة، فلما اكتشف الوزير ما يراد به احتال ليرجع إلى العراق العجمي موطنه الأصلي، لذا استغل ثقة علاء الدين محمد خوارزمشاه فيه، وعرض عليه المسير إلى العراق العجمي حيث يجد فيه المال والرجال والدرع الواقي من المغول، فقبل الأمير الخوارزمي مشورته وسار إلى نيسابور إحدى مدن خراسان، غيرأنه لم يقم بها إلا فترة قصيرة، إذ بلغه أن المغول قد عبروا نهر جيحون، وأصبحوا على مقربة منه، وأنهم يجدون في البحث عنه، فلم يكن في وسعه حينئذ إلا أن يغادر نيسابور ويأخذ طريقه شطر العراق العجمي . وكانت قوات المغول تتعقب علاء الدين محمد خوارزمشاه الذي فر هارباً من سمرقند إلى خراسان، فلما وصلت هذه القوات إلى نيسابور وجدوه قد غادرها فأخذوا يتبعون أثره، واستطاع المغول على مقربة من الري أن يوقعوا بجيش خوارزمشاه الرئيس، الأمر الذي جعل الأمير الخوارزمي يفكر في الالتجاء إلى خليفة بغداد رغم ما بينهما من عداء، فسار حتى نزل ((بمرج دولة آباد)) من أعمال همذان، ووصل معه من جيشه زهاء عشرين ألف فارس، فواجه زحف القوات المغولية ، مما اضطره إلى الاتجاه إلى إقليم مازندرات جنوبي بحر قزوين، ووصل إلى مرسى يعرف ((باب سكون))، يقول النسوي: وظل في إحدى قرى هذا الميناء يصلي بالناس في المسجد وينذر لله لئن كتبت له السلامة وأعيد له ملكه ليقيمن العدل، إلى أن انكشف أمره، وهاجم التتار موضعه، وعندئذ ركب البحر إلى قلعة أمينة في إحدى جرز بحر الخزر ، تدعى جزيرة ((أوغر تشالي))، أو جيركن الحالية، على خلاف في ذلك ، وقد رمى المغول زورقه بالسهام، فلمأ أخطأته تحمس بعضهم فسبح خلفه حرصاً على أخذه فغرقوا، ووصل خوارزمشاه لمأمنه عليلاً، وما لبث أن فارق الحياة في تلك الجزيرة في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 617هـ/1220م .
وقد وصف النسوي حالة علاء الدين في أيامه الأخيرة فقال: حدثني غير واحد ممن كانوا مع السلطان في المركب، قالوا: كنا نسوق المركب وبالسلطان من علة ذات الجنب ما أيسه من الحياة، وهو يظهر الاكتئاب ضجيراً ويقول: لم يبق لنا مما ملكناه من الأرض قدر ذراعين نحفر فنقبر، فما الدنيالساكنها بدار لا ركون إليها إلا سوى انخداع واغترار، ما هي إلا رباط يدخل من باب ويخرج من باب، فاعتبروا يا أولى الألباب، وقد وصل علاء الدين أخيراً إلى إحدى الجزر الصغيرة طلباً للأمان، وأقام في إحدى الخيام، على أن الأهالي الذين يقيمون على شاطئ مازندران كانوا يأتونه بما يلزمه من مأكل وما يحتاجه من ضرورات الحياة، وفي نظير ذلك كان السلطان يوصي بإقطاعهم الإقطاعات، ولما إستعاد جلال الدين منكبرتي أملاك أبيه بعد بضعة سنين أقر هذه الإقطاعات لأصحابها، ونلاحظ أن كل من كان معه علامة من علاء الدين كان جلال الدين منكبرتي يقطعه إقطاعاً، ولما أحس علاء الدين أن المرض يشتد عليه يوماً بعد يوم وأن أمه تركان خاتون قد وقعت أسيرة في أيدي المغول، استدعى أبناءه جلال الدين منكبرتي وأزلاغ شاه، وآق شاه، ووكل أمور دولته إلى ابنه جلال الدين، بعد أن أعلن أنه الوحيد الذي يستطيع حماية الدولة الخوارزمية ، ومما قاله لأبنائه، هذه العبارة التي ذكرها النسوي: إن عري السلطنة قد انفصمت والدولة قد وهنت قواعدها، وتهدمت وهذا العدو قد تأكدت أنيابه وتشبثت بالملك أظفاره، وتعلقت أنيابه، وليس يأخذ بثأري منه إلا ولدي منكبرتي، وها أنا موليه العهد، فعليكما بطاعته ، وبعد أن قضى علاء الدين في هذه الجزيرة شهراً، قضى نحبه ودفن فيها، ومما يؤسف له أن أتباعه عجزوا عن إيجاد كفن يكفنونه به حتى أن شمس الدين محمود وكان من المقربين إليه خلع قميصه وكفنه به، ويروى السيوطي أنه كفن بشاش فراش كان معه ،، وقد وصف ابن الوردي حالة السلطان علاء الدين خوارزمشاه في أواخر أيامه فقال:
وفارق المسكين أوطانه
وملكه ممتحناً بالمرض
وكم حوى من جوهر مثمن
فما فدى الجوهر هذا العرض
وقد ذكر النسوي الذي عاصر هذه الحوادث، وخدم في بيوتات الخوارزميين بعض أبيات تصور حال علاء الدين في أيام سطوته الأولى وحاله بعد أن مالت به الأيام أبدع تصوير:
أذل الملوك وصاد القروم
وصير كل عزيز ذليلا
وحف الملوك به خاضعين
وزفوا إليه رعيلا رعيلا
فما تمكن من أمره
وصارت له الأرض إلا قليلا
وأوهمه العز أن الزمان
إذا رامه ارتد عنه كليلا
أتته المنية مغتاظة
وسلت عليه حساما صقيلا
فلم تغن عنه حماة الرجال
ولم يجد قيل عليه فقيلا
كذلك يفعل بالشامتين
ويفنيهم الدهر جيلا فجيلا
وكان هدف المغول القبض على علاء الدين محمد خوارزمشاه، لكنهم لم يستطيعوا تحقيق هذه الأمنية، ومع ذلك فإنهم استولوا على كثير من المدن والبلدان التي صادفتهم وهم يطاردونه، ومن أبرزها ((مازندران)) ذات القلاع التي اشتهرت بمناعتها وحصانتها ولم يلاقوا في الاستيلاء عليها سنة 617هـ/1220م مقاومة تذكر ، كذلك اتجهت بعض القوات المغولية إلى الري فوصلتها على حين غفلة من أهلها، وما لبثت أن استولت عليها وعاشت فيها نهباً وسلباً ، ولم يقم المغول في الري بعد استيلائهم عليه بل مضوا مسرعين في أثر خوارزمشاه ينهبون كل مدينة أو قرية يمرون عليها، ويضعون السيف في رقاب أهلها، ولا يبقون على شئ فيها، فلما وصلوا ظاهر همذان التقى بهم رئيسها يعرض عليهم الصلح، ويقدم إليهم الأموال والثياب والدواب وغير ذلك من الهدايا الثمينة، فوافقوا على منح أهلها الأمن وما رووا عنها إلى زنجان فاكتسحوها، ثم اتجهوا إلى مدينة قزوين فتصدى لهم أهلها وأخذوا يذودون عنها في قتال عنيد انتهى بهزيمتهم ودخولها في حوزة المغول ، ثم اتجه المغول إلى إقليم أذربيجان، وقبل أن يصلوا إلى عاصمة الإقليم مروا بمدينة سنجار فنهبوها وقتلوا كثيراً من أهلها ثم ساروا إلى قوس فامتنع أهلها عنهم، ولم يزالوا يحاصرونها حتى تمكنوا من الاستيلاء عليها ،ولما وصلوا إلى المدينة ((تبريز))صانعهم صاحبها أوزبك بن البهلوان، وقدم لهم كثيراً من الهدايا، متمثلة في المال والثياب والدواب، وأعلن تبعية بلاده لهم ، على أن المغول ما لبثوا أن اضطروا بسبب برد الشتاء القارس إلى الرحيل عن تبريز واتجهوا عبر سهول موقان إلى السواحل الغربية لبحر قزوين طلباً للدفء، وإذ هم يقيمون في هذه السواحل عقد حكام جورجيا معاهدة دفاعية مع أتابكية أذربيجان ومع الملك الأشرف موسى بن الملك العادل صاحب بلاد الجزيرة وخلاط للانقضاض على المغول، وحددوا بدء الهجوم بفصل الربيع، غيرأن المغول فطنوا إلى ما يدبر ضدهم، وعمدوا إلى القيام بهجوم على هذه القرى، فشتتوا شملها، واستولوا على حصون جورجيا وخربوها، كما توغلوا في أراضيها حتى وصلوا إلى حاضرتها ((تفليس)) وكان ذلك في ذي القعدة سنة 617هـ/1220م ، ولما تم للمغول الاستيلاء على إقليم جورجيا عادوا ثانية إلى إقليم أذربيجان الذي انتفض عليهم، وما كادوا يصلون إلى ((تبريز)) حاضرة هذا الاقليم حتى أعلن أهلها الاستسلام، وتعهدوا بدفع جزية كبيرة، ثم اتجهت قوات المغول صوب مراغة إحدى أمهات هذا الإقليم، وكانت تحكمها أميرة اتخذت إحدى القلاع حصناً لها، وشرعت تقاوم هجوم المغول الذين ضربوا على هذه المدينة حصاراً محكماً، استخدموا فيه مجانيقهم، وما لبثت المدينة أن سقطت في أيديهم رابع صفر سنة 618هـ/1221م، يقول ابن الأثير: ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما صلح لهم وما لا يصلح لهم أحرقوه ، وكي يتأكد المغول من فناء جميع أهلها أمروا بعض الأسرى المسلمين أن ينادوا في شوارعها بأن المغول قد رحلوا، فلما اطمأن من اختفى من أهلها في الدروب والآجام وخرجوا من مخابئهم قبض المغول عليهم وقتلوهم عن آخرهم ، لقد تعرض شرق الدولة الإسلامية لهذا الغزو المغولي، على هذه الصورة المروعة، ومع ذلك فإن خليفة بغداد الناصر لدين الله لم تبد منه أية محاولة لصده، كما لم يستمع إلى الرسل الذين قدموا إليه من البلاد التي نكبها المغول، وقد حمل موقف الخليفة السلبي من هذه البلاد، وعدم الإسهام في نجدتها بعض المؤرخين على اتهامه بالاتصال بالمغول، وتحريضهم على غزو الدولة الخوارزمية على أن الخليفة الناصر بدأ يشعر بخطر الزحف المغولي عندما رحل المغول عن مدينة مراغة، وقصدوا مدينة إربل، فأثار بعض أمراء المسلمين الخاضعين له، وقد عبر ابن الأثير عما انتاب أهل الموصل من الخوف حين شرع المغول في الزحف على مدينة أربل بقوله: ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل، فخفنا حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفاً من السيف ، وانزعج الخليفة الناصر حين علم بزحف المغول على مدينة إربل، وكان يلي إمارتها حينئذ مظفر الدين كوكبري من قبل خليفة بغداد، فقد خشي الناصر أن يتجه قواد المغول إلى العراق العربي عن طريق دقوقا بدلاً من إربل، بعد أن يكتشفوا وعورة مسالكها، وصعوبة الوصول إليها، لذا بعث برسل تحمل أوامره إلى كل من مظفر الدين كوكبري صاحب إربل، وبدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الجزيرة، يأمرهم بالتوجه إلى مدينة دقوقا في عسكرهم ليصدوا المغول إن هم عدلوا عن إربل إليها، توطئة لاقتحام العراق العربي، فسير بدر الدين بعض فرق جيشه إلى دقوقا، وغادر مظفر الدين إربل في صفر سنة 618هـ1221م مع عساكره وتبعهم جمع كثير من العساكر المتطوعة أما الملك الأشرف فاعتذر عن الحضور بنفسه في عسكره إلى دقوقا بوصول الملك المعظم عيسى بن الملك العادل من دمشق، يستنجده على الفرنج الذين كانوا وقتذاك قد استولوا على دمياط ، ووصلت قوات أمراء إربل والموصل والجزيرة إلى دقوقا حيث سير الخليفة الناصر إليهم جيشاً قوامه ثمانمائة فارس ، بقيادة مملوكه قشتمر، وأسند الخليفة إلى الأمير مظفر الدين كوكبري قيادة القوات الإسلامية ووعده بمده بالعسكر غير أن حكام المسلمين عجزوا عن إعداد القوة اللازمة لمواجهة المغول، ولم يكد يصل إلى المغول نبأ تجمع القوى الإسلامية للقائهم حتى رجعوا القهقرى وهم يحسبون أن عسكر المسلمين يتبعهم، ورحلوا إلى العراق العجمي، أما العسكر الإسلامي فأقام عند دقوقاً فترة تبين له أثناءها أن العدو قد انصرف عنهم، كما أن المدد الموعود به لم يصل إليهم، لذلك تفرقوا، وعاد الجميع إلى بلادهم سنة 618هـ/1221م ، وقضى المغول الفترة التالية متنقلين بين المدن الإسلامية المختلفة في العراق العجمي وأذربيجان وأران وجورجيا مدمرين مخربين ما بقي من مدنها، حاملين ما يستطيعون حمله من خيراتها، ثم عبر القائدان المغوليان المنطقة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود إلى بلاد القفجاق وروسيا، وسار المغول بقيادة هذين القائدين إلى بلغاريا وأوصلوا الرعب إلى أقصى حدود أوروبا .

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 1:22 pm

3 ـ استيلاء المغول على خوارزم: كان إقليم خوارزم من الأقاليم التي تسيطر عليها تركان خاتون أم السلطان علاء الدين خوارزمشاه فقد كان نفوذها في هذا الإقليم يفوق نفوذ السلطان نفسه، وذلك بفضل أتباعها المخلصين من قبيلة كانكالي التي تسكن السهول الواقعة شمال خوارزم وشمال شرقي بحر قزوين، وبرغم هذا الشقاق الذي قام بين علاء الدين وأمه، فإنه لما رأى الخطر ماثلاً أمام عينيه، أرسل إليها في خوارزم يطلب منها أن تتقهقر هي وحاشتها إلى إقليم مازندران، جنوب بحر قزوين، حرصاً على حياتها، كما نرى جنكيز خان يرسل إليها عندما سمع بذلك الشقاق الذي قام بين علاء الدين وأمه، يستميلها إلى جانبه، ووعدها بأن يترك لها ما بيدها من أملاك بعد أن يتم فتوحاته، على أن السلطانة لم تهتم بما جاء في هذه الرسالة ، ولما علمت تركان خاتون بتقهقر السلطان علاء الدين محمد، عزمت في أواخر سنة 616هـ/1219م على مغادرة إقليم خوارزم مع وصيفاتها، ومع أبناء علاء الدين، وحملت معها كل ما يمكن حمله من كنوز، وقبل أن ترحل ارتكبت عملاً بربرياً فاحشاً ذلك أنها أمرت بقتل أولئك الأمراء الذين كان علاء الدين قد استولى على أملاكهم، والذين كانوا في سجون خوارزم، فقتلت أبناء طغرلبك آخر سلاطين السلاجقة في العراق وأمراء بلخ وترمذ وباميان وابني آخر ملوك الدولو الغورية، وكثيرين من الأمراء الآخرين . رحلت التركان خاتون من إقليم خوارزم بغية الالتجاء إلى العراق العجمي، ثم اعتصمت وهي في الطريق بإحدى قلاع مازندران الحصينة ، وقد استولى القائد المغولي ((سوبوتاي)) في أثناء مطاردته علاء الدين خوارزمشاه على هذه القلعة، التي سلمت بعد ثلاثة أشهر حين نفذ ما أدخره المحاصرون من مياه للشرب، ووقعت تركان خاتون أسيرة في أيدي المغول الذين قادوها هي وحاشيتها وأبناء علاء الدين إلى معسكر جنكيز خان، وقد ظلت تركان خاتون أسيرة في أيدي المغول حتى رحلوا إلى بلادهم وصحبوها معهم إلى هناك، حيث ماتت سنة 630هـ/1233م، وأما أبناء علاء الدين الصغار فقد قتلهم جنكيز خان رغم حداثة سنهم، كما أعطى أبنه جغطاي اثنتين من بنات علاء الدين، فتزوج واحدة وأعطى الثانية لأحد رجاله المقربين، كما أعطى جنكيز خان ابنة ثالثة من بنات علاء الدين لحاجبه دانشمند ، وهكذا خلا إقليم خوارزم من الحكام الخوارزميين وبات ينتظر مصيره المحتوم على أيدي المغول .
أ ـ انتقال جلال الدين منكبرتي من خوارزم: بعد وفاة علاء الدين في الجزيرة المنعزلة في بحر قزوين على نحو ما رأينا عبر أولاده الثلاثة جلال الدين منكبرتي، وأزلاغ شاه، وأق شاه، عبروا البحر إلى إقليم خوارزم حيث استقبلوا بمظاهر الفرح والسرور إذ كانت حاضرة هذا الإقليم في فوضى مستمرة منذ غادرتها تركان خاتون التي انشغلت بنفسها، وفاتها أن تعين حاكماً على هذا الإقليم، وقد وصف النسوي وصول جلال الدين منكبرتي وأخويه إلى إقليم خوارزم في عبارة نوردها في هذا المقام: لما اندرج السلطان إلى رحمة الله ودفن بالجزيرة، ركب جلال الدين البحر إلى خوارزم بأخويه المذكورين (أزلاغ شاه وأق شاه)… وتباشر الناس بقدومهم تباشر من أعضل داؤه، فظفر بدوائه، واجتمعت عندهم من العساكر السلطانية زهاء سبعة آلاف فارس . وعلى الرغم من أن جلال الدين منكبرتي وأخويه استطاعوا أن يجمعوا جيشاً كبيراً لمواجهة المغول، فقد كان من سوء حظ الخوارزميين أن هذا الجيش كان يتكون من تلك القبائل التركية التي تنتمي إليها تركان خاتون والتي لم ترض عن تولي جلال الدين منكبرتي الحكم بعد أبيه، وقد أراد جلال الدين أن يخضع هذه الجيوش الثائرة بالقوة فتآمروا على قتله، ولم يجد جلال الدين مخرجاً إلا الفرار والنجاة بنفسه من الهلاك، ففر إلى خراسان بصحبة ثلاثمائة فارس تحت إمرة ((تيمور ملك)) حاكم مدينة خنجده، وكان قد فر إلى إقليم خوارزم بعد غزو المغول مدينته كما رأينا، وقد عبر جلال الدين هذه الصحراء التي تفصل إقليم خوارزم عن خراسان في ستة عشر يوماً، وصل بعدها إلى الأراضي القريبة من مدينة نسا . وأما الجند المتآمرون فقد بقوا في خوارزم بعد رحيل جلال الدين عنها، ولكنهم ما لبثوا أن رحلوا أيضاً إلى خراسان بعد أن سار إليهم المغول، وبرحيل جلال الدين منكبرتي عن إقليم خوارزم ضاع آخر أمل في إنقاذ هذا الاقليم إذ لم يعد هناك من قوة تستطيع أن تقف في وجه التيار المغولي، وكان في قدوم أولاد علاء الدين خوارزمشاه مدينة خوارزم وجمعهم الجيوش الكثيرة فيها، ما استلفت نظر جنكيز خان، فسير إلى هذه المدينة جيشاً تحت قيادة أبنائه جوجي وجغتاي وأغطاي الذين كانوا قد أتموا فتح بلاد ما وراء النهر بالاشتراك مع جيوش جنكيز خان، ولكي يحاصر جنكيز خان أبناء علاء الدين من كل جهة أمر جيوشه في خراسان بأن تقف على الحدود الجنوبية للصحراء التي تفصل خوارزم عن خراسان، وقد عسكر سبعمائة فارس بالقرب من مدينة نسا، ولما أرادا الاشتباك معهم حلت بهما الهزيمة، ثم وقعا في الأسر، وقد قطع المغول رأسيهما ورشقوهما في سهمين، ثم طافوا بهما في أنحاء هذه المقاطعة إمعاناً في السخرية في الخوارزميين، وإرهاباً للأهالي المتمردين، وفي هذه الأثناء ذو القعدة سنة 617هـ / مايو سنة 1220م كان الجيش المغولي يتقدم نحو مدينة خوارزم، حاضرة الإقليم المسمى بهذا الاسم، وتقع مقربة من مصب نهر جيحون في إقليم صحراوي، إذ لا نجد فيما عدا هذه المدينة وما يحيط بها من مدن صغيرة وقرى متناثرة إلا أراضٍ صحراوية .
ب ـ حصار مدينة خوارزم: كانت الجيوش المغولية تحت قيادة جوجي وأغتاي من أبناء جنكيز خان، كما ذكرنا، ولكن القيادة العليا كانت في يد جوجي أكبر ابنائه، وهكذا كان المغول أقوياء بروحهم المعنوية وبرجالهم وبمؤازرة جنكيز خان لهم، أما الجيوش الخوارزمية، فكانت لا ضابط لها، وخاصة بعد أن فر جلال الدين منكبرتي وأخواه، كما كانت أكثرية هذه الجيوش من قبيلة كانكالي التركية وهي لا تعدو من الجيوش المرتزقة التي لا يهمها في كثير أو قليل أن تدافع عن الأراضي الخوارزمية، وصل القوات الثلاثة إلى المدينة وطلبوا من أهلها التسليم ووعدوهم حسن المعاملة وأعلنوهم جوجي أن أباه أعطاه إقليم خوارزم ليحكمه وأنه حريص على أن يبقي حاضرة هذا الإقليم من التخريب، كما أخبرهم أنه حذر جنوده إلا يمسوا هذا الإقليم بأذى . هذا إلى أن السلطان المتوفى علاء الدين خوارزمشاه كان قد أرسل إلى أهالى هذه المدينة على إثر تقهقره وفراره ينصحهم بالتسليم وعدم المقاومة، صوناً لأرواحهم، وقد جاء في رسالته لهم ما يأتي: إن لأهل خوارزم علينا وعلى سلفنا من الحقوق المتلاحقة والسوالف الحاضرة والسابقة ما يجب علينا النصح لهم، والإشفاق عليهم، وهذا العدو عدو غالب، فعليكم بالمسالمة والطريق الأرفق ودفع الشر بالوجه الأوفق . ورغم تحذير جوجي ونصح السلطان الخوارزمي انقسم السكان إلى معسكرين: فريق منهما يؤمن بضرورة التسليم وفريق آخر يرى ضرورة المقاومة والدفاع عن وطنهم، وقد انتصر أنصار الرأي الثاني ووقفت المدينة موقف الدفاع، واستعد السكان للمقاومة، ولما أدرك المغول عزم الخوارزميين على المقاومة استعدوا بدورهم للقتال فنصبوا حول المدينة آلات الحرب من مجانيق ومتاريس وغيرها، ولما كانت الأراضي المحيطة بالمدينة فقيرة من الأحجار التي يحتاج إليها المغول في أعمال الحصار التي يقذفونها على المدن المحاصرة بواسطة المجانيق فقد اقتلعوا عدداً كبيراً من أشجار التوت وقطعوا سيقانها قطعاً مستديرة تركوها فترة من الزمن في الماء حتى ازدادت قوة، واستطاعوا بعد ذلك أن يستعملوها في مجانيقهم لتحطيم أسوار المدينة ، وبينما كانت استعدادات المغول قائمة على قدم وساق، وصل كثير من أسرى البلاد الخاضعة الذين استغلهم المغول في حفر الخنادق حول المدينة الذين أنجزوا هذا العمل في غضون عشرة أيام .
جـ ـ هجوم على المدينة واحتلالها: ولما اطمأن المغول إلى استعداداتهم الحربية قام ثلاثة آلاف منهم بهجوم كان النصر فيه حليف الخوارزميين فظنوا أن انتصارهم أصبح من الأمور المحققة، وساعد ذلك على تقوية روحهم المعنوية، على أن هزيمة المغول في هذه المرة ترجع إلى تلك الفوضى التي حلت بالجيوش المغولية، نتيجة لخلاف نشأ بين جوجي وجغتاي ابني جنكيز خان، ورغم هذا النزاع، استمر حصار هذه المدينة ستة أشهر أرسل قوات المغول في خلالها إلى جنكيز خان وكان إذ ذاك أمام مدينة الطالقان في أعالي نهر جيحون ـ يطلبون منه مدداً يعوض ما خسروه أمام مدينة خوارزم، كما نقلوا إليه أنباء الخلاف الذي نشأ بين ابنيه، وما أدى إليه من شقاق وفساد وفوضى في صفوف الجيش المغولي، وقد استاء جنكيز خان عندما سمع هذه الأنباء، فأرسل المدد وبعث أوامره بإسناد قيادة الجيش إلى ابنه الثالث أجتاي، وأمره أن يصلح من أمر أخويه، ولما أعاد القائد الجديد تنظيم جيشه وقضى على تلك الفوضى التي انتشرت في صفوف الجيش أمر جنده بالهجوم على المدينة، واستطاع المغول في النهاية أن يخترقوا أسوارها وأن يرفعوا أعلام النصر على هذه الأسوار، ثم أشعل المغول النار في منازل المدينة ومبانيها، وعلى الرغم من نجاح المغول في اختراق حصون المدينة صمم الخوارزميون على الاستماتة في الدفاع عن أنفسهم وعن مدينتهم، وقد ساهم النساء والأطفال في هذا الجهاد ، واستمرت مقاومة الخوارزميين على هذا النحو سبعة أيام، وأخيراً وجد السكان أنفسهم قد تجمعوا في أحياء ثلاثة، وبعد أن أعيتهم الحيلة وضاقت بهم السبل عرضوا على المغول التسليم، فأرسل الفقيه ((عالي الدين))، محتسب خوارزم إلى قائد الجيش المغولي الذي أولاه احترامه وأمر بأن تفرد له خيمة خاصة، ولما آن الوقت الذي مثل فيه الرسول الخوارزمي في حضرة القائد المغولي قال له: إننا شاهدنا من هيبة الخان، وقد آن أن نشاهد من مرحمته، فغضب القائد المغولي وقال: ماذا رأوه من هيبتي، وقد أفنوا الرجال وطاولوا القتال؟ فأنا الذي شاهدت هيبتهم وها أنا أريهم هيبتي . وقد أمر القائد المغولي الأهالي بالخروج من المدينة، وطلب من أصحاب الحرف أن يقضوا في مكان منعزل، فمنهم من فعل ونجا من الموت، ومنهم من امتنع وظن أن هؤلاء سيؤخذون إلى بلاد المغول وأن الباقين سيتركون أحياء، وقد صدقت نبوءة الخوارزميين عن رحيل أصحاب المهن والحرف إلى بلاد المغول وكذبت نبوءتهم الثانية، إذ أعمل المغول السيف في رقاب من بقي من السكان، وكان على كل جندي من المغول أن يقتل أربعة وعشرين رجلاً خوارزمياً، فإذا علمنا أن الجيش المغولي كان يتكون من مائة ألف رجل أدركنا ذلك العدد الغفير من السكان الذين كان نصيبهم الهلاك . وأخيراً لم يبق من السكان في المدينة إلا الفتيات الصغيرات والأطفال الذين استرقهم المغول .
س ـ وصف ابن الأثير لما حدث لخوارزم: ولكي يجهز المغول على المدينة ويجعلوها أثراً بعد عين، فتحوا سدود نهر جيحون فغرقت المدينة وتهدمت أبنيتها وأصبحت كأن لم تغن بالأمس، وقد صور ابن الأثير ما اصاب هذه المدينة تصويراً دقيقاً في هذه العبارة: ثم أنهم فتحوا السد الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء، فغرق البلد جميعه، وتهدمت الأبنية، وبقي موضعه ماء ولم يسلم من أهله أحد البتة فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله منهم من يخافي ومنهم من يهرب، ومنهم من يخرج ثم يسلم، ومنهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو، وأما أهل خوارزم، فمن اختفى من التتار أغرقه الماء وقتله الهدم، فأصبحت خراباً يباباً . وفي نفس الوقت الذي سيطر فيه المغول على إقليم خوارزم نرى جنكيز خان يتم إخضاع المدن الواقعة في أعالي نهر جيحون، ومن أشهرها ترمذ وبلخ ومن الطريف المؤلم أن جنكيز خان لما استولى على مدينة ترمذ، امر بإخراج جميع السكان من المدينة وأمر جنده بقتلهم جميعاً، وقد حدث أن هم أحد المغول بقتل امرأة عجوز فأرادت هذه المرأة أن تفتدي نفسها بجوهرة ثمينة كانت تمتلكها، فلما طالبها المغول بهذه الجوهرة ذكرت أنها ابتلعتها في جوفها، فشق المغولي بطن المرأة وأخرج الجوهرة من جوفها، وقد انتشر الخبر سريعاً بين المغول فظنوا أن السكان جميعاً قد خبأوا الجواهر في بطونهم، لذلك أمر جنكيز خان بشق جميع بطون الموتى للبحث عما عسى أن يكون فيها جواهر ، وبعد استيلاء المغول على إقليمي ما وراء النهر وخوارزم، استطاعوا أن يحيطوا تماماً بإقليم خراسان حيث وجهوا ضربتهم التالية، فاستولوا على مدن هذا الإقليم المدينة تلو الأخرى، ولم يقف في طريقهم عائق أو يمنعهم مانع .
4 ـ اجتياح خراسان:صدرت الأوامر لتولوي بن جنكيز خان بالسير إلى إقليم خراسان في خريف عام 617 هـ / 1220/ ويظهر أن جنكيز خان كان ينوي غزو هذا الإقليم بنفسه بدليل أنه عبر إلى الضفة الغربية لنهر جيحون وسار إلى مدينة بلخ، إحدى المدن الغنية الواقعة على الضفة الغربية لنهر جيحون، ابتغاء الاستيلاء عليها .
أ ـ الاستيلاء على بلخ:لم تكن مدينة بلخ محصنة تحصيناً يكفل لها الصمود أمام الجيوش المغولية، وترجع شهرة هذه المدينة إلى أنها كانت من أمهات المدن الخوارزمية، فضلاً عن قيمتها التجارية بسبب وقوعها على إحدى الممرات التجارية الهامة في وسط آسيا، وكانت هذه المدينة عامرة بمبانيها آهلة بسكانها حتى قيل أنه كان بها ألف ومئتان من المساجد الكبيرة ومثلها من المساجد الصغيرة، كما كان بها حمامات عديدة خاصة بالأجانب والتجار الذين يفدون على المدينة ، وبرغم تسليم هذه المدينة في سنة 618 هـ /1221م لم يعفها جنكيز خان من التخريب، كما لم يعف أهلها من القتل ثم اكتفى بالزحف عند هذه المدينة وقنع بإرسال ابنه تولوي إلى خراسان على رأس جيش مكون من سبعين ألفاً، ويظهر من تغيير جنكيز خان خطته الحربية انه أراد أن يؤمن أملاكه وجيوشه في هذه النقطة .
ب ـ احتلال نسا والقضاء على أهلها:
سارت طلائع جيش تولوى إلى خراسان في سنة 617 هـ ـ 1220م وكانت تتكون من عشرة الآلف جندي بقيادة توجاش زوج ابنة جنكيز خان، وقد سار القائد إلى مدينة نسا ولما قربت إحدى كتائبه من المدينة سلط المسلمون سهامهم على رجالها فقتل عدد كبير، كما قتل بلجوش قائد هذه الكتيبة ولما وصل توجاشر بجيوشه، أمر بأن ينصب حول المدينة عشرون منجنيقاً، وبعد خمسة عشر يوماً استطاع المغول أن يحدثوا ثغرة في حوائطها واحتلوها ليلاً، ولما طلع النهار بدأوا يثأرون لمقتل القائد بلجوش، فأخرجوا جميع السكان وأمروا بربطهم الواحد بجوار الآخر، كما أمروا بربط ذراعي كل رجل وراء ظهره، ثم قتل المغول جميع النساء والرجال والأطفال حتى قيل إن عدد من قتل من سكان هذه المدينة بلغ أكثر من سبعين ألفاً و وقد وصف النسوي هذه الحادثة وصفاً يثير الحسرة والألم حيث قال: فساقوهم إلى فضاء وراء البساتين، كأنهم قطعان الضأن تسوقها الرعاة، ولم يمد التتار أيديهم إلى سلب ونهب إلى أن حشروهم إلى ذلك الفضاء الواسعة بالصغار والنساء والضجيج يشق جلباب السماء والصياح يسد منافذ الهواء، ثم أمروا، بأن يكتفوا بعضهم بعضاً ففعلوا ذلك خذلانا، وإلا فلو تفرقوا وطلبوا الخلاص عدواً من غير قتال والجبل قريب، لنجا أكثرهم، فحين كتفوا جاءوا إليهم بالقوس وأضجعوهم على العدى وأطعموهم سباع الأرض وطيور الهوى، فمن دماء مسفوكة وستور مهتوكة وصغار على ثدى أمهاتها المقتولة متروكة وكان عدة من قتل بلسان أهلها ومن انضوى إليها من الغرباء ورعية بلدها سبعون ألفاً ، ويروي النسوي أن المغول انتشروا في خراسان وكانوا كلما حلوا ببلد جمعوا الفلاحين وقادوهم كالأغنام لمساعدتهم في حصار الأماكن التي يرغبون في الاستيلاء عليها وقد استولى الرعب والفزع على النفوس حتى كان الأسير أحسن حالاً ممن أقام في منزله لأنه أصبح لا يعرف شيئاً عن المصير الذي سيؤول إليه وكان المغول يرغمون حكام المقاطعات وأتباعهم على الاشتراك في أعمال الحصار، ومن أبى منهم قتل شر قتله .
جـ ـ مذبحة مدينة مرو: ذهب إلي مدينة مرو جيش كبير من التتار على رأسه بعض أولاد جنكيز خان واستعانوا في هذه الموقعة بأهل بلخ المسلمين، وتحرك الجيش المغولي بقيادة تولوي واستطاع المغول إبادة عشرة آلاف رجل من الخيالة التركمان كانوا يعسكرون على مقربة من المدينة، فاستدرجوهم إلى كمين وقتلوا عدداً كبيراً منهم وفر الباقون بعد أن غنم المغول منهم عدداً كبيراً من قطعان الماشيةالتي نهبوها من مدينة مرو، وفي اليوم التالي أول محرم سنة 618هـ ـ 25 فبراير سنة 1221م ـ سار تولي في خمسمائة من الخيالة لاختيار حصون المدينة ولم يمض أسبوع حتى تجمعت الجيوش المغولية التي أخذت في الهجوم على هذه المدينة، وكان أمام المحاصرين منفذان للنجاة، ولكن المغول فطنوا إلى هذين المنفذين وقضوا الليل على حراسة الأسوار والمنافذ ليحولوا دون خروج الأهالي والجيوش الخوارزمية منها، وفي اليوم التالي أرسل حاكم المدينة وكان يطلق عليه ((مدير الملك))، كبار رجال الدين إلى تولوي يعرضون التسليم، بشرط أن يؤمن من في داخل المدينة فودعهم المغول بتلبية مطالبهم حتى أن مدير الملك خرج بنفسه إلى معسكر المغول يحمل الهدايا إلى تولوي، الذي أكد له سيثبته في حكم هذه المدينة وأعيانها ليخلع عليهم الخلع ويمنحهم الهبات، فأرسل مدير الملك في استدعائهم، ولما حضروا إلى معسكر المغول ربطهم تولوي ومعهم مدير الملك، وطلب منهم أن يعدوا له قائمتين طويلتين.
ـ أما القائمة الأولى: فتضم أسماء كبار التجار وأصحاب الأموال في مدينة مرو.
ـ أما القائمة الثانية: فتضم أسماء أصحاب الحرف والصناع المهرة، ثم أمر ابن جنكيز خان أن يأتي المغول بأهل البلد أجمعين فخرجوا جميعاً من البلد حتى لم يبق فيها ولا واحد، ثم جاءوا بكرسي من ذهب قعد عليه ابن جنكيز خان ثم أصدر الأوامر الآتية:
• أن يأتوا بأمير البلاد وبكبار القادة والرؤساء فيقتلوا جميعاً أمام عامة أهل البلد، وبالفعل جاءوا بالوفد الكبير وبدءوا في قتله واحداً واحداً بالسيف والناس ينظرون ويبكون.
• إخراج أصحاب الحرف والصناع المهرة، وإرسالهم إلى منغوليا الاستفادة من خبرتهم الصناعية هناك.
• إخراج أصحاب الأموال وتعذيبهم حتى يخبروا عن كل مالهم، ففعلوا ذلك، ومنهم من كان يموت من شدة الضرب ولا يجد ما يكفي لافتداء نفسه.
• دخول المدينة وتفتيش البيوت بحثاً عن المال والمتاع النفيس حتى إنهم نبشوا قبر السلطان ((سنجر))أملاً في وجود أموال أو ذهب معه في قبره، واستمر هذا البحث ثلاثة أيام.
• الأمر الخامس، أمر ابن جنكيز خان، أن يُقتل أهل البلاد أجمعون، وبدأ المغول يقتلون كل سكان مرو، الرجال والنساء والأطفال، وقالوا إن المدينة عصت علينا وقاومت، ومن قاوم فهذا مصيره .
وهكذا أصبحت مدينة مرو أثراً بعد عين وهلك سكانها أجميعن الذين قدرهم ابن الأثير بسبعين ألفاً، وأما الجويني فقدر هذا العدد في كتابه تاريخ جهان كشاي فذكر أنه بلغ مليوناً وثلاثمائة ألف رجل عدا الجثث التي كانت في أماكن خفية .
د ـ الانتقام من أهالي مدينة نيسابور: سار توجاشر بعد مذبحة نسا إلى مدينة نيسابور سنة 617هـ/1220م وعزم على الاستيلاء عليها وقد هاجمها بالفعل ولكنه قتل بعد ثلاثة أيام بسهم من سهام أعدائه، وقد وجد القائد الذي حل محله في القيادة أنه لا يملك القوة الكافية للاستيلاء على هذه المدينة فرفع عنها الحصار، تاركاً هذه المهمة الشاقة إلى أن يأتي جيش تولوي وتفرغ للاستيلاء على بعض الحصون المجاورة ، وبعد مقتل أهالي مدينة مرو تحرك تولوي إلى مدينة نيسابور على مسيرة اثني عشر يوماً من مدينة مرو.
وأراد تولوي أن يثأر لموت ((توجاشر)) الذي قتل أمام أسوار هذه المدينة عندما حاول الاستيلاء عليها قبل وصول تولوي بجيوشه، وأما الأهالي فقد أساءوا إلى فصائل المغول التي كانت تظهر تباعاً بالقرب من المدينة، ثم أخذوا أهبتهم للاستعداد عندما علموا أن المغول سيهاجمون المدينة، ولما رأى الأهالي المحاصرون وقواد الجيوش الخوارزمية الجيوش المغولية وقد أحاطت بالمدينة من كل جانب، فقدوا رباطة جأشهم وأرسل الأهالي نواباً عنهم من الأئمة وكبار رجال المدينة، وعلى رأسهم قاضي القضاة في خراسان إلى المعسكر المغولي وعرضوا على تولوي التسليم وتعهدوا بأن يؤدوا للمغول ضريبة سنوية، ولكن تولوي الذي كان صدره يغلي ونفسه تتحرق شوقاً للانتقام لمقتل زوج شقيقته توجاشر، رفض كل العروض التي عرضها عليه أهالي هذه المدينة ، وفي اليوم التالي تفقد تولوي جنده الذين كانوا يرابطون حول المدينة وأخذ يشجعهم، حتى إذا ما حل اليوم الثاني عشر من شهر صفر سنة 618هـ/7 أبريل سنة 1221م أمر بمهاجمة المدينة من كل مكان واستمر القتال طول النهار والليل، ثم استطاع المغول أن يخترقوا الحصون ويحدثوا في حوائطها ثغرات عديدة مكنتهم من دخول المدينة من جميع جهاتها وأصبحت شوارعها ومنازلها مسرحاً للحروب، وأخيراً تمكن المغول من احتلال المدينة، وأخذوا يثأرون بمقتل توجاشر، وقد دخلت زوجة ذلك القائد وهي ابنة جنكيز خان المدينة يصحبها عشرة آلاف رجل وقتلوا كل من صادفهم من رجال ونساء وأطفال، ولم يتركوا حتى القطط والكلاب ، ومما يدل على أن المغول كانوا يتحرقون شوقاً للتنكيل بسكان نيسابور أن تولوي رأى بعض السكان يلتمسون النجاة بالرقاد بين جثث القتلى، فلكي لا يترك فرصة لأحد منهم للنجاة، أمر بقطع جميع رؤوس القتلى ووضع هذه الرؤوس في جانب والأجساد في جانب آخر . وقد استمر تخريب المدينة خمسة عشر يوماً زالت فيها معالمها، ولم يبق المغول إلا على أربعمائة رجل من أصحاب الحرف والمهن للانتفاع بهم، ولكي يطمئن تولوي إلى القضاء على جميع سكان المدينة ترك بعد رحيله عنها عدداً من الجنود قتل السكان الذين قد يظهرون بعد رحيل الجيش المغولي، وقد ظهر فعلاً عدد منهم أجهز عليهم الجيش المغولي،، ومما هو جدير بالذكر أن سقوط هذه المدينة حدث بعد وفاة علاء الدين خوارزمشاه بشهرين .
س ـ خضوع مدينة هراة: سار الجيش المغولي بعد الإجهاز على نيسابور إلى مدينة هراة إحدى مدن خراسان الهامة، ووجه قائده، وهو في طريقه إليها، طائفة من جنده إلى مدينة طوس فدمرتها وخربت مشهد علي بن موسى الرضي وهارون الرشيد ، وأرسل تولوي عندما وصل إلى مشارف هراة ينذر أهلها بالتسليم فأجابوه، بقتل رسوله إليهم، واستعدوا للدفاع عن مدينتهم التي ما لبثت أن هوجمت من جميع جهاتها في وقت واحد، وبعد حصار دام عشرة أيام على رواية ابن الأثير ، وثمانية أيام على رواية غيره ، طلب أهلها التسليم على أن يؤمن المغول حياتهم ووافق تولوي على هذا الطلب مكرهاً، لأن إنقساماً خطيراً حدث في جيشه ومع ذلك لم يف بوعده للأهالي، فقد قتل منهم نحو اثني عشر ألفاً، ثم ولى عليها حاكماً عسكرياً مسلماً، وغادرها بأمر من أبيه جنكيز خان ليلحق به عند مدينة الطالقان . على أن هراة ما لبثت أن ثارت على الحكم المغولي على إثر سماع أهلها خبر انتصارات جلال الدين منكوبرتي التي أحرزها على المغول في إقليم غزنة، الأمر الذي جعل المغول يجردون عليها حملة قاسية، افتتحتها عنوة، وأنزلت بها كثيراً من السلب والنهب، ثم جعلتها طعاماً للنيران . وهكذا خضع إقليم خراسان للمغول، ومما هو جدير بالذكر أنه في الوقت الذي غزا فيه المغول خراسان تركت إحدى القبائل التركمانية التي كانت تسكن بالقرب من مدينة مرو أملاكها تحت تأثير الفزع من ناحية المغول وهاجرت غرباً إلى أرمينية، وبعد ذلك بثمانية أعوام أغار المغول على هذا الإقليم فتركت هذه القبيلة هذا المكان وسارت إلى آسيا الصغرى واستطاع قائدها ((أرطغرل)) مع رجاله الذين كانوا يكونون أربعمائة وأربعين عائلة، أن يقيموا في إحدى المقاطعات التابعة لسلطان السلاجقة الروم في إقليم أنقرة على حدود الدولة البيزنطية، وتحولت الزعامة إلى عثمان الذي استطاع في سنة 700هـ/1300م، بعد أن دب الضعف إلى السلاجقة في آسيا الصغرى، أن يكوِّن له دولة على أنقاض هذه الدولة السلجوقية، واتخذ لنفسه لقب ((سلطان)) ويعتبر عثمان هذا المؤسس الحقيقي للدولة العثمانية.

5 ـ احتلال إقليم غزنة: لما بلغ جنكيز خان أن جلال الدين منكوبرتي وصل إقليم غزنة في جيش كبير، أسرع في المسير إلى هذا الإقليم، وحاصر في طريقه قلعة باميان الحصينة ببعض جيشه الذي كان قوامه ستين ألف مقاتل على حين أرسل معظمه للقاء جلال الدين، وما لبثت قواته أن اقتحمت هذه القلعة، ودخلت المدينة، وهدمت ما بها من جوامع وقصور وأزالت معالم الحياة فيها ، ولما أتم جنكيز خان إحراز ذلك النصر الحاسم على مدينة باميان جاءته، الأنباء بأن جلال الدين تمكن من دحر جيش المغول في السهول القريبة من مدينة بيروان بالقرب من مدينة غزنة، فسار جنكيز خان بمن معه لملاقاته، وكان جنكيز خان قد أرسل في وقت سابق بعض قواته لترابط بالقرب من مدينة كابل وعهد إليها مراقبة تحركات جلال الدين، وتقديم أية مساعدة تحتاج إليها طليعة جيشه التي كانت تحاصر قلعة ((قندهار))، فلما حلت بتلك الطليعة الهزيمة على أيدي جلال الدين منكبرتي، اتجهت هذه القوات المغولية نحو بيروان القريبة من غزنة، ونشب القتال بينها وبين الجيش الإسلامي في السهول المحيطة بهذه المدينة ، ووصل جلال الدين بعد نتصاره في قندهار إلى مدينة غزنة وأخذ يجمع حوله الجيوش استعداداً للقاء المغول، فوافاه للخدمة سيف الدين بقراق الخليجي، وأعظم ملك صاحب بلخ، والأميران: مظفر ملك والحسن قزلق في زهاء ثلاثين ألف فارس، ومعه من عسكره وعسكر أمين ملك مثلها، وهكذا تيسر لجلال الدين أن يجمع جيشاً قوامه ستون ألف مقاتل، ثم سار لملاقاة الجيش المغولي الذي يقوده تولوي بن جنكيز خان، واستمر القتال يوماً، ثم افترق الجيشان عند الليل ليستأنفا القتال في الغداة،ورغم حيل المغول لإرهاب الجيش الإسلامي فقد كان لشجاعة جلال الدين أثرها في هزيمة المغول وفرارهم أمام فرسان الخوارزميين ، وقد وصف النسوي انتصار الخوارزميين على المغول وصفاً أقل ما يقال عنه أنه يعبر تعبيراً صادقاً عن نفسية الخوارزميين في ذلك الوقت، فقد جاء في وصف هذا الانتصار ما يلي: فلما اشتبك الجمعان حمل جلال الدين بنفسه على قلب تولي خان، فبدد نظامه، ونثر تحت قوائم الخيل أعلامه وألجأه إلى الانهزام، وإسلام المقام، وتحكمت فيهم سيوف الانتقام، وركب جلال الدين أكتاف المغول يفصل بالأسياف مجامع الأكتاف، وكيف لا وقد فجعوه بأخوته وأبيه ومملكته وذويه، فترك لا والد ولا مولود ولا عابد ولا معبود، تلفظه النوادي إلى البوادي، وقتل تولي خان في وهج القتال، وكثر الأسر ، وقد انتقم الخوارزميون من المغول انتقاماً شديداً فكانوا يدقون الأوتاد في آذان الأسرة، وجلال الدين ينظر إليهم، ويعلو وجهه البشاشة بما ظفر . وكان من أثر ذلك النصر الذي أحرزه جلال الدين في هذه المعركة أن ثارت على المغول بعض المدن الإسلامية التي كانت قد خضعت لهم، وسلمت من تدميرهم، مثل مدينة هراة، غير أن ثورتها أخمدت في مهدها، كما دب الخوف في قلوب المغول الذين كانوا يحاصرون قلعة ((ولج))، واضطروا إلى رفع الحصار عنها ، وكان انتصار جلال الدين على المغول في سهول بيروان انتصاراً مؤقتاً، فبينما كان يوزع الغنائم على قواته وجنوده اشتد النزاع بين قائدين من كبار قواته على حصان عربي كان كل منهما يريده لنفسه، وبلغ من شدة الخلاف أن ضرب أحدهما الآخر على رأسه بسوط كان يحمله، ولم يرض السلطان عن هذه الإهانة، ولم يقبل القائد المعتدي أن يعتذر عما بدر منه، وكانت النتيجة أن انسحب القائد الآخر بجنوده إلى مدينة ((بيشاور)) إلى حدود الهند، وانضم إليه عدد كبير من الجنود الغورية من مدينة غزنة بعد أن خابت جميع جهود السلطان لاعادتهم ، وبينما كانت قوات المسلمين على هذه الحالة من الفرقة والانقسام إذ وصل جنكيز خان إلى غزنة وهو مصمم على الانتقام لهزيمة جيشه التي حدثت عند مشارف مدينة بيروان، ولم يكن من الرأي في شي أن يجازف جلال الدين بحرب المغول، وجيشه في هذه الحالة، لذا آثر الإنسحاب إلى السهل الواقع غربي نهر السند، وأخذ يعاود مكاتبة المنشقين ويستميلهم إليه ، ورتب الأمير الخوارزمي سنة 618هـ/1221م ما بقي معه من الجيش ترتيباً حسناً، فأسند قيادة الميمنة لقائده آمين ملك وأمره بجعل ظهره إلى منعطف نهر السند، كما أمر قائد الميسرة بالاستناد إلى أحد مرتفعات الجبال في هذه المنطقة، وبقي هو في القلب، ثم نشب القتال، وكادت الهزيمة تلحق بالمغول في البداية، لكنهم ما لبثوا أن اجتاحوا القوات الإسلامية من الخلف، كما هاجموا الميمنة من الإمام مما أدى إلى هزيمة المسلمين ، على أن جلال الدين رغم ذلك لم يستسلم، بل ظل يقاتل وليس معه سوى سبعمائة رجل في شجاعة نادرة، وصفها ابن الأثير بقوله: اعترفوا كلهم أن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال ، وكان هدف جلال الدين من هذا القتال اليائس إحداث ثغرة في صفوف المغول، يتيسر له ولجيشه الهرب منها، غير أنه اضطر إلى أن يولي وجهه شطر نهر السند، وقذف بنفسه وبحصانه فيه من ارتفاع عشرين ذراعاً، واستطاع بهذه الوسيلة أن يعبر النهر إلى الجانب الشرقي، وقد قتل عدد كبير من جنوده وغرق أولئك الذين حاولوا العبور إلى الضفة الشرقية، كما أسر أحد أبنائه وكان في السابعة من عمره، ثم قتله جنكيز خان بين يديه، ولما اقترب جلال الدين من نهر السند، رأى والدته وأم ابنه وحريمه يصحن بالله عليك اقتلنا وخلصنا من الأسر، فأمر بهن فغرقن، وهذه من عجائب البلايا ونوادر الرزايا . ومن الطريف أن جلال منكبرتي احتفظ بذلك الجواد الذي عبر به نهر السند، وكان سبباً في إنقاذ حياته دون أن يركبه حتى استعاد بلاده بعد رحيل جنكيز خان عنها. وكانت الجيوش المغولية تتوق إلى اللحاق بجلال الدين، وهمَّ كثير منهم بعبور النهر غير أن جنكيز خان أسرع ومنع جنوده من تنفيذ هذا العمل، ولما علم جنكيز خان أن عدوه قد أمر بأن يلقي كل ما كان يملكه من ذهب وفضة في نهر السند حتى لا يقع غنيمة سهلة في يد المغول، أرسل بعض رجاله فغاصوا في النهر وأمكنهم أن ينتشلوا بعض هذه الأموال . وبرغم حرج موقف الخوارزميين في هذه الموقعة، ورغم تلك الهزيمة التي حلت بالسلطان الخوارزمي وجنوده، استطاع أربعة آلاف من الجنود الخوارزميين أن ينجوا بأنفسهم بعبورهم من الضفة الشرقية حيث وصلوا، حفاة عراة، كأنهم أهل النشور حشروا فبعثوا من القبور . ومن الطبيعي أن يفرح السلطان جلال الدين بلقاء هذا العدد من جنوده ، وما لا شك فيه أن جلال الدين، في الفترة التي قضاها في بلاد الهند، كثيراً ما كان يظهر بمظهر الكسير الذليل من هول ما أصاب دولته عامة، وأصابه خاصة، بعد موقعة السند وقد نظم ابن الوردي أبياتاً وصف فيها جلال الدين ودولته وكيف انحدر هو ودولته إلى هاوية عميقة، بعد أن قدر لهذه الدولة أن تصل إلى ذروة المجد وقد جاء في هذه القصيدة ما يلي:

من ملك الدنيا ودانت له
فالجهل كل الجهل أن يحسدا
بقدر ما ترفع أصحابها
تحطهم فالرأي قرب المدا
ويلي على المغري بعليائها
سيضحك اليوم ويبكي غدا
تعطيه كالمشفق لكنها
تبطش في الأخذ كبطش العدا
مبتدأ حلو لمن ذاقه
ولكن انظر خبر المبتدأ
غدارة خوانة أهلها
ما زهد الزهاد فيها سدى
لقد كان جلال الدين مضرب المثل في الشجاعة والإقدام، وأعجب خصمه وعدوه جنكيز خان، وقال: هكذا يكون الرجال الشجعان . وقال لرجال دولته: ما أسعد الأب الذي ينجب رجلاً قوياً شجاعاً كهذا، أي جلال الدين، لأن الرجل الشجاع يقدر الرجل الشجاع ولو كان ألد خصومه ، كان إقليم غزنة آخر أقطار شرق الدولة الإسلامية التي غزاها المغول في عهد الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وبعد أن اطمأن جنكيز خان إلى تمكنه من السيطرة على هذه البلاد، وانتقم من قاتلي تجاره ورسله في مدينة أترار ، وأكد المغول سيطرتهم على المناطق الإسلامية الشاسعة ما بين الصين والعراق فثبتوا أقدامهم في كل بقاع الدولة الخوارزمية، وهذا يشمل الآن أسماء الدول الآتية من الشرق إلى الغرب:
1 ـ كازخستان، 2ـ قيرغيزستان، 3ـ طاجيكستان، 4ـ أوزبكستان، 5ـ تركمنستان، 6ـ باكستان، باستثناء المناطق الجنوبية فيها والمعروفة بإقليم كرمان، 7ـ أفغانستان، 8ـ معظم إيران، باستثناء الحدود الغربية لها مع العراق، والتي يسكنها الإسماعيلية، 9ـ أذربيجان، 10ـ أرمينية، 11ـ جورجيا، 12ـ الجنوب الغربي لروسيا .

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 1:27 pm

6 ـ نهاية جلال الدين منكبرتي: لم يقدر للسلطان الخوارزمي الأخير جلال الدين منكبرتي 617 ـ 628هـ أن يصمد أمام المغول أيضاً، فعلى الرغم من انتصاره عليهم عند سهل بيروان القريبة من كابول سنة 618هـ، إلا أنه اضطر إلى الفرار إلى بلاد الهند عبر نهر السند أثر اختلاف قواد جيشه، وتفرق جنده وبالتالي هزيمته أمام جيش جنكيز خان في نفس العام ، وقبل أن يخرج السلطان جلال الدين من الهند سنة 621هـ قرر أن تكون وجهته إلى أقصى الغرب، وبمعنى آخر فإنه آثر أن يضع نفسه وما تبقي من جيشه في أبعد نقطة عن متناول جيوش المغول، ومن ثم فقد اجتاز الصحراء القاحلة التي تفصل بين الهند وإقليم كرمان الذي سارع حاكمه براق الحاجب بإعلان ولائه للسلطان الخوارزمي، بل أنه عرض إحدى بناته عليه ليتزوجها، فقبل السلطان ذلك منه، وتكرر الإجراء نفسه مع سعد الله أتابك إقليم فارس، وعلاء الدين حاكم إقليم يزد . وكانت الخطوة التالية لدى جلال الدين هي الاستيلاء على مدينة أصفهان عاصمة إقليم الجبال الذي يتحكم في المنطقة الغربية من إيران، ومن ثمة انتقل إليها فدانت له، ولما كان أخوه غياث الدين ـ الذي كان يحكم تلك المنطقة من قبل أبيهما السلطان علاء الدين ـ وتوطد حكمه فيما بعد انسحاب المغول منها عائدين باتجاه الشرق، فقد أعلن بدوره انضواءه تحت راية أخيه، فقد أصبح غربي إيران بأكمله واقعاً تحت سلطان جلال الدين الذي أضحت مملكته الجديدة متاخمة لأملاك الخلافة العباسية، وقد ساعدت الظروف السياسية جلال الدين كثيراً، إذ توفي خصم الخوارزميين العنيد الخليفة الناصر لدين الله في شوال سنة 622هـ، ولم يمكث ابنه الظاهر في الخلافة سوى تسعة أشهر، إذ توفي في رجب سنة 623هـ ، فآلت الخلافة إلى ابنه المستنصر سنة 623هـ/640هـ الذي لم يكن يرى الدخول في مواجهات عسكرية ضد الخوارزميين ومن ثمة فقد استقبل في قصر الخلافة في بغداد رسول جلال الدين . ومن ناحية أخرى انشغل المغول في وفاة الخاقان الأعظم جنكيز خان سنة 624هـ ، وانهمكوا في الإعداد للقوريلتاي ((المؤتمر العام الذي يناط به اختيار الخان الجديد))، مدة عامين أدار خلالهما تولوي ابن جنكيز خان دفة الأمور حتى تم انتخاب أوكتاي ثالث أبناء جنكيز خان خاقاناً أعظم مكان أبيه سنة 626هـ ـ 1229م . وفي تلك الأثناء كان السلطان جلال الدين قد انطلق شمالاً إلى أذربيجان التي دانت له، فواصل الزحف شمالاً حيث هزم الكرج المسيحيين واستولى على عاصمتهم تفليس، وانتقم منهم بما ارتكبوه من فظائع في حق المسلمين وبخاصة في إقليم أذربيجان المجاور .
أ ـ بداية النهاية لجلال الدين منكبرتي: وجاء استهلال الخوارزميين في الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة 627هـ على مدينة أخلاط التابعة ـ آنذاك ـ للملك الأشرف بن العادل الأيوبي بداية لنهاية سلطان جلال الدين منكبرتي الذي تعرض جيشه لهزيمة مريرة أمام تحالف جيش الأيوبيين وسلاجقة الروم في الثامن والعشرين من رمضان سنة 627هـ على مقربة من أذربيجان، فانهزم السلطان إلى أذربيجان وأرسل جنوده إلى صحراء موغان لينالوا قسطاً من الراحة . ولم يضيع الإسماعيلية في آلموت الفرصة السانحة ـ بعد أن ذاقوا الأمرين على يد السلطان جلال الدين من قبل حتى إذ اضطرهم إلى دفع أتاوة سنوية له، فراسلوا المغول حتى ينهضوا للقضاء عليه، قبل أن يسترد قوته، وفي الحقيقة لم يكن المغول في حاجة إلى تحريض من الإسماعيلية أو غيرهم، وقد جاء إنتخاب أوكتاي بن جنكيز خان سنة 626هـ خاناً أعظم للمغول إيذاناً بتنفيذ استراتيجية مغولية جديدة تمثلت في غزوات عسكرية متوالية على جبهات ثلاث هي جنوبي الصين، وغربي إيران، وشرقي أوربا، وبالتالي أصبح غربي إيران بخاصة الشمال الغربي هدف أساسي للمغول، حيث يكمن عدوهم اللدود السلطان الخوارزمي جلال الدين وسرعان ما بادر هذا الأخير ـ رغم الخلاف ـ إلى مكاتبة الخليفة العباسي المستنصر بالله، والملك الأشرف الأيوبي صاحب دمشق والجزيرة والسلطان علاء الدين كيقباذ سلطان سلاجقة الروم، وغيرهم من أمراء المسلمين، حكام ميافارقين وماردين وآمد يستنجد بهم كي يرسلوا إليه جيوشاً من عندهم تعاونه على مجابهة هذا الخطر الذي يتهدد المسلمين جميعاً، فأحجم هؤلاء كلهم عن مناصرته .
ب ـ اختلال في التوازن العسكري: أسفرت الهزيمة السابقة عن نتائج خطيرة أثرت على ما تلاها من أحداث، فقد أصيب الجيش الخوارزمي بنكسة فادحة، تمثلت في آلاف القتلى والأسرى، وفي اضطراب نظامه وفقدان السيطرة عليه ، وسقوط هيبته بين القوى العسكرية المجاورة له بعد أن كانت تخشى بأسه وسطوته، وقد أدى هذا الاختلال في التوازن العسكري إلى ظهور مؤشرات سياسية لدى القوى السياسية في المنطقة فقد أيقن معظم أمراء الجزيرة أن الموقف الجديد يحتم عليهم سرعة الانضواء تحت الهيمنة الأيوبية التي يمثلها الملك الأشرف المقيم بدمشق، والمؤيد من قبل أخيه الكامل في مصر، ومن جانب آخر أصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام سلاجقة الروم كي تمتد أطماعهم إلى كثير من المدن التي كانت خاضعة لسلطان الخوارزميين شرقي مدينة أخلاط ، كذلك لم تتأخر مملكة الكرج المسيحية عن إزالة السيطرة الخوارزمية عن أراضيها وبخاصة العاصمة تفليس ، ولم تلبث بعض المدن المهمة مثل تبريز وكنجة أن أظهرت عصيانها للخوارزميين واجترأت على قتل البعض منهم، وشرعت طائفة الإسماعيلية في آلموت في المماطلة في أداء الأتاوة المقررة عليها من قبل السلطان الخوارزمي . وأما الخطر الأكبر وهو المغول فقد أصبح هجومه وشيكاً جداً بعد أن وصلت طلائع جيشهم إلى مدينة الري، وانفتح الطريق أمامهم، نحو إقليم أذربيجان حيث تناثرت بقايا الجيش الخوارزمي المهزوم، كل هذه المؤثرات كانت تنبئ بزوال الدولة الخوارزمية وأفول نجم سلطانها الأخير جلال الدين منكربتي .
جـ ـ الأخطاء التي وقع فيها جلال الدين منكبرتي في مرحلته الأخيرة: كانت المؤشرات تتسارع لتدلنا على حتمية زوال الدولة الخوارزمية، وأفول نجم سلطانها الأخير جلال الدين منكبرتي الذي قد كان وقع ـ عقب هزيمته السابقة ـ في أخطاء عديدة منها:
ـ ضعف نظام استطلاعه، فقد وقعت إحدى سراياه في أيد المغول عند مدينة الري، بينما أعطت سرية أخرى معلومات خاطئة عن عودة المغول، وتخاذلت الثالثة، فلم يذهب أفرادها إلى مازندران أو خراسان، كما أمر بذلك السلطان الخوارزمي نفسه.
ـ إعتقاده الخاطئ أن المغول سيقضون الشتاء بالعراق العجمي، وأنهم لن يتعدوه في أذربيجان إلا في الربيع، فكانت مباغتتهم له على غير استعداد منه فاضطر إلى ترك نسائه بالعراق على مقربة من مدينة تبريز وسارع هو إلى موقان ليجمع عساكره المتفرقة هناك .
ـ إلحاحه في مكاتبة الملك الأشرف الأيوبي صاحب الجزيرة وأخلاط رغم نصح خلصائه له بعدم جدوى ذلك، خاصة وأنه ـ أي جلال الدين ـ قد دخل بزوجة الملك الأشرف الكرجية ـ نسبة إلى بلاد الكرج ـ في ليلة اقتحامه مدينة أخلاط، وأصر على الاحتفاظ بها حتى بعد انهزامه من جيش الملك الأشرف وحلفائه سلاجقة الروم سنة 627هـ .
ـ تجريده ستة آلاف فارس خوارزمي/ رغم حرج موقفه بعد الهزيمة السابقة واقتراب خطر المغول منه للهجوم على مدن خرتبرت وملطية وأرزنجان انتقاماً من خصمه علاء الدين كيقباذ سلطان سلاجقة الروم، فأغار هؤلاء الفرسان الخوارزميين على تلك المدن الرومية وساقوا إلى المعسكر الخوارزمي الكثير من الغنائم حتى بيعت عشرون غنماً بدينار ، وكشف هذا الإجراء من قبل السلطان الخوارزمي عن فقده بصيرته السياسية إذ أنه بذلك قد بدد أية بارقة أمل في احتمال حدوث تغيير في موقف سلاجقة الروم معه في صراعه المحتوم ضد المغول المتجهين نحوه .
ـ انخداع السلطان الخوارزمي برسالة الملك الأرتقي المسعود بن أرتق صاحب آمد الذي أخذ يحرضه على غزو بلاد سلاجقة الروم واعداً إياه بالمساعدة العملية في هذا الغزو بإمداده بخمسة آلاف فارس من قبله، وبالفعل عزف السلطان الخوارزمي عن الإتجاه إلى مدينة أصفهان عاصمة إقليم الجبال وغير مساره نحو آمد، فلما طارده المغول التجأ إليها طالباً الاحتماء بأسوارها، رفض الملك المسعود فتح أبوابها له، وقذفه أهلها بالحجارة، فارتد عنها حسيراً، مضطراً إلى مواجهة المغول وحده.
ـ وضع ثقته المطلقة في"أوتر خان" الذي كان يصله بقرابة من ناحية الخؤولة إلا أنه كان يخادعه خوراً وجبناً، فأوهمه مرة أن المغول قد رجعوا من عند حدود منازجرد وأشار عليه في أثناء الفرار إلى آمد التي رفضت استقباله، بالعودة من نفس الطريق الذي سلكه المغول إليه، فرجع برأيه ليكون هلاكه في جميع الوجوه بتدبيره، كما يقول النسوى ثم تركه في نهاية المطاف ليلقى مصيره وحده وتوجه هو إلى الملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين لما كان بينهما من مكاتبات ، وقد وقع جلال الدين في بعض الأمور والأخطاء الشنيعة والتي منها:
ـ انكبابه على تعاطي الخمر مع ندمائه وخاصته في ساعات الحرج التي أحدق فيها المغول به، حتى أوشك بعضهم أن يدخل عليه خيمته، وهو نائم سكران لا يملك من أمر نفسه شيئاً، مخالفاً بذلك تعاليم الدين الإسلامي من ناحية، وشرف الجندية الذي يلزم القائد وجنده ـ في ميدان الحرب ـ بإعمال العقل والتركيز بدلاً من الوقوع تحت طائلة التخاذل والتشويش من ناحية أخرى .
ـ حادثة خادمه قلج وهو فتى خصي جميل الصورة، كان جلال الدين يرعاه فاتفق أن هذا الخادم مات، فأظهر الهلع والجزع عليه ما لم يسمع بمثله وأمر الجند والأمراء أن يمشوا في جنازته رجالة، ومشى بعض الطريق راجلاً فألزمه أمراءه ووزيره بالركوب، فلما وصل إلى تبريز أرسل إلى أهل البلد فأمرهم بالخروج على البلد لتلقي تابوت الخادم، ففعلوا، فأنكر عليهم حيث لم يبعدوا ولم يظهروا من الحزن والبكاء، أكثر مما فعلوا وأراد معاقبتهم على ذلك فشفع فيهم أمراءه فتركهم ثم لم يدفن ذلك الخصي واستصحبه معه حيث سار وهو يلطم ويبكي ثم امتنع عن الأكل والشرب وكان إذا قدم له طعام يقول: احملوا منه إلى قلج ولا يتجاسر أحد أن يقول أنه مات، قتل القائل فكان يحملون إليه الطعام ويعودون ويقولون: إنه يقبل الأرض ويقول: إنني الآن أصلح مما كنت، فلحق أمراءه من الغيظ والأنفة من هذه الحالة ما حملهم على مفارقة طاعته والانحياز إلى وزيره، فبقي حيران لا يدري ما يصنع ولا سيما لما خرج المغول عليه . وأما الوزير فقد انسحب صوب حيزان، فأعاد تعميرها وجاهر بالعصيان فيها وبادر إلى مكاتبة الملوك وإصلاح حاله معهم على أن يملك آران، وأذربيجان بنفسه، ثم يقيم لهم الخطبة فيهما، فكاتب علاء الدين كقيباذ والملك الأشرف باذلا الطاعة لهما وناعتاً سلطانه جلال الدين بالظالم المخذول في كتبه، وقد تمادى الوزير في عصيانه حتى أنه قبض على كل من عبر بحدود قلعته من أصحاب السلطان في أثناء الجفلة من المغول، ووضعهم تحت العذاب ثم استلب أموالهم ، بل أنه كاتب حسام الدين قلج أرسلان أكبر أمراء التركمان في آران يأمره بالاحتراز على ما عنده من حرم السلطان وخزائنه، وإنه إن حضر السلطان بنفسه لم يسلمها إليه ، فاضطر جلال الدين إلى مراسلة الوزير واستمالته ومخادعته إلى أن حضر عنده، فلما وصل إليه أبقاه أياماً ثم قتله .
ـ إصداره الأمر ـ لما داهمه المغول آخر مرة ـ إلى قائد جيشه أورخان أن يفارقه بمن معه من العسكر حتى يتبعه المغول ويخلص هو بمفرده، وقد أخطأ في ذلك ـ كما يقول النسوي ـ فإن أورخان لما فارقه انضوى إليه من شذاذ العسكر خلق ، ووصل إلى أربل ومعه أربعة آلاف فارس، وساق إلى أصفهان وملكها زماناً إلى أن قصدها المغول، وظل على قيد الحياة بفارس إلى سنة 639هـ وهي نفس السنة التي كتب فيها النسوي كتابه المشهورسيرة السلطان جلال الدين منكبرتي
س ـ مقتل جلال الدين منكبرتي: حرص أوكتاي على إتباع وصية والده جنكيز خان في الاستمرار في إنجاز مخططاته في الاستيلاء على العالم، فعهد إلى قائد مغولي بارز يدعى ((جرماغون)) بقيادة حملة مغولية جديدة تتجه نحو الغرب للقضاء على جلال الدين وحينما اقتربت جيوش المغول وشعر جلال الدين خورازمشاه بالخطر يطبق عليه وأحس بضعفه أمامهم، أخذ يكاتب سلاطين المسلمين وحكامهم، يستنجدهم ويدعوهم لنجدته والوقوف في وجه أعداء الإسلام، ومما كان يقوله لهم في كتبه حسب رواية المؤرخ الوزير عطا ملك الجويني: إن جيشاً جراراً من عساكر التتار كأنه النمل والثعابين من حيث الكثرة والقوة قد تحرك نحونا، فإذا ترك وشأنه فسوف لا تصمد أمامه القلاع والأمصار، وقد تمكن الرعب في قلوب الناس في هذه المنطقة، فإذا هزمت وخلا مكاني بينكم، فلم تستطيعوا مقاومة هذا العدو، وإذن فأنا لكم بمثابة سد الأسكندر، فليسارع كل منكم إلى إمدادنا بفوج من الجنود، حتى إذا ما وصلهم نبأ إتفاقنا وإتحادنا فترت قوتهم وفت في عضدهم فيتشجع جنودنا ونقوى عليهم ، وبالرغم من خطورة ذلك الوضع لم يستجب لاستغاثات جلال الدين خوارزمشاه، لا خليفة بغداد، ولا سلاطين المسلمين، وحكامهم، بل تركوه وحده يواجه مصيره المحتوم، وفي تلك الأثناء كان المغول يستهدفون جلال الدين ويركزون جهودهم للقضاء عليه، وفهاجم جرماغون أقاليم جلال الدين واستولى على الري ثم همدان وواصل الزحف حتى حدود أذربيجان، وكان جلال الدين خوارزمشاه، يناوش عسكر المغول وينسحب من موضع لآخر وهم يلاحقونه حتى إنتهى به المطاف في موضع في أعالي دجلة، وهناك وقف جلال الدين للمغول وقفته الأخيرة واشتبك معهم في معركة قاسية إنتهت بتمزيق جيشه بعد أن تكبد خسائر فادحة بالأرواح، غير أن جلال الدين نجا وتمكن من الفرار من ساحة المعركة، وظل يتنقل مختفياً من مكان إلى آخر، حتى دخل جبال الأكراد، وكان ذلك في سنة 628هـ ، وانتهى به الأمر إلى الوقوع في قبضة بعض هؤلاء الأكراد، فقتله أحدهم في منتصف شوال سنة 628هـ أغسطس سنة 1231م . وهنأ جماعة من الأعيان الملك الأشرف صاحب دمشق بمقتل جلال الدين فأجابهم قائلاً: تهنئونني بهذا سوف ترون غب هذا، والله لتكونن هذه الكسرة سبباً لدخول التتار لبلاد الإسلام، ما كان الخوارزمي إلا مثل السد الذي بيننا وبين ياجوج وماجوج . وأمر الملك شهاب الدين غازي الأيوبي صاحب ميافارقين بإحضار من قتله فأحضروه فأقر بقتله، وأحضر فرسه وسرجه وسيفه، وكان ((أوتر خان) السابق ذكره وجماعة من خواص السلطان الخوارزمي قد وصلوا إلى شهاب الدين غازي، فأنزلوا في قصره فأمر شهاب الدين بحمل جثمان السلطان جلال الدين ليلاً من القرية، فلما جاءوا قال لأوترخان: أنظر هل هو هذا؟ فلما رآه بكى وقال: نعم، فدفنوه ليلاً، وأخفوا قبره مخافة أن ينبش .
ك ـ التمزق الخوارزمي: بعد هزيمة المغول للخوارزميين ومقتل جلال الدين تفرقت جموع الخوارزميين وتمزقت في كل وجه، فقد انسحب خال جلال الدين ومن معه إلى الملك الظاهر شهاب الدين غازي، صاحب ميافارقين، على حين اتجهت زوجة السلطان وسراريه وخدامه وقطعة كبيرة من عسكره إلى مدينة حران وطلبوا أماناً من الأمير صواب نائب الجزيرة من قبل الأيوبي الكامل، فأمنه ثم غدر به، فنهبهم عسكره وأخذوا أموالهم، وأحيط بزوجته في قلعة حران، ثم استدعيت إلى دمشق فأقامت بها ، وأما حظية السلطات التي كان قد تركها مع أحد أصحابه قبيل هجوم المغول، فإنه لما سمع بفقد السلطان وصح ذلك عنه، أخذها ومضى بها إلى بغداد، وأهداها إلى الخليفة العباسي المستنصر بالله، فكانت عنده من أجل حظاياه إلى أن ماتت في أيامه ، وتوزعت طوائف أخرى من الخوارزميين ما بين نصيبين والموصل، وسنجار وإربل، وغير ذلك من البلاد فتخطفهم الملوك والرعايا، وطمع فيها كل أحد حتى الفلاح والبدوي وغيرهم، وقصد الجزء الأكبر من الخوارزميين بلاد سلاجقة الروم، فأقطعهم السلطان علاء الدين كقيباذ بن كيخسرو بلاداً لمعيشتهم واستخدمهم على حين انهزم كثيرون منهم إلى ترابزون ـ الواقعة على الساحل الجنوبي للبحر الأسود ـ وبلاد الكرج المجاورة ، وهكذا تبعثرت بقايا الخوارزميين في عدة أنحاء من الشرق الأدنى الإسلامي، فكان من المتوقع ذوبانهم في إحدى هذه الأنحاء، أو كلها، غيرأن الظروف السياسية التي أحاطت بالشرق الأدنى الإسلامي آنذاك هيأت لهم الفرصة في الاستمرار كقوة عسكرية مؤثرة تدخلت في أدق الصراعات السياسية والعسكرية، حتى توافق لها استرداد بيت المقدس من أيدي الصليبيين سنة 642هـ فظل في أيدي المسلمين حتى قيام الحرب العالمية الثانية . وقد بينت نهاية الخوارزميين في كتابي عن الحملات الصليبية الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة.

خامساً: أسباب زوال الدولة الخوارزمية: إن أسباب سقوط الدولة الخوارزمية كثيرة، جامعها الابتعاد عن تحكيم شرع الله في النظم السياسية والمالية والاجتماعية والعسكرية والأخلاقية..الخ، فعندما يغيب شرع الله في أمور الحكم يجلب للأفراد والدولة والشعوب المنضوية تحتها تعاسة وضنكاً في الدنيا، والمعروف أن السبب في زوال الدولة الخوارزمية وجلب كارثة المغول على الأمة، هو خطأ ارتكبه السلطان علاء الدين محمد خوارزمشاه وذلك أنه أمر بقتل التجار التتار الذين دخلوا بلاده لممارسة التجارة، ولما أرسل إليه جنكيز خان سفيراً يسأله عن سبب قتل التجار، قتله أيضاً، فاشتعل جنكيز خان غضباً، وقام بحملة هوجاء على مملكة خوارزمشاه ثم على عالم الإسلام كله ، وإذا تأملنا في القرآن الكريم في ضوء سنن الله الخالدة لنتائج الأعمال والأخلاق، وإزدهار الأمم وإنحطاطها الذي أشار إليه القرآن، لا سيما ما ذكره في بدء سورة الإسراء من تدهور بني إسرائيل وإفسادهم في الأرض، وعلوهم وتمردهم، وما جرى ذلك من زحف الملوك الظالمين، وتسلطهم على بني إسرائيل وخراب المسجد الأقصي، يبدو أن السبب الحقيقي في هذه الفتنة الكبرى والمحنة التي أصيب بها العالم الإسلامي، ليس أن يقترف ملك أو حاكم من خطأ في التدبير والسياسة فيتدفق سيل عرم من المحن والبلاء، ويفاجئ العالم الإسلامي وتصاب الأمة الإسلامية بهذه الفتنة العمياء، ـ التي لم تكن تتوقعها ولا تستحقها، لمجرد أن يخطئ فرد من أفرادها، وإذا حملنا نبراس القرآن في يدنا، واستعرضنا أوضاع المسلمين الخلقية والدينية، والمدنية والسياسية في ذلك العصر تحقق لنا كالشمس في رابعة النهار، أن هذه الحادثة المشئومة لم تكن مفاجئة وإنما هناك أسباب أكثر عمقاً وأصالة مما ظنه الناس وذكروه ، إن هلاك الأمم وسقوط الدول وزوال الحضارات لا يحدث عبثاً في حركة التاريخ، بل نتيجة لممارسة هذه الأسرة الحاكمة أو الدولة أو الأمة الظلم والانحراف، وبعد أن يعطوا الفرصة الكافية، حتى تحق عليهم الكلمة فيدفعوا ثمن إنحرافهم وإجرامهم وطغيانهم وفسقهم، والآيات صريحة في ذلك، إذا أنعم على دولة نعمة أيا كانت فهو لا يسلبها حتى يكفر بها أصحابها ، قال تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الأنفال،آية:53)، والآيات في هذا كثيرة، سواء ما يخص الفرد أو الأمة، بل إن القرآن الكريم ليذكر أن بعض ما يصيب الأمم والأفراد من استدراج حين يمهلهم الله تعالى وتواتيهم الدنيا، وتفتح عليها خيراتها فينسوا مهمتهم وما خلقوا له، بل ينسون المنعم جل جلاله، وينسون ما عندهم لجهدهم وذكائهم وقد يفلسفون الأمر فيقولون لو لم نكن نستحق هذه النعم لما مُنحت لنا وفي هؤلاء يقول تعالى:"فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيءٍ حتى إذا فرِحوا بما أُوتوا أخذنهم بغته فإذا هم مبلسون* فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين*" (الأنعام آية 44ـ45) والمهم أن الله تعالى لا يحجب نعمة عن أحد، بل يوزعها على المؤمن والكافر ثم يراقب الكل فيها فمن طغى وظلم ومن كفر بها واستعملها استعمالاً سيئاً فإن العقاب العادل سينزل به في الوقت المناسب وقد يطول ذلك العهد قبل نزول العقاب ولكنه يكون في الطريق وبعد هذا وذلك فإنه"لا يكلف الله نفساً إلا وُسعها" (البقرة، آية: 286).
ومن الملاحظ في دراسة أسباب سقوط الدول والحضارات بأنها لا تسقط بسبب واحد، بل تتجمع عدة أسباب لقيامها، وعدة أسباب لتدهورها وسقوطها، بعضها يعمل ببطء بينما البعض الآخر بسرعة أكبر، ولا تسقط الدولة بضربة واحدة بل بتضافر جملة من العوامل ، وهذا ما حدث للدولة الخوارزمية التي زالت من الوجود في المشرق الإسلامي بعد الإجتياح المغولي لديار المسلمين وأهم هذه الأسباب في نظري.
1 ـ فشل الخوارزميين في إيجاد تيار حضاري: صدر عن الملوك الخوارزميين خطأ كبير وذلك أنهم بذلوا كل قواهم في توسيع رقعة الملك، ودعمه وقمع الحصون، ولم يبذلوا أي إهتمام بتبليغ رسالة الإسلام إلى ذلك القسم البشري الذي يعيش بجوار حدودهم، وكان بنفسه عالماً مستقلاً، وبصرف النظر عن الدافع الديني والواجب الإسلامي، كان مُقتضى الحزم السياسي وبعد النظر، أن يعنوا بإيجاد الإنسجام العقائدي مع هذه الدنيا الإنسانية الواسعة، وبذلك يكونوا قد أقاموا حولهم سياجاً، يحفظهم عن ذلك الخطر الذي لم يواجههم وحدهم فحسب، بل اكتسح المسلمين كلهم ، ولم يستطع الخوارزميون أن يقدموا مشروعاً حضارياً يجدد حيوية الدولة ويرسم أهدافها ويدفعها بقوة نحوها، وإنما دخلوا في أنفاق مظلمة انتهت بزوال دولتهم، لقد اتسعت الأرض التي يقومون فوقها، ولم يستطيعوا تحويل المناوئين لهم إلى عاملين معهم في مجال الدعوة ونشر الإسلام ودعوة الأمم وتعليمها وتربيتها على الإسلام الصحيح وتعليم الشعوب دين الله سواء باللغة العربية وبترجمة حقيقة الإسلام للغات الشعوب المسلمة، فقد كان المطلوب منهم تحقيق التوازن بين الدولة والدعوة، والأرض والعقيدة، والسياسة والفكر، وكانت هذه رسالة عظمى، لم يتقدم فيها الخوارزميون كما تقتضي الظروف والتحديات ، وكما تقتضي الملائمة للتحدي، وهذا الخطأ الكبير، فحقيقة الأمرأنهم لم يبعثوا بتيار حضاري يتمم تيارات الفتوحات ويكمله، ويمتص كل حركات الخروج والفتن فهكذا التاريخ الحضاري دائماً إما أن تتقدم أو تموت ولا سكون في تاريخ الإنسانية .
2 ـ كره الشعب لنظام الحكم وعدم ولائه: لم يستطع سلاطين الخوارزميين توحيد شتات العالم الإسلامي في المشرق، بل كان حكمهم بغيضاً في جميع أقاليم شرق العالم الإسلامي ولم يحظ حكمه بالقبول في بلاد الجبل، ولا بلاد خراسان، وأقاليم مقاطعاته وأصقاع مدنه وتوابعها، كما لم يحظ الاحترام في بلاد الغور، ولا في بلاد أفغانستان، وكان مكروهاً مبغوضاً في ما وراء النهر، فلم ينسوا مجزرة أهالي سمرقند، التي بلغ عدد المذبوحين قرابة مائتي ألف إنسان، كما لم يتعاون السكان بجميع فئاتهم وطبقاتهم مع السلطان الخوارزمي ولا حتى مد يد الغوث له، أثناء هروبه ومطاردة المغول له، وشق ((جبه نويان، وسوبتاي بهاري)) مملكة الشاه الخوارزمي من شرقها إلى غربها يطاردون سلطانها، ولم يحظ بعون أحد، لا من جنده، ورجال عسكره، وحماياتهم في المدن التي مر بها، ولا من إدارات حكومته ومواطني هاتيك المدن وأقاليمها، كانوا ينظرون إليه ويدلون المغول على الطريق الذي سلكها، والسبل التي سار إليها محاولة منهم بمساعدة المغول لاصطياده، فشعبه لم يكن راضياً عنه، وعلماء دولته يكنون له كرهاً عميقاً، وعلى اختلاف مذاهبهم شافعية أم أحناف كان يسجنهم ثم يقتلهم ثم يلقي بهم في ماء جيحون، وعلى رأسهم برهان الدين محمد أحمد المعروف بـ((صدر جيهان)) وأبو سعيد مجد الدين البغدادي وجلال الدين، إمام سمرقند، وابنه شهاب الدين، وأخيه أوحد الدين ، وأما الحكام القراخانيون، فقد صفاهم واحداً واحداً، بالتعاون مع أمه نفوا بعضهم إلى مدن موبوءة، بقوا فيها حتى ماتوا، وآخرون زجوا بهم في السجون ثم قتلوهم، والقوا بجثثهم في ملء جيحون، مثل السلطان عثمان الذي ذبح كما تذبح الشاه، وتاج الدين بلكا خان، الذي قتله جلاد الشاه جيهان بهلوان، فحز رأسه دونما ذنب اقترفه، وهكذا فعل مع بقية الأمراء، والحكام وعلية القوم في مملكته، وكان الشعب لا يكن حباً له، بل كرهاً عميقاً قد تأصل في نفوسهم، لظلمه وجبروته وتعسف جنده بهم في شتى مناطق البلاد التي أخضعها بالحديد والنار بجنده الأتراك: لقد كانت الرحمة والشفقة بعيدتين كل البعد عنهم، وكانت تصرفاتهم الرعناء، وجلافتهم الهمجية وعنفهم وأرواحهم الشريرة هي التي تسببت في سقوط أسرة السلطان ، وأما جلال الدين بن السلطان علاء الدين، فقد كان هو الآخر مبغوضاً، مكروهاً، لأنه أحاط نفسه بجند شبه مرتزقة، فلم يتعاون الحكام المسلمون غرب إيران مثل السلاجقة والأيوبيين، وحاكم بغداد العباسي، مع جلال الدين لغلوه في التكبر والغطرسة، ومحاولة فرض نفوذه، وتكوين مملكة له في المنطقة بالقوة، وعلى حساب الشعوب والملوك الآخرين .
3 ـ النزاع الداخلي في الأسرة الخوارزمية: إن سنة الله تعالى ماضية في الشعوب والأمم لا تتبدل ولا تتغير، ولا تجامل وقد جعل الله سبحانه وتعالى من أسباب هلاك الأمم وزوال الدول الاختلاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإن من كان قبلكم اختلقوا فهلكوا" وفي رواية ((فأهلكوا))، "وعند ابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه، فإنما أهلك من كان قبلكم بالاختلاق ".
إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن نتوقى الهلاك بتوقي أسباب الاختلاق المذموم لأن الاختلاق كان سبباً في ضياع الدولة الخوارزمية وهلاكها وإندثارها وكان لهذا الاختلاف الذي وقع فيه البيت الخوارزمي أسبابه منها: ضعف الوازع الديني والأنانية وحب الذات والتكالب على المصالح الدنيوية والتناحر من أجلها والحرص على السلطة والجاه والمنصب، فهذه الأسباب كانت وقوداً للمنازعات والخلافات التي وقعت بين أفراد البيت الخوارزمي فكانت من أكبر معاول الهدم وأسباب الضعف وتلاشي الدولة، وقد استقرأ هذه الحقيقة ابن خلدون حيث ذكر أن من آثار الهرم في الدولة انقسامها وأن التنازع بين القرابة يقلص نطاقها كما يؤدي إلى قسمتها واضمحلالها . لقد بدأ الخلاف المؤثر في الأسرة الخوارزمية بالصراع بين علاء الدين الخوارزمي ووالدته تركان خاتون التي كونت لها عصبية قوية من قوات عشيرتها حتى أصبح نفوذها في الدولة لا يقل عن نفوذ السلطان نفسه، من ذلك أنه كان إذا حدث حادث من جهة من جهات الدولة، أو عرضت مشكلة من المشاكل وصدر فيها حكمان متناقضان أحدهما من السلطان والآخر من تركان خاتون، نظر في تاريخ كل من الحكمين ونقض أحدثهما . وهذا ينافي تماماً ما يجب أن يكون في مثل هذه الأحوال من حيث احترام أوامر السلطان مهما كان تاريخ الأوامر التي تصدرها تركان خاتون ولذلك نرى أن نفوذ هذه السلطانة وعشيرتها قد توغل في الدولة مما أضعف هيبة حكامها، وفضلاً عن ذلك فإن السلطان علاء الدين خوارزمشاه كان لا يخالف لأمه أمراً، لكونها أمه، وبسبب كثرة أمراء الدولة وحكامها الذين كانوا من عشيرتها، ولنضرب مثلاً لقوة تركان خاتون وتغلغل نفوذها في الدولة، فقد أمكنها أن ترفع أحد المقربين إليها وهو نظام الملك إلى منصب الوزارة ورغماً عن السلطان الذي لم يكن يميل إليه بسبب تجرده من الصفات الخلقية التي يجب أن يتحلى بها صاحب هذا المنصب، ففضلاً عن أنه كان من الرجال المرتشين، فإنه عرف أيضاً بالتلكؤ في البت فيما يعرض عليه من الأمور، وقد حدث أن كان علاء الدين في مدينة نيسابور وأسند منصب القضاء فيها إلى صدر الدين الجندي، الذي كان من بيت تقلد كثير من أفراده كثيراً من وظائف الدولة، كما كان من أهل العلم والفضل، وبعد أن قلده علاء الدين هذا المنصب حذره من أن يرسل الهدايا إلى الوزير، كما يفعل أكثر الحكام، ولكن القاضي أدرك ما يترتب على عدم إرسال الهدايا إلى الوزير، وخاصة بعد أن هدده هذا بسوء المصير، وحدث بعد ذلك أن أرسل القاضي إليه فعلاً كيساً مختوماً به أربعة آلاف دينار مخالفاً في ذلك أوامر السلطان، ولما علم علاء الدين ذلك، أرسل إلى الوزير يطلب منه الهدية، فاضطر أن يرسلها إليه مختومة كما وصلته، ولما مثل القاضي في حضرته سأله عن نوع الهدية التي أرسلها إلى الوزير، فأجاب القاضي بأنه لم يرسل شيئاً وأقسم برأس السلطان على ذلك، فلما واجهه بالهدية أسقط في يده واعترف بالأمر، وحينئذ أصدر السلطان أمره بعزله وعزل الوزير ، والمهم من هذا كله، أن أحداً لم يجرؤ على أن يفاتح الوزير المعزول بخبر عزله ولم يستطع السلطان تنفيذ ما أمر به، ونلاحظ تركان خاتون عهدت بعد ذلك إلى نظام الملك لإدارة أملاك ابنها ((أزلاغ شاه)) الذي كان يحكم إقليم خوارزم، وسار الوزير في حكم هذا الإقليم سيرة تتفق مع طبيعته الشريرة، ونهب بعض أموال هذه الأقاليم، ولم علم السلطان بذلك ثارت ثائرته وأوفد أحد قواده إلى إقليم خوارزم، وأمره بأن يحضر إليه رأس الوزير، وكان طبيعياً ألا يرضي هذا الأمر أم السلطان وأمرت باستدعاء هذا القائد عقب وصوله وأمرته بأن يحضر إلى الديوان عندما يكون الوزير هناك وأن يجيبه باسم السلطان ويقول له: إن السلطان يقول لي ما لي وزير غيرك فكن على رأس عملك فليس لأحد في سائر أقاليم الملك أن يخالف أمرك وينكر قدرك، وقد اضطر القائد أن ينفذ ما أمر به واستمر نظام الملك يتمتع بسلطة واسعة رغم غضب السلطان عليه، كما استمرت أوامره نافذة في خوارزم وخراسان ومازندران ، لقد كان نفوذ تركان خاتون الكبير في شؤون البلاد وانعدام الوفاق بينها وبين ابنها قد زلزل أساس الدولة الخوارزمية، خاصة أن تركان خاتون وجنودها المرتزقة من عشيرة قنقلي قد وضعوا الممالك الأصلية في الدولة الخوارزمية تحت إدارتهم المستقلة وعينوا أقرباءهم في إدارة معظم شؤون الممالك المفتوحة أيضاً ولم يكن السلطان محمد حيلة حتى في اختيار ولي عهد مملكته ووزيره سوى النزول على رغبة والدته ، وكانت دائرة قوة تركان خاتون هي ولاية خوارزم وكان معظم الجيش وقادته ورجال الدولة في تلك المنطقة إما من أتراك قنقلي أو من خواص الملكة وغلمانها وقد تم تعيين نظام الملك محمد بن صالح في منصب الوزارة واختيار أوزلاغ شاه ولياً لعهد خوارزمشاه بأمر منها وعلى خلاف رغبة السلطان محمد، فعلى الرغم من أن ولديه جلال الدين وركن الدين كانا أكبر من ابنه الثالث أوزلاغ، فقد تنازل السلطان عن ولاية عهده للأخير بعد إصرار تركان خاتون، ولُقب بأبي المظفر قطب الدين، وذلك لأن والدة أوزلاغ كانت من قبيلة تركان خاتون نفسها وكان أهلها كأهل تركان خاتون من الأتراك ذوي النفوذ وكانوا من أعوان والدة خوارزمشاه، وهكذا، فعند عودة جلال الدين إلى خوارزم وإعلان خلع أوزلاغ وتعيينه بدلاً منه كان أول من شق عصا الطاعة عليه وأدى إلى فساد أمره وفراره من خوارزم هو خال أوزلاغ شاه "قُتلُغ خان" وكانت تركان خاتون تناصب السلطان جلال الدين العداء، وحين فر من خوارزم نصحها أحد خواصها بالفرار واللحاق بجيش جلال الدين، إلا أن تركان خاتون رفضت النصيحة وقالت الوقوع في أسر جنكيز خان أفضل كثيراً من العيش في ظلال جلال الدين وموجز القول: إن هذه المرأة الأنانية المتعطشة للدماء وأقربائها من الأتراك كانوا من الأسباب الرئيسية لفساد أمر خوارزمشاه وكان كثير من الخلل الذي أصاب دولته ناتجاً عن استبدادها وعن الفجوة التي تفصل بينها وبين ابنها .
4 ـ ضعف النظام الحربي الخوارزمي: كانت نظم الخوارزميين الحربية وخططهم التي أعدوها للدفاع عن دولتهم قبيل الغزو المغولي من العوامل الرئيسية التي أدت إلى انتصار المغول، ففضلاً عن أن الجيش الخوارزمي الذي اعتمد عليه علاء الدين كان يتكون من التركمان وقبائل كانكالي، أما التركمان فهم سلالة الأتراك الغز الذين أخضعوا فارس تحت زعامة السلاجقة، وأدى استيطانهم في هذا الجزء من العالم الإسلامي واختلاطهم بالعناصر الفارسية والعربية، إلى تغيير صفاتهم الجثمانية وعاداتهم ولغتهم، أما قبائل "كانكالي" فيرجع أصلهم إلى السهول الواقعة شمالي إقليم خوارزم وفي شمال شرقي بحر قزوين وقد اندفعوا إلى أراضي الخوارزمية على اثر تصاهرهم مع سلاطين هذه الدولة فقد تزوج السلطان علاء الدين تكش من تركان خاتون ابنة أحد زعماء هذه القبائل وكان من اثر ذلك أن هاجر كثير من رجال هذه القبائل من أقرباء تركان خاتون وأفراد عشيرتها إلى أراضي الدولة الخوارزمية ودخلوا في خدمة علاء الدين محمد خوارزمشاه وخاصة بعد أن منحهم السلطان بعض الأقاليم ليحكموها باسمه، وأطلق أيديهم فيها، ومما لا شك، أن قوة الخوارزميين قد تضاءلت أمام هذه الارستقراطية العسكرية، وشعر الأهلون فعلاً، وكذا السلطان بالحاجة إلى التحفظ في إشباع رغبات هؤلاء الجند الذين كانت محبتهم له مزعزعة الأركان، وطاعتهم له لا تقوم على شعور ينم عن الإخلاص، فلما شعروا بنوايا السلطان نحوهم عمدوا إلى إرهاب الأهالي المسالمين ونهب حوانيتهم في الطرقات ، وتفنن هؤلاء الجند الغرباء في تعذيب الأهالي وسلكوا في ذلك سبلاً متعددة، فاضطرب الأمن في البلاد واضطربت معه أحوال الدولة السياسة والاجتماعية . لقد كان جنود الأتراك مصدر قلق واضطراب للدولة الخوارزمية فإن هؤلاء الجند لم يهتموا كثيراً بالدفاع عن هذه الدولة شأنهم في ذلك شأن الجنود المرتزقة الذين يوكل إليهم أمر الدفاع عن شعب غريب عنهم وكانوا يدركون أنهم إذا انتصروا في ميدان القتال فلن يعود عليهم هذا النصر بخير كثير، ثم إن الجيش الخوارزمي كان ينقصه النظام والطاعة للقواد والقدرة على تحمل الصعاب، تلك الصفات التي كانت من أهم مميزات الجيش المغولي، وأهم من ذلك كله فقد فقد علاء الدين خوارزمشاه ثقة شعبه، فلم يشاركوه بقلوبهم في الاستعداد لمواجهة هذا الخطر الداهم، ولم يسارعوا للانضمام تحت لوائه، كما لم يساعدوه في جمع المال اللازم للإنفاق على جنوده، هذا فضلاً عن أن القدرة على تجنيد السلطان لمن يشاء من رعيته لم تتوفر، وأما ناحية الخطة الحربية التي اتبعها علاء الدين خوارزمشاه، فنرى أنها كانت خطة غير موفقة، إذ بدلاً من أن يجمع جيشاً واحداً يقف به في وجه المغول نراه يوزع قواته على المدن المختلفة في بلاد ما وراء النهر، فمثلاً نراه يضع في مدينة بخارى عشرين ألف رجل، وفي سمرقند خمسين ألفاً،كما نراه يضع في مدينة أترار التي تعتبر مفتاح هذا الإقليم عشرين ألفاً، ونراه أيضاً يرسل دعاته إلى أقاليم الدولة الخوارزمية المختلفة لجباية الضرائب منها، معلناً أنه سيصنع في كل إقليم جيشاً يعادل ما يجمع من هذا الإقليم من أموال، وهكذا نرى تفرق الجيش الخوارزمي بين المدن الخوارزمية المختلفة، مما سهل على المغول القضاء على المدن واحدة تلو أخرى، ولو أن علاء الدين جمع جيوشه وقابل بها المغول دفعة واحدة، لربما سهل عليه القضاء عليهم وبسبب تجمع الجيوش الخوارزمية في داخل المدن، نرى علاء الدين يعمل جاهداً على تحصين تلك المدن وتقوية حوائطها، حتى يكون الجنود وهم في داخل الأسوار في مأمن من غدر أعدائهم، ومن الأمثلة على ذلك ما فعله في مدينة سمرقند إذ أنه رغم إتساع هذه المدينة نراه يشرع في بناء سور حولها ليكون وسيلة قوية من وسائل الدفاع، ولكي يحصل على المال اللازم لهذا المشروع نراه يوزع عماله في الأقاليم لجمع الضرائب باسم عمارة سور سمرقند، واستطاع بعد ذلك أن يجمع المال اللازم لهذا المشروع وفي وقت قصير، ولكن الغزو المغولي المفاجئ منعه من إنجاز مشروعه، ويذهب المؤرخون مذاهب شتى في تعليل السبب الذي دفع علاء الدين إلى توزيع قواته على هذا النحو في داخل المدن الخوارزمية، فيرى جيبون أنه قد ظن أن المغول سيملون حصار هذه المدن العديدة، ومن ثم يعودون إلى بلادهم دون أن ينالوا من هذه المدن منالاً ، ويرى سيكس أن علاء الدين خوارزمشاه ظن في ذلك الوقت أن جنكيز خان سيكتفي في البلاد الإسلامية بنهب ما تصل إليه أيديه من الغنائم والأسلاب ثم يعود من حيث أتى ، وهذا يخالف طبعاً ما عزم عليه جنكيز خان من إخضاع أقاليم آسيا الغربية، ويرى فلادمير ستوف أن السلطان الخوارزمي كان لا يثق بقواته ولذلك كان يخشى أن يتجمع عدد كبير من رجاله تحت قيادة رجل واحد فتنقلب عليه هذه الجيوش تحقيقاً لرغبة قائدها قد تحدثه نفسه بعصيان السلطان، فوق ما تقدم فإن القوات الخوارزميين لم يكونوا من الكفاية والمقدرة بحيث يستطيع قائد واحد منهم أن يقود جيشاً كبيراً، أضف إلى ذلك أن علاء الدين وجد أنه من الصعب عليه أن يلتقي بأعدائه في العراء، ولذلك فضل التحصن في المدن، ومما تقدم أن نظام الخوارزميين الحربي كان مرتبكاً ومضطرباً، وأن قوتهم وزعت وتفرقت، ولذلك سهل على المغول إخضاع المدينة تلو الأخرى وإبادة الحامية بعد الحامية، كما سهل عليهم بعد إنهيار بلاد ما وراء النهر التي ركز الخوارزميون فيها وسائل دفاعهم أن يزيلوا الدولة الخوارزمية ويخربوا ما عمَّره المسلمون من مدنها، ويجعلوا منها أطلالاً لا تجد من يبكيها .
5 ـ حب الدنيا وكراهية الموت: كان حب الدنيا مهيمناً على القيادة والشعب في ذلك الوقت، وقد دبت الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين، وتعلقوا بدنياهم الذليلة تعلقاً لا يُفهم ورضوا أن يبقوا في قراهم ومدنهم ينتظرون الموت على أيدي الفرق المغولية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "يوشك الأمم أن تتداعى عليكم، كما تتداعى الأكلة على قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ". لقد سيطر حب الدنيا على القلوب، وكره المسلمون الموت في سبيل الله، فأصبحوا كالغثاء الذي يحمله السيل، إذا توجه شرقاً شرقوا معه، وإذا توجه السيل غرباً غربوا معه، لا رأي ولا هدف ولا طموح، ونزع الله عز وجل مهابة المسلمين من قلوب التتار، فما عادوا يكترثون بالأعداد الغفيرة وألقى في قلوب المسلمين الوهن والضعف والخور حتى كانت أقدام المائة من المسلمين لا تقوى على حملهم إذا واجهوا تترياً واحداً… ولا حول ولا قوة إلا بالله . يقول أبو الحسن الندوي: وقد دخل رعب التتار في قلوب المسلمين إلى حد أن أحد التتار دخل بعض الأحيان في سكة من سكك مدينة حيث وجد مائة رجل من المسلمين فقتلهم جميعاً، وأتى على آخرهم دون أن يتجرأ أحد منهم لمقاومته . وذات مرة دخلت امرأة تتارية بيتاً متزينة بزي الرجال وقتلت جميع أفراد الأسرة، وعرف أحد المسجونين الذي كان معها أنها امرأة فقتلها، وقد حدث بعض الأحيان أن تتارياً أسر مسلماً وقال له ضع رأسك على هذا الحجر حتى آتي بالخنجر فأذبحك، وخضع له المسلم ولم يسعه أن يبرح مكانه ذاك ثم أتى التتاري بالخنجر من المدينة وذبحه . كان غارة التتار فتنة عظيمة، ومحنة كبيرة، هزت العالم الإسلامي هزاً عنيفاً، وتركت المسلمين مبهوتين مشدوهين واستولى الرعب والخوف على العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وغلب على الناس اليأس والتشاؤم، فكانوا يعتبرون التتار بلاءً سماوياً ومقاومتهم مستحيلة، وانهزامهم فوق القياس، حتى ساد المثل ((إذا قيل لك التتار انهزموا فلا تصدق))، فكل بلاد أو دولة توجهوا إليها عرف أنها أبيدت وخربت، ولم يبق فيها شيء من مقدسات المسلمين إلا وانتهكت حرمتها، فكان اتجاه التتار إلى جهة يرادف معنى التدمير والإبادة والذلة، وانتهاك الأعراض، ولا شك أن العالم الإسلامي كله ولا سيما الجزء الشرقي منه وقع تحت هذه الفتنة العمياء على بكرة أبيه، إن المؤرخ يشغل بتسجيل كل لون من ألوان الأحداث والوقائع، وتمر به مناظر كثيرة لإبادة الأمم والبلدان حتى يتعود احتمال كل ذلك، فيجري قلمه بتسجيل هذه الحوادث من غير أن يرق له قلبه، وتدمع له عينه، ولكن المؤرخ الشهير ابن الأثير لم يتمكن من إخفاء شعوره الجريح وتألمه النفسي حينما وصل إلى ذكر حادث التتار حيث قال: لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر رجلاً، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذلك؟ ويا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثَّني جماعة من الأصدقاء على تسيطرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى، والتي عقمت الأيام والليالي عن مثلها وعمت الخلائق وخصًّت المسلمين، فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا مثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يُدانيها، ولعل الخلق يرون مثل هذه الحادثة، إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا ألا ياجوج وماجوج، وهؤلاء لم يُبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررُها وعمَّ ضررُها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الرياح ، ويقول مؤلف ((مرصاد العباد)) الذي شهد هذه الوقعة بعينه وما دار في مولده الري وموطنه همدان من حوادث فظيعة بعينه ومن التخريب والتدمير: استولى الجيش التتاري ـ خذلهم الله ودمرهم ـ سنة 618هـ على بلاد الإسلام، لا يعرف نظير لما قام به هؤلاء الوحوش من الفتنة والإفساد، والقتل والهدم والإحراق وما ظهر من أولئك الملاعين من فظائع تقشعر منها الجلود في أي عصر من عصور التاريخ، لا في الإسلام ولا في الجاهلية، فقد قتلوا وأسروا في ((ري)) وحدها التي هي مولودي أكثر من سبعمائة ألف مسلم، إن الفتنة التي أثاروها في العالم الإسلامي والمصيبة التي أنزلوها على المسلمين لا تسع الكلمات أن تصورها، وهذه الحادثة أغنى من أن تشرح للناس، وعياذاً بالله، إذا لم تتحرك حميَّة الإسلام وغيرته في ملوك المسلمين وسلاطينهم، ولم يذكروا أنهم مسئولون عن الأمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأمير راع على رعيته وهو مسئول عنها"، وإذا لم تنبعث فيهم أريحيتهم ورجولتهم لكي يتحدوا على كلمة واحدة وينقادوا لما أمرهم الله به في قوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله"التوبة ، 41، وإذا لم يستعدوا ببذل النفس والمال والملك لكي يدفعوا هذه الفتنة، وإن ذلك كله يدل على أن المسلمين سيفاجأهم الذل والنكسة، وترتمي بلاد الإسلام في أحضان الكفر، وأخشى أن المسلمين الذين كانوا لا يحملون إلا الإسم، سيفقدون الإسم والرسم كليهما نتيجة لما ندعيه ولا نعمل به .
6 ـ ترك الاتحاد والوقوع في ظلم العباد: ((غياب العدل)) إذا الفرقة هي طريق الانحطاط، فإن الوحدة هي سبيل الارتقاء وتبوء المكانة الفاضلة بين الأمم والشعوب، وهي الوسيلة لقيادة البشرية إلى الحضارة الربانية الرشيدة، وقد أرشدتنا التعاليم الشرعية إلى وحدة الصف وإتحاد الكلمة والرجوع إلى شرعه وتحكيم الكتاب والسنة فيما بيننا، قال تعالى: "وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب" الشورى ، آية 10، وقال تعالى: "فإن تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" النساء ، آية 59، فقد عطل شرع الله تعالى، وترتب على ذلك الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين، ولم يستطع المسلمون أن يعملوا بقول الله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين" الأنفال ، آية ، 46، فجعل الله عز وجل الفشل قريناً للتنازع والمسلمون كانوا في تنازع مستمر، وخلاف دائم، وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحرب مع التتار كان المسلمون يغيرون على بعضهم، ويأسرون بعضهم، ويقتلون بعضهم، وقد علم يقيناً أن من كانت هذه صفتهم فلا يكتب لهم النصر أبداً، فالمسلمون كانوا ـ في تلك الآونة ـ يهلك بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، فلا عجب أن غلب عليهم جيش المغول أو غيرهم، يقول ابن الأثير: وكان محمد بن خوارزمشاه قد استولى على البلاد وقتل ملوكها وأفناهم وبقي وحده سلطان البلاد جميعها، فلما إنهزم من التتار لم يبق في البلاد من يمنعها ولا من يحميها ، لقد قطع محمد الخوارزمي كل العلاقات بينه وبين من حوله من الأقطار الإسلامية، لم يتعاون معها أبداً، بل على العكس قاتلها الواحدة تلو الأخرى، وكان يقتل ملوك هذه الأقطار ويضمها إلى مملكته، ولا شك أن هذا خلف أحقاداً كبيرة في قلوب سكان هذه البلاد، وهذا ليس من الحكمة في شئ. انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يفتح البلاد كان يولي زعماء هذه البلاد عليها ويحفظ لهم مكانتهم ويبقي لهم ملكهم، فيضمن بذلك ولائهم وحب الناس له، فأبقى على حكم البحرين ملكها المنذر بن ساوي ، وأبقى على حكم عمان ملكيها جيفر وعباد،
يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 1:41 pm

بل وأبقى على اليمن واليها باذان بن سامان الفارسي عندما أسلم وهكذا، وهذا بخلاف ما فعله السلطان علاء الدين محمد الخوارزمي، فقد كان حاكماً بقوته لا يحبه الناس ، فلما احتاج إلى الناس لم يجدهم، ولما احتاج إلى الأعوان افتقر إليهم، ولم تكن الصراعات بين الخلافة العباسية والدولة الخوارزمية فقط، بل قامت الدولة الخوارزمية نفسها على صراعات داخلية، ومكايد كثيرة ومؤامرات عديدة، فلم تتوحد القلوب بهذا البلد، وانعكس ذلك على الصفوف، وكانت النتيجة الهزيمة الساحقة أمام المغول، وما كان للنصر أن يتحقق والأمة على هذا النحو ، قال تعالى: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص" الصف آية ، 4، وأما جلال الدين عندما دخل أخلاط التابعة للأيوبيين عام 627هـ وضع السيف في أهلها وفعل في ذلك فعل التتار، فقتل كل من وجد في البلد، فكانوا قد قلوا، فبعضهم كان فارق خوفاً بعد الحصار الأول، وبعضهم مات في البلد جوعاً، وبعضهم صعد إلى القلعة مع من صعد إليها من الأمراء والأجناد، وكانت الأقوات قد قلت، بل عدمت بأخلاط، حتى أكل أهلها البغال والكلاب والسنانير، كان يصطادون الفأر ويأكلونه، وصبروا صبراً لم يصبرها محاصر خوفاً من جلال الدين وما يعرفونه منه من إقدامه على سفك الدماء، ولما فتحت سبي عسكره الحريم، وباعوا الأولاد كما يفعل بالكفرة، ونهبت الأموال، وجرى منه نظير ما جرى من التتار، فلا جرم أن الله سبحانه عاقبه ببغيه ولم يمهله وقلع شأفته ، كان الأجدر به عدم الدخول في صراع مع القوى الإسلامية في الشام وغيرها، وكان عليه أن يعمل على لملمة الدولة ويبني جيشه على أسس عقائدية وأخلاقية، لقد كان جلال الدين يفتقد للحكمة والبعد السياسي ومكارم الأخلاق، التي يستطيع أن يكسب بها الأبطال والقادة والملوك، ولم يكن جلال الدين رجل المرحلة المطلوبة، وسترى بإذن الله تعالى الفرق الكبير بين جلال الدين منكبرتي وصفات سيف الدين قطز الذي حقق الانتصار على المغول في معركة عين جالوت، إن الظلم في الدولة كالمرض في الإنسان يعجل في موته بعد أن يقضي المدة المقدرة له وهو مريض، وبانتهاء هذه المدة يحين أجل موته، فكذلك الظلم في الأمة والدولة، يعجل في هلاكها بما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي إلى هلاكها واضمحلالها خلال مدة معينة يعلمها الله هي الأجل المقدر له أي الذي قدره الله بموجب سنته العامة التي وضعها لآجال الأمم بناء على ما يكون فيها من عوامل البقاء كالعدل، أو من عوامل الهلاك، كالظلم الذي يظهر أثرها وهو هلالكها بعد مضي مدة محددة يعلمها الله ، فقال تعالى: "ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" الأعراف: الآية ، 34، قال الألوسي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "ولكل أمة أجل" أي لكل أمة من الأمم الهالكة أجل، أي وقت معين مضروب لاستئصالهم ، ولكن هلاك الأمم وإن كان شيئاً مؤكداً ولكن وقت حلوله مجهول لنا، أي أننا نعلم يقيناً أن الأمة الظالمة تهلك حتماً بسبب ظلمها حسب سنة الله تعالى في الظلم والظالمين، ولكننا لانعرف وقت هلالكها بالضبط، فلا يمكن لأحد أن يحدد بالأيام ولا بالسنين وهو محدد عند الله تعالى : "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائمٌ وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب * وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القُرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" هود: آية 100 ـ 102.
إن الآية الكريمة تبين أن عذاب الله ليس مقتصراً على من تقدم من الأمم الظالمة، بل إن سنته تعالى في أخذ كل الظالمين سنة واحدة، فلا ينبغي أن يظن أحد أن هذا الهلاك قاصراً بأولئك الظلمة السابقين، لأن الله تعالى لما حكى أحوالهم قال: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة" هود: آية ، 102، فبين الله تعالى أن كل من شارك أولئك المتقدمين في أفعالهم التي أدت إلى هلاكهم فلا بد أن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد، الآية تحذر من خطورة الظلم، فالدولة الكافرة قد تكون عادلة بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس، والناس أنفسهم لا يتظالمون فيما بينهم، فهذه الدولة مع كفرها تبقى، إذ ليس من سنته هلاك الدولة لكفرها فقط، ولكن إذا انضم إلى كفرها ظلم حكامها للرعية وتظالم الناس فيما بينهم ، قال تعالى: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" هود: آية ، 11، قال الامام الرازي في تفسيره: إن المراد من الظلم في هذه الآية: الشرك والمعنى: أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، يعامل بعضهم على الصلاح وعدم الفساد . وفي تفسير القرطبي قوله: بظلم أي بشرك وكفر "وأهلها مصلحون" أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق، ومعنى الآية: أن الله تعالى لم يكن ليهلكهم في الكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد، كما أهلك قوم شعيب ببخس الميكيال والميزان/ وقوم لوط باللواط ، قال ابن تيميه في هلاك الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة: وأمور الناس أن تستقيم مع العدل الذي يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، لهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن مسلمة، ويقال: إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شئ، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة ، ولقد حدثت مظالم عظيمة في عهد الخوارزميين، من سفك الدماء بغير حق، وقتل للمسلمين، واجتياح المدن الإسلامية ومحاصرتها واستباحتها، كان الجيش الخوارزمي يضرب به المثل في النهب والقتل، وعمل كل قبيح، وكان الزنا فيهم فاشٍ، واللواط غير معذوق بكبر ولا بصغر والغدر خلق لهم، أخذوا تفليس بالأمان، ثم غدروا وقتلوا وسبوا، كانت عساكر جلال الدين أوباشاً فيهم شر وفسق وعتو . لقد ساهمت المظالم التي ارتكبها الخوارزميون في زوال دولتهم من الوجود.
7 ـ أنانية محمد علاء الدين الخوارزمي وهزيمته النفسية: ظهرت أنانية محمد علاء الدين في إهتمامه بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه وتهاونه في تأمين شعبه، وحافظ جداًعلى كنوزه وكنوز آبائه، وأهل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه وعادة من يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام المحن والشدائد والفتن والمصائب التي تعصف بالأمم والشعوب والدول، وعادة ما تنهزم الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المغلوبة دون إصلاح، لقد فر السلطان محمد علاء الدين خوارزم من نيسابور واتجه التتار خلفه مباشرة يطاردونه من مدينة في فرار مخزٍ فاضح ووصل إلى جزيرة في بحر قزوين، ونجحت خطة محمد الخوارزمي في الفرار، ورضي بالبقاء في تلك القلعة مع الفقر الشديد والحياة الصعبة وهو الملك الذي ملك بلاداً شاسعاً وأمولاً باهظة ولكن رضي بذلك لكي يفر وينجو بنفسه، وهذا مرض قلبي أخلاقي في الأساس، وما هي إلا أيام حتى مات محمد علاء الدين محمد خوارزمشاه في هذه الجزيرة وحيداً طريداً شريداً فقيراً، وصدق الله: "إينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة" النساء : آية ، 78. كان الأولى للسلطان الخوارزمي أن يموت رافع الرأس ثابت الجأش، مطمئن القلب في ميدان الجهاد، وأن يموت مقبلاً لا مدبراً ، ولكنها الأنانية البغيضة والهزيمة النفسية التي أصيب بها ذلك السلطان الخوارزمي، لقد دب الرعب والخوف في قلبه من استبسال جنود المغول وحنكتهم في الحرب، وبعد عودته من سمرقند أخذ يشيد مراراً وتكراراً بثبات المغول في القتال ومعرفتهم بفنون الرماية والقتال بالسيف، وهو ما أخافه لدرجة أعجزته عن الصمود أمامهم، بل أن في فراره كان يحذر الأهالي من المغول ويدعوهم للتسليم لهم وطاعتهم، وكان لخوفه وفراره تأثير سيء على الجنود وأهالي البلاد، وأدى إلى انفراط عقد الجيش وضعف روح الدفاع والقتال والجهاد عند الأهالي ، فهروب السلطان من الميدان من أسباب زوال الدولة الخوارزمية.
8 ـ شخصية جلال الدين منكبرتي: بعد أن رجع جنكيز خان إلى بلاده عاد جلال الدين من الهند، وكون في الجزء الغربي من أقاليم الدولة الخوارزمية حكومة مهيضة الجانب، ولم يكن في وسع هذا السلطان الذي ركز جهوده للانتقام من حكام البلاد المحيطة بدولته وعلى رأسهم الخليفة العباسي بسبب عدواتهم لأبيهم، والذي كان فوق ما تقدم على توسيع رقعة بلاده على حساب ما يجاورها من حكام البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، لم يكن في وسع هذا السلطان أن يعمل على توثيق روابط الود والإخاء بينه وبين هؤلاء الجيران، ولذلك قضى فترة من الوقت استطاع فيها، على قصرها، أن ينهك القوى الإسلامية ويضعفها،كما أثار نفور المسلمين منه وسخطهم عليه، فانفضوا من حوله، فضلاً عن هذا فإنه لم يحسب حساباً للمغول، الذين انصروفوا عنه وعن العالم الإسلامي إلى حين، بسبب تفرغهم لمشاكلهم الداخلية في ذلك الوقت، وكان الواجب على جلال الدين منكبرتي وقد عاد إلى بلاده وتربع على عرشها أن يستفيد من أخطاء أبيه وهفواته السياسية، فيعمل على اكتساب إرضاء جيرانه في الخارج، ويكون حلفاً إسلامياً يقف به في وجه المغول، وكان يجب عليه أيضاً أن يعمل على كسب محبة رعيته حتى يضمن ولاء الأهالي إذا ما ظهر الخطر المغولي من جديد، ولكن على العكس من ذلك نراه لا يترك قوة من القوى الموجودة في ذلك الوقت إلا ناصبها العداء، خارج دولته وداخلها، ففي الخارج اعتدى على أملاك الخليفة، وأملاك الأمراء المسلمين في بلاد ما بين النهرين، كما غزا أذربيجان وجورجيا وأذل أهليهما لسلطانه، وناصب طائفة الإسماعيلية العداء فألبت عليه أعداءه وشجعت المغول على إعادة غزو أراضي الدولة الخوارزمية ، وقد وصف ابن الأثير سياسة جلال الدين منكبرتي الخارجية منذ ظهوره على المسرح التاريخي من جديد، وصفاً يعبر تعبيراً صحيحاً عما جلبته عليه هذه السياسة من أضرار، فقال: وكان جلال الدين سيء السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحداً من الملوك المجاورين له إلا عاده ونازعه الملك وأساء مجاورته، فمن ذلك أنه أول ما ظهر في أصفهان وجمع العساكر قصد خوزستان، فحصر مدينة شسشتر وهي للخليفة فحصرها وسار إلى دقوقا فنهبها وقتل فيها، فأكثر وهي للخليفة أيضا، ثم ملك أذربيجان وهي لأوزبك فملكها وقصد الكرج ((جورجيا)) وهزمهم وعاداهم ثم عاد الملك الأشرف صاحب أخلاط، ثم عاد علاء الدين صاحب بلاد الروم، وعاد الإسماعيلية، ونهب بلادهم وقتل فيهم، فأكثر وقرر عليهم وظيفة من المال كل سنة، كذلك غيرهم فكل من الملوك تخلى عنه ولم يأخذ بيده ، وهكذا كان من أثر عداوة جلال الدين لهذه القوى المحيطة بدولته أنها رفضت أن تمد له يد المساعدة، عندما داهمه المغول بغزوهم المفاجئ . وأما في الداخل فنرى جلال الدين يحاول أن يكون الحاكم المستبد في دولته، فانقض عنه اخوة غياث الدين تتبعه قوة كبيرة من رجال جيشه في الوقت الذي كان يتحتم عليه ، يستفيد بمجهود كل رجل في دولته كذلك نرى كبار رجال الدولة ينفضون من حوله يحيطونه بشبكة من الدسائس والمؤامرات، ويشعلون عليه نيران الثورة في البلاد الخاضعة، كما حدث في أذربيجان . ولم يهتم جلال الدين بتكوين جيش يستطيع أن يواجه به العدو المغولي إلا عندما دقت الساعة وظهر المغول فجأة في الميدان فأخذوه على حين غرة قبل أن يتمكن من إصلاح شئونه الداخلية و الخارجية، فكانت النتيجة أن اكتسح المغول الدولة الخوارزمية من جديد سنة 628هـ /1231م، وزالت هذه الدولة بزوال آخر شخصية خوارزمية من سلالة نوشتكين . مدح الذهبي جلال الدين منكبرتي وقال: السلطان الكبير جلال الدين منكوبرتي ابن السلطان الكبير علاء الدين محمد ابن السلطان خوارزمشاه الخوارزمي، تملك البلاد، ودانت له الأمم، وجرت له عجائب وعندي سيرته في مجلد… كان جلال الدين أسمر تركياً قصير منعجم العبارة، يتكلم بالتركية، وبالفارسية، وأما شجاعته فحسبك ما وردته من وقعاته فكان أسداً ضرغاماً وأشجع فرسانه إقداماً لا غضوباً ولا شتاماً وقوراً، لا يضحك إلا تبسماً، ولا يكثر كلاماً، وكان يختار العدل غيرأنه صادف أيام الفتنة فغلب وجرت له أمور يطول شرحها ما بين ارتقاء وانخفاض، وهابته التتار ولولاه لداسوا الدنيا وقد ذهب إليه محي الدين بن الجوزي رسولاً وجده يقرأ في مصحف ويبكي، ثم اعتذر عما يفعله جنده بكثرتهم، وعدم طاعتهم .
9 ـ قصر نظر الخليفة الناصر لدين الله العباسي:
استطاع غياث الدين أخو جلال الدين ان يتملك منطقة شمال إيران نتيجة الفراغ النسبي الذي تركه التتار في هذه المنطقة وسيطر على مدن الري وأصفهان، ووصلت سيطرته إلى إقليم كرمان في جنوب إيران، وأصبحت سيطرة غياث الدين بن خوارزمشاه على مناطق شمال وغرب وجنوب إيران،أما المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من إيران وهي إقليم خراسان بكامله، فكانت تحت السيطرة التترية، وبذلك يصبح غياث الدين بمثابة حائط صد بين التتار والخلافة العباسية، وكان ذلك في الفترة التي انقطع فيها جلال الدين في الهند.
كان من المتوقع من الناصر لدين الله الخليفة العباسي في ذلك الوقت أن يساعد غياث الدين في تثبيت سيطرته على هذه المناطق، وكان المفروض عليه أن يتناسى الخلافات القديمة بينه وبين مملكة خوارزم، وذلك لأنهم الآن يواجهون عدواً مشتركاً وهم المغول، كان ذلك فرض الوقت عليه، إن لم يكن بسبب دوافع الدين والأخوة والنصرة للمسلمين ، فليكن بسبب الأبعاد الاستراتيجية الهامة وراء تثبيت قدم غياث الدين في هذه المنطقة، ذلك لأن غياث الدين هو الذي يقف مباشرة في مواجهة التتار ويُعتبر البوابة الشرقية للخلافة العباسية في بغداد وإن استطاع التتار أن يقهروا غياث الدين فستكون المرحلة الثانية هي الخلافة العباسية، لكن الخليفة العباسي الناصر لدين الله لم يكن يدرك كل هذه الأبعاد ، لقد كان يعاني من قصر النظر ومن أمراض النفوس، كحب الانتقام، والمكر بالمسلمين، ولم ينس خلافاته القديمة مع المملكة الخوارزمية وأراد أن يقوض أركان السلطان هناك، ناسياً أنهم بينه وبين التتار، وعمل على إذكاء وإشعال فتنة داخلية بين غياث الدين وخاله ((ايغان طائسي))، وكان رجلاً كبيراً وصاحب رأي في الحرب، يعمل أميراً في جيش غياث، وكان الأخير لا يقطع أمراً دون مشورته، فراسله الخليفة الناصر لدين الله ، ورغبة في الانقلاب على غياث الدين وعظم له الاستيلاء على الملك، وبذلك يضمن الخليفة ولاء ايغان طائسي له، ويبعد غياث الدين عن الحكم، ولم يهمه تلك الفتنة التي ستدور في الأرض المجاورة له، والتي تعتبر العمق الاستراتيجي الهام له ونجح في مشروعه التآمري واندلعت الحرب بين غياث وخاله ودارت مجزرة بين المسلمين، وسقطت الأعداد الغفيرة من المسلمين قتلى بسيوف أخوانهم، وانهزم ايغان طائسي خال غياث الدين، وقتل من فريقه عدد ضخم، وأسر الباقون، وفر هو ومن بقي معه إلى أذربيجان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
إن الخليفة العباسي لم يقم بواجبه في دعم المسلمين ضد المغول، بل كان معول هدم لمن تصدى للمقاومة، وهذا الخليفة ذمَّه المؤرخون وتناولوا أعماله وأخلاقه بالنقد اللاذع، يتحدث عنه المؤرخ ابن الأثير فيقول: وكان قبيح السيرة في رعيته، فتخُرب في أيامه العراق، وتفرَّق أهله في البلاد، وأخذ أملاكهم وأموالهم، وكان يفعل الشئ وضده، فمن ذلك أنه عمل دور الضيافة ببغداد ليفطر الناس عليها في رمضان فبقيت مدة، ثم قطع ذلك، ثم عمل دور الضيافة للحجاج، فبقيت مدة ثم أبطلها، وأطلق بعض المكوس التي جدَّدها ببغداد خاصة ثم أعادها، وجعل جُلَّ همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة، فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعجب الأمور . فكان هذا الخليفة خصماً للخوارزميين ولم يقف معهم في التصدي للمغول، بل عمل على إثارة الفتن داخل صفوف المسلمين، فكان ذلك من أسباب زوال الدولة الخوارزمية ولا شك أن اعتداءات الخوارزميين السابق على الخلافة ببغداد من أسباب ضعفهم وعدم الوقوف معهم.
10 ـ غياب العلماء: في تحقيق الأمة للانتصارات الكبرى نجد مكانة العلماء والفقهاء لدى الحكام وفي وجدان الشعوب واضحة المعالم، بل نلاحظ الكتابات عن أهمية الجهاد وفضائله، وسيرة الرسول في الغزوات وتاريخ صدر الإسلام وإنتصارات الأمة على أعدائها، ويتحرك الخطباء والعلماء والفقهاء في أوساط الناس، ويخرجون مع الجند في المعارك ويشاركون بأنفسهم في قتال الأعداء في الدولة الخوارزمية لا مكانة للعلماء والفقهاء، بل عطلوا عن دورهم، فهذا من أسباب زوال الدولة الخوارزمية.
11 ـ المشروغ المغولي: أخذ جنكيز خان قائد المشروع المغولي بأسباب النجاح المادية والقانونية، من قيادة متزنة ووضوح في الهدف، وإعداد الأفراد ومحاربة أسباب الفرقة داخل الشعوب المغولية والأخذ بأصول الاجتماع والاتحاد والوحدة وتقسيم الأدوار، والتخطيط السليم، والادارة الناجحة، والتنظيم المحكم وغيرها من الأسباب، وبالإضافة إلى تدهور أوضاع البلاد الإسلامية لتركهم شريعة ربهم ويمكن إجمال نجاح المشروع المغولي على الدولة الخوارزمية في النقاط التالية:
أ ـ حنكة جنكيز خان وثباته وصبره وتواضعه.
ب ـ إطلاعه الكامل على أوضاع ممالك خوارزمشاه، واستغلال معلومات التجار المسلمين والمترجمين والعارضين بالمسالك والطرق.
جـ ـ الياسا الجنكيزية وأحكامها الصارمة في حفظ النظام بين المغول وإخضاعهم جميعاً لأمر واحد.
د ـ الاتفاق التام بين قواده وأبنائه، حيث لم يكن لأي منهم رأي بعد رأي جنكيز خان، وكانوا جميعاً أدوات لتنفيذ أهدافه، ولم تكن تساور أياً منهم فكرة الاستقلاق أو التفوق على الآخر.
س ـ وحدة اللغة والعادات والتقاليد ووحدة الهدف بين جنود جنكيز خان وهو ما كان الخوارزميون يفتقرون إليه .
ع ـ قوة النظم الاجتماعية والحربية عند المغول مقارنة بالخوارزميين، فقد اهتموا بالكيف لا بالكم، فالسلطة العليا كانت في الخان الأعظم فهو المرجع الأخير في كل صغيرة وكبيرة، وهو الذي يشرف على تنظيم الجيش وإعداده ورسم الخطط والمواقع الحربية واختيار الأوقات المناسبة لها وكان الجيش المغولي منظماً أحسن تنظيم ، وقد مر معنا ذلك هذه هي أهم أسباب سقوط الدولة الخوارزمية، وهي متداخلة ومتشابكة يؤثر كل منها في الآخر تأثيراً عكسياً، فالسبب السياسي يؤثر في العامل العسكري، ويتأثر به وهكذا.

سادساً: وفاة جنكيز خان:
أمضى جنكيز خان شتاء عام 1225 إلى 1226م والصيف التالي في مقره العام عند نهر تولا من إمبراطوريته الكبيرة، وكان محاطاً برفاق موثوقين، كال لهم المديح وقال لهم: لقد ساعتموني وجعلتموني قادراً على العمل الصحيح الذي يجب عمله، وأمسكتم بيدي بعيداً عن عمل الأمر الخطأ، وبفضل هذا السلوك من جانبكم فقد بلغت المرتبة العالية .
كان هناك عمل ينتظر التنفيذ، وكان ذلك معاقبة ملك الطانغوط عاهل شي ـ شيا ((أوهسي ـ هسيا)) المتاخمة للتيبت لرفضه، إرسال جيشه للاشتراك في الحرب ضد خوارزم، وكان جنكيز خان يوم تحرك باتجاه الغرب قد قطع على نفسه عهداً بمحاسبة الملك الطانغوطي على ذلك الرفض رغم أنه تابع له، وحشد عام 1226م كل جيوشه ضد الطانغوط، ولكن الثأر وحده لم يكن الدافع على محاربة أولئك القوم، بل كانت هناك أسباب وجيهة أخرى تدعو إلى إخضاع تلك المنطقة، كان صينيو إمبراطورية كين، الإمبراطورية الذهبية، بعد مغادرة جنكيز خان للصين قد نجحوا فاسترجعوا قسماً كبيراً من أقاليمهم، وكان موخولي الجنرال المغولي العامل في الصين نيابة عن جنكيز خان، مشتبكاً في قتال مرير متواصل معهم، وأدرك جنكيز خان أن العوامل الجغرافية تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، توجيه ضربة مميتة إلى الصينيين الذاهبيين بينما السلطة المغولية غير مستقرة ووطيدة في بلاد الطانغوط وكان اهتمامه بهذا الأمر من الشدة بحيث لم يلجأ لتحقيقه إلى أي من جنرلاته، وإنما عمد رغم تقدم سنه إلى قيادة الجيش بنفسه ويدلنا هذا القرار أنه كان لايزال مالكاً لجميع قواه البدانية والعقلية وبدأت الحرب في خريف عام 1226م وكانت البداية ناجحة، غير أنه في فصل الشتاء وفي إحدى مناورات الصيد، جمح جواد جنكيز خان مرعوباً ببعض الخيول المتوحشة التي كانت وفيرة في تلك الأنحاء وألقى بالخان المغولي أرضاً وأصيب جنكيز خان على أثر ذلك بمرض شديد، الأمر الذي دعا أولاده المرافقين له والمتقدمين سناً من جنرالاته إلى التشاور فيما بينهم حول ما يجب عليهم عمله، قال أحدهم: الطانغوط شعب حضري يسكن المدن لا يغادرها، ومن الممكن أن نعود الآن إلى الوطن، لنرجع إلى هذا المكان بعد أن يستعيد الخان عافيته، ووافق المجتمعون على هذا الرأي، ولكن جنكيز خان رفض وقال: إذا نحن ذهبنا فسيظن الطانغوط يقيناً بأننا نخاف منهم، إنني أبقي للعلاج والشفاء في هذا المكان ولن نبرحه، وسنبدأ فنبعث إليهم برسالة، لنرى ما هو الجواب الذي سيعطونه، وقد وجهت إلى ملكة طانغوط الرسالة التالية: وعدت بأن تكون يدي اليمنى، ولكنك رفضت أن تذهب معي إلى محاربة الخوارزميين، وأضفت الإهانة إلى هذا العصيان، والآن وبعد أن افتتحت بلاد خوارزم فقد جئت أطلب منك ترضية، وكان جواب العاهل الطنغوطي على هذه الرسالة عبارات تحقير وإهانة، وقد غضب جنكيز خان لذلك غضباً شديداً، وهتف صارخاً: أمن الممكن بعد هذه الإهانة أن نذهب بعيداً؟ إني لن أذهب ولو كان وراء ذلك موتي. إني أقسم على هذا بالسماء الأبدية، وقد وفى بقسمه، فدمّر مملكة الطانغوط ودولتهم ولكنه مات في سياق ذلك، كان جنكيز خان مريضًاً منذ سقطته الأخيرة عن ظهر الجواد أثناء الصيد وكان يشعر أن المرض يمتص منه الحياة ، ولما اشتد المرض عليه وعرف أن منيته قد حانت استدعى أولاده فأوصاهم أن يخلف ابنه أوكتاي لمزية رأيه المتين، وعقله الرزين، فجعله ولي عهده، فوافقوا على اختياره ، وهذا نص وصيته لأولاده: اعلموا يا أولادي الجياد أنه قد قرب سفري إلى دار الآخرة، ودنا أجلي، وأنا بقوة الآلهة والتأييد السماوي، استخلصت مملكة عريضة بسيطة، بحيث يسلك من وسطها إلى طرف منها مسيرة سنة من أجلكم يا أولادي فهيأتها لكم، فوصيتي لكم أنكم تشتغلون بعدي بدفع الأعداء ورفع الأصدقاء وتكونون جميعاً على رأي واحد، حتى تعيشوا في نعمة ودلال وتتمتعوا بالمملكة . وهناك في أقليم كان سو الصيني الحديث غير البعيد من مدينة تسن جو أسلم جنكيز خان الروح في النصف الأول من رمضان عام 624هـ الموافق أغسطس 1227م وقد حمل جثمانه إلى منغوليا ودفن في المنطقة التي يخرج منها نهر أونون وكورلين وبقي موضع الدفن سراً من الأسرار كما هي عادة المغول.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 1:55 pm

الفصل الثاني
سقوط بغداد على أيدي المغول

المبحث الأول: خلفاء جنكيز خان:
أولاً: تقسيم ممالك جنكيز خان:
كان لجنكيز خان زوجات ومحظيات كثيرات ولكنه كان يفضل عليهن جميعاً زوجته المسماة"يَسُونجين بَيْكي" ولهذا كان يعز عليه أبناءه من هذه الزوجة ويقدمهم على أبنائه الآخرين، وقد أنجب جنكيز خان تسعة أولاد من بينهم أربعة كانوا من زوجته يسونجين وهؤلاء الأبناء الأربعة هم: جوجي وجغتاي وأوكَتاي وتوُلوُي، وكان أبوهم جنكيز خان يعهد إليهم بجلائل الأعمال، كما كان يعتمد عليهم اعتمداً كلياً في إدراة إمبراطوريته المترامية الأطراف، فمثلاً نراه يكلف أكبر أبنائه"جوجي" بالإشراف على شئون الصيد وتنظيم القصور وتزيينها، وأما ابنه الثاني"جغتاي" فقد وكل إليه تنظيم شئون القضاء والعمل على تنفيذ أحكام جنكيز خان وقوانينه وتوقيع الجزاء والعقاب على المقصرين، وجعل ابنه الثالث"أوكتاي" يختص بالشئون المالية والإدارية، ويقوم بتنظيم شئون الملك، وتدبير مصالح الناس، وفوضى إلى ابنه تولوى مباشرة شئون الدفاع وإعداد الجيوش، وكان يدعى"الغ نويان "، وقد رأى جنكيز أن خير وسيلة لتدريب أبنائه على مباشرة مهام الحكم وتحمل المسؤوليات، هو أن يقسم إمبراطوريته بينهم وهو على قيد الحياة وقد تم التقسيم على النحو التالي:
1 ـ كان نصيب جوجي وهو أكبر أبناء جنكيز خان، البلاد الواقعة بين نهر ارتش والسواحل الجنوبية لبحر قزوين وكان تلك البلاد عامة القبجاق ويطلق عليه إسم القبيلة الذهبية نسبة إلى خيم معسكراتها ذات اللون الذهبي، وكان غالب أهلها من الأتراك والتركمان ، ولما كان جوجي قد توفي قبل وفاة أبيه قرر جنكيز خان أن تكون هذه المناطق من نصيب حفيده "باتو بن جوجي" الذي اشتهر برقة العاطفة وعذوبة الحديث وشدة التعقل وأصبح رأس بيت جنكيز خان وقام بدور حاسم فيما نشب من منازعات على ولاية العرش للإمبراطورية.
2 ـ اختص جغتاي ببلاد الأويغور، وأقاليم ما وراء النهر وكاشغر وبلخ وغزنه.


3 ـ نال أوكتاي ولي العهد، قسماً يقل عن نصيب إخوته وكان ينحصر في مناطق جبال تار باجاي، وأطراف بحيرة ألاجول وحوض نهر اليميل الذي يصب في تلك البحيرة ويقع غربي منغوليا.
4 ـ منغوليا، المنطقة الأصلية لجنكيز خان وآبائه وأجداده والتي تشمل وديان أنهار كرولين وأونن وأرخن ومنطقة قراقورم كانت من نصيب تولوي أصغر أبناء جنكيز خان، وقد استمر يحكم الإمبراطورية مدة عامين 624 ـ 626 هـ ( 1227 ـ 1229م) بصفته وصياً على العرش، طبقاً للعرف المغولي، وذلك بمساعدة ثلاثة من المستشارين إلى أن أنتخب الخان الجديد خلفاً لجنكيز خان .

ثانياً: إنتخاب أوكتاي خاناً أعظم للمغول: بعد وفاة جنكيز خان وظل العرش خالياً من ملك لمدة عامين، وأخيراً رأى الأمراء الكبار ضرورة التعجيل بتنصيب خاناً جديداً، حتى تنصلح الأمور ولا يتطرق الفساد والخلل إلى أساس الملك، وقد استقر رأيهم على إتخاذ هذه الخطوة، فأوفدوا الرسل إلى الجهات والأطراف وصاروا يمهدون لعقد مجلس الشورى ((القوريلتاي))، ووفد على منغوليا الأمراء وقواد الجيش وظلوا هناك ثلاثة أيام في متعة وأنس وطرب، وشرعوا بعد ذلك في تبادل وجهات النظر بخصوص اختيار الخان الجديد، فاجتمعوا على تولي أوكتاي عرش الخانية، ولكنه حاول التنحي والاعتذار بأنه غير آهل لتولي هذا المنصب الخطير، وأن أخاه ((تولوي)) أجدر منه بمباشرة هذا الأمر، والالتزام به، لأنه الأخ الأصغر، وطبقاً لتقاليد المغول ورسومهم يقوم مقام الأب ويتعهد داره ةلأنه كان ملازماً لأبيه ليلاً ونهاراً ويعرف الأصول والقوانين ، غير أن أخوته وأقاربه، أغلقوا أمامه كل باب للاعتذار وأصروا عليه على أن يقبل هذا المنصب، وذكروه بوصية أبيه في هذا الشأن، فنزل على مشئتهم آخر الأمر، وعندئذ أخذ ((جغتاي)) يد أخيه ((أوكتاي)) اليمنى وأخذ تولوي يده اليسرى وأمسك عمه ((أوتجكين) بحزامه وأجلسوه على سرير الخانية ورفع الحاضرين داخل البلاط وخارجه وأعلوا تنصيب أوكتاي ((حاقانا)) أي خاناً أعظم للإمبراطورية المغولية، وذلك في القوريلتاي الذي عقد لهذا الغرض في ربيع سنة 626هـ (1229م) بعد ذلك قام الخان بتوزيع الأموال على الأقارب والعشائر. وطبقاً للرسوم والعادات المتبعة عند المغول، أمر بتقديم الأطعمة لمدة ثلاثة أيام متتالية صدقة على روح جنكيز خان، كذلك اختار أربعين فتاة حسناء من نسا الأمراء الذين كانوا يلازمونه وألبسوهن أفخر الثياب وزينوهن بالمرصعات والجواهر، ثم أرسلوهن على جياد أصيلة إلى جنكيز خان ـ قتلوهن وذلك على على حد زعمهم ومعتقدهم ـ وعلى أثر تولية أوكتاي عرش المغول، قرر أن تكون كل الأحكام التي أمر بها جنكيز خان نافذة المفعول، وأن تبقى مصونة بعيدة عن التغيير والتبديل كذلك أصدر عفوا شاملاً عن جميع الأشخاص الذين ارتكبوا ذنوباً قبل جلوسه على العرش وهدد بانزال العقاب الصارم على كل من تحدثه نفسه بمخالفة القوانين بعد ذلك واهتم اهتماماً كبيراً باكمال الفتوحات التي بدأها والده جنكيز خان فكون الجيوش اللازمة لغزو إيران وأوربا والصين .

ثالثاً : المغول يواصلون زحفهم في البلاد الإسلامية:
لقد كان انتخاب أوكتاي بن جنكيز خان لأعظم للمغول إيذاناً بشن حملة جديدة على ممالك الدولة الخوارزمية والقضاء عليها نهائياً، على أن المغول الذين كانوا لا يزالون يحتلون منطقة ما وراء النهر، قاموا قبل ذلك بعدة حملات منظمة عل قوات السلطان جلال الدين منكبرتي، كانت تسفر تارة عن انتصار جلال الدين وتارة أخرى على انتصار المغول ، ولكنها على كل حال لم تؤد إلى نتيجة حاسمة، إلى أن عهد ((أوكتاي)) إلى قائده المشهور ((جُز ماغون نويان)) بقيادة الحملة على إيران، فسار على رأس جيش كبير تعداده 50000 جندي، مصطحباً معه عدداً من أمهر قادة المغول، وقد قدم الجميع إلى تركستان حيث طلبوا المدد من أمراء المغول وحكامهم في خوارزم، وبالإضافة إلى ذلك أضيفت إلى هذا العدد الكبير قوات أخرى غير نظامية من أسرى الأعداء، فبلغ عدد الجميع 100000 جندي ، واستطاع المغول تدمير جيش جلال الدين منكبرتي كما مرَّ معنا، وبعد أن تخلصوا من أخطر عدو استطاع أن يواجههم ببسالة أصبح الطريق أمامهم ممهداً للفتح والغزو دون أن يعوقهم عائق، أو تقف في طريقهم عقبة، فاستطاعوا في يسر وسهولة أن يشنوا حملاتهم على معظم البلاد الإسلامية ، وينشروا فيها الخراب والدمار، وكان هناك قائد خوارزمي اسمه ((أورخان)) وهو الذي استطاع أن ينقذ حياة جلال الدين عندما هاجمه المغول في آخر مرة قبل أن يفر منهزماً إلى كردستان كان هذا القائد لا يزال على قيد الحياة بعد مقتل جلال الدين، فسار على رأس 4000 جندي من الجنود الخوارزميين وصلوا إلى إربل، ومن هناك أسرع أورخان بمفرده إلى إصفهان حيث لقي حتفه على يد المغول وبعد ذلك تفرقت البقية الباقية من جنود جلال الدين علي جبال كردستان والجزيرة والشام، فقتل بعضهم على يد الأكراد وأعراب البدو واختار الباقون أن يعملوا كجنود مرتزقة في خدمة سلاطين الأيوبيين وسلاجقة الروم وصاروا لفترات طويلة سبباً في إثارة كثير من المتاعب في البلاد التي يعملون فيها .
وقسم المغول قواتهم إلى ثلاثة جيوش رئيسية: فتح الجيش الأول ديار بكر، وأرزن الروم وميافارقين وماردين ونصيبين وسنجار، وقد تقدم هذا الجيش حتى بلغ ساحل الفرات، واشتط جنود المغول في القتل والسلب والنهب دون أن يجرؤ أحد من سكان هذه المناطق على مقاومتهم أو حتى مجرد سماع اسمهم وقد استولى الرعب والفزع على قلوب الأهالي إلى الحد الذي يتضح فيما ساقه ابن الأثير من قصص تذكي لهيب الأسى في النفوس وتثير الشجون، تلك القصص التي قد يتوهم القارئ أنها سيقت على سبيل المبالغة لولا أنها جاءت على لسان مؤرخ يعتبر ثقة فيما رواه، يقول: ولقد حكى عنهم حكايات يكاد سماعها يكذب بها من الخوف الذي ألقاه الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس حتى قيل إن الرجل منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد ولا يتجاسر أحداً أن يمد يده إلى ذلك الفارس .
وأما الجيش الثاني فقد قصد مدينة ((بدليس)) وبعد أن أحرقها استولى على بعض القلاع المحيطة بخلاط وغيرها.
وسار الجيش الثالث إلى منطقة أذربيجان، وشرع يفتح مدنها الواحدة تلو الأخرى، وأخيراً صمم عل احتلال حاضرتها تبريز، فسلمت دون مقاومة في أوائل سنة 629هـ/1232م، وذلك لأن الأهالي هناك لم يكونوا على وفاق مع السلطان جلال الدين وعندما تأكدوا من ضعفه ثاروا عل الحكام الخوارزميين وقتلوهم وقطعوا رؤوسهم وأرسلوها إلى المغول تقرباً إليهم، لهذا لم يكد الجيش المغولي يقترب من أبواب تبريز حتى سارع الأهالي إلى تقديم فروض الطاعة، وقدموا مختلف الهدايا من مال وقماش إلى قواد المغول كما قبلوا شحنة من قبلهم، وتعهدوا بأن يدفعوا لهم جزية كبيرة كل سنة، فما كان من المغول إلا أن وافقوا على هذه العروض، ودخلوا المدينة، ولكنها سلمت من التخريب، والتدمير إذا قيست بغيرها من المدن ، وفي عام 632 ـ 633هـ (1234 ـ 1235م) دخل المغول إقليم إربل وغزو حاضرته، إلا أن أهالي المدينة أسرعوا إلى القلعة، وتحصنوا فيها، فحاصرها المغول أربعين يوماً وأخيراً افتدى الأهالي أنفسهم بمبلغ كبير من المال ورحل المغول عنها عندما سمعوا أن المدد قد جاء من بغداد، وبعد ذلك انتقلت القوات المغولية إلى العراق فية سنة 634هـ (1236م) وواصلت زحفها شمالاً حتى وصلت مدينة (سامراء)، فلما شعر الخليفة يتهدده الخطر، أسرع وأعلن الجهاد بعد أن جمع مجلساً من العلماء أفتوا بأن الغزو في سبيل الله خير من الحج إلى بيت الله، فكان أن تجمع جيش كبير بقيادة مجاهد الدين الدواتدار ، واستطاع أن يهزم المغول بالقرب من تكريت ما بين دجلة وجبل ((حَمْرَين)) وأن يفك أسر عدد كبير من المسلمين كانوا قد وقعوا في أيدي المغول أثناء قتالهم في إربل، واقام المسلمون الاستحكامات المنيعة حول بغداد وعاد المغول الكرة وقصدوا بغداد عام 635هـ/1237م حيث هزموا المسلمين في الخانقين، وقتلوا عدداً كبيراً منهم، وعاد الباقون إلى بغداد ، واستمر المغول في مهاجماتهم لجورجيا وأرمينية ودمروا وخرّبوا ولكن المغول عادوا وأحسنوا معاملة أرمينية وجورجيا وسلكوا معهما نفس السلوك الذي سلكوه مع فارس وكرمان وكذلك سيطرة المغول سيطر كاملة على الأقاليم الشرقية من الدولة الخوارزمية، دون أن يجدوا أدنى مقاومة، فسلمت سجستان وغزني وكابل وحدود السند، واستطاع المغول السيطرة على سلاجقة الروم عام 640هـ/1243م بعد انتصارهم عليهم في معركة عنيفة بموضع"كوسة طاغ" ووضع الأناضول بعدها في قبضة المغول وخضع السلطان غياث الدين لخان المغول وألتزم بدفع جزية سنوية له .
1 ـ فتح أقاليم الصين الشمالية: بعد وفاة جنكيز خان نجحت أسرة كين في استرداد جزء كبير من مملكتهم، واتخذت مدينة كاي فونج في هونان عاصمة لها، فلما تولى أوكتاي حكم المغول أعد العدة لفتح هذه البلاد، فسير جيوشه إليها سنة 627هـ/1229م، وذلك في نفس الوقت الذي كان جنوده في إيران يتعقبون السلطان جلال الدين منكبرتي وقد تحرك أوكتاي بنفسه مع أخويه جغتاي وتُولي إلى سهل ((هوانج هو)) الذي يطلق عليه المغول ((فزاموران)) ثم قسموا قواتهم إلى جيشين رئيسيين: هجم أحدهم من الشمال بقيادة أوكتاي، واختار الآخر الهجوم على الجنوب بقيادة أخيه تولوي، وقد أسفرت المعارك عن انتصار المغول على قوات الصينيين انتصاراً ساحقاً وانتزعوا منهم مساحات شاسعة من الأراضي، وبعد ذلك عهد المغول إلى قائدهم المشهور ((سبوتاي)) بفتح العاصمة ((كاي فونج))، وسقطت هذه العاصمة الكبيرة في أيدي المغول وقتل معظم سكان المدينة ولم يفلت منهم إلا القليل وكان ذلك في سنة 631هـ/1233م، وعلى أثر ذلك تقدم الوزير الحكيم ((يي ليو جوتساي)) إلى أوكتاي ملتمساً ألا يأمر بتدمير المدينة، بل يلحقها بالأملاك المغولية، واستجاب لطلبه ، وعند قيام المغول بحملتهم على الصين الشمالية كان حكام الصين الجنوبية من أسرة ((سونج)) يقدمون المساعدات للمغول طمعاً في أن يكون لهم نصيب في أراضي الصين الشمالية، فلما خابت آمالهم، نشبت الحرب بينهم وبين المغول وكانت هذه فرصه سانحة لهم للقضاء على هذه الأسرة أيضاً، وضم أملاكها إلى حوزتهم ولكن تم هذا في عهد خلفاء أوكتاي .
2 ـ المغول في أوربا: بعد أن عاد أوكتاي من الصين مظفراً، كون جيشاً عظيماً تعداده 150000 جندي أسند قيادته العليا إلى باتو بن جوجي، وكلفه بفتح بلاد الروس والجركس والبلغار واقاليم أوربا الشرقية، وكان القائد المغولي المشهور ((سبوتاي)) يتولى القيادة الفعلية وقد تمكن هذا الجيش من الاستيلاء على كل المنطقة الواقعة بين جبال الأورال وشبه جزيرة القرم التي كانت موطناً للباشقرد والبلغار، وهزم حكام روسيا، وأحرق مدينة موسكو، ودمر مدينتي سوزدال وفلاديمير، فاشتعلت النيران في سوزدال على حين شهدت فلادميرير عند سقوطها عنوة أفظع المناظر، إذ دارت المذبحة في كل السكان الذين لجأوا إلى الكنيسة وسط لهيب النار، وبعد ذلك إنسابت الجيوش المغولية إلى مملكة أوكرانيا، فقلبوا هذه المناطق رأساً على عقب وعاثوا فيها تخريباً وفساداً، واستولوا على عاصمتها ((كييف)) في سنة 638هـ (1240م ) ودمروها تدميرا كاملاً ثم نهبوا إمارة غاليسيا الروسية، وبذلك سقطت في أيديهم روسيا بأكملها، واستمرت تلك المناطق الشاسعة خاضعة للمغول مدة قرنين ونصف 636هـ ـ 886هـ، وبعد أن تم فتح روسيا، انقسمت جيوشهم إلى قسمين: زحف القسم الأول على بولندا، وتوجه القسم الثاني إلى المجر. وقد تمكن القسم الأول من التغلب على جيش متحالف من البولونيين والألمان يبلغ تعداده 30000 جندي، واستولى المغول على مدينة ((بِرسلاو)) وتقدموا حتى مدينة برلين، بعد أنزلوا بالسكان الفناء والهلاك وبالمدن الخراب والدمار وفي هذا الاقليم وحده، جمعوا أكياساً ملأوها بآذان ضحاياهم وقتلاهم فبلغ مجموعها 270000 أذن أخذوها معهم دليلاً على ما كانوا يفخرون به من بأس وسطوة . وأما القسم الثاني فقد تغلب أيضاً في نفس الوقت على المجريين واستولى المغول على عاصمتهم ((بِست)) وتقدموا إلى فيينا من جهة وإلى سواحل بحر الأدرياتيك من جهة أخرى، وبينما المغول سائرون في فتوحاتهم على قدم وساق في أوربا إذا بالأنباء ترد إلى أوربا تعلن وفاة أوكتاي في سنة 639هـ/1241م واستدعاء باتو وسبوتاي لحضور القوريلتاي والاشتراك في انتخاب الخان الجديد، وبذلك سلمت أقاليم غرب أوربا من خطر محقق كان ينتظرها على أيدي هؤلاء المغول ..
3 ـ وفاة أوكتاي قاآن: كان أوكتاي ولوعاً إلى أقصى حد بالشرب والإدمان على الخمر وقد تسبب هذا في ضعفه يوماً بعد يوم، ولم يتيسر الخاصة ولا الأصفياء منعه من ذلك، بل كان يكثر من الشراب رغماً عنهم وعندما كانت جيوشه تحارب في أوربا، ظل مدة سبع سنوات عاكفاً على اللهو والمتعة والشراب إلى أن أثر هذا على صحته، وفي إحدى الليالي عندما حان أجله، أفرط في الشراب، فتوفي وهو نائم وكان ذلك في سنة 639هـ/1241م .
4 ـ النظم والإصلاحات التي تمت في عهد أوكتاي:
قام أوكتاي بعدة إصلاحات في البلاد المغلوبة على أمرها فقد ترك زمام الأمور في الصين في يد وزيره الحكيم ((يي ليو جوتساي)) الذي استطاع أن ينشئ في هذا الاقليم إدارة حازمة منظمة، مستعيناً في ذلك بالكتاب والعمال من الصينيين والأويغوريين والإيرانيين وأهل التبت، كذلك نجح في تنظيم الشئون المالية، وضبط عمليات الداخل والخارج، وإلى هذا الوزير يرجع الفضل في إعداد ميزانية ثابتة للإمبراطورية المغولية، إذ ألزم الصينيين بأن يأدوا ضرائب معينة نقداً ونوعاً، بما يجري تقديره من اثواب الحرير وكميات الحبوب على حين يدفع المغولي عشرة في المائة مما يحوزه من قطعان الخيل والماشية والغنم، ثم أنه شيد في مدينة بكين ((خان باليغ)) مدارس لتخريج شباب ذوي خبرة وكفاءة، وفيها كانوا يدرسون تعاليم كونفوشيس ، ولما تم لأوكتاي فتح الصين الشمالية ولي عليها"محمود يلواج" كما نصب ابنه"مسعود بيك" حاكماً على إقليم ما وراء النهر، فقام الأب والابن بتعمير ما خربه المغول، وأخلصاً في خدمة الناس وإصلاح أحوالهم وإدارة تلك المناطق أحسن إدارة ، وكان أوكتاي يميل إلى التعمير والتشييد وشرع في عام 631هـ/1234م في بناء عاصمة جديدة له وأمر بتشييد قصر شامخ في العاصمة الجديدة يبلغ طول كل ضلع من أضلاعه رمية سهم بعيد المدى، وأقاموا في وسطه مقصورة عالية وأنجزوا ذلك المبنى في أكمل صورة وأتم نسق، ثم عكفوا على زخرفتة وتزيينه بمختلف فنون النقش والتصوير وامر بأن يبني كل من الإخوة والأبناء وسائر الأمراء والملازمين له دوراً فخمة حول هذا القصر فامثلوا جميعاً الأمر وعندما تمت هذه المباني واتصل بعضها ببعض كونت مجمعاً عمرانياً رائعاً وكان ذلك بإشراف أمهر المهندسين الصينيين الذين قد أحضرهم معه ، وطور أوكتاي نظام البريد وفكر في حفر الآبار على امتداد دروب الصحراء في آسيا الوسطى .
5 ـ معاملة أوكاتي لرعاياه من المسلمين: كان أوكتاي ملكاً كريماً نبيل الخلق، طيب المعاملة للمسلمين على حين أن أخاه جغتاي، كان لا يكف عن إيذاء المسلمين، وإلحاق الضرر بهم، وكان يود أن يستأصل شأفتهم من سائر البلدان، وتنفيذاً لهذه السياسة درج على تحريض كبار الشخصيات المغولية من الأمراء والقواد لكي يوشوا بالمسلمين عند أوكتاي حتى يتغير عليهم ويعمل على الخلاص منهم، وذات يوم جاء راهب بوذي إلى الخان وقال له: إنه رأى جنكيز خان في المنام، وأنه يأمر ابنه أوكَتاي بضرورة العمل على هلاك المسلمين في جميع الأقطار ويوصيه بألا يتردد لحظة واحدة في تنفيذ هذا المر لأن المسلمين أصبحوا الآن كثرة، وسوف يكون على أيديهم القضاء على ملك المغول، فلما سمع أوكتاي هذا الحديث، وكان ذكياً ومحباً للمسلمين، أدرك بفراسته على الفور أن هذا الكلام كذب ومحض افتراء، وأنه من إيحاء أخيه الظالم جغتاي، ثم دعا أوكتاي إلى عقد اجتماع كبير حضره كبار الشخصيات من المغول وحكام الممالك وأمر باستدعاء ذلك الراهب، وكلفه بأن يعيد سرد رسالة جنكيز خان على مسمع من الحاضرين ففعل، بعد ذلك قال أوكاتي: ينبغي أن تكون لكل دعوى حجة وبرهان حتى يتبين الصدق من الكذب، والصحة من السقم فأمن الجميع على ما قال أوكتاي، ثم توجه الخان إلى الراهب وسأله: أتعرف المغولية أم التركية أم الإثنين معاً؟!..فأجاب الراهب: إنني أعرف التركية فقط، عندئذ قال أوكاتي: إن جنكيز خان كان لا يعرف سوى المغولية وأنت لاتعرف سوى التركية، فبأية لغة إذن بلغك هذا الأمر: هل بالمغولية أو بالتركية ، فلما تأكد الراهب أنه قد افتضح أمره، لم يحر جواباً، واعتراه الخجل وعلى هذا اتضح للجميع كذبه ونفاقه ولكن أوكتاي لم يدع هذه الفرصة تمر دون أن يلقن هذا الراهب درساً لاذعاً في الأخلاق فقال له: إنني لن أستبيح دمك احتراماً لأخي جغتاي، فعد من حيث أتيت، وقل لجغتاي وزمرته: أن كفواً أيديكم عن إيذاء المسلمين لأنهم إخوتنا وأصدقاؤنا وقد استمدت مملكتنا القوة منهم وبعونهم أصبح العالم مسخراً لنا وطوع أمرنا. ويروى أيضاً أن المغول كانوا أصدروا قراراً بألا يذبح أي شخص الخراف والحيوانات الأخرى التي يؤكل لحمها كذبيحة المسلمين، بل تشق صدورها وأكتافها، وذات يوم اشترى رجل مسلم خروفاً من السوق، وأخذه إلى البيت، وأوصد الأبواب، ثم سَمّى ـ الله ـ وهم بذبحه، واتفق أن راه في السوق رجل تركي من القبجاق، فتعقبه وتسلق السطح، وقيد ذلك المسلم وسحبه إلى بلاط القآان، فأرسل القآان نوابه للتحقيق، وعندما أطلعوه على ما جرى قال: إن الرجل الفقير قد احترم القانون، وهذا التركي ترك القانون، لأنه صعد إلى دار الفقير، وبهذا نجا المسلم وقتل القبجاقي .

6 ـ كيوك خان (644 ـ 647هـ = 1246 ـ 1249 م):
على أثر وفاة أوكتاي، اضطربت أحوال المغول، واختلفوا على من يخلفه على العرش، فالأمير "باتو" ملك خانات روسيا ووداي القبجاق وأحد كبار الأمراء البارزين في أسرة جنكيز خان لم يكن يميل إلى أن يتولى عرش المغول أحد من أسرة أوكتاي، كذلك كان يرغب"كوتان" الابن الثاني لأوكتاي في تولي هذا المنصب بعد أبيه، وكان هناك فريق آخر يرى التقيد بوصية الخان الراحل، واختيار حفيده الطفل"شيرامون" ليكون خاناً، أعظم للمغول، ونظراً لمرور وقت طويل دون أن يستقر المغول على رأي معين بخصوص هذه المسألة وبسبب غياب كيوك الابن الأكبر عن المقر الأصلي للمغول، تهيأت الفرصة للطامعين في تولي هذا المنصب وكان من بينهم أوتجكين أخو جنكيز خان، إذ أراد أن يغتصب العرش بالقوة، وتوجه لتنفيذ هذه الخطة إلى معسكر القآان بجيش جرار مزود بالعدة والعتاد، فهاج الجند والأتباع، وما أن علمت توراكينا بهذا التدبير، حتى بادرت بإرسال الرسل إلى أوتجكين تعتب عليه في رفق، وتعمل على استمالته إلى جانبها، فنجحت في هذا السبيل، إذ ندم أوتجكين ومهد سبيل الاعتذار، ثم قفل عائداً إلى موطنه، ولكن توراكينا خاتون لم تأبه بهذه المحاولات، وصممت على أن يتولى ابنها كيوك هذا المنصب، ولبلوغ الغاية، صارت تبذل قصارى ما في جهدها لمدة تربو على أربع سنوات في سبيل اجتذاب الأقارب والأمراء بأنواع التحف والهدايا حتى ضمت الأغلبية إلى صفها، وصاروا رهن إشارتها، كذلك سنحت لها الفرصة للتخلص من كبار الشخصيات والولاة الذين كانوا ضد سياستها وكانت لها حاجبة تدعى"فاطمة" أصلها من مشهد طوس، ثم ألحقت بخدمتها، وكانت هذه المرأة غاية في الذكاء والكفاءة وموضعاً للثقة التامة، وكاتمة أسرار الخاتون، وكان عظماء البلاد يتخذونها أداة لتحقيق أغراضهم، فأخذت توراكينا خاتون تعزل بمشورة تلك الحاجبة الأمراء وأركان الدولة ممن كانوا يتقلدون المناصب الكبرى في عهد أوكتاي وعندما تأكدت"توراكينا خاتون" من أنها أصبحت تملك الورقة الرابحة ووجدت أن الظروف كلها مهيأة لنجاح خطتها، أرسلت الرسل إلى كبار الشخصيات المغولية من جميع الأطراف والأمصار لحضور جلسة القوريلتاي التي سوف ينصب فيها كيوك رسمياً خاناً أعظم .
7 ـ اختيار كيوك خان خاناً أعظم للمغول:
وفي عام 644هـ/ 1246م انعقد القوريلتاي على ضفاف إحدى البحيرات غرب منغوليا، فاقترح أغلب الحاضرين انتخاب كيوك خاناً، أعظم للمغول ولكنه يعتذر محتجاً بضعفه ومرضه وفي النهاية قبل أن يتقلد هذا المنصب نزولاً على رغبة الأمراء بشرط أن يكون الحكم وريثاً في سلالته، فوافق الجميع على ذلك، عندئذ خلع الأمراء قلانسهم، وحلوا أحزمتهم، وأجلسوا كيوك على العرش ثم أخذوا الكؤس، وركعوا أمام عرشه، وأعلنوا انتخابه رسمياً خاناً للمغول واستمروا يحتفلون بهذه المناسبة مدة أسبوع وكان كيوك يقوم بتوزيع الأموال على الأمراء ورؤساء الفرق، وتذكر المصادر التاريخية أن القآان عامل رسول الخليفة معاملة حسنة ولكنه سلمه رسالة كلها تهديد ووعيد، أما ممثلوا الإسماعيلية، فراح يصب عليهم جام غضبه، وصرفهم أذلاء مهانين، ورد على زعيمهم رداً جافاً إلى أقصى حد ، كان كيوك خان، رجلاً مغامراً محارباً ميالاً إلى الغزو والفتح، فهو أقرب الشبه إلى جده جنكيز خان ولم يكد يستقر في الحكم حتى لفت نظر الأمراء والنبلاء ضرورة مراعاة أحكام الياسا وتجنب الخروج عليها أو تحريفها وتأويلها وامر بمعاقبة الذين قصروا في أداء واجبهم أو ارتكبوا مخالفات في المدة السابقة على توليته، كذلك كلف أمراءه وقواده بتجيش الجيوش لفتح الصين الجنوبية وعهد بهذه المهمة إلى القائد المغولي سبوتاي، واوفد"ايلجيكتاي" إلى إيران لفتح بقية الممالك الإسلامية، وجعل له السلطة العليا في الإشراف على شئون الروم والكرج والموصل وديار بكر، ونصّب محمود، حاكماً على ممالك الخطا، وولى الأمير مسعود بيك، حاكماً على ما وراء النهر وتركستان، وعين الأمير أرغون والياً على بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وشروان واللور وكرمان وفارس وطرف الهند، وقلد السلطان"ركن الدين" سلطنة الروم لأنه قدم إلى منغوليا بمناسبة تنصيبه إمبراطوراً للمغول وعزل أخاه الأكبر"عز الدين" وقرر أن يكون داود الصغير المعروف بابن فيز ملكاً محكوماً لداود الكبير صاحب تفليس .
أ ـ سياسة كيوك خان مع المسيحيين: كانت توراكينا خاتون تدين بالمسيحية، ولهذا عهدت إلى الأمير"قداق" المسيحي بالإشراف على تربية ابنها كيوك منذ الصغر، ولما اعتلى عرش المغول قرب إليه"جينقاي" الذي كان يعمل مستشاراً ووزيراً لأبيه، وكان من قبيلة كرايت، يدين أيضاً بالمسيحية، ولم يكتف كيوك بهذا، بل قلده منصب الوزارة، فكان لهذين الرجلين تأثير كبير على الخان المغولي، إذ صار يعطف عطفاً شديداً على رعاياه من المسيحيين من أمثال الأرمن والكرج والروس ، ويذكر المؤرخ بروان أن الجمعية العامة التي تمّ فيها انتخاب كيوك قد امتازت بوفرة عدد من حضرها من ممثلي الدول الأجنبية والشعوب الخاضعة لنفوذ المغول فقد حضرها اثنان من الكهنة بعث بهما البابا بخطابات يرجع تاريخها إلى أغسطس سنة 1245م= 643هـ وقد استقبل هذان الكاهنان خير استقبال ، غير أن كيوك عندما قرأ رسالة البابا طلب إلى البابا أن يعترف بسيادته العليا وأن يقدم إليه مع سائر أمراء الغرب ليحلفوا له يمين التبعية، فلما عاد"يوحنا" إلى البابا في نهاية سنة 1247م قدم إليه هذه الرسالة المخيبة للآمال، وأرفق بها تقريراً مفصلاً ذكر فيه أن المغول لم يخرجوا إلا للغزو والفتح . وخلاصته القول أنه في عصر كيوك خان ارتفع شأن المسيحيين على حين أنه لم يرتفع صوت للمسلمين وذلك بتأثير أمه من جهة وكانت تدين بالمسيحية وبتأثير وزيريه المسيحيين من جهة أخرى، كذلك وجد الأطباء المسيحيون الطريق ممهداً للإشراف على الشئون الطبية في البلاط المغولي وكان من أثر هذه السياسة أن شاعت بعض التقاليد المسيحية في الأوساط المغولية .
ب ـ وفاة كيوك خان، 647 هـ/ 1249م:
اضطربت أحوال المغول، واختلفوا على من يخلفه على العرش فالأمير"باتو" ملك خانات روسيا ووادي القبجاف، وأحد كبار الأمراء البارزين في أسرة جنكيز خان لم يكن يميل إلى أن يتولى عرش المغول أحد من أسرة أوكتاي ، ولم يحضر إلى منغوليا لحضور جلسة القوريلتاي التي نصب فيها كيوك رسمياً خاناً أعظم وعندما تولى كيوك خان الحكم أخذ على عاتقه أن يخضع"باتو" بسبب الموقف العدائي منه بصفة خاصة ومن أسرة أوكتاي بصفة عامة ولكنه لم يكد يصل إلى حدود سمرقند حتى وافاه الأجل المحتوم في ربيع الثاني سنة647 هـ/1249م، أما والدته توراكينا خاتون، فقد توفيت قبله بعدة أشهر .
8 ـ اختيار منكو خاناً أكبر على العرش المغولي: على أثر وفاة كيوك خان، أراد أوكتاي وأتباعه أن يقيموا"شيرامون" إمبراطوراً للمغول ولكن لاتخاذ هذه الخطوة، كان لابد من الحصول على موافقة الأمير"باتو" باعتباره أكبر الأمراء سناً ومقاماً فأصبح من حقه النظر في اختيار الملوك وتنصيبهم وعلى هذا أرسلوا إليه يطلبون أن يحضر إلى منغوليا لعقد القوريلتاي وتنصيب الخان الجديد، فرد عليهم معتذراً بعدم قدرته على السفر إلى منغوليا بسبب مرضه، وفي نفس الوقت وجه الدعوة إلى كبار الأمراء والقواد للحضور إلى القبجاق حيث يقيم، والإشتراك في القوريلتاي لانتخاب الخان، ولكن أبناء أوكتاي وجغتاي عارضوا هذا الإقتراح، وأصروا على أن يعقد القوريلتاي في المقر الأصلي لجنكيز خان جرياً على العادة المتبعة وعلى هذا امتنعوا على الذهاب إلى القبجاق واكتفوا بأن أنابوا عنهم بعض المندوبين وأما منكو وإخوته فقد لبوا دعوة باتو، وأسرعوا إلى القبجاق حيث عقد القوريلتاي ونودي بمنكو إمبراطوراً على المغول وتلقب بلقب"منكو قآان" وبهذا انتقل الحكم إلى أولاده تولوي الذين يمثلون الفرع الثاني من أسرة جنكيز خان ولكن لما لم يكن جميع الأمراء ممثلين في هذا الإجتماع، أُتفق على أن يعقد القوريلتاي مرة ثانية في مطلع السنة الجديدة ويحضره الأمراء والعظماء لإقرار تنصيب"منكَو" خاناً أعظم للمغول بصفة رسمية وعقد القوريلتاي مرّة أخرى في شهر ذي الحجة 648هـ/ابريل1260م في منطقة قراقورم، وذلك رغم أنف المعارضين وفيه أعلن انتخاب منكو رسمياً ولكن المناوئين لسياسة منكو لم يخضعوا لهذا القرار، وحاولوا تدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم بالقوة، فعلم بذلك منكَو في الوقت المناسب وتمّ القبض على المتآمرين قبل تنفيذ خططهم، ولما حقق معهم اعترفوا بجرمهم وكان منكو قآان ينوي الصفح عنهم إلا أن الأمراء حذروه مغبة التهاون معهم، وأصروا على ضرورة الاقتصاص منهم، وأخيراً طلب مشورة محمود يلواج، فسرد إليه قصة الأسكندر وأرسطو ومؤداها أنه عندما استولى الأسكندر على أكثر ممالك العالم، أراد أن يسير نحو الهند، غير أن أمراء الدولة وأركانها خرجوا على طاعته وتخلفوا عن متابعته، وأخذ كل منهم يعلن الاستقلال والاستبداد، فعجز الأسكندر عن علاج هذه الوضع وأرسل رسولاً إلى وزيره أرسطو الذي لا نظير له، وأطلعه على عصيان أمرائه وتمردهم، وسأله عن إيجاد حل لهذه المسألة فدخل أرسطو مع الرسول إحدى الحدائق، وأمر بأن تُجتَثَّ الأشجار الكبيرة من جذورها وأن تغرس شجيرات صغيرة، فقال الأسكندر: لقد أجاب، وأنت لم تفهم مقصوده، وأهلك الأسكندر ـ على الفور ـ الأمراء المستبدين، ونصب أبناءهم في أماكنهم، فاستحسن منكوقاآن هذا القول وأمر بضرب أعناق الأمراء المعتقلين ووضع جمعاً آخر في مكانهم.
أ ـ إصلاحات منكوقاآن الداخلية:
اهتم منكوقاآن بالإصلاحات الداخلية والنظم الإدارية عناية كبيرة فنجح في هذا السبيل نجاحاً منقطع النظير، وكان من أحسن الحكام الذين ساسوا المغول سياسة بارعة ، ورغم حرصه على التمسك بأحكام الياسا والمحافظة على آداب المغول، فإنه نظراً لطول معاشرته للأمم المتمدنة ولكثرة إختلاطه بالمتحضرين في الأمم المغلوبة، فقد تأثر نوعاً ما وكان يكره الترف، وينكر المباذل، وليس له هواية سوى الصيد، ومن صفاته أنه كان بالغ النشاط بارعاً في تسيير الإدارة متوقد الذكاء، جندياً باسلاً وسياسياً ماهراً، وبهذه الخصال أعاد القوة والحيوية إلى ما أقامه جده جنكيز خان من نظم ووهب الإمبراطورية المغولية أساليب إدارية محكمة، وجعل منها دولة بالغة القوة .
ب ـ تسويته بين طوائف الإمبراطورية المغولية: كان لا يفرق بين طائفة وأخرى، وعامل المسيحيين والمسلمين والبوذيين على قدم المساواة وكفل الحرية للجميع، إذ سمح للواحد منهم بأن يناظر الآخر يجادله في المسائل الدينية في حرية تامة، وعلى الرغم أن منكو كان يدين بعقيدة أسلافه الشامانية، فإنه كان يشهد الأعياد البوذية والمسيحية والإسلامية دون تفرقة أو تمييز، إذ سلم بوجود إله واحد يعبده كل إنسان حسبما شاء ، ومنكو قاآن في هذا يسير على سياسة والدته ((سُرقويتي بيكي)) التي أثرت فيه تأثيراً كبيراً، فمع أن هذه المرأة كانت تدين بالمسيحية، إلا أنها سلكت سلوكاً حسناً مع الرعايا المسلمين، وكانت شديدة العطف عليهم، لا سيما الأئمة ومشايخ الإسلام، إذ أغدقت عليهم الكثير من العطايا والهبات، ولم تقف عند هذا الحد بل أنها أقامت في بخارى مدرسة عل نفقتها الخاصة، ووقفت عليها أوقافاً كثيرة وولت عليها شيخ الإسلام سيف الدين الباخرزي، وعينت المدرسين، ورعت شئون الطلبة، وكانت تتصدق على الفقراء والمساكين من المسلمين، وقد استمرت على هذا النحو من فعل الخيرات إلى أن توفيت في شهري ذو الحجة سنة 649هـ مارس 1251م .
جـ ـ مشروع التحالف بين المغول والمسيحيين: قابل منكوقاآن سفير لويس باحترام وأكرم وفادته وسمح له بأن يناظر العلماء البوذيين والمسلمين في حرية تامة، إلا أنه لم يعطه جواباً مقنعاً فيما يتعلق بتكوين إتحاد مع المسيحيين، بل أنه طلب إليه أن يسارع لويس مع جميع الملوك المسيحيين إلى الدخول في طاعته، وقد مكث ((روبروق)) خمسة أشهر في قراقوم وفي النهاية عاد إلى الشام حيث قابل لويس في مدينة عكا وقدم إليه الرسالة ، كان الخان المغولي الكبير لا يقبل أن يكون سيد في العالم سواه، وكانت سياسته الخارجية بالغة البساطة، إذ أن أصدقاءه يعتبرون أتباعاً له، أما أعداؤه فينبغي استئصال شأفتهم، أو إخضاعهم حتى يكونوا أتباعاً له، وكل ما استطاع ((وليم روبروق)) أن يحصل عليه، هو أنه استخلص وعداً صادقاً بأن يتلقى مساعدة طالما قدم أمراؤهم لبذل الولاء لسيد العالم. على أن ملك فرنسا لم يستطع التفاوض على أساس هذه الشروط وغادر ((روبروق)) قراقوم في أغسطس عام 1254م عائداً إلى بلاط باتو بعد أن اخترق آسيا الوسطى، ومن ثم إجتاز القوقاز وبلاد السلاجقة بالأناضول إلى أرمينية ومنها إلى عكا ولقى ((روبروق)) في كل مكان من الاحترام والتبجيل ما يليق برسول يقصد الخان الكبير، ومهما يكن من أمر فإن هذه الرحلة قد أمدت ((وليم روبروق)) بمعلومات كثيرة مفيدة عن المغول، ووصف لنا عاداتهم وطبائعهم وحياتهم الإجتماعية، وغير ذلك مما صادفه في رحلته، كما وصف جميع القبائل والجماعات التي كان يتكون منها العنصر المغولي والتي أخضعها جنكيز خان .
س ـ سياسة منكوقاآن الخارجية: في السنة التالية لحكم منكوقاآن، وبعد أن استقرت الأحوال الداخلية وتخلص من جميع المناوئين لسياسته، وجه عنياته نحو الغزو والفتح والعمل على توسيع رقعة الإمبراطورية، فصمم على فتح البلاد التي لم يتيسر فتحها من قبل وقد دفعه هذا التصميم إلى تجهيز حملتين كبيرتين، نصب أخاه الأصغر ((هولاكو)) على رأس إحداهما وعهد إليه بالقضاء على الإسماعيلية وإخضاع الخليفة العباسي، ونصب أخاه الأوسط ((قوبيلاي)) على رأس الحملة الأخرى بفتح أقاليم الصين الجنوبية، واستعد منكوقاآن نفسه للسير بحملة أخرى بقصد الاستيلاء على بعض الأقاليم في هذه البلاد الفسيحة .
ك ـ وقفة للتحليل:
ـ وصلت حدود دولة التتار في عام 639هـ من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، ومن سيبيرا شمالاً إلى بحر الصين جنوباً وهو إتساع رهيب في وقت قياسي وأصبحت قوة التتار في ذلك الوقت هي القوة الأولى في العالم بلا منازع.
ـ تولى قيادة التتار بعد ((أوكتاي)) ابنه ((كيوك بن أوكتاي))، وقد كان لهذا الخاقان الجديد الرأي في تثبيت الأقدام في البلاد المفتوحة بدلاً من إضافة بلاد جديدة قد لا يقوى التتار على حفظ النظام فيها، والسيطرة على شعوبها وجيوشها، ومن ثم فقد توقفت الفتوحات التتارية، وفي عهد هذا الخاقان، وإن ظل التتار يحافظون على أملاكهم الواسعة.
ـ ابتلع التتار في فتوحاتهم السابقة النصف الشرقي للأمة الإسلامية، وضموا معظم الأقاليم الإسلامية في آسيا إلى دولتهم وقضوا على كل مظاهر الحضارة في هذه المناطق، كما قضوا تماماً على أي نوع من المقاومة في هذه المناطق الواسعة، وظل الوضع كذلك لسنوات كثيرة لاحقة.
ـ ظل القسم الأوسط من العالم الإسلامي ـ والذي يبدأ من العراق إلى مصر ـ مفرقاً مشتتاً، لا يكتفي بمشاهدة الجيوش التتارية وهي تسقط معظم ممالك العالم في وقتهم، وإنما إنشغل أهله بالصراعات الداخلية فيما بينهم وإزداد تفككهم بصورة كبيرة، كذلك كان القسم الغربي من العالم الإسلامي الذي يضم ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وغربي أفريقيا مفككاً تماماً.
ـ ذاق الأوربيون النصارى من ويلات التتار وذبح منهم مئات الآلاف، ودمرت كنائسهم وأحرقت مدنهم، بل هددوا تهديداً حقيقياً أن يصل التتار إلى عقر دار الكاثوليكية النصرانية في روما.
ـ ومع أن النصارى رؤوا أفعال التتار إلا أن ملوك النصارى في أوربا الغربية (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وإلمانيا) كانوا يرون أن هذه مرحلة مؤقتة سوف تقف عند فترة من الفترات.. ولذلك كان ملوك الصليبيين على إستعداد كامل للتعاون مع التتار ضد المسلمين.
ـ أخذت عقائد الجيش التتاري في التغير بعد الحملات التي وجهوها إلى أوربا، فقد تزوج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات، وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبياً في البلاط المغولي، وهذا ساعد أكثر على إمكانية التعاون بين التتار والصليبيين.
ـ إستمرت الحروب الصليبية الأوربية على المسلمين في مصر والشام، وكانت مصر والشام في ذلك الوقت تحت حكم الأيبوبيين، ولكن كانت هذه هي آخر أيام الأيوبيين، وقد دار الصراع بينهم وبين بعضهم، وأصبح المسلمون بين شقي الرحى بين التتار من ناحية والصليبيين من ناحية أخرى، ولم يمتنع المسلمون من الصراع فيما بينهم.
ـ في سنة 640هـ توفي المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولى الخلافة ابنه ((المستعصم بالله)) وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عاماً، وهو وإن كان قد اشتهر بكثرة تلاوة القرآن وبالنظر في التفسير والفقه، وكثرة أعمال الخير، إلا أنه لم يكن يفقه كثيراً في السياسة، ولم يكن له علم بالرجال، فاتخذ بطانة فاسدة، وإزداد ضعف الخلافة عما كانت عليه وسنأتي بإذن الله تعالى بذكره بالتفصيل.
ـ لم يبق فاصلا بين المغول والخلافة العباسية في العراق إلا شريط ضيق في غرب إقليم فارس (غرب إيران الآن)، وهو على قدر من الأهمية وإن كان ضيقاً، إذ كانت تعيش فيه طائفة الإسماعيلية الشيعية الخطرة، وكانوا أهل حرب وقتال، ولهم قلاع وحصون، فضلاً عن طبيعة المكان الجبلية، وكانوا على خلاف دائم مع المذهب السني وكراهية شديدة له وكانوا يتعاونون مع أعداء الإسلام كثيراً، فمرة يراسلون التتار ومرة الصليبيين، وكان المغول يدركون وجودهم، ومع ذلك فهم لا يطمئنون لهم، وما كانوا يرغبون في بقاء قوة ذات قيمة في أي مكان على ظهر الأرض .
رابعاً : هولاكو والقضاء على الإسماعيلية: لم يكن أمام المغول بعد استيلائهم على أملاك الدولة الخوارزمية أي قوة تستطيع اعتراض طريقهم نحو الغرب وكان الحكام المسلمون يعرفون تمام المعرفة أهمية الدولة الخوارزمية، كحاجز قوي بينهم وبين المغول وعلى كل فقد حرص منكو خان على إعداد حملة هولاكو إعداداً محكماً يكفل لها النجاح، فقد ارسل المرشدين ليختبروا الطريق الذي سوف تمر منه عساكر هولاكو من قراقورم حتى شاطئ نهر جيحون، فأقاموا الجسور على الأنهار العميقة، وعلى مجاري المياه السريعة ، ثم رسم لأخيه الخطة التي كان عليه أن يتبعها حيث قال له: إنك الآن على رأس جيش كبير وقوات لا حصر لها فينبغي أن تسير من توران إلى إيران وحافظ على تقاليد جنكيز خان وقوانينه في الكليات والجزيئات وخص كل من يطيع أوامرك ويتجنب نواهيك في الرقعة الممتدة من جيحون حتى أقاصي بلاد مصر بلطفك وبأنواع عطفك وأنعامك، أما من يعصيك فأغرقه في الذلة والمهانة مع نسائه وأبنائه وأقاربه وكل ما يتعلق به، وابدأ بإقليم قهستان في خراسان، فخرب القلاع والحصون، فإذا بادر خليفة بغداد بتقديم فروض الطاعة، فلا تتعرض له مطلقاً، أما إذا تكبر وعصى فالحقه بالآخرين من الهالكين، كذلك ينبغي أن تجعل رائدك في جميع الأمور العقل الحكيم والرأي السديد، وأن تكون في جميع الأحوال يقظاً عاقلاً، وأن تخفف عن الرعية التكاليف والمؤن، وأن ترفه عنهم، وأما الولاية الخربة، فعليك أن تعيد تعميرها في الحال، وثق أنك بقوة الله العظيم سوف تفتح ممالك الأعداء، حتى يصير لك فيها مصايف ومشاتي عديدة، وشاور دقوز خاتون في جميع القضايا والشئون ، وخرج هولاكو على رأس جيشه من قراقورم عاصمة المغول في سنة 651هـ/1253م وفي طريقه لقي مساعدة كاملة من أمراء المغول الذين أعدوا له المأكل والمشرب في جميع المراحل وحرصوا على أن ينظفوا الطريق التي تقرر أن يسلكها جيش هولاكو من الحجارة والأشواك كما أعدوا السفن له لعبور الأنهار الكبيرة، كما قام الأمراء والنبلاء في تلك النواحي بحشد أعداد كبيرة من الجند للإنضمام إلى جيش هولاكو ، وفي شهر شعبان سنة 653هـ/1255م وصل جيش هولاكو إلى سمرقند، وأمضى بها أربعين يوماً ثم توجه إلى مدينة كش، وهناك وصله كافة الأمراء والأكابر في خراسان وقدموا خضوعهم وهداياهم له وأقام بهذه المدينة قرابة شهر وجه خلالها عدة رسائل إلى الملوك والسلاطين في البلاد المجاورة طلب منهم معاونته في تحطيم قلاع الإسماعيلية والقضاء عليهم وفي مقابل ذلك تعهد لهم بأن يبقيهم على ولايتهم ولا يتعرض لهم بسوء، وهددهم بأن امتناعهم عن مساعدته يجرهم إلى الهلاك وأنه سينزل بهم ما ينزل بالإسماعيلية .
1 ـ نشأة قلاع الإسماعيلية: حرص الفاطميون على نشر دعوتهم الإسماعيلية في أرجاء الدولة الإسلامية، ولقيت دعوتهم نجاحاً في فارس والعراق، وإزداد نفوذ الإسماعيلية في عصر السلطان السلجوقي ملكشاه، حتى استولوا على أصبهان، ونشروا فيها دعوتهم في عهد زعميهم أحمد بن عبد الملك بن عطاش، ومن تلاميذه الحسن بن الصباح من أصل يمني، نزح أبوه إلى الكوفة، ثم إلى قم، ومن قم، إلى الري، حيث ولد الحسن وعرف أصول الدعوة من عبد الملك بن عطاش ـ داعية المذهب في العراق ـ ومن سنة 471هـ وصل إلى مصر، بعد رحلة مليئة بالأخطار هدفه مقابلة المستنصر ـ الإمام الفاطمي ـ وبقي في مصر أكثر من سنة، لم يحظ خلالها بمقابلة الإمام، وغادر مصر في سفينة مع جماعة من الفرنجة، وأدى هياج البحر إلى إتجاه السفينة إلى حلب، ومنها عاد إلى أصفهان، ومنها إلى قلعة آلموت، وطارده نظام الملك الوزير السلجوقي الكبير مؤسس المدارس النظامية التي تحدثنا عنها في كتابنا السلاجقة، وتمكن أنصاره من السيطرة على آلموت ـ أي عش العقاب ـ واستولى على القلعة سنة 483هـ ، ولما استقر الحسن الصباح في آلموت أرسل الدعاة إلى الأطراف وكان الحسن الصباح يدعو إلى نزار بن الخليفة المستنصر لأن المستنصر قد خلع ابنه الأكبر نزار من ولاية العهد، وأسندها إلى ابنه المستعلى، ورفض الحسن الصباح خلع الابن الأكبر نزار، لأن ذلك يتنافى مع عقائد المذهب الإسماعيلي، الذي يعطي ولاية العهد للإبن الأكبر، وكان الحسن الصباح في مصر أثناء خلع المستنصر للإبن الأكبر نزار، ولما رفض هذا الإجراء سجن في مصر، ثم غادرها، ودعا إلى نزار في البلاد التي سيطر عليها ، وعمل الحسن بن الصباح على توسيع رقعة دولته بعد وفاة السلطان ملكشاه، وكان دولة الحسن الصباح على العقيدة الإسماعيلية الشيعية متطرفة في العقيدة، وانحرفوا عن الإسلام الصحيح، وللرد على مزاعم الإسماعيلية الباطنية ألف أبو حامد الغزالي كتابه الموسوم بفضائح الباطنية داحضاً لإدعاءاتهم ، وقد فصلت الحديث عنه في كتابي عن السلاجقة.
2 ـ اقتلاع جذور الدولة الاسماعيلية:فيى ذي الحجة سنة 653هـ /يناير 1256م، اصدر هولاكو أوامره بتوقف جميع السفن والزوارق، وإقامة جسر على نهر جيحون حيث عبرت قواته النهر متوجهة إلى قلاع الإسماعيلية ونزل في مرعى شبورقان بالقرب من مدينة بلخ وامضى هولاكو الشتاء هناك ، ثم وصل هولاكو بعد ذلك على رأس الجيش الرئيسي إلى قلاع الإسماعيلية الحصينة، واستطاع بالحيلة تارة، وبالقوة تارة أخرى أن يستولى عليها الواحدة تلو الأخرى حتى أنتهى من آخر قلاعهم قلعة الموت في أواخر سنة 654هـ/1257م حيث لم يستطع زعيم الإسماعيلية ركن الدين خوارزمشاه، مقاومة هولاكو، فاستسلم له وقبل الأرض أمامه وبذلك تمكن المغول من الاستيلاء على كل قلاع الإسماعيلية التي بلغ عددها نحو المائة، والتي اتخذها هؤلاء الإسماعيليون أوكاراً لهم سنين طويلة، ولم يكتف هولاكو بلاستيلاء على قلاع الإسماعيلية في تلك المناطق بل طلب من ركن الدين خورشاه تسليم جميع قلاع الإسماعيلية في بلاد الشام، فاستجاب له وراسل مندوبين من قبله إلى بلاد الشام ومعهم رسل هولاكو لدعوة الناس هناك إلى التسليم عندما تصل إليهم الرايات المغولية .
خامساً: تحرك الجيوش المغولية نحو بغداد: بعد أن قضى هولاكو على طائفة الإسماعيلية، سار لتحقيق هدفه الثاني، الذي رسمه له أخوه منكو خان، وهو الإستيلاء على بغداد، والقضاء على الخلافة العباسية، التي أدركتها الشيخوخة وظهرت عليها مظاهر الضعف والإنهيار، والواقع أن جذور الضعف والتفكك قد امتدت إلى جسم الخلافة العباسية قبل مجئ المغول بمدة طويلة بسبب عوامل كثيرة ذكرنا بعضها في ما مضى وسنذكر البعض الآخر بإذن الله تعالى. لقد تفككت الروابط القوية التي كانت تربط الخلافة العباسية بمختلف الأمصار الإسلامية، حيث نشأت دول عديدة وإمارات مستقلة في قلب الخلافة العباسية وأطرافها وعندما بدأ المغول زحفهم على الممالك الإسلامية في الشرق كان الخليفة العباسية في ذلك الوقت هو المعتصم بالله(640/1242م/656هـ/1258م) .

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 2:03 pm

1 ـ سير الحملة إلى بغداد:
بعد أن حقق هولاكو خان هدفه الأول، وهو القضاء على طائفة الإسماعيلية سار لتحقيق هدفه الثاني وهو القضاء على الخلافة العباسية وفي رمضان سنة655هـ/1257م أرسل هولاكو رسولاً إلى الخليفة مصاغة في قالب من التهديد والوعيد جاء فيها: لقد أرسلنا إليك رسلنا وقت فتح قلاع الملاحدة وطلبنا مدداً من الجند، ولكنك أظهرت الطاعة ولم تبعث الجند وكانت آية الطاعة والاتحاد أن تمدنا بالجيش عند مسيرنا إلى الطغاة، فلم ترسل إلينا الجند والتمست العذر ولا بد أنه قد بلغ سمعك على لسان الخاص والعام، ما حل بالعلم والعالمين على يد الجيش المغولي، منذ عهد جنكيز خان ، إلى اليوم، والذي حاق بأسر الخوارزمية والسلجوقية وملوك الديالمة والاتابكية وغيرهم ممن كانوا ذوي عظمة وشوكة، وذلك بحول الله القديم الدائم، ولم يكن باب بغداد مغلقاً في وجه أية طائفة من تلك الطوائف، واتخذوا منها قاعدة ملكاً لهم، فكيف يغلق في وجهنا رغم مالنا من قدرة وسلطان؟ ولقد نصحناك من قبل، والآن نقول لك احذر الحقد، والخصام ولا تضرب المخصف بقبضة يدك ولا تلطخ الشمس بالوحل فتتعب، ومع هذا فقد مضى ما مضى، فإذا أطاع الخليفة، فليهدم الحصون ويردم الخنادق، ويسلم البلاد لابنه، ويحضر لمقابلتنا، وإذا لم يرد الحضور فيرسل كلاً من الوزير وسليمان شاه، والدواتدر، ليبلغوه رسالتنا دون زيادة أو نقصان فإذا استجاب لأمرنا فلن يكن واجبنا أن نكن له الحقد، وسنبقي له على دولته وجيشه ورعيته، أما إذا لم يصغ إلى النصح وآثر الخلاف والجدال، فليعين الجند وليعين ساحة القتال فإننا متأهبون لمحاربته وواقفون له على استعداد، وحينما أقود الجيوش إلى بغداد، مندفعاً بثورة الغضب، فإنك لو كنت مختفياً في السماء أو في الأرض… فسوف أنزلك من الفلك الدوار وسوف القيك من عليائك إلى أسفل كالأسد، ولن أدع حياً في مملكتك وسأجعل مدينتك واقليمك وأراضيك طعمة للنار، فإذا أردت أن تحفظ رأسك وأسرتك فاستمع لنصحي بمسمع العقل والذكاء، وإلا فسأرى كيف تكون إرادة الله . ورفض المعتصم بشدة ورد على هولاكو برسالة كلها احتقار قال فيها: أيها الشاب الحدث… المتمني قصر العمر، ومن ظن نفسه محيطاً ومتغلباً على جميع العالم مغتراً في يومين من الإقبال، متوهماً أن أمره قضاء مبرم، وأمر محكم، لماذا تطلب مني شيئاً لن تجده؟ ألا يعلم الأمير أنه من الشرق إلى الغرب وأنه من الملوك إلى الشحاذين ومن الشيوخ إلى الباب ممن يؤمنون بالله ويعملون بالدين، كلهم عبيد هذا البلاط وجنود لي. إنني حينما أشير بجمع الشتات سأبدأ بحسم الأمور في إيران ثم اتوجه منها إلى بلاد توران، وأضع كل شخص في موضعه، وعندئذ سيصير وجه الأرض مملؤ بالقلق والاضطراب، غير أني لا أريد الحقد والخصام ولا أن أشتري ضرر الناس وإيذائهم، كما أنني لا أبغى من وراء تردد الجيوش أن تلهج ألسنة الرعية بالمدح أو القدح خصوصاً وأنني مع الخاقان هولاكو خان قلب واحد ولسان واحد، وإذا كنت مثلي تزرع بذور المحبة فما شأنك بخنادق رعيتي وحصونهم، فاسلك طريق الود وعد إلى خراسان، وإن كنت تريد الحرب والقتال، فلا تتواني لحظة ولا تعتذر، إذا استقر رأيك على الحرب، أن لي ألوفاً مؤلفة من الفرسان والرجالة وهم متأهبون للقتال، وأنهم ليثيروا الغبار من ماء البحر وقت الحرب والطعان . وصل رسل الخليفة إلى هولاكو، فلما اطلع هذا على رسالة الخليفة، وعلم بما لحق رسله من أذى العامة في بغداد، غضب غضباً شديداً، وأعاد رسل المعتصم، وحملهم رسالة أخرى تتضمن إنذاراً نهائياً له، صيغ في لهجة شديدة عنيفة، إذ يقول: لقد فتنك حب الجاه والمال، والعجب والغرور بالدولة الفانية، بحيث أنه لم يعد يؤثر فيك نصح الناصحين بالخير وإن في أذنيك وقراً، فلا تسمع نصح المشفقين ولقد انحرفت عن طريق آباك وأجدادك، وإذن فعليك أن تكون مستعداً للحرب والقتال فإني متوجه إلى بغداد بجيش كالنمل والجراد، ولو جرى سيل الفلك على شاكلة أخرى فتلك هي مشيئة الله العظيم ، وقبل أن يقدم هولاكو على غزو بغداد، استشار المنجمين، فيما يتعلق بأحكام النجوم وطوالع السعد والنحس، أما الفلكي حسام الدين الذي جاء برفقة هولاكو من قبل خان المغول الأعظم ((منكوقاآن)) فقد كان سنياً يعطف على الخليفة العباسي ويحرص على أن يمنع هولاكو من الاقدام على غزو بغداد، فراح يؤكد له أن هذه الحملة تحدث خلالا في نظام الكون، فضلاً على أنها سوف تكون وبالاً على الخان نفسه، فكان مما قاله له: الحقيقة أن كل ملكٍ تجاسر ـ حتى هذه اللحظة ـ على قصد الخلافة والزحف بالجيش على بغداد لم يبق له العرش ولا الحياة، وإذا أبى الملك أن يستمع إلى نصائحي، وتمسك بمشروعه فسينتج عنه ستة مصائب كبيرة:
ـ تموت الخيول كلها، ويمرض الجنود.
ـ لن تطلع الشمس.
ـ لن ينزل النبات في الأرض.
ـ لن ينزل المطر.
ـ تهب رياح شديدة، ويعاني العالم من الزلازل.
ـ يموت الخان الأعظم في هذا العام .
وأما الأمراء فقد قالوا: إن الذهاب إلى بغداد هو عين المصلحة، وبعد ذلك استدعى هولاكو خان ((نصير الدين الطوسي)) لاستشارته، ولما كان يكره الخليفة، ويعمل على إسقاطه، فقد نقض كل ما قاله حسام الدين، وطمأن هولاكو بأنه لا توجد موانع تحول دون إقدامه على الغزو، ولم يقف عند هذا الحد، بل يؤيد وجهة نظره بالحجج القوية التي تكذب نبوءة حسام الدين، فذكر أن الكثيرين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ماتوا في الدفاع عن الدين، ومع ذلك لم تقع أية كارثة، وإذا قيل أن ذلك خاص ببني العباس، فإن الكثير من الناس قد خرجوا على هذه الأسرة وقتلوا منهم بعض الخلفاء، دون أن يحدث أي خلل، وأخذ نصير الطوسي يتمثل بطاهر بن الحسين قائد المأمون الذي قتل محمد الأمين، وبالأمراء الذين قتلوا المتوكل والمنتصر والمعتز وغيرهم .

2 ـ حصار بغداد: وعلى إثر ذلك أصدر هولاكو أمره بأن تتحرك جيوش المغول من أطراف بلاد الروم عن طريق إربل والموصل متجهة نحو بغداد لتحاصرها من الجهة الغربية، وتنتظر حتى تصل إليهم جيوش هولاكو من الناحية الشرقية، أما كيتوبوقا أحسن قواد هولاكو فقد إتجه بالجناح الأيسر إلى العاصمة العباسية عن طريق لورستان، وخوزستان، كما أنفذ إليها بعض أمراء المغول عن طريق كروستان الحالية، وفي أوائل المحرم سنة 625هـ/1257م نزل هولاكو من همذان إلى دجلة عن طريق كرمانشاه وحلوان، وكان معه في تلك الغزوة الأمير أرغون والخواجة نصير الدين الطوسي والوزير سيف الدين البينكجي ، وعلاء الدين عطاء الجويني، وقد استطاع هولاكو أن يستميل إلى جانبه سكان الأماكن الجبلية المتاخمة للعراق بواسطة الأموال التي كان يبذلها لهم، كما استطاع أن يضم إليه كثير من جنود سليمان شاه . وكان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل والأتابك أبو بكر في إقليم فارس ممن أمدوا هولاكو بالمال والرجال، ولما انتهى حشد القوات المغولية وأقام هولاكو معسكره في ظاهر بغداد من الرق، حاول الجيش الذي أعده الخليفة بقيادة مجاهد الدين آيبك الدواندار الصغير أن يحول دون استقرار المغول في أماكنهم، فكان نصيبه الهزيمة المنكرة، وقتل عدد كبير من الجنود لقوا حتفهم على يد المغول، فلم يسع مجاهد الدين إلا الحرب مع قليل من أتباعه، وفي يوم الثلاثاء 22 من المحرم 656هـ/1258م أحكم الحصار حول مدينة بغداد، واستمر حتى نهاية هذا الشهر، وفي خلال تلك الفترة كان المغول يطلقون يد التخريب في المدينة، ويفتحون الأبراج حتى استولوا بهجماتهم على القسم الشرقي من التحصينات .

3 ـ مفاوضات النهاية: ولما رأى الخليفة حرج موقفه، أراد أن يهد المغول ويثنيهم عن عزمهم على إتمام الفتح وذلك بإرسال الرسل والهدايا، ولكن هولاكو لم يستجب لهذا النداء ، ولجأ الخليفة إلى صديقه مؤيد الدين العلقمي الشيعي وسأله ماذا يفعل؟ واشار إليه الوزير أن يخرج لمقابلة هولاكو بنفسه لكي يجري معه مفاوضات، وذهب الرسل إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة ولكن ليس وحده، بل عليه أن يأتي معه بكبار رجال دولته، ووزرائه وفقهاء المدينة، وعلماء الإسلام، وأمراء الناس والأعيان، حتى يحضروا جميعاً المفاوضات وبذلك تصبح المفاوضات ـ كما يزعم هولاكو ـ ملزمة للجميع، وجمع الخليفة كبار قومه، وخرج بنفسه في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد، خرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمد الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، وتلاحقت أنفاسه، لقد خرج الخليفة ذليلاً مهيناً، وهو الذي كان يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، وكان أجداده الأقدمون يقودون الدنيا من تلك الدار التي خرج منها الخليفة الآن، وكان الوفد كبيراً يضم سبعمائة من أكابر بغداد، وكان فيه بالطبع وزيره مؤيد الدين العلقمي، واقترب الوفد من خيمة هولاكو، ولكن قبل الدخول على زعيم التتار اعترض الوفد فرقة من الحرس الملكي التتاري، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو بل قالوا: إن الخليفة سيدخل ومعه سبعة عشر رجل فقط، أما الباقون فسيخضعون ـ كما يقول الحرس ـ للتفتيش الدقيق، ودخل الخليفة ومعه رجاله وحجب عنه بقية الوفد، ولكنه لم يخضعوا لتفتيش أو غيره، بل أخذوا جميعاً… للقتل!! قتل الوفد بكامله إلا الخليفة والذين كانوا معه قتل كبراء القوم، ووزراء الخليفة، وأعيان البلد، وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية، ولم يقتل الخليفة لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى، وبدأ هولاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله وعرف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان "لا يرغبون في مؤمن إلاً ولا ذمةً" التوبة : آية ، 10 وصدرت الأوامر من هولاكو إلى الخليفة:
أ ـ على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بالقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة، وقد كان ذلك أمراً سهلاً، لأن معظم سكان المدينة لا يستطيعون حمل السلاح، ولا يرغبون في ذلك أصلاً.
ب ـ يقيد الخليفة العباسي، ويساق إلى المدينة، يرسف في أغلاله، وذلك لكي يدل التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة وكل ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال .
جـ ـ يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينيه، فقتل الولد الأكبر أحمد أبو العباس وكذلك قتل الولد الأوسط عبد الرحمن أبو الفضائل… ويتم أسر الثالث مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة فاطمة وخديجة ومريم.
د ـ أن يستدعي من بغداد بعض الرجال بعينهم وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السنة، وكان ابن العلقمي يكن لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعاً فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه فيذهب إلى مكان خارج بغداد عينه التتار بجوار المقابر، فيذبح العالم كما تذبح الشاة، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل، لقد كان الأمر مأساة بكل المقاييس وذبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محي الدين يوسف بن الشيخ بن الفرج بن الجوزي، وذبح أولاده الثلاثة عبد الله، عبد الرحمن، وعبد الكريم، وذبح المجاهد مجاهد الدين آيبك زميله سليمان شاه اللذان قادا الدعوة إلى الجهاد في بغداد، وذبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه صدر الدين علي بن النيار، ثم ذبح بعد هؤلاء خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن، وكل هذا والخليفة حي يشاهد ورأى أن هولاكو يتعامل تعاملاً ودياً مع ابن العلقمي الوزير الخائن وأدرك بوضوح العلاقة بينهما وانكشفت أمامه الحقائق بكاملها، وعلم النتائج المترتبة على توسيد الأمر لغير أهله، ولكن بعد فوات الأوان .

4 ـ استباحة بغداد: بعد أن ألقى أهل المدينة السلاح وبعد أن قتلت هذه الصفوة، وبعد إن إنساب جند هولاكو إلى شوارع بغداد ومحاورها المختلفة، أصدر هولاكو أمره الشنيع باستباحة بغداد ، وأتوا على كل ما فيها، فخربوا المساجد بقصد الحصول على قبابها المذهبة وهدموا القصور بعد أن سلبوا ما بها من تحف نادرة وأباحوا القتل والنهب وسفك الدماء، وكان استهتار المغول بالنفوس بالغاً حد الفظاعة، فيروى أن أحدهم دخل زقاقاً، وقتل أربعين طفلاً شفقة منه ورحمة حين علم أن أمهاتهم قتلن من قبل ، ويقدر المعتدلون من المؤرخين عدد القتلى بنحو ثمانمائة ألف نسمة ، ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط، وإنما كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، وكانوا يقتلون النساء إلا من استحسنوه منهن، فإنهن كانوا يأخذونها سبياً ، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة، وقد استمرت هذه الغارة أربعين يوماً، اندلعت فيها ألسنة النيران في كل جانب، فالتهمت كل ما صادفها، وأتت على الأخضر واليابس، وخربت أكثر الأبنية وجامع الخليفة، ومشهد الإمام موسى الكاظم، وقبور الخلفاء في الرصافة ، وعندما دخل هولاكو مدينة بغداد، قصد قصر الخلافة، وجلس في الميمنة، واحتفل مع الأمراء بذلك اليوم، وأمر بإحضار الخليفة، وقال له: أنت المضيف ونحن الضيوف فيجب عليك أن تقوم بواجب الضيافة، فصدق الخليفة قوله، وكان يرتعد فرقاً وخوفاً واستولت عليه الدهشة واعتراه الذهول، لدرجة أنه لم يعد يعرف أين وضع مفاتيح خزائنه، فأمر بكسر الأقفال، وإخراج ألفين من الثياب، وعشرة آلاف دينار، ونفاس ومرصعات، وجواهر عديدة، قدمها هدية لهولاكو خان الذي لم يعر تلك الأشياء التفاتاً، ووزعها على أتباعه، ثم قال للخليفة: هذه الأموال التي تملكها على سطح الأرض أمرها واضح، وهذه تعد غنيمة، فتكون من نصيب جنودنا، والآن نريد أن تكشف لنا عن الأموال والدفائن، فما هي وأين توجد؟ عندئذ اعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب وسط القصر، فلما حفروا ذلك المكان وجودوه مملوءاً بالذهب الإبريز، وكانت كل قطعة منه تزن مائة مثقال، ثم أمر هولاكو بأن يحصوا حرم الخليفة وحاشيته، فوجدوا سبعمائة من النساء والسرايا وألفاً من الخدم ، وعندما وقف الخليفة على تعداد نسائه قال في تضرع: أمنحني تلك النسوة اللائي لم يكن يطلع عليهن ضوء الشمس ولا نور القمر، فأمر هولاكو بأن يختار من بينهن مائة من النسوة ممن هن من اقاربه والمحببات إليه، ثم رجع إلى معسكره ليلاً وفي الصباح كلف قائده ((سونجاق)) بأن يذهب إلى المدينة ليضبط أموال الخليفة ويخرجها، فجمع هذا كل ما كان الخلفاء العباسيون قد ادخروه خلال خمسة قرون . وأخيراً بعد أن سفك هولاكو من الدماء ما سفك، وبعد أن خرب ما خرب، أصدر أمره بالكف عن القتل، وبأن ينصرف كل إلى عمله، يقول ابن كثير: ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، ولقد أنكر بعضهم بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى .

5 ـ مقتل الخليفة المعتصم بالله: عامل هولاكو الخليفة معاملة سيئة للغاية، بحيث أنه حرم عليه الطعام، فلما أحس الخليفة بالجوع طلب طعاماً، فقدم له هولاكو طبقاً مملوءاً بالذهب، وأمره أن يأكل، فقال الخليفة: كيف يمكن أكل الذهب؟… فرد عليه هولاكو: إذا كنت تعرف أن الذهب لا يؤكل فلماذا احتفظت به ولم توزعه على جنودك حتى يصونوا لك ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟ ولم لم تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري؟… فأجاب الخليفة: هكذا كان تقدير الله . فقال هولاكو: وما سوف يجري عليك أنما هو كذلك تقدير الله. وفي رواية أخرى أن هولاكو عندما وجه هذه الأسئلة إلى الخليفة لزم الصمت ولم يحر جواباً . وأما عن الكيفية التي قتل بها المستعصم، فإنها لازالت مسألة يكتنفها الغموض، إذا تضاربت فيها روايات المؤرخين، ولعل أبا الفداء يمثل لنا اختلاف الروايات بخصوص قتل المستعصم تمثيلاً واضحاً حين قال، ولم يقع الاطلاع على كيفية قتله، فقيل خنق، وقيل وضع في عدل ورفسوه حتى مات، وقيل غرق في دجلة، ويختم عبارته بقوله: والله أعلم بحقيقة ذلك ، واشتهرت بين المؤرخين قتل المستعصم في غرارة تم رفسه إلى إن مات. والسؤال المطروح لم اختار هولاكو هذه الطريقة في قتل المستعصم، قيل في تبرير ذلك أمور منها:
أ ـ شق على مستشاري هولاكو خان من المسلمين أن يراق دم الخليفة وهو أمير المؤمنين وزعيمهم الديني فحذروا الخان المغولي أن يقدم على تلك الفعلة، حتى أنهم ليرون أن أحد المنجمين قال لهولاكو: إذا قتل الخليفة، فإن العالم يصير اسوداً مظلماً وتظهر علامات القيامة ، وفي هذه المرة أيضاً نفى نصير الدين الطوسي هذا الادعاء وأيد رايه ببراهين عملية تثبت أن عدة خلفاء من بني العباس قتلوا ولم يحدث خلل يذكر، فلما صمم هولاكو على قتله، احترز من أن يريق دمه فقتله بالطريقة السالفة الذكر.
ب ـ قتل هولاكو المستعصم دون أن يريق دمه، لا خوفاً من تحذير العلماء المسلمين وإنما جرياً على عادة المغول، كما اشار إلى ذلك النويري إذا يقول: وجيئ بالخليفة إلى هولاكو فأمر أن يجعل في جولق ويداس بأرجل الخيل، ففعل به ذلك حتى مات، كما ذكرناه في أخبار الدولة العباسية، ومن عادة التتار أنهم لا يسفكون دماء الملوك والأكابر غالباً . ويقول ابن خلدون: وقبض على المستعصم فشدخ بالمعاول في عدل تجافياً عن سفك دمه بزعمهم . كان جنكيز خان يمارس تقاليد قومه التي كانت تحرم إراقة دم زعيم أي قبيلة يجري في عروقه الدم الملكي ويستعملون طريقة خمد الأنفاس تحت ضغط أقمشة ثقيلة.
وعلى هذا يبدو أن السبب الثاني هو الأرجح، لأن المغول حتى في دفنهم للمستعصم، جروا على سننهم وتقاليدهم، إذ دفنوه في مكان مجهول، لدرجة أن السيوطي ينقل عن الذهبي قوله: وما أظنه دفن، ويقول ابن الغوطي: أمر السلطان ـ أي هولاكو ـ بقتله، فقتل يوم الأربعاء الرابع عشر صفر ولم يهرق دمه، بل جعل في غراره ورفس حتى مات ودفن وعفي أثر قبره . والمعروف في سلاطين المغول وأمرائهم أنهم كانوا يدفنون موتاهم في موضع بعيد عن العمران، ويجعلون قبورهم من الأسرار المخفية وهكذا ظل المغول محافظين على هذا التقليد حتى جاء السلطان غازان خان (694 ـ 703هـ) واعتنق الإسلام، فأبطل هذه العادة، وبنى لنفسه مقبرة كبيرة لتكون مقر دفنه، فكان بذلك أول سلطان من سلاطين المغول، يدفن في مقبرة ظاهرة .

6 ـ الخراب الحضاري: بعد أن أتم هولاكو وجيشه المغولي التتاري، قتل أهالي بغداد، وعمرانها ومعالمها الحضارية ووسائل تلك الحضارة الإنسانية، فأمر هولاكو، قادته وجيوشه بعد القتل والذبح، نهب بغداد فعاث جند المغول والتتار فساداً في المدينة التي ما كفوا عن ضربها بالمنجنيقات إلا بعد أن رأوا أكثر مساكنها وأسواقها أصبحت ركاماً، حتى المساجد والجوامع والمدارس والمكتبات وأشعلوا النيران فيها أيضاً، بحيث ظلت النيران تتأجج ليالي عديدة تسطع وهاجة في حلك الظلام، وقد نهب المغول كل التراث الذي امتلكه الخلفاء العباسيون وأهالي بغداد من أثاث وسجاد وأقمشة من حرير وأقطان وكتان، وقساطيط، وسروج الخيل وأفرشة وبسط، ((ودام القتل والنهب أربعين يوماً وبعد هذه الأربعين يوماً من التخريب والتمزيق أصبحت بغداد في حالة من الدمار والخراب لا تصدقها العيون، حدثنا أحد العلماء الذين زاروها بعد تلك الكارثة الكبرى فقال: وافيتها بلدة خالية، وأمة بالية، ودمنة حائلة، ومحنة جائلة، وقصوراً خاوية، وعراصاً باكية، وقد رحل عنها سكانها وبات عنها قطانها وتمزقوا في البلاد، ونزلوا بكل وادٍ، وقصورها المشيدة مهدومة، ونعماؤها مسلوبة معدومة، موحشة لفقد قطانها باكية، تسفي عليها الرياح السافية فهل نرى لهم من باقية؟ فوقفت أبكيها ,اندب ربوعها ومن كان فيها:
وأندب أطلالها تارة
وأبكي على فرقة الظاعنينا
فلو ذهبت مقلة بالبكاء
لفرط الغرام لكنا عمينا
وقد استهدفت مكتبة بغداد العظيمة وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمان، وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام، جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون وعلوم شرعية كتفسير القرآن أو الحديث والفقه والعقيدة، والأخلاق ومن علوم حياتية، كالطب والفلك والهندسة والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وعلوم الأرض، ومن علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة، وغير ذلك، هذا بالإضافة إلى ملايين الأبيات من الشعر، وعشرات الآلاف من القصص والنثر، فإن إضفت إلى كل ما سبق الترجمات المختلفة لكل العلوم الأجنبية سواء اليونانية أو الفارسية أو الهندية أو غير ذلك، علمت حجم الخسارة الحضارية التي منيت بها الإنسانية، لقد كانت مكتبة بغداد مكتبة عظيمة بكل المقاييس ولم يقترب منها في العظمة إلا مكتبة قرطبة الإسلامية في الأندلس، وسبحان الله لقد مرت مكتبة قرطبة بنفس التجربة التي مرت بها مكتبة بغداد، وعندما سقطت قرطبة في يد نصارى الأندلس سنة 636هـ قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط قاموا بحرق مكتبة قرطبة تماماً، وقام بذلك أحد قساوسة النصارى بنفسه، وكان إسمه ((كمبيس)) وحرق ما وقعت عليه يده، من كتب بذلت فيها آلاف الأعمار وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والعرق والجهد . كانت مكتبة بغداد أسسها الخليفة العباسي هارون الرشيد، والذي حكم الدولة الإسلامية من سنة 170هـ إلى سنة 193هـ، ثم إزدهرت المكتبة جداً في عهد المأمون خليفة المسلمين من سنة 198هـ إلى 218هـ، وما زال الخلفاء العباسيون بعدهم يضيفون إلى المكتبة الكتب والنفائس حتى صارت داراً للعلم، لا يتخيل كم العلم بداخلها، وقد حوت ملايين المجلدات ملايين الكتب في مكتبة واحدة في زمانٍ ليس فيه طباعة، وكانت مكتبة بغداد تشتمل على عدد ضخم من الحجرات، وقد خصصت كل مجموعة من الحجرات لكل مادة من مواد العلم، فهناك حجرات لكتب الفقه، وحجرات لكتب الطب، وأخرى لكتب الكيمياء ورابعة للبحوث السياسية، وكان في المكتبة المئات من الموظفين الذين يقومون على رعايتها ويواظبون على إستمرار تجديدها، وكان هناك ((النساخون)) الذين ينسخون من كتاب أكثر من نسخة، وكان هناك ((المناولون)) الذين يناولون الناس الكتب من أماكنها المرتفعة، وكان هناك ((المترجمون)) الذين يترجمون الكتب الأجنبية، وكان هناك ((الباحثون)) الذين يبحثون لك عن نقطة معينة من نقاط العلم في هذه المكتبة الهائلة، وكانت هناك غرف خاصة للمطالعة، وحلقات النقاش والندوات العلمية وغرف خاصة للترفيه والأكل والشرب، ومكان إقامة لطلاب العلم الذين جاءوا من مسافات بعيدة، لقد حوت هذه المكتبة عصارة الفكر الإنساني، وكان المأمون يشترط على ملك الروم في معاهداته معه بعد إنتصارات المأمون المشهورة عليه أن يسمح للمترجمين المسلمين بترجمة الكتب التي في مكتبة القسطنطينية، وكان لخلفاء بني العباس موظفون يجوبون الأرض بحثاً عن الكتب العلمية بأي لغة لتترجم وتوضع في مكتبة بغداد بعد أن يتولاها علماء المسلمين المتخصصون بالنقد والتحليل، لقد ترجمت في مكتبة بغداد الكتب المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والهندية والسنسكرتية والفارسية واللاتينية وغيرها .
ـ ماذا فعل التتار مع مكتبة بغداد الهائلة؟: حمل التتار الكتب الثمينة، ملايين الكتب القيمة، وألقوا بها جميعاً في نهر دجلة، وألقى المغول بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة، وتحول لون المياه إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب حتى قيل الفارس المغولي كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى، وهذه جريمة في حق الإنسانية، وتكررت عبر التاريخ في الأندلس في مكتبة قرطبة وغرناطة وطليطلة وأشبيلية وبلنسية وسرقسطة وغيرها، في مكتبة طرابلس اللبنانية فأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب وفعلها الصليبيون والنصارى في فلسطين، في مكتبة غزة والقدس وعسقلان، ثم فعلها بعد ذلك المستعمرون الأوربيون الجدد والذين نزلوا إلى بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع، ولكن هؤلاء كانوا أكثر ذكاء، فإنهم سرقوا الكتب ولم يحرقوها، ولكن أخذوها إلى أوربا، ومازالت المكتبات الكبرى في أوربا تحوي مجموعة من أعظم كتب العلم في الأرض، ألفها المسلمون على مدار عدة قرون متتالية، ولا يشك أحد في أن أعداد الكتب الأصلية الإسلامية في مكتبات أوربا تفوق كثيراً أعداد هذه المراجع الهامة في بلاد المسلمين أنفسهم. لقد كان هم الغزاة على طول العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم، إما بحرق الكتب أو بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها أو بتغيير مناهج التعليم ـ حالياً ـ حتى تفرغ من كل ما هو قيم وثمين، كل ذلك لأن الغزاة يعرفون جيداً قيمة العلم في دين الإسلام، ويعرفون قيمة المسلمين إذا ارتبطوا بالعلم ، وبعد أن فرغ المغول من تدمير مكتبة بغداد انتقلوا إلى الديار الجميلة، وإلى المباني الأنيقة فتناولوا جلها بالتدمير والحرق، وسرقوا المحتويات الثمينة فيها، أما ما عجزوا عن حمله من المسروقات فقد أحرقوه وظلوا كذلك حتى تحولت معظم ديار المدينة إلى ركام، وإلى خراب تتصاعد منه ألسنة النار والدخان، واستمر هذا الوضع الأليم أربعين يوماً كاملة وامتلأت شوارع بغداد بتلال الجثث المتعفنة واكتست الشوارع باللون الأحمر، وخاف هولاكو على جيشه من انتشار الأوبئة المتعفنة فأصدر هولاكو بعض الأوامر الجديدة:
أ ـ يخرج الجيش التتاري بكامله من بغداد وينتقل إلى بلد آخر في شمال العراق، لكي لا يصاب الجيش بالأمراض والأوبئة وتترك حامية تتارية صغيرة حول بغداد، فلم يعد هناك ما يخشى منه في هذه المنطقة.
ب ـ يعلن في بغداد أمان حقيقي، فلا يقتل مسلم بصورة عشوائية بعد هذه الأربعين، ليقوموا بدفن موتاهم، وتنظيف المدينة من الجثث.
جـ ـ أصدر هولاكو قراراً بأن يعين مؤيد الدين العلقمي الشيعي رئيساً على مجلس الحكم المعين من قبل المغول على بغداد على أن توضع عليه بالطابع وصية مغولية .
7 ـ مؤيد الدين العلقمي، حاكم بغداد: لم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للمغول، وتعرض للإهانة من قبلهم لتحطيم نفسيته ولكي يصبح تابعاً ذليلاً لهم، وحصل له من الإهانة في أيامه والقلة والذلة، وزوال ستر الله، ما لا يحد ولا يوصف، رأته إمرأة وهو راكب في أيام التتار برذوناً وسائق يضرب فرسه فوقفت إلى جانبه وقالت: يا بن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟ فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمداً في مستهل جماد الآخر من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودفن في قبور الشيعة، وقد سمع بأذنيه ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين ما لا يحد ولا يوصف. وتولى بعده ولده الوزارة، ثم أخذه الله إليه سريعاً، وقد هجاه بعض الشعراء فقال:
يا فِرْقة الإسلام نوحوا واندبوا
أسفاً على ما حل بالمستعصم
دست الوزارة كان قبل زمانه
لابن الفرات فصار لابن العلقمي

8 ـ حكومة هولاكو (الحكومة الإيلخانية بالعراق): بعد سقوط بغداد باشر هولاكو بتدعيم سلطته في العراق وتنظيم الإدارة فيها، فأرسل قوات عسكرية نحو الفرات الأوسط، واستقبلهم السكان في الحلة والكوفة، ونصبوا لهم جسوراً للعبور، ومن هناك انحدرت تلك الفرقة العسكرية نحو واسط، وكان فيها جمع من بقايا عسكر المماليك، فاشتبكوا معهم في قتال شديد إنتهى بتصفية عساكر المماليك وقتل عدد كبير من سكان المدينة، وبعد ذلك سار عسكر المغول نحو خوزستان، وهم يتعقبون فلول المماليك الهاربين، وإنتهت تلك العمليات بالقضاء على أكثرية المماليك بينما استسلم الباقون، في تلك الأثناء أقر هولاكو أسس إدارة العراق التي تركها بيد العراقيين، إذ لم يدخل تعديلات كبيرة على إدارة البلاد عدا الإدارة العسكرية وواجبات الشرطة، التي سلم أمرها إلى علي بهادر الخراساني الذي عينه بمنصب الشحنة ((ما يقابل الحاكم العسكري))، وقد أبقى هولاكو على مؤسسة الديوان وأقر فخر الدين ابن الدامغاني في منصب صاحب الديوان، وأبقى كذلك على منصب الوزارة، وأقر الوزير المستعصم مؤيد الدين بن العلقمي الأسدي في ذلك المنصب، غير أن أيام هذا الوزير لم تطل بعد تلك النكبة، إذ اعتلت صحته وغلب عليه الحزن والكآبة حتى توفي في مستهل جماد الثانية من تلك السنة، أي بعد سقوط بغداد بثلاثة اشهر تقريباً، فخلفه في منصب الوزارة ولده عز الدين أبو الفضل، وجرى تقسيم العراق إلى خمس مناطق إدارية بدلاً من سبعة، كان يدير كل منطقة منها مسئول بمنصب ((الصدر))، كان يرتبط به عدد من النواب والنظار، وكانت المناطق كما يلي:
ـ الأعمال الشرقية، وكانت تشمل الخالص والبندنيجين وطريق خراسان.
ـ الأعمال الفراتية.
ـ الأعمال الكوفية والحلية.
ـ الأعمال البصرية والواسطية.
ـ أعمال دجيل والمستنصرية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى ذلك التفسيم كان يتلاءم مع التقسيم الجغرافي للمناطق الزراعية في العراق.
وعين هولاكو نجم الدين أحمد بن عمران صدراً للأعمال الشرقية، وكان من أهل باجسري .
وتاج الدين علي بن الدوامي صدراً للأعمال الفراتية، وكان يشغل في عهد المستعصم منصب صاحب الباب، وعز الدين بن أبي الحديد، لمنصب كاتب السلة، غير أن أيامه هو الآخر لم تطل، فقد توفي بعد فترة قصيرة، وكان كاتب السلة يرتبط بصاحب الديوان، وبحكم وظيفته يطلع على أسراره إدارة الدولة وقد اكتسبت كتابة السلة أهمية كبيرة في العهد الإيلخاني حتى صار يطلق على صاحبها ((كاتب العراق)) الذي كان يشغل أحياناً منصب صاحب الديوان، وأما الوظائف الدينية فكان على راسها منصب قاضي القضاة، فقد أحضر القاضي عبد المنعم البندنيجي عند هولاكو، فأقره عل منصب قاضي القضاة، وأما الأوقاف فإن جميع الأوقاف الإسلامية في الدولة الإيلخانية وضعت تحت إشراف نصير الدين الطوسي، وفي بغداد جرى تعيين شهاب الدين بن عبد الله صدراً للوقوف، فأشرف على ترميم جامع الخليفة الذي تعرض للحريق، وترميم مشهد الإمام الكاظم موسى بن جعفر، وعلى فتح المدارس والربط وإثبات الفقهاء والصوفية وإدرار المشاهرات والأخباز عليهم، وبعد أن أقر أسس إدارة العراق، عاد هولاكو إلى إيران، إذ أصبحت خراسان في تلك الأيام قاعدة النفوذ المغولي، ومركز دولة هولاكو الإيلخانية التي حكمت ثمانين عاماً، بينما أصبح العراق إقليماً تابعاً لتلك الدولة . وكانت الدولة الإيلخانية بفارس والعراق تمتد من نهر جيحون إلى المحيط الهندي، ومن السند إلى الفرات، وبعض أراضي آسيا الصغرى، وكان حكام إيران يحملون إيلخان للدلالة على تبعيتهم للخاقان الأعظم في الصين، وتعاقب على حكم إيران الإيلخانات حتى سنة 756هـ/1355م، حيث زالت دولتهم .
ـ إدارة العراق في عهد الجويني: في ذي الحجة سنة 657هـ أي بعد سقوط بغداد بسنة واحدة توفي الوزير عزالدين أبو الفضل ابن الوزير مؤيد الدين بن العلقمي الأسدي، فتولى بعده أمر الديوان في بغداد المؤرخ علاء الدين عطاء ملك الجويني، وكان من أسرة إيرانية عريقة في الآداب والإدارة، ولها مكانة مرموقة في إيران، بتعيينه خرج أمر الوزارة من يد عرب العراق، إذ إرتبطت إدارته بصورة أوثق بالإدارة المركزية في إيران، كان الجويني من عمال الديوان للأمير المغولي أرغون حاكم إيران، وقد قام الجويني بعدة اسفار في بلاد المغول، واطلع بصورة مباشرة على أحوالهم وأحوال بلادهم، ودرس أحوال الأقوام التركومغولية وتمكن من أن يجمع مادة تاريخية وفيرة كتب على أساسها بالفارسية تاريخ تلك الأقوام، وسمى ذلك الكتاب ((تاريخ جهانكشاي)) ـ أي تاريخ فاتح العالم ـ ويعني به جنكيز خان، وقد أصبح كتابه هذا المرجع الرئيسي لتاريخ المغول، غير أن أحداث ذلك الكتاب، تقف بعد ذكر وقائع حروب هولاكو مع الإسماعيلية في بلاد الجبل إذ كان الجويني مصاحباً له في تلك الحروب، وكان الجويني ممن صاحب هولاكو في زحفه نحو بغداد .
9 ـ وفود الملوك والأمراء على هولاكو: أوقع سقوط بغداد العالم الإسلامي في فزع وذهول وحيرة، فسار حكامه المستضعفون إلى الطاغية هولاكو يقدمون له فروض الطاعة والتهنئة ويتملقونه خوفاً من بطشه وإتقاء شره، فكان ممن حضر لتهنئته في مراغة في أذربيجان أتابك الموصل الهرم ((بدر الدين لؤلؤ))، وأرسل أبو بكر أتابك فارس إبنه للغرض نفسه، وصل كذلك إلى معسكر هولاكو بالقرب من تبريز إثنان من سلاطين سلاجقة الروم، وهما الأخوان المتنافسان: السلطان عز الدين كيكاوسي الثاني، والسلطان ركن الدين قلج أرسلان الرابع، أما عز الدين فكان يرتجف رعباً، لأن جنوده حاولوا أن يصمدوا أمام القائد المغولي ((بايجونويان)) فدحرهم في ((آقسرا))، فلما سقطت بغداد على يد هولاكو أحس عز الدين بحرج مركزه وخشي بطش الخان، فحاول أن يخلص نفسه من تلك الورطة بنوع مبتكر من التملق الذي حمل طابع الخضوع والذلة وذلك أنه رسم صورته على نعل زوج من الأحذية وقدمها للخان الساخط قائلاً له: عبدك يأمل أن يتفضل الملك فيشرف رأس عبده بوضع قدمه المباركة عليها ، فرق له قلب الطاغية هولاكو ورفعت دوقوزخاتون من قدره، وتشفعت له، فعفا عنه الإيلخان، ولا شك أن ذلك الموقف المخزي يصور لنا الحد الذي بلغه بعض الحكام المسلمين من الاستذلال والمهانة .
سادساً: سقوط الدولة العباسية وترجمة للخليفة المستعصم بالله: قال ابن كثير المستعصم بالله أمير المؤمنين، آخر خلفاء بني العباس بالعراق، وهو أبو أحمد عبد الله بن أمير المؤمنين، المستنصر بالله أبي جعفر منصور بني الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن أمير المؤمنين المقتفى لأمر الله أبي عبد الله محمد بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدى بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الأمير الذخيرة أبو العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بني الأمير الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن المطلب بن هاشم الهاشمي العباسي مولده سنة تسع وستمائة وبويع له بالخلافة في العشرين من جماد الأولى سنة أربعين، وكان مقتله في يوم الأربعاء الاربع عشر من صفر سنة ست وخمسين وستمائة، فيكون عمره يوم قتل سبعة وأربعين سنة، رحمه الله تعالى ، وقد كان حسن الصورة جيد السيرة صحيح السريرة صحيح العقيدة، مقتدياً بأبيه المستنصر في المعدلة وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز له الحافظ بن النجار من مشايخ خراسان، منهم المؤيد الطوسي وأبو روح عبد المعز بن محمد الهرَويُّ، وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الضَّفَّار وغيرهم، وحدَّث عنه جماعة منهم مؤدِّبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن السَّيَّار، وأجازه للإمام محي الدين بن الجوزي والشيخ نجم الدين الباذراني وحدَّثا عنه بهذه الإجازة، وقد كان رحمه الله تعالى سنياً على طريقة السلف واعتقاد الجماعة، كما كان أبوه وجدَّه ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه غلَّ الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعَظَّم، وكانت قيمتها نحواً من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من مثل الخليفة،وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير، بل من أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك كما قال تعالى: "ومنهم من تأمنه بدينار لا يودِّه إليك إلا ما دمت عليه قائماً" آل عمران : الآية ، 75.
قتلته التتار مظلوماً مضطهداً في يوم الأربعاء رابع عشر صفر من هذه السنة وله من العمر ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر، وكانت مدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياماً فرحمه الله وأكرم مثواه، وبل بالرحمة ثراه، وقد قتل بعده ولدان، وأسر الثالث، مع بنات ثلاث من صلبه وشغر منصب الخلافة ولم يبق في بني العباس من سدَّ مسدَّه، فكان آخر الخلفاء من بني العباس الحاكمين بالعدل بين الناس، ومن يُرتجى منهم النوال ويُخشى منهم البأس وخُتموا بعبد الله المستعصم سبعة وثلاثين خليفة، فكان أولهم عبد الله السفاح بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة سنتين وثلاثين ومائة، بعد انقضاء دولة بني أمية، وآخرهم عبد الله المستعصم وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام أعني سنة ستَّ وخمسين وستمائة، فجملة أيامهم خمسمائة سنة وأربعة وعشرون سنة، وزلت يدهم عن العراق والحكم بالكلية سنة وشهور في أيام البساسيري بعد الخمسين وأربعمائة ثم عادت كما كانت ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد، كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار .
وقد خرج عن بني العباس بلاد المغرب ملكها في أوائل الأمر بعض بني أمية ممَّن بقي معهم من ذرية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة، وقارن بني العباس دولة المدَّعين أنهم من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب وما هنالك، وبلاد الشام في بعض الأحيان والحرمين في أزمان طويلة .
واستمرت دولة الفاطميين قريباً من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذي مات بعد ستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية المقدسية، وكانت عدة ملوك الفاطميين أربع عشرة ملكاً مختلفاً، ومدة ملكهم تحريراً من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد سنة بضع وستين وخمسمائة، والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول الله كانت ثلاثين سنة، كما نطق بهذا الحديث الصحيح، فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم علي، ثم ابنه الحسن بن علي ستة أشهر حتى كملت بها ثلاثون، كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكاً، فكان أول ملوك الإسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ثم ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد ابن معاوية، وانقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، ثم ابنه عبد الملك، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان، ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص، وهو ابن الوليد أيضاً، ثم مروان بن محمد الملقب بالحمار، وكان آخرهم، فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، وكان أول خلفاء بني العباس اسمه السفاح واسمه عبد الله، وكان آخرهم المستعصم واسمه عبد الله، وكذلك أول الفاطميين اسمه عبد الله المهدي وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جداً قل من يتنبَّه له . والله سبحانه أعلم.
وهذه ارجوزة لبعض الفضلاء انتظم فيها ذِكرَ جميع الخلفاء:
الحمد لله العظيم عَرْشُهُ
القاهر الفرد القويِّ بطشُهً
مقلِّبِ الأيام والدُّهور
وجامع الأنام للنُّشُور
ثم الصلاةُ بدوام الأبد
على النبيِّ المصطفى محمد
وآله وصحبه الكِرام
السادة الأمة الأعلام
وبعد هذا هذه أُرجوزة
نظمتها لطيفة وجيزة
نظمت فيها الراشدين الخلفاء
من قام من بعد النبيِّ المصطفى
ومن تلاهم وهَلُمَّ جَرَّا
جعلتها تبصرة وذكرى
ليعلم العاقلُ ذو التَّصوير
كيف جرت حوادث الأمور
وكلُّ ذي مقدرة ومُلك
معرَّضون للفَنَاء والهُلْكِ
وفي اختلاف الليل والنهار
تبصرة لكلِّ ذي اعتبار
والملك للجبار في بلاده
يورثه من يشاء من عباده
وكل مخلوق فللفناء
وكل ملك فإلى إنتهاء
ولا يدوم غير ملك الباري
سبحانه من مَلِكِ القهار
منفرد بالعزِّ والبقاء
وما سواه فإلى إنقضاء
أول من بُويِع بالخلافة
بعد النبي ابنُ أبي قحافة
أعني الامامَ العادلَ الصديقا
ثم ارتضى من بعده الفاروق
ففتح البلاد والأمصار
واستأصلت سيُوفُه الكُفارا

وقام بالعدل قياما يُرضِي
بذاك جبارَ السماء والأرض
ورضي الناس بذي النورين
ثم عليِّ والد السِّبْطين
ثم أتت كتائب مع الحسن
كادوا بأن يُجَدِّدوا بها الفتن
فأصلح الله على يديه
كما عزا نبينُّا إليه
وأجمع الناس على معاوية
ونقل القصة كُّل رواية
فمهد الملك كما يريد
وقام فيه بعده يزيد
ثم أنه وكان برَّاً راشداً
أعني أبا ليلى وكان زاهداً
فترك الإمرةَ لا عن غلَبَة
ولم يكن منه إليها طلبة
وابن الزبير بالحجاز يدأب
وفي طلب الملك وفيه ينصر
وبالشام بايعوا مروانا
بحكم من يقول كن فكانا
ولم يدم في الملك غير عام
وعافصته أسهم الحمام
واستوثق الملك لعبد الملك
ونارَ نجمُ سعده في الفَلَكَ
وكلُّ من نازعه في الملك
خرَّ صريعاً بسيوف الهُلْك
فقتل المُصْعَبَ بالعراق
وسَّير الحجاج ذي الشقاق

إلى الحجاز بسيوف النِّقم
وابن الزبير لائذٌ بالحرم
فجاء بعد قتله بصلبه
ولم يَخَفْ في أمره من ربه
وعندما صفت له الأمور
تقلبت لحينه الدهور
ثم أتى من بعده الوليد
ثم سليمان الفتى الرشيد
ثم استفاض في الورى عدل عمر
تابع أمر ربه كما أمر
وكان يُدْعى بأسبحِّ القوم
وذى الصلاة والتُّقى والصوم
فجاء بالعدل وبالإحسان
وكفَّ أهل الظلم والطُّعيان
مقتدياً بسنة الرسول
والراشدين من ذوي العقول
فجُرِّع الإسلام كأسى فقده
ولم يرَوا مِثْلاً له من بعده
ثم يزيد بعده هشام
ثم الوليد فُتَّ منه الهام
ثم يزيد وهو يدعى الناقصا
فجاءه حِمامُهُ معافِصاً
ولم تَطُل مَدة إبراهيما
وكان كل أمره سقيما
وأسند الملك إلى مروانا
فكان من أموره ما كانا
وأنقرض الملك على يديه
وحادث الدهر سطا عليه

وقتله قد كان بالصَّعيد
ولم تفده كثرة العديد
وكان فيه حتف آل الحكم
واستُنزعت عنهم ضُروب النِّعم
ثم أتى ملك بني العباس
لا زال فينا ثابتَ الأساس
وجاءت البيعة من أرض العجم
وقلَّدت بيعتهم كلُّ الأمم
وكل من نازعهم من أمم
خرّ صريعاً لليدين والفم
وقد ذكرت من تولىَّ منهم
حين تولى القائم المستعصم
أولهم ينعت بالسفاح
وبعده المنصور ذو النجاح
ثم أتى من بعده المهدي
يتلوه موس الهادي الصَّفيُّ
وجاء هارون الرشيدُ بعده
ثم الأمين حين ذاق فقده
وقام بعد قتله المأمون
وبعده المعتصم المكين
واستخلف الواثق بعد المعتصم
ثم أخوه جعفر مُوفِي الذِّمم
وأخلص النية في التوكل
لله ذي العرش القديم الأول
فأدحض البدعة في زمانه
وقامت السُّنَّةُ في أوانه

ولم يُبَقِّ بدعة مُضِلَّة
وألبس المعتزليَّ ذِلَّة
فرحمة الله عليه أبداً
ما غار نجم في السماء أو بَدا
وعندما استشهد قام المنتصر
والمستعين بعده كما ذُكِر
وجاء بعد موته المعتز
والمهتدي المكرَّمُ الأعزُّ
وبعده استولى وقام المعتمد
ومهد الملك وساس المعتضد
والمكتفي في الصحف العليا سُطر
وبعده ساس الأمور المقتدر
واستوسق الملك بعزّ القاهر
وبعده الراضي أخو المفاخر
والمتُّقي من بعده والمستكفي
ثم المطيع ما به خُلْفِ
والطائع الطائع ثم القادرُ
والقام الزاهد وهو الشاكر
والمقتدي من بعده المستظهر
ثم أتى المسترشدُ الموقَّرُ
وبعده الراشدُ ثم المقتضي
وحين مات استنجدوا بيوسف
والمستضى العادل في أفعاله
الصادق الصدوق في أقواله
والناصر الشهمُ الشديد الباس
ودام طول مُكثه في الناس

ثم تلاه الظاهرُ الكريمُ
وعَدْله كلِّ به عليم
ولم تطُل أيامه في المملكة
غيرَ شهور واعترته الهلكة
وعهده كان إلى المستنصر
العادل البَرِّ الكريم العنصر
دام يسوسُ الناس سبْع عشرة
وأشهرا بعزمات برّة
ثم تَوُفِّي عام أربعينا
وفي جمادى صادفَ المنونا
وبايع الخلائقُ والمُستعصما
صلىَّ عليه ربُّنا وسلَّما
يبعثُ نُجب الرّسل من الآفاق
يقضون بالبيعة والوفاق
وشرّفوا بذكره المنابرا
ونشرو من جُودِهِ المفاخرا
وسار في الآفاق حسنُ سيرته
وعدله الزائد في رعيتيه

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 2:19 pm

قال الشيخ عماد الدين ابن كثير: ثم قلت أنا بعد ذلك أبيتاً:
ثم ابتلاه الله بعد التتار
أتباع جنكيز خان الجبَّار
صحبه إبنِ ابن له هولاكو
فلم يكن من أمره فكاك
فمزقوا جنوده وشمله
وقتلوه نفسه وأهله
ودمروا بغداد والبلادا
وقتّلوا الأحفاد والأجدادا
وانتهبوا المال مع الحريم
ولم يخافوا سطوة العظيم
وغرَّهم إنظاره وحلمه
وما اقتضاه عدله وحكمه
وشغرت من بعده الخلافة
ولم يؤرَّخ مثلها من آفة
ثم أقام الملك أعنى الظاهرا
خليفة أعني به المستنصرا
ثم وَلِي من بعد ذاك الحاكم
قسيم بيبرس الإمام العالم
ثم ابنُه الخليفة المستكفي
وبعض هذا للبيب يكفي
ثم وَلِي من بعده جماعة
ما عندهم علم ولا بضاعة
ثم خليفة الوقت المعتضد
ولا يكاد الدِهر مثله يَجد
في حسن خُلْق واعتقاد وجَلى
كيف لا وهو من الشُّمِّ الأُلى
سادوا البلاد والعباد فضلاً
وملئُوا الأقطار حِكَما وعدلا
أولادِ عم المصطفى محمد
وأفضل الخلق بلا تردُّدِ
صلىَّ عليه ذو الجلال
ما دامت الأيام والليالي

سابعاً: أهم أسباب سقوط الدولة العباسية:
إن الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى يجلب للأفراد والأمة تعاسة وضنكاً في الدنيا وهلاكا وعذاباً في الآخرة وإن آثار الابتعاد عن شرع الله لتبدو على الحياة في وجهتها الدينية والإجتماعية والسياسية والاقتصادية وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تمس جميع شون حياتهم قال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم" (النور ، آية : 63)، لقد ابتعدت الأمة الإسلامية مع حكامها في أواخر الدولة العباسية عن شرع الله وانغسمت في حياة المادة وأصيب بالقلق والحيرة والخوف والجبن، وإنهارت أمام غزو المغول، وتصدعت خطوط الدفاع المقدمة، ولم تستطع أن تقف وقفة عز وشموخ واستعلاء وإذا تشجعت في معركة من المعارك ضعفت قلوبها أمام الأعداء من أثر المعاصي، وأصبحت في ضنك من العيش "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" (طه ، آية : 124). لقد أصيبت الأمة بحكامها وشعوبها إلا ما رحم الله في الجانب الشرقي منها في بلاد ما وراء النهر، وإيران والعراق بالتبلد وفقد الإحساس بالذات ومات ضميرها الروحي، فلا أمر بالمعروف تأمر به ولا نهي عن المنكر تنهي عنه، وأصابهم ما أصاب بني إسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون" (المائدة ، آية : 78 ـ 79).
فإن الأمة عندما لا تعظم شرع الله أمراً ونهياً فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً، ثم ليلعنكم كما لعنهم ".
إن حكام المسلمين في بلاد ما وراء النهر وإيران والعراق تحققت فيهم سنة الله الماضية بسبب تغير النفوس من الطاعة والانقياد إلى المخالفة والتمرد على أحكام الله، قال تعالى: "ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الأنفال ، آية : 53) ، كما أن المجتمعات التي ترضخ تحت الحكام الذين تباعدوا عن شرع الله تذل وتهان حتى تقوم أمام من خالف أمر الله، وتطلب العون من إخوانهم في العقيدة، لإرجاع حكم الله في مجتمعاتهم، لقد كانت ممالك المسلمين في تلك الديار مليئة بالاعتداءات على الأنفس والأموال والأعراض، وتعطلت أحكام الله بينهم، ونشبت حروب وفتن وبلايا، تولدت على أثرها عداوة وبغضاء بسبب الابتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله سهلت مهمة المغول في بخارى وسمرقند، وأفغانستان وإيران، والعراق فأصبحت شوكتهم تقوى، وحصلوا على مكاسب كبيرة، وغاب نصر الله عن ملوك تلك البلدان وحرموا من التمكين وأصبحوا في خوف وفزع من أعداهم، وبعض المدن تبتلي بالجوع بسبب حصار المغول لهم، وكم قتل المغول من المسلمين وكم سبوا من نسائهم.
إن الابتعاد عن شرع الله تعالى، وعدم الأخذ بسنن الله في إدارة الصراع ترتب عليه انتقاص الأرض وضياع الملك، وتسلط الكفار، وتوالي المصائب.
إن من سنن الله تعالى المستخرجة من حقائق الدين والتاريخ أنه إذا عصي الله تعالى ممن يعرفونه سلَّط عليهم من لا يعرفونه، ولذلك سلط الله المغول على المسلمين، وعندما تحرك الفقهاء والعلماء، بمصر والتفوا حول دولة سيف الدين قطز وتعاهدوا على نصرة دين الله، نصرهم على المغول في عين جالوت يأتي الحديث عنها بإذن الله مفصلاً.
إن الذنوب التي يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان:
ـ معاندة الرسل والكفر بما جاؤوا به .
ـ كفر النعم بالبطر والأثر، وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ومحاباة الأقوياء، والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة، فهذا كله من الكفر بنعمة الله واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام والنوع الثاني من الذنوب هو الذي مارسه ملوك المسلمين وأمراؤهم واتقنوه اتقاناً عجيباً في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة .
لقد تعدد أسباب سقوط الدولة العباسية، فقد تطاول عليها الزمن وأدركتها الشيخوخة، وبدت عليها مظاهر الإنهيار قبيل حملة هولاكو، وكانت جذور العنف تمتد في جسم هذه الدولة قبل ذلك بمدة طويلة لأسباب كثيرة يأتي بينها بإذن الله تعالى من أهمها:
1 ـ غياب القيادة الحكيمة: لم تكن شخصية الخليفة المستعصم بالله تمثل القيادة الحكيمة الراشدة، بل كان ضعيف الشخصية ولم يكن الرجل المناسب في المكان المناسب، لقلة خبرته وعدم إهتمامه بأمور دولته، ففي الوقت الذي كانت الأخبار تصل إليه تباعاً باقتراب جيوش المغول، لم يتخذ الاستعداد الكافي لمواجهتها قبل أن يستفحل خطرها ، لم يكن على مستوى من التيقظ والهمة، بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقظ، نازل الهمة،، محباً للمال، مهملاً للأمور، يتكل فيها على غيره، ولو لم يكن فيه إلا ما فعله مع الملك الناصر داود في الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً.
فكان الضعف القيادي في شخصية المستعصم من الأسباب والمقدمات في زوال الدول العباسية، لم يحسن اختيار الوزراء، وليست له قدرة على المتابعة والمحاسبة وكان يقاد ولا يقود، وكان سلوكه هذا سبباً لجرأة بعضهم عليه واستغفاله وتحديه فازدادت الفتن في زمانه وازداد التذمر وازداد تدهور الحياة الاقتصادية وانتشار الغلاء وسيطر اللصوص والشطار العيارون ينهبون ويسلبون أمام الشرطة وصاحبها أو بالتواطؤ معه والخليفة لا يحاسب صاحب الشرطة ولا يحاسب الوزير الذي هيمن على حميع الأمور في البلاد وولاياتها التي انفصلت واستقلت، والوزير ابن العلقمي يمهد للانقلاب، حتى يسهل تمرير المؤامرة لازالة السيادة الإسلامية، واسقاط الخلافة ، لقد غابت القيادة الحكيمة الربانية والتي تحدث عنها المولى عز وجل في كتابه وبين صفاتها وأخلاقها لكي تعمل الأمة على إيجادها، ولكن الأمة تركت حقها في الاختيار، وتأثرت مع الزمن والوقت بمعاول هدم روح المبادرة، والمحاسبة والمتابعة والوقوف ضد أخطاء الحكام، وأصبح الخليفة محمي بقداسة وهمية صنعت لهذا المنصب مع مرور الزمن، والابتعاد عن روح الشريعة ومقاصدها الغراء وإلا فالمعايير والصفات للقيادة الحكيمة بينها المولى عز وجل في سورة الكهف في قصة ذي القرنين وفي سيرة داود وسليمان عليهما السلام، وغيرها فقد بين المولى عز وجل من خلال الحديث عن ذي القرنين معالم التمكين عنده لكي يقتدي حكام الأمة بهذه النماذج وتحدث عن معالم التمكين والتي من أهمها:
• دستوره العادل: قال تعالى: " فأما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً, وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا" ((الكهف، آية: 87، 88)).
• اهتمامه بالعلوم المادية وتوظيفها للخير:فقد وظف عدة علوم في دولته القوية من اهمها علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم بتقسيمات الأرض وفجاجها وسبلها، ووديانها وجبالها وسهولها، لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرقاً وغرباً وشمالا وجنوبا، وكان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره يدل على ذلك، اختياره للخامات ومعرفته بخواصها، واجادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على احسن ما خلقت له ووظف الإمكانات على خير ما أتيح له "آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً قال آتوني أفرغ عليه قطراً" (الكهف ، الآية : 96).
• كان واقعياً في قياسه للأمور وتدبيره لها، فقد قدّر حجم الخطر، وقدّر ما يحتاجه إليه من علاج، وذكر القرآن الكريم أخلاقه القيادية من الصبر والمهابة والشجاعة والتوازن في شخصيته وكثرة ذكره لخالقه وعفته عن أموال الناس ورحلاته الجهادية في سبيل الله والمفاهيم الحضارية التي مارسها في حياته ومن أراد التوسع فليراجع كتابي ((فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم)) .
هذه المعايير والمقاييس والأخلاق في الاختيار الحاكم غابت عن المسلمين وتولى منصب الخلافة من ليس بأهل لها، وبالتالي ساهم ضعف الخليفة في سقوط الدولة العباسية.
2 ـ إهمال العباسيين لفريضة الجهاد:
إن أخطر العوامل التي أسقطت خلافة العباسيين إهمالهم لفريضة الجهاد، فبعد المعتصم المتولي أمور الدولة سنة(833هـ) لم نسمع عن معارك ذات شأن قامت بها الدولة، ولم يكن مبدأ ((الجهاد الدائم)) حماية لهذه الدولة المترامية الأطراف أحد أركان السياسة العباسية، لقد تقوقعوا في مشاكل الدولة الداخلية، فحصرتهم مشاكلها وماتوا ببطء، ولو أنهم وجهوا طاقة الأمة نحو ((الجهاد)) ضد الصليبيين، لتغير أمر الحركات الهدامة التي قدر لها أن تظهر وتنتشر، وذلك أن هذه الحركات لا تنتشر إلا في جو مليء بالركود والفساد والمناخ الوحيد الصالح للقضاء عليها هو المناخ القتالي الذي يكشف المعادن النقية، ويذيب المعدن الرخيص، لقد كانت الحاجة الإسلامية ملحة إلى ضرورة رفع راية الجهاد، وكانت الدولة الإسلامية التي تعرضت للإنشقاق والتمزق تحتاج إلى هذا الصمام ليحميها من جو السكوت والاستسلام، لكن العباسيين غزوا في عقر دارهم فذلوا، ولم يرفعوا راية الجهاد ضد الغزو الخارجي، فارتفعت رايات العصيان الداخلي وكان بإمكانهم أن يشغلوا الأجناس المختلفة التي ضمتها الدولة في هذه الحروب الجهادية المستمرة ضد الغزاة وضد الوثنيات المختلفة، لكنهم لم يفعلوا فتحركت النعرات القومية الجاهلية لتفتت الدولة وتقسم جسمها تحت رايات مختلفة ليس لها بالإسلام أو بالجهاد صلة، وفي سنة 656هـ (1258م) كان هولاكو ـ حفيد جنكيز خان ـ يدمر الذين اتجهوا إلى كل السبل إلا سبيل الجهاد، وحاولوا العلاج بكل الوسائل إلا الوسيلة الإسلامية الخالدة القوية، وقد هاجم هولاكو بغداد وهد أسوارها وأعمل المنجنيق فيها، وحصد بغداد، حتى لم يعد ممكناً الإقامة فيها لشدة روائحها المنفرة، وعندما خرج الخليفة المستعصم إليه مستسلماً بصحبة ثلاثمائة من اصحابه وقضاته دون شرط، أمر هولاكو بقتلهم جميعاً، وطويت صفحة الخلافة العباسية، ذلك أن أسلوب الأحلام الرومانتيكية الساذجة ليس وسيلة البقاء أو تشييد الحضارات، فالذين لا يملكون إرادة الهجوم، يفقدون القدرة على الدفاع ، لقد عطلت الدولة العباسية هذه الفريضة وتخلت عن أهدافها والتي من أهمها:
أ ـ إقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض قال تعالى: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً" (النساء ، الآية : 105).
ب ـ دفع عدوان الكافرين قال تعالى: "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" (النساء ، الآية : 74).
جـ ـ رد اعتداء الكفار في ديار المسلمين: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة ، الآية : 190).
وغير ذلك من الأهداف، فكان لإهمال فريضة الجهاد وعدم الاهتمام بأهدافه من أسباب زوال الدولة العباسية.
3 ـ إنعدام الوحدة السياسية في العالم الإسلامي:
بدأ الضعف يتسرب إلى جسم الدولة العباسية المترامية الأطراف في العقود الأخيرة من القرن الثاني للهجرة، الثامن الميلادي، عندما بدأت بعض الولايات البعيدة عن مركز الدولة في بغداد تنفصل مكونة دولاً مستقلة وتعجز الخلافة عن إعادتها للسيطرة المركزية فقد تأسست دولة الأدارسة أقصى المغرب عام 172هـ ـ 800م ثم قامت الدولة الفاطمية على إنقاض دولة الأغالبة في تونس عام 297هـ/909م وفي مصر قامت الدولة الطولونية عام 254هـ/868م، أعقبتها الدولة الإخشيدية عام 323هـ/935م وفي عام 358هـ/969م استولى الفاطميون على مصر وجعلوا القاهرة عاصمة دولتهم، وهكذا خرج المغرب الإسلامي ومصر بشكل تدريجي من حيث الزمان والمكان عن نطاق الدولة العباسية، وظهرت خلافة جديدة تسيطر على النصف الغربي من العالم الإسلامي وتسعى للسيطرة عل النصف الشرقي الذي أصابه من أصاب النصف الأول من حيث قيام الدول المستقلة، فقد قامت الدولة الظاهرية في خراسان عام 205هـ/820مـ وتبعتها الدولة الصفارية عام 254هـ/867م، ثم غلبت على المنطقة الدول السامانية التي تأسست عام 204هـ/819م في بلاد ما وراء النهر ثم امتد نفوذها لتشمل جميع البلاد التي كانت تتبع للدولة الصفارية، وكان نفوذ الخلافة العباسية يتحول من سلطة سياسية إدارية روحية إلى سلطة روحية فقط، ولم يبق للخليفة سوى ذكر اسمه في خطب الجمعة متبوعاً باسم السلطان الغالب على البلاد، ويعود السبب الرئيسي في ضعف الخلافة العباسية وتلاشي سلطتها إلى أسباب كثيرة ليس هنا مجال بحثها، وقد تمكن الأتراك في عهد المعتصم (818 ـ 227هـ)، وكانت لهم حظوة في عهده وقربهم وأسند لهم المناصب العليا في مركز الدولة والولايات، واعتمد عليهم في حراسة قصره، حتى تطاولوا على الناس وكثرت شواكي الناس من ظلمهم في بغداد، فبنى لهم المعتصم مدينة سامراء وجعلها عاصمة لهم ومن حوله حاشيته من الأتراك، وزاد نفوذهم وصاروا وحدهم المتسلطين على أمور الخلافة والدولة حتى أصبحوا هم الذين ينتخبون الخليفة الذي يريدون، يعزلون من لا يوافق رغباتهم وأهوائهم ، وفي عام 334هـ/945م استولى البويهيون الشيعة على العراق وأضافوه إلى دولتهم التي تأسست قبل ذلك في فارس، وصاروا هم المتسلطين على شئون الخلافة وتعسفوا في معاملة الخليفة حتى أنهم عذبوا بعض الخلفاء وسجنوا بعضهم، وقتلوا البعض الآخر، وكان بإمكانهم القضاء على الخلافة العباسية والدعوة للخلافة الفاطمية في العراق وباقي المشرق الإسلامي خاصة بعد إستيلاء الفاطميين على مصر، لكنه لم يفعلوا ذلك ليس حفاظاً على الخلافة العباسية، بل حفاظاً على سلطانهم ودولتهم من أن تزول لصالح الفاطميين، الذين تمكنوا من بسط سيطرتهم على بلاد الشام وشبه جزيرة العرب، وأخذوا يبثون دعاتهم في العراق لإنهاء الخلافة العباسية وضم باقي المشرق الإسلامي لدولتهم، وفي عام 447هـ/ 1055م استغل أحد دعاتهم ضعف سلطة البويهيين وأثار فتنة في بغداد وتمكن خلالها مع مؤيديه من القاء القبض عل الخليفة وحبسه، فاستنجد الخليفة بالسلطان طغرل بك سلطان السلاجقة الذين كانوا قد أسسوا دولتهم عام 427هـ/1037م في بعض مناطق خراسان، ثم توسعوا جنوباً وغرباً في أراضي الدولة البويهية التي كانت قد ضعفت، كما تقدم وسارع سلطان السلاجقة إلى استغلال الفرصة فتوجه إلى العراق وقضى على الفتنة وعلى الدولة البويهية وأعاد للخليفة إعتباره ولكن البساسيري التي تأثر بدعوة الفاطمييين استولى على بغداد بعد أن غادرها طغرل بك 450هـ/1058م وأقام الدعوة فيها للخليفة الفاطمي المستنصر بالله، إلا أن طغرل بك عاد إلى بغداد من جديد وقضى على داعية الفاطميين، واستقرت الأوضاع في العراق لصالح دولة السلاجقة السنيين، الذين أظهروا قدراً كبيراً من الاحترام للخليفة، ولكنهم أبقوه رمزاً دينياً بدون قوة وصلاحيات، وعندما اجتاح الصليبيون بلاد الشام عام 492هـ/1099م كانت الخلافة العباسية عاجزة تماماً عن القيام بأي رد فعل سوى توجيه الرسل إلى سلاطين السلاجقة لمعالجة الأمر . وأصبحت العلاقة بين السلاجقة والخلافة العباسية بين مد وجزر إلى نهايتها ومجيء الخوارزميين كقوة جديدة اصطدمت بالخلفاء العباسيين وقد بينا ذلك، وفي عهد المستعصم بالله العباسي آخر خلفاء العباسيين وبالرغم من المتاعب والمحن التي أحاطت بالخلافة العباسية فإن المصادر لم تشر إلى أية محاولة من الخليفة العباسي المستعصم بالله في الاتصال بالقوى الإسلامية وبالأخص الإيوبيين في الشام والمماليك في مصر، إذ يبدو أنه كان واهماً بأن تلك القوى ستكون رهن إشارته عند الحاجة لها، يدلنا على ذلك تلك الرسالة التي رد بها الخليفة على تهديدات هولاكو، والتي ذكر فيها بأن كل القوى الإسلامية تنتظر إشارة بسيطة منه للوقوف في وجه المغول متناسياً بأن الأيوبيين والمماليك كان لديهم من المشاكل ما يمنعهم من تقديم أي مساعدة لبغداد .
4 ـ ضعف الجيش العباسي: في أواخر عهود الخلافة العباسية، بدأ التفكك يدب في كيان الدولة، وبدأت الولايات تنعزل أو يستغل بها ولاتها جزياً أو كلياً، فينتبه خليفة ويهمل خليفة آخر شأن الجيش، أو ينتبه الخليفة نفسه في فترة لهذا الجيش، ويهمله في فترة أخرى، وكان آخر من سجل نقطة تحول في تجديد الحياة إلى الجيش العباسي وبث الحيوية في تنظيماته هو الخليفة المستنصر بالله أبو الخليفة المستعصم بالله وذلك بعد أن تمزقت الدولة العباسية، وبدأت السيادة الإسلامية العباسية تفقد نفوذها وأخذ التشرذم ينتاب هذه الدولة ومع مجيئ الخليفة المستنصر بالله رفع عدد جنوده إلى مائة ألف جندي للتمكن من صد زحف المغول المحتمل ومحاولة ردهم عن تخوم الدولة ومقاتلتهم واستخلاص الأراضي التي بسطوا هيمنتهم عليها، لكن بطانة الخليفة المستعصم بالله، لم تلتفت إلى هذا الأمر وتركت مهمته إلى الخليفة الذي اقتنع برأي وزيره الفارسي ابن العلقمي بانقاص عدد الجند إلى عشرين ألف فقط، ولم تحرك بطانة الخليفة ولا أمراء الجند ساكناً في هذا الحدث المهم والكبير بالرغم من وجود خطر داهم أصبح عاصمته همذان، وهي قاعدة الانطلاق العسكري بالرغم من نهشه المتفاوت لتخوم الدولة العباسية الضيقة الحدود، إذ كان الخليفة قد أهمل حال الجند ومنعهم أرزاقهم وأسقط أكثر من دساتير ديوان العرض فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس وبذل وجوههم في الطلب في الأسواق والجوامع، ونظم الشعراء في ذلك الأشعار ، ويقول ابن كثير: وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمه من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر بالله قريباً من مائة ألف مقاتل منهم الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتر وأطمعهم في أخذ البلاد.. وأن يبيد العلماء والمفتين ، وكان النظام مفقوداً في جيش الخليفة ومني بفقدان الوحدة في قيادته، فكان له عدة قوات، كل يعمل على شاكلته وبرأيه الخاص، خلافاً لما كان عليه الحال لدى المغول فقد كان النظام سارياً فيه بفضل توحيد قيادته العليا وحصرها بشخص السلطان يؤازره ديوان شورى الحرب وكان مؤلفاً من كبار قادة المغول وأمرائهم من مهام هذا الديوان تقرير الخطط الحربية ولم يكن للخليفة المستعصم ولا لقادة جيشه عناية بفن الإستطلاع أو الوقوف على الحقائق في بلاد الأعداء، بل كان خليفة بغداد يجهل أو يتجاهل كل شيء من هذا القبيل وأما المغول فكانت لهم عناية بالغة بهذا الفن وكان لجيشهم عيون يعولون عليها في مواصفاتهم بحقائق الأحوال ومن تفننهم في ذلك استعمال طلائعهم العسكرية في التجسّس وربما تكرّر ذلك منهم سنين طويلة ويُعزى ظفرهم في كثير من الحروب إلى عوامل من جملتها اهتمامهم بتسقط انباء الأعداء، فوجدو أن الدولة العباسية حدودها شاغرة وأنظمتها فاسدة وجيوشها خائرة وبالجملة فقد ظهر الفساد في الدولة من قرنها إلى قدمها .
5 ـ ضعف عصبية الدولة: قامت الدولة العباسية على فكرة إسلامية شاملة ولم تكن لها عصبية قومية متحدة الأوصال وثيقة العرى وإنما كان الإسلام هو الذي جمع بين القوى القومية المتعددة الأجناس، وكان بنو العباس يسندون أمر وزاراتهم إلى رجل يختارونه من الموالي ويجعلون قيادة جنودهم إلى موالي وإلى عرب ولكنهم كانوا تحت تأثير الظنون والريب التي تحوم حول عقولهم من استبداد الموالي بالسلطان فمتى شموا من وزير أو قائد من الموالي الخراسانيين رائحة من ذلك عاجلوه وانظر مافعله المنصور بقائد الجيوش العباسية أبي مسلم الخراساني وزيره الأول ولأبي مسلم ماله من السابقة وحسن الأثر في إحياء الدولة ولكن ذلك لم ينفعه أمام ريب أبي جعفر وغيرته على ملكه أن يشاركه فيه أحد ولا يمكن أن نبرئ أبا مسلم من قصد تحويل السلطان إلى قومه وليس بنو العباس في نظره إلا واسطة ولما قتل أبو مسلم قام بالثأر له قائد فارسي على دين قومه من الوثنية سنباذ وجمع لذلك جموعاً عظيمة وكاد يزلزل بلاد خراسان لولا أن غولب بالعصبية العربية ـ الممزوجية بالعقيدة الإسلامية ـ فإن أبا جعفر أعدله جمهور بن مرار العجلي وهو من رجال ربيعة فكسر قوته وقام يطلب بثأره أيضاً الرواندية، فقضى عليهم قائد من زعماء ربيعة وهو معن بن زائدة الشيباني والخلاصة أن الدولة العباسية ابتدأت على عصبية يتحد دينها وتختلف عناصرها ولبعض هذه العناصر أغراض لا تتفق مع سيادة الدولة وعظم شأنها ونفوذ خلفائها وحدث صراع بين العصبيات الجزئية على حساب العصبية الكلية التي كان يجمعها الإسلام، وحدث صراع بين عصبية الأجانس والقوميات أضحت بني العباس، بعد فقدان توازن القوى وما ترتب عليه من إختلال في النفوذ، أو المقام الديني حفظ هذه الدولة من الفناء مع هذا الضعف المتوالي، فدخل في عصبية الدولة العباسية الفرس وأصبحوا أصحاب النفوذ ثم الأتراك، ثم البويهيون ثم السلاجقة، كما مرَّ معنا وحاول خلفاء الدولة العباسية بعد ضعف السلاجقة أن يستيقظوا من السبات الطويل، وفوجئوا بخروج سيل المغول الجارف والعصبية القائمة عليها الدولة في حالةمن التردي والضعف، والهوان .
6 ـ ضعف قيمة العهود: الوفاء بالعهد خلق إسلامي أصيل حافظ عليه المسلمون وبذلوا دونه أموالهم وأنفسهم، شهد لهم بذلك الفرس والروم والبربر وغيرهم من الأمم، قال تعالى: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً" (الإسراء ، الآية :34)، وقال تعالى: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون) (النحل ، الآية 91)، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي شددت في وجوب الوفاء بالعهد واعتبارها أساساً تقوم عليه الأمة الإسلامية وعلى ذلك سار الخلفاء الراشدون، ولما جاءت الدولة العباسية، وقد ظهرت على أيدي قادة الدولة حوادث متكررة تدل على أنه ليس للعهود في نظر خلفائها قيمة، فقد قتل المنصور في حياة السفاح ابن هبيرة بعد أن أمن أماناً لا شك ولا حيلة فيه، وكان الذي أشار بقتله أبو مسلم الخراساني مشيد الدولة العباسية وكانوا لا يحبون أن ينفذوا أمراً دون مشورته، ثم أعاد المنصور هذه الرواية نفسها مع أبي مسلم بعد أن أمنه ثم فعل مثل ذلك مع عمه عبد الله بن علي بعد أن أمنه ,اعلن رضاه عنه ولذلك لما كاتب المنصور محمد بن عبد الله بن الحسن وقال إنه يعطيه الأمان، أجابه محمد بقوله: وأما أمانك الذي عرضت فأي الأمانات هو أمان ابن هبيرة أم أمان أبي مسلم أم أمان عمك عبد الله بن علي والسلام، وهذه كلمة شديدة الوقع سيئة التأثير وصمة عار في تاريخ الدولة العباسية، فهذا الذي حصل في صدر الدولة كان مجرئاً لمن أتى بعد ذلك أن يحاولوا التخلص مما تقضي به العهود إذا رأوها مخالفة لمصالحهم، ولا سيما العهود التي تعقد لتولي الخلافة، فإنهم جعلوها من الأشياء التي يسهل حلها وإن كان بعضهم يحاول أن يلبس باطله ثوب الحق، فعل ذلك المنصور مع عيسى بن موسى الذي عقد له السفاح الخلافة بعد المنصور، فقدم عليه ابنه محمد المهدي وهذا التقديم وإن كان قد تم بطلب عيسى ورضاه إلا أن نعرف كيف توصل المنصور إلى الحصول على هذا الرضا من الإساءات المتكررة لعيسى والتهديد المتواصل حتى همَّ الرجل أن يخلع طاعة المنصور ويفتن الأمة، وفي رأيي أنه لو وجد نصراء لفعل وإن كان قد أثر عنه شعر يفيد أنه آثر مصلحة الأمة على مصلحة نفسه وهو قوله:
خيرت أمرين ضاع الحزم بينهما
إما صغار وإما فتنة عمم

وقد هممت مراراً أن أساجلهم
كأس المنية لولا الله والرحم

وفعل الأمين ذلك مع أخيه المأمون فأدى ذلك للفتنة الشعواء التي كانت بين سنة 194هـ إلى 198هـ قاست الأمة في أثنائها مصاعب هائلة ولم يوجد منهم من هاب ذلك الفعل محافظة على العهود والمواثيق ومن البديهي أن أمثال هذه العهود ليست قاصرة على المتنازعين بل تتعداهم إلى القادة والأمراء، فهؤلاء ينشقون أيضاً ويستسهلون الإقدام على فك تلك القيود التي حلفوا الإيمان الوثيق على الوفاء بها، وكتب الرشيد أماناً ليحي بن عبد الله وأكد فيه غاية التأكيد ولما إرتاب منه، صار يبحث في الوجوه التي يبطل بها الإيمان، وجعل فقهاء وقته الواسطة في ذلك، فمنهم من أبت عليه شيمته ودينه أن يسترسل في الدين مع الأهواء، ومن سارع إلى هوى الخليفة، وصار يبدي الأوجه التي ينتقص منها الأماني، كل هذا من العيوب التي شقت عصا البيت وتعدت إلى فرقة الأمة فأضعفت عصبية الدولة وآل الأمر لخلفائها إلى أن تكون قوتهم مستمدة من المتغلبين عليهم .
7 ـ ضعف همم ملوك الأطراف: في مقابل قوة هؤلاء المغول وشدة بأسهم وإجتماع كلمتهم فقد ساهم في سرعة إنتشارهم وسيطرتهم على مدن العالم الإسلامي وحواضره ضعف ملوك الإسلام في تلك الفترة بعامة، وإنشغالهم عن الجهاد باللغو واللعب، وهذا المؤرخ ابن الأثير ـ يرحمه الله ـ ينعي على الإسلام وأهله، ويصف أحوال ملوكه قبيل وفاته بسنتين فيقول معلقاً على أحداث سنة 628هـ ما نصه: "فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين، بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منك خاصة" (الآية ، الآية : 25)" . وليست أوضاع الخلافة العباسية ولا الخلفاء العباسيين بمعزل عن هذا الوضع المتردي، فقد انحسر سلطان الخلافة وإنكمشت حدود العباسيين، واستقل غيرهم بالسلطة في حكم أجزاء من العالم الإسلامي، وهو أمر لم يكن سائغاً في ظل حكم الدولة الأموية، هذا فضلاً عن اشتغال الخلفاء العباسيين بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات . هذه الحقائق يجليها لنا ابن كثير عليه رحمة الله في محاولة منه لتلمس أسباب نهاية الدولة العباسية على أيدي التتار فيقول: ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد، كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والأقطار والأمصار، فإنه خرج عن بنو العباس بلاد المغرب وكذلك أخذت من أيديهم بلاد خراسان وما وراء النهر وتداولتها الملوك دولاً بعد دول حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم وإشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات . ويقول قطب الدين اليونيني: ".. إنما قدموه على عمه الخفاجي لما يعلمون من لينه وإنقياده وضعف رأيه ليستبدوا بالأمور وإذا صح ما ينسب إليه "ابن العبري" من ضعف الهمة وزهده بأقطار الخلافة عدت بغداد فهي طامة كبرى، إذ ينسب إلى "المستعصم" قوله: إن بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد، ولا أيضاً يهجمون عليَّ وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي ، وعلى كل حال إن ضعف المستعصم معروف حتى عند "التتار" ولذا كانوا يسمونه "الأبله"، ولم يقف هذا الضعف والهوان عند حدود دول المشرق الإسلامي أو ينتهي بضعف مركز الخليفة العباسي وضمور سلطان الخلافة العباسية، بل جاوز ذلك إلى ملوك وسلاطين المسلمين في بلاد الشام ومصر، فقد ذكر ابن كثير ـ في أحداث سنة 658هـ ـ أن سلطان دمشق وحلب ((الملك النصر بن عبد العزيز))، وملك الكرك والشوبك ((الملك المغيث بن العادل)) قد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم، ومعهما الأمير ركن الدين ((بيبرس البندقداري)) ، وقبل ذلك ذكر الذهبي أن عسكر الناصر سنة 656هـ عليهم ((المغيث)) صاحب الكرك ليأخذوا مصر، فالتقاهم ((المظفر قطز)) وهو نائب للمنصور علي ولد المعز بالرمل وأسر جماعة أمراء فضرب أعناقهم ، وقبل ذلك كذلك وفي سنة 642هـ كان حصار الخوارزمية على ((دمشق)) في خدمة صاحب ((مصر)) واشتد القحط حتى التقى بهم ((الشاميون)) ومعهم عسكر من ((الفرنج)) بين عسقلان وغزة فانهزم الجمعان وحصدت الخوارزمية الفرنج واندك صاحب ((حمص)) ونهبت خزائنه وبكى وقال ـ معبراً عن سر الهزيمة ـ: قد علمت بأن لا نفلح لما سرنا تحت الصلبان، قال ابن الأثير واصفاً أحوال المسلمين في هذه الفترة بشكل عام: فمن سلم من المسلمين من هاتين الطائفتين ((التتار والفرنج)) فالسيف بينهما مسلول والفتنة قائمة على ساق ، وإذا علم ذلك كله أمكن تصور سرعة إنتشارهم وضعف المقاومة أمامهم، وملء الرعب في قلوب الناس من حولهم، والله غالب على أمره .
8 ـ تنازلات سياسية دلت على الوهن العباسي: بعد أن كان كل ملوك الأرض وسلاطينها يخافون أو يحترمون الخلفاء العباسيين ويهابون دولتهم، فيقدمون لهم الجزية والهدايا أو يتهادون على قدم المساواة تعبيراً عن الود وحسن الجوار ودفعاً للمخاطر، صار الخلفاء العباسيون المتأخرون هم الذين يقدمون الهدايا والأموال المقاربة للجزية لهولاكو، ليس تعبيراً عن الود أو حسن الجوار إنما دفعاً لشره، وخوفاً من مداهمته، وقد كان المستنصر بالله يقدم هذه الهدايا والأموال والجواري والغلمان والخيول العربية الأصيلة إلى هولاكو، كما كان الخلفاء العباسيون المتأخرون يقودون إلى أصحاب الولايات والإقطاعات التي انفصلت عن الدولة واستقل بها أصحابها ويتجنبون إغضابهم مع حزم وحنكة الخليفة المستنصر بالله، إلا أنه مع ذلك يصانع التتار ويهاديهم، فلما ولي المستعصم بالله أشير إليه بقطع أكثر الجند، وأن مصانعة التتار وحمل المال إليهم يحصل به المقصود، ففعل ذلك ، وكانت مصانعة التتار بطريقة تدل على الخور والضعف وعلى سوء إدارة الوزير العلقمي وخبثه وعماية القضاء وأمراء الجند وعدم فطنتهم، وحدث تواطؤ على إسقاط الدولة بعد إيقاع الخليفة في مأزق الخوف، والخلافة أصبحت هدفاً للمغول الذين أيقنوا بضعف روح الممانعة والمدافعة والمغالبة أمام التنازلات السياسية الغير محكمة والخالية من الدراسة والنظر الاستراتيجي والتخطيط السليم، فكان ذلك من أسباب السقوط العباسي.
9 ـ تعدد مراكز القوى: لم يكن زمام الأمور في بغداد مركزاً في يدٍ واحدة، بل كانت هناك سلطات مختلفة متعارضة كل منها يجور على السلطة الأخرى، ويتدخل في عملها، ولم تكن هناك رابطة تجمع الحكام ومن بينهم تصريف شئون الدولة، بل كانوا متنازعين متباغضين، كل منهم ينقم على الآخر ويدبر ضده المؤامرات، ويسفه رايه عند الخليفة، وفوق كل هؤلاء كان الخليفة مسلوب الإرادة ضعيف الشخصية، لا يستطيع أن يوقف كل واحد منهم عند حده، فترتب على ذلك أن اتسعت شقة الخلاف بين الساسة، واستحكم العداء بينهم، خصوصاً بين مؤيد الدين العلقمي وزير المستعصم وكان شيعياً، وبين مجاهد الدين أيبك الدواتدار الصغير، وكان سنياً، فقد حدث قبيل حملة هولاكو خان أن جمع الدواتدار الصغير حوله كثيراً من الرعاع والمشاغبين والسفلة وأخذ يهدد الأمن ويضع الخطط لخلع الخليفة وإحلال آخر محله، فلما علم الوزير بتلك المؤامرة، أخبر الخليفة على الفور بما يدبر ضده وطلب إليه أن يقضي على تلك الفتنة في مهدها، ولكن الخليفة جرياً على سياسة التهاون وعدم المبالاة، لم يصغ إلى نصيحة وزيره وأمن الدواتدار على حياته، وأمر بذكر إسمه في الخطبة بعد اسم الخليفة، ولا شك أن تصرف الخليفة على هذا النحو ليدل على سوء الحالة التي وصلت إليها الخلافة في هذا العهد، وإنها لا محالة قد أذنت بالسقوط والزوال، ومنذ وقوع هذا الحادث والوزير والدواتدار كلاهما يكيد للآخر عند الخليفة مما كان له أثره السيئ في إضطراب الأمور، وتقويض الدولة العباسية .
10 ـ إحتلال خطوط الدفاع الأولى: وقع الخلفاء العباسيون في خطأ إستراتيجي كبير لما تركوا الدولة الخوارزمية تدافع الغزو المغولي وحدها، فكان من الطبيعي أن تنساب جيوش المغول نحو أملاك الدولة العباسية وتجتاح كل ما في طريقها، كان الواجب على الخلفاء العباسيين التصدي لمشاريع جنكيز خان وأولاده وأحفاده الهادفة للسيطرة على ديار المسلمين، وهذا لم يحدث وتركوا الدولة الخوارزمية تتآكل وتحترق أمامهم ولم يقوموا بواجبهم الجهادي والإسلامي نحو إخوانهم في العقيدة، إن صراع الأمم، وتصادم الحضارات والدول، يخضع لسنن الله الجارية في تحقيق الإنتصار، ولا يعتمد على العواطف والانتساب إلى البيت النبوي الشريف، بل بالاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الأخذ بالسنن وإدارة الصراع مع المشاريع الغازية، وكان من المفروض أن ينتبه الخليفة العباسي المستعصم بالله ووزراؤه وكتاب ديوانه وحجابه وأمراء جنده إلى ما يحدث حولهم من محاولات هولاكو وهو يهدد ويتوعد ويسخر خاصة بعد أن تمكن هولاكو من السيطرة واكتساح الكثير من أقاليم الخلافة العباسية وتمكن من عزلها عنها، فإذا بالخلافة تعاني من عملية تجريد الخليفة العباسي من كل حلفائه أو حماته المتاخمين لحدود العراق التي أصبحت قريبة جداً من الخطر الدائم، كما تعاني من ضعف سيطرة الخليفة على اصحاب الولايات بفعل خوفهم من هولاكو، فتفشت العلاقات بين الخلافة العباسية والولايات المتاخمة وانحازوا إلى هولاكو يصانعونه لكف شره، فكانوا يرسلون إليه الهدايا والأموال، حتى أنه في سنة 655هـ توجه العزيز بن الملك الناصر إلى هولاكو بهدية حسنة جليلة وكان في خدمته سيف الدين إبراهيم الحاكي الحافظي ، لقد كان تحرك هولاكو بجيشه المغولي عسكرياً سريعاً ومنظماً ومكشوفاً، وبعد رسائل التهديد أيضاً، وكان الخليفة المستعصم مستغرقاً في قداسة البيت العباسي وأحلامه التاريخية، ورد بهذا الرد العجيب الغريب في تمجيد بني العباس، فقال: لو غاب عن الملك فله أن يسأل المطلعين على الأحوال، إذ أن كل ملك ـ حتى هذا العهد قصد أسرة بني العباس ودار السلام بغداد، كانت عاقبته وخيمة، ومهما قصدهم ذوو السطوة من الملوك وأصحاب الشوكة من السلاطين، فإن أبناء هذا البيت محكم للغاية وسيبقى إلى يوم القيامة.. إلى أن قال: فليس من المصلحة أن يفكر الملك في قصد أسرة العباسيين، فاحذر عين السوء من الزمان الغادر، فاشتد غضب هولاكو خان بسبب هذا الكلام وأعاد الرسل قائلاً:
ـ إذهب واصنع من الحديد المدن والأسوار.
ـ وأرفع من الفولاذ الأبراج والهياكل.
ـ واجمع جيشاً من المردة والشياطين.
ـ ثم تقدم نحوي للخصام والنزال.
ـ فسأنزل لك ولو كنت في السماء.
ـ وسأدفع بك غصباً إلى أفواه السباع .
كان الأحرى بالخليفة المستعصم بالله وبطانته أن يتشاوروا في الأمر لدفع هذا البلاء بأسلم الطرق وأقومها وأقواها والتي من أهمها دعم الخطوط الأمامية بالسلاح والرجال والعتاد لكي تقاوم المغول، ولكن المصالح الشخصية والصراعات الداخلية الدائرة والمؤامرات الخبيثة، كانت كلها تدور في فلك الجهالة السياسية التي يتمتع بها الخليفة ورجاله .
إن زحف هولاكو بجيوش المغول، ليس جديداً وإنما هو إمتداد لعدد من السنين وهذا الامتداد الزمني لا شك لم يخف على الخليفة وساسة البلاد، وكانت أحداث المغول ووقائعهم بالمسلمين تجلب إنتباه الغافل ويعلمها القاصي والداني، كان الحدث الجلل وهو الغزو المغولي يقتضم أجزاء الدولة ويقسمها ويمزقها شر ممزق، ولا وجود لمشروع مقاوم للغزو ويقوده الخليفة بل الحمى مستباح نتيجة للخور والجبن والجهل السياسي والعسكري الذي تميز به الخليفة المستعصم بالله العباسي فترك خطوك الدفاع الأولى للأمة تواجه مصيرها بدون دعم مادي و معنوي يذكر.
11 ـ دور النصارى في سقوط الدولة العباسية: كان جيش هولاكو خان في غزواته الكبرى ضد أراضي الدولة الإسماعيلية، وأراضي الخلافة العباسية والشام وفلسطين يضم بين صفوف قواته أعداداً كبيراً من المسيحيين النسطوريين وعلى رأسهم قائده الكبير ((كدبوقا نوبان))، وكان المغول يقومون بفتوحاتهم وغزواتهم لأقطار شتى من المحيط الهادي شرقاً والهند الصينية في الجنوب الشرقي إلى أراضي البولندية، وقلب أوربا غرباً، ومن سيبيريا بحر البلطيق شمالاً، إلى شبه القارة الهندية وشمال الجزيرة العربية جنوباً، بدافع المكاسب المادية ولتوسيع رقعة أراضيهم في سبيل تكوين إمبراطوريتهم العالمية التي كانوا يتوقون بتلهف إلى تكوينها ، وكان من ضمن الجيوش الغازية لبغداد المسيحون ((الجرجانيون)) الكرج حيث أسهم أولئك بكتائب عسكرية وغيرها من مؤن وعتاد حربي، وكان ذلك من ضمن الانقياد للإمبراطورية المغولية التي فرضت على أتباعها التبعية والخضوع، تحت سلطان القاآن في قراقوم والتي فرضت عليهم المساهمة في حملات اسيادهم العسكرية ضد أعدائهم ، وقد نال المسيحيون من سكان بغداد إحترام المغول وحفظت أعراضهم وأموالهم ولم يتعرضوا لدمار المغول، بل حفظت منازلهم وحرست من قبل جنود المغول أثناء إجتياح بغداد، وقد إلتجأ بعض المسلمين إلى بيوت النصارى في بغداد هرباً من السيف المغولي، وقد نجا من نال الحماية المسيحية في بغداد من مذبحة المغول الفظيعة .
12 ـ دور الحكام المسلمين في إسقاط الدولة العباسية:
عندما توجه هولاكو بجيوشه للقضاء على الإسماعيلية والدولة العباسية كانت كتائب بعض حكام المسلمين تحت لوائه، حيث تغلغلت أسباب الضغف المعنوي في نفوس أولئك الأمراء والتي منها:
ـ ضعف الوازع الديني عند كثير من الأمراء.
ـ الأنانية وحب الذات.
ـ الجبن والخور الذي أصاب كثيراً من الناس.
ـ الحرص على المصالح الدنيوية.
ـ ضعف عقيدة الولاء والبراء.
لقد ارتكب بعض حكام وأمراء المسلمين خيانة عظمى للأمة الإسلامية ولدينهم وعقيدتهم وذلك بالمشاركة الفعالة مع المغول في حملتهم الشنيعة على الدولة العباسية ومن أشهر هؤلاء الحكام:

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 2:41 pm

أ ـ براق حاجب وخلفاؤه: كان حاكم كرمان والأراضي التابعة لها، براق حاجب، من أول الحكام المسلمين، الذين ساهموا مع المغول إبان حملتهم على بغداد، ومن المعروف أن اقليم كرمان كان جزءاً من أراضي الدولة الخوارزمية، وكان هذا الإقليم يحكمه الأمير غياث الدين الابن الثاني للسلطان محمد خوارزمشاه، وقد استناب هذا الأمير شخصياً، براق حاجب هذا، ليقوم بإدارة شئون الإقليم نيابة عنه، وبعد الخلاف الذي نشب بين الأخوين، غياث الدين وأخيه الأكبر جلال الدين، هرب الأول إلى إقطاعه السابق ((كرمان)) حيث كان به نائبه الأول على كرمان، براق حاجب، فما كان من الأخير إلا أن قام باغتيال سيده، فقطع رأسه وأرسله إلى ((القاآن)) المغولي ((أكتاي)) في ((قرا ـ قروم)) وأعلن خضوعه تحت سلطان المغول وجعل من نفسه جاسوساً يطلع أسياده الجدد بأخبار الأقطار الغربية وما كان يجري فيها من تطورات سياسية وعسكرية، تخدم غرض المغول وتوسعهم المستمر في سبيل إنشاء إمبراطوريتهم العالمية، فقد أخبرهم بنشاطات سيده السابق جلال الدين منكبرتي وقدم لهم معلومات هامة ساهمت في القضاء على الدولة الخوارزمية، وظل براق حاجب على ولائه التام للمغول وشارك بجنوده في حملات التتار ضد ديار المسلمين، فشارك في حملة المغول ضد أراضي السلاجقة في آسيا الصغرى وبعد وفاة براق حاجب في سنه 632هـ/1234م أصبح خلفاؤه من بعده وهم ركن الدين خواجة الحق _623 ـ 650هـ) / 1234 ـ 1252م وقطب الدين محمد (650 ـ 655هـ/ 1252 ـ 1257م، يتنافسان فيما بينهم في تقديم الولاء والطاعة للمغول، كما أصبحا متنافسين على حكم إقليم كرمان، وأخذ كل واحد من جانبه يذهب إلى منغوليا ويعلن أنه سيكون أكثر من منافسه خضوعاً، وطاعة ((للقاآن)) في ((قرا ـ قروم)) ويطلب أن يقبله المغول نائباً لهم ((على أراضي ولاية كرمان)) إذا ما أنعموا عليه بحكم ذلك الإقليم .
وعندما وصل المغول إلى منطقة شرق إيران، في حملتهم الغربية الكبرى بقيادة هولاكو، وشرعوا في هجومهم العام الكاسح، ضد أراضي وقلاع الدولة الإسماعيلية قام قطب الدين محمد، حاكم كرمان في ذلك الوقت، بإرسال قوات خاصة من بلده لتشارك في الحرب تحت رعاية المغول وقد كانت قوات حكومة كرمان المسلمة مع قوات ((بَرْد)) في القوة والكثرة بحيث كانت تكون كتيبة عسكرية مستقلة بذاتها وأصبحت تحت قيادة هولاكو، وتشارك في حربه، ضد حكومة العباسيين، والمسلمين في العراق، والجزيرة والشام .
ب ـ أتابك إقليم فارس: أعلن أتابك فارس خضوعه تحت السلطة المغولية، في نفس الوقت الذي خضع فيه جاره، براق حاجب كرمان لنفوذهم وحافظ على ولائه للمغول وكان يرسل ممثليه إلى البلاط المغولي في ((قرار ـ قروم)) بصفة دائمة وفي كل مناسبة، وعندما وصل هولاكو ـ على رأس حملة المغول الغربية ـ إلى إقليم ما وراء النهر، ذهب إلى هناك أتابك فارس نفسه أبو بكر (حسب رواية الجورجاني أو ابنه سعد ((حسب رواية رشيد الدين)) للترحيب بمقدم القائد المغولي، والبذل من نفسه ما يستطيع تقديمه للمغول في حملتهم هذه، وأرسل ـ فيما بعد ـ كتيبة عسكرية خاصة يتكون جل أعضائها من الفرسان، لتلتحق بجيش هولاكو ليس فقط ضد الإسماعيليين والخلافة العباسية، بل ليشاركوا مع المغول في حروبهم الهمجية ضد المسلمين في الجزيرة وأراضي الشام ومصر، وبعد أن أسقط المغول والمسلمون وغيرهم بقيادة هولاكو خان، بغداد وأطاحوا بالدولة العباسية، قام حاكم إقليم فارس المسلم، هذا بإرسال ابنه سعد بن أبي بكر، إلى القائد المغولي، ليهنه بنجاح حملته ضد الخليفة، ويتلقى أوامره التالية، ثم لكي يقوم بخدمته نيابة عن والده .
جـ ـ بدر الدين لؤلؤ وأتابكية الموصل: وهو الملقب بالملك الرحيم، ملك الموصل نحواً من خمسين سنة وهو الذي أزال الدولة الأتابكية عن الموصل ـ وهم أسياده وكان فيه نزعة تشيع إذا كان يبعث في كل سنة إلى ((مشهد علي)) قنديلاً ذهباً زنته ألف دينار، قال ابن كثير: وهذا دليل على قلة عقله وتشيعه ، وأما أصله فكان أرمينياً حتى نقل عنه الذهبي أنه كان يحتفل لعيد الشعانين لبقايا منه من شعار أهله وكان يمد سماطاً عظيماً للغاية ويحضر المغاني وتدار في غضون ذلك أواني الخمور ويتخاطف الناس ما ينثره من الذهب في ذلك اليوم، فمقت لإحياء شعار النصارى وقيل فيه:
يعظم أعياد النصارى محبة
ويزعم أن الله عيسى بن مريم
إذا نبهته نخوة إريحية
إلى المجد قالت أرمنيته نم

وأما عن مساهمته في دخول التتار بلاد المسلمين فقد ذكر الحافظ ابن كثير أن جنود التتار حين نازلت بغداد سنة ست وخمسين وستمائة جاءت إليهم إمداد الموصل، يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار ومصانعة لهم ، وقال الذهبي عنه: وكان يصانع التتار وملوك الإسلام ، بل نقل بعض المؤرخين أن ((صاحب الموصل)) كان من بين المحرضين لهولاكو على قتل الخليفة العباسي، وحين انفصل هولاكو خان عن بغداد ـ بعد الوقعة الفظيعة ـ سار الملك الرحيم إلى خدمته طاعة له ومعه الهدايا والتحف، فأكرمه واحترمه ورجع من عنده فمكث بالموصل أياماً ثم مات ، ونقل الذهبي أنه قلد هولاكو جوهرة يتيمة قدمها هدية له وطلب أن يضعها في إذن هولاكو فأتكا ففرك أذنه وأدخل الحلقة في أذنه وأن الملك الرحيم عاد إلى بلاده ((الموصل)) متولياً من قبل هولاكو، وقرر عليه مالاً يحمله ،، بل زاد مستوى العلاقة بين الملك الرحيم واسرته وبين التتار حتى بلغ المصاهرة، فقد تزوج ولده الملك الصالح إسماعيل ابنة هولاكو، لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ أغضب الصالح إسماعيل ابنة هولاكو وأغارها، فنازلت التتار الموصل، واستمر الحصار عشرة اشهر، ثم أخذت، وخرج إليهم الصالح بالأمان فغدروا به واستباحوا الموصل .
س ـ السلاطين السلاجقة في آسيا الصغرى:
كان من جملة المسلمين الذي دخلوا تحت لواء هولاكو عند غزوه للدولة العباسية سلاطين السلاجقة في آسيا الصغرى وكان التنافس بين الأمراء والسلاطين السلاجقة في آسيا الصغرى، على أشده، في تقديم الخضوع والطاعة للخان المغولي، فقد كان عز الدين كيكاووس الثاني وركن الدين قيليج أرسلان الرابع، يتنافسان حتى في الخضوع الذليل للمغول، وسلكا سبلاً شتى في إذلال النفس لتقديم فروض الطاعة المطلقة أمام السلطات المغولية ليحوزوا على رضائها، فقد ذهب ركن الدين شخصياً إلى منغوليا وكان من جملة الحكام الذين حضروا في بلاط الخان ((كويوك)) للتعبير عن ولائهم ووفاهم والإخلاص المطلق لذلك الخان في منغوليا ، وعندما وصل هولاكو خان إلى إقليم ما وراء النهر، وهو في طريق تنفيذ حملته ضد طائفة الإسماعيليين في إيران والخليفة في العراق وأراضي الشام ومصر، ذهب ذلك المتنافسان السلجوقيان ((عز الدين وركن الدين)) وحضرا عنده للتعبير له عن وفائهما، وكل واحد منهما يمعن في التذلل، وأنه على أتم استعداد لتقديم خدمات للمغولأفضل مما يقدمه خصمه، لعله يحظى برضى الأمير القائد.
ك ـ بعض المشاركين الآخرين: لم يكن هؤلاء الحكام المسلمون هم الوحيدين الذين شاركوا مشاركة فعالة في حملة المغول ضد مسلمي العراق والجزيرة والشام وفلسطين، بل كان هناك مسلمون آخرون، فرادى وجماعات من الأقطار الإسلامية قد جندهم حكام المغول أو النواب الممثلين للسلطة المغولية ((مسعود يلواتش)) ((حاكم إقليم التركستان وأرضي ما وراء النهر)) ((وأرقون آقا)) ((حاكم المغول عل إقليم إيران)) وقد جند هؤلاء الحكام أعداداً كبيرة جداً من المسلمين لينضموا مع القوات الغازية، تحت لواء هولاكو خان، بناءً على ذلك، نجد أن أعداداً هائلة من المسلمين، التحقت بحملة المغول مثل ((كديوقانويان)) و((بايجونويان))، وكان نصر الدين الطوسي والمؤرخ علاء الدين عطا ملك الجويني والمنجم حساب الدين يتصدرون قائمة الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين انضووا تحت خدمة المغول، لغزو الدولة العباسية والأقطار الإسلامية جنوب غرب آسيا، لقد ساهم أولئك المسلمون في الإطاحة بالدولة العباسية وتقوية الإمبراطورية المغولية

13 أبعاد الكفاءات النادرة: كان المستنصر بالله يعتبر من الخلفاء العباسيين الذين حاولوا بعث الدماء الحارة في جسم الخلافة وإعادة بعض الهيبة والقوة لها وقد تمكن من تطوير الجيش العباسي وبلغ عدد جيشه مائة ألف ، وكان ذا همة عالية وشجاعة وافرة ونفس أبية وعنده إقدام عظيم وقصدت التتار بلاد العراق في أيامه فلقيهم عسكره وانتصف منهم وهزمهم وكان للخليفة المستنصر بالله أخ يمثل شخصيته وتحسباً من احتمال إتباع سيرة المستنصر بالله وقراراته، فيما إذا جاء إلى الخلافة قرر رجال الدولة من الوزراء وأمراء الجند أن يختاروا شخصاً لا يتمتع بهذه المزايا التي يتمتع بها أخو الخليفة المعروف ((الخفاجي))، لأن الخفاجي شاب فتى في عنفوان الشباب وفتوته وحدة الذكاء وقوته وعمق الشعور بالمسئولية والخفاجي يزيد على أخيه الخليفة المستنصر بالله، في الشهامة والشجاعة، وكان يقول: إن ملكني الله تعالى أمر الأمة لأعبرن بالعساكر نهر جيحون وانتزاع البلاد من يد التتار وأفنيهم قتلاً وأسراً وسبياً، فلم ير الدوادار والشرابي وكانا غائبين على الأمر ولا بقية أرباب الدولة تقليده الخلافة خوفاً منه، ولما يعلمون من استقلاله بالأمر واستبداده بالتدمير دونهم وآثروا أن يليها المستعصم بالله لما يعلمون من لينه وانقياده ليكون الأمر إليهم، فاتفق رأي أرباب الدولة على تقليد المستعصم بالله الخلافة بعد أبيه فتقلدها واستبدوا بالتدبير ، وأسندوا الأمر إلى غير أهله.

14 منافسة العلوليين: كان أول صدع صدعت به الدولة العباسية خروج محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية بالمدينة، وكان كثير من أهل خراسان ينتظر قيامه ولولا ما ظهر من شجاعة أبي جعفر المنصور ومضاء عزيمته وأخذه بالاحتياط في مصادرة موارده لزلزلت جوانب الخلافة العباسية، ولكن يقظة المنصور وحزمه قضت على محمد بن عبد الله وعلى أخيه إبراهيم الذي ثار بالبصرة، وكانت نتيجة ذلك أن اشتدت ريبة العباسيين من بني عمهم وضيقوا عليهم وشددوا المراقبة على المعروفين منهم وأرهقوا الجند في استطلاع أخبارهم، فتباعد الأمر واشتدت الجفوة، واشتد تطلع العلويين إلى قلب الدولة العباسية ليخرجوا من حرج الضيق الذي نالهم وساروا كالطائر المحبوس في قفصه يحاول التخلص منه على غير هدى، كما فعل الحسين بن علي الذي ثار بمكة في مدة الهادي سنة 169هـ، فحيل بينه وبين مراده، وقتل بفخ بالقرب من مكة، وأفلت من تلك الموقعة إدريس بن عبد الله وأخوه يحي فاتجه الأول غرباً ماراً بمصر ومخترقاً شمال أفريقيا حتى أتى المغرب الأقصى فحدب عليه من به من الأمازيغ وبايعوه بالخلافة، وأسس هناك دولة الأدارسة في طرف الدولة من المغرب واتجه الثاني نحو المشرق وذهب إلى نواحي الديلم إلا أن قربه من مركز الخلافة حتم عليه الفشل، وقد أظهرت حوادث هذين الأخوين أن من موالي العباسيين من هواه مع العلويين كواضح مولى بني العباس الذي كان يريد مصر، فإنه هو الذي سهل لإدريس المرور من أرض مصر مع معرفته به، وجعفر بن يحي البرمكي الذي سهل ليحي بن عبد الله طريق الإفلات من يد الرشيد فكان ذلك مما دعا الرشيد إلى التشديد والتضييق على من يتهم بالميل إليهم، وجاء بموسى الكاظم بن جعفر الصادق إلى بغداد ليقيم تحت نظره، وظهر الجرح بجنب الدولة العباسية، واجترأت أمة من الأمم الإسلامية وهي أمة البربر بالمغرب الأقصى أن تخرج عن طاعتهم معتقدة أنها نالت حظاً أعلى من حظ سائر الأمم الإسلامية لأنها ظفرت برجل من آل البيت النبوي ومن أبناء ابنته واضطر الرشيد أن يزرع لأفريقيا دولة الأغالبة ومقرها القيروان، كما يفعل من رأى حريقاً بجزء من داره يجتهد أن يفصل بينما تناولته النار وبين سائر البيت، وهذا ما فعله الرشيد، وجاء المأمون، فرأى خطر العلويين محدقاً بالدولة، رأى كثيراً من أبناء الدعوة ورجال الدين يميلون إلى العلويين ويكرهون ما يناله من الشر فأراد أن يتقرب إليهم ببعض ما يرغبون، فيكسر من حدتهم ويضعف من قوتهم فاختار منهم علي الرضا الذي يتولاه أكثر شيعة آل علي وولاه عهده، ويظن أنه فعل ذلك إرضاء للحسن بن سهل ووزيره الأكبر ومدبر أمره وصاحب الفضل الأعظم في سوق الخلافة إليه وإخراجها عن أخيه الأمين، ولكن رأى أن النتيجة لم تكن على ما يرغب فإنه وإن أرضى العلويين بهذا العهد قد أغضب العباسيين أصحاب الدعوة فثاروا ضده ببغداد وخلعوه، واختاروا من بينهم عمه إبراهيم بن المهدي فلم يكن أمامه ما يربأ به هذا الصدع إلا أن إحتال في التخلص من الحسن بن سهل بأن وضع له قوماً تناولوه بالسيوف ثم مات بعقب ذلك علي الرضا فنسب قوم ذلك إلى المأمون أيضاً والقرائن تساعدهم ولكن ليس عندنا من الأدلة ما يقوي هذه التهمة، وعادت الأمور بعد موت هذين إلى مجراها ورجع أهل بغداد إلى المأمون وانحرفوا عن عمه، وظل المأمون بعد ذلك على ولاء العلويين حتى إذا رأى منهم الميل إلى الخروج والثورة شرع يعاملهم بمثل ما كان يعاملهم به أبوه، بعد ثورة اليمن فأمر ألا يدخلوا عليه واضطر بأن يجاري أباه في الاحتياط فأسس دولة باليمن تشبه دولة الأغالبة بأفريقيا، وهي الدولة الزيادية والغرض من الدولتين واحد ، واتبعوا طريقة الحجر على أئمة الشيعة وأمرهم إياهم بالإقامة بمرأى منهم في بغداد أو في سامراء بعد اختطاطها ولم يكن الخلفاء العباسيون على سيرة واحدة في التعامل مع العلويين، ودخل القرامطة باسم محبة آل البيت فزلزلوا جوانب الدولة، وقام الفاطميون فاستولوا على افريقية، وعلى الجزائر ومناطق من الشمال الأفريقي ومدوا سلطانهم على مصر وسوريا والحجاز واليمن وشواطئ الفرات وكادت نارهم تلفح وجه الدولة العباسية ومما زاد الأمر بلية أن بنى بويه الذين استولوا على بغداد في منتصف القرن الرابع كانوا شيعة فأباحوا للشيعة الظهور في بغداد بما يشتهون من العادات التي كانوا يفعلونها يوم عاشوراء فقد كانوا يجعلونه يوم حزن حتى يخرج النساء فيه حاسرات نادبات لاطمات ينعين الحسين بن علي رضي الله عنه وغير ذلك من العادات وصار الناس يتقربون إلى السلطان بالتشييع وفي أوائل القرن السادس ظهرت فتنة الباطنية بفارس وبالشام فأرهقوا الناس وأفسدوا الدول وتمكنوا من إغتيال بعض خلفاء بني العباس واستمر هذا النزاع السياسي بمصر حتى سقطت الدولة الفاطمية على يد ـ نور الدين محمود زنكي ـ بواسطة أحد قدته الكبار صلاح الدين الأيوبي.
وأستمر النزاع بين العباسيين وبعض اتباع آل علي من أول خليفة إلى آخر خليفة وكان ذلك سبباً في ضعف الدولة العباسية وهذا السبب ساهم في ضعف عصبية الدولة العباسية ، ثم زوالها.
15 ـ الترف وأثره في زوال الدولة العباسية: جاء ذكر الترف والمترفين مراراً في كتاب الله تبارك وتعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي آثار من سلف فمما جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً" (الإسراء ، آية : 16). المترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم، ويجدون الراحة، ينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن وترتع في الفسق والمجون وتستهر بالقيم والمقدسات، والكرامات وتَلِغُ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي وتفقد حيويتها، وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلك وتُطوى صفحاتها والآية تقرر سنة الله هذه، فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك فكثر فيها، فعم فيها الفسق فتحللت وترهلت فحقت عليها سنة الله وأصابها الدمار والهلاك، وهي المسئولة عما يحل بها، لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ولم تصلح نظامها الذي يسمح بوجود المترفين إن الله عز وجل قد جعل للحياة البشرية نواميس لا تتخلق وسنناً لا تتبدل، وحين يوجد الأسباب تتعدد النتائج ، وهذا نص صريح قاطع في أن هلاك الأمم وضعف شأنها وانحلال قواها إنما يكون بالشهوات المتحكمة والأهواء المردية وسيطرة ذلك على الذين يوجهونها وفي الآية الكريمة ما يشير إلى أن الترف هو الذي يؤدي إلى الفسق وأن الفسق هو الذي يؤدي إلى الدمار، فعلى الذين يعملون لرفعة الأمة أن يتجهوا إلى الدعامة التي تقوم عليها وهي قوة النفس وسيطرة الإرادة المؤمنة على الأهواء الجامحة، وأنه كلما كان الترف المردي كانت القوى المنحلة، وكلما كانت الإرادة القوية والعزيمة الصادقة والإخلاص المنير كان النصر المبين والتأييد من الله رب العالمين .
وللترف أثر بالغ السوء في الدول والشعوب، بل هو مِعْوَلُ هدم لطاقاتها وقدراتها، حيث يغري بالإخلاد إلى الأرض والاغتراف من المباذل والشهوات والخوض في سفاسف الأمور ودناياها والتعلق بالمناصب والجاه ولمال، ونسيان المعاني العلية، وعدم المخاطرة بالنفس في الجهاد في سبيل الله تعالى، والنفور من ارتكاب الصعب من الأمور، لا شيء إلا لأنه صعب على النفوس، والميل إلى السهل من الأعمال مهما قادت إلى ضعف وهوان ، لقد أضعف الترف الدولة العباسية إضعافاً متدرجاً حتى بلغ غايته بسقوطها أمام التتار، ذلك السقوط المخزي المريع الذي لم يكن مثله سقوط في تاريخ الدولة الإسلامية، وانظر إلى ما كانوا يصنعون تعرف لماذا سقطوا وذلوا وهانوا، فهذا المأمون بن هارون الرشيد وهو من آخر أقوياء الخلفاء قد عقد على بوران بنت الحسن بن سهل وزيره، فماذا صنع في حفلة عرسه؟ وإن شئت قلت ماذا صُنع له؟ جرت تلك الحفلة في منازل الحسن بن سهل السرخسي، التي كانت بفم الصلح بالقرب من مدينة واسط، وفم الصلح إسم نهر كبير كان فوق واسط عليه عدة قرى، وفيه كانت دار الحسن بن سهل وزير المأمون، وفيه بنى المأمون ببوران، تزوجها المأمون لمكانة أبيها عنده، وإسمها الحقيقي خديجة، وبوران لقبها، احتفل أبوها وعمل الولام والأفراح ما لم يعهد مثله في عصر من عصور الجاهلية والإسلام، فقد سافر المأمون وحاشيته ورجال دولته من القواد والكتاب والوجوه إلى فم الصلح، فنثر الحسن بن سهل بنادق المسك على رؤوسهم، فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار وصفاة دواب وغير ذلك، وكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم ما في الرقعة مضى إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويتسلم ما فيها، سواء كان ضيعة أو ملكاً آخر، أو فرساً أو جارية، أو مملوكاً، ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وأنفق على المأمون وقواده وجميع أصحابه وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه، وكانوا خلقاً لا يحصى حتى على الجماليين والمكارية ، والملاحين وكل من ضمه عسكره، ولم يكن في المعسكر من يشتري شيئاً لنفسه ولا لدوابه وذكر الطبري، أن المأمون أقام عند الحسن تسعة عشر يوماً، يعد له في كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف درهم ، وكان رحيل المأمون نحو الحسن بن سهل، أي إلى قم الصلح، لثمان خلون من شهر رمضان سنة عشر ومائتين وفرش الحسن للمأمون حصيراً منسوجاً بالذهب فلما وقف عليه نثرت على قدميه لآلئ كثيرة ، ودخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله إلى فم الصلح فلما جلس معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد الدر: كم؟ فقالت: ألف حبة، ووضعها في حجرها وقال لها: هذه نحلتك ، وسلي حوائجك، فقالت لها جدتها: كلمي سيدك فقد أمرك، فسألته الرضى عن إبراهيم بن المهدي، عمه والسماح بالحج لأم جعفر، وهي الست زبيدة، فقال: قد فعلت، فألبستها أم جعفر البدلة اللؤلؤية، وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عنبر وزنها أربعون منا في تور من ذهب فأنكر المأمون ذلك عليهم وقال: هذا إسراف ، يا سبحان الله والذي مضى كله لم يكن إسرافاً . وقد أمر المأمون للحسن عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم ، وأقطعه فم الصلح، فجلس الحسن وفرق المال على قواده وأصحابه وحشمه،وقد كان الحسن كثير العطاء للشعراء وغيرهم فقصده بعض الشعراء وأنشده:
تقوم خليلتي لما رأتني
أشد مطيتي من بعد حل
أبعد الفضل ترتحل المطايا
فقلت نعم إلى الحسن بن سهل

وقد كانت حياتهم مليئة بالترف والإخلاد إلى الأرض والرضى بمباهجها، والتوسع في ذلك توسعاً عظيماً، إذ بنوا بغداد على هيئة عظيمة، وتوسعوا في بناء القصور ذات الأواوين ، الضخمة وتفننوا في البناء والزينة، والزخارف والنقوش، والستائر والبسط والأثاث والتماثيل والتحف والأواني، وفي الطعام والشراب، كما تألقوا في الجواهر والزينة والطيب والملبس والثياب، متأثرين بالأزياء الفارسية واهتموا بأدوات الترويح واللعب، كسباق الخيل، وسباق الحمام الزاجل ولعبة الصولجان والشطرانج والنرد والصيد بالبزاة، والصقور والشواهين والكلاب والفهود وهذا يدل على الترف والبذخ الذي كان يتمتع به الخلفاء وأبناء البيت العباسي، والوزراء والقواد، وكبار رجال الدولة، والتجار، وبعض الشعراء والكتاب والمغنيين والعلماء، وأما الشعب فيكدح ويعيش في بؤس وشقاء، ويتحمل أعباء الحياة إلى غير حد، وكانت خزائن الدولة مملوءة تحمل إليها الأموال والذهب والفضة من جميع أرجاء الدولة ونروي في ذلك روايات كثيرة نبين مدى الثراء والترف والنعيم ومظاهر الإنفاق على الجواري والقيان والمغنيين والحفلات والحاشية والأعوان وتبين جود الخلفاء والوزراء، والولاة والقادة، وكرمهم وعطاياهم للشعراء وغيرهم ونفذوا إلى طائفة من الآداب، كآداب المائدة واقتبسوا كثيراً منها عن الفرس، وآداب المساهرة والمنادمة، وكان هذا البذخ وما صاحبه من اعتصار الشعب من الأسباب في كثرة الثورات على العباسيين، ولم يكن هذا شأن كل خلفاء بني العباس، لكن كان هذا السمة الغالبة لأكثرهم ، فكان من الطبيعي والحال هكذا أن تسقط دولة بني العباس أمام زحف المغول وإليك هذا المنظر الذي ذكره ابن كثير في الوقت الذي كان التتار يحاصرون بغداد ويحيطون بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب ذكر أن جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه وكانت من جملة حظاياه وتسمى ((عرفة)) فجاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه وإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم ، وأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز وكثرة الستائر على دار الخلافة لكن الأمر أكبر من ذلك وأعظم . لقد أتى على العالم الإسلامي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد، وهو شخص الخليفة أو الملك وحوله حفنة من الرجال هم الوزراء وأبناء الملك، وكانت البلاد تعتبر ملكاً شخصياً لذلك الفرد السعيد، والأمة كلها فوجاً من المماليك والعبيد، ويتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم. هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلاً وترك رواسب في حياة الأمة ونفوسها.. ولم يكن عهداً إسلامياً ولا عهداً طبيعياً معقولاً، فلا يرضاه الإسلام ولا يقره العقل، بل إنما جاء الإسلام لهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم، فسماه الجاهلية ونعى عليه، وأنكر على ملوكه ككسرى وقيصر، وعلى أشرتهم وترفهم أشد الإنكار، إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان، ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أو مصابة في عقلها، أو فاقدة الوعي والشعور، أو ميتة النفس والروح . لقد نخر سوس الترف الدولة العباسية وأورثها ذلاً وهواناً وخوراً وضعفاً، فلم تستطع أن تقف في وجه أعاصير المغول. لقد تفاقم الشر في مركز الخلافة ((دار السلام بغداد)) وسيطرت عليه مظاهرة الأبهة الملوكية والسلطان الأعمى وتغلغل نفوذ الخدم والحشم في قصور الخلفاء، وبلغت الثروة، والمدينة ذروتهما، ولا يمكن أن تتصور ما كان يملكه الخدم والمماليك الذين كانوا لدى الخلفاء من المال والعقار، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أن علاء الدين الطبرسي الظاهري وهو ممن إشتراهم الخليفة الظاهر، كان يحصل له من أملاكه التي إستجد نحو ثلاثمائة ألف دينار سنوياً وكانت له دار لم تكن بغداد مثلها، كذلك مجاهد الدين آيبك الديودار المستنصري، لقد ملك جزيل الأموال من العين والرقيق والدواب، والعقار، والبساتين، والضياع، ويتعذر وصف ما أنفقه من قناطير مقنطرة من الذهب، والفضة والجواهر التي جهز بها أولاده وبناته في ليالي الزفاف، كما أن الفراش الصلاح عبد الغني بن فاخر المتوفي 648هـ، وكان شيخ الفراشين بدار الخلافة، كان يعيش مع خلوة من العلم عيشة الملوك، بينما كان مدرسو المدرسة المستنصرية في هذا العصر وهم من كبار علماء بغداد بوصفهم يدرسون في أكبر جامعة إسلامية فيها لا يتقاضى الواحد منهم أكثر من 12 دينار شهرياً وبجانب ذلك نجد أن أربعة ألف دينار ينثرها خادم للشرابي على مجد الدين آيبك المستنصري، المعروف بالديويدار الصغير عند زواجه من ابنه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وأن 3000 دينار أعطاها الشرابي للأشخاص الثلاثة الذين أتوا بطائر الموصل، ولكي ندرك مدى نفوذ هذه المظاهر الكاذبة والتظاهر بالفخفخة والأبهة الملوكية يجب أن نعرف أن المواكب التي تخرج في مناسبات العيد والتتويج كانت تشغل الناس، حتى أنهم يتناسون أنفسهم، ويتشغالون عن أداء الصلوات، ونستطيع أن نقيس ذلك بالموكب الملكي الذي خرج يوم عيد الفطر سنة 640هـ واستمر إلى الليل، وصلى الناس صلاة العيد قبل نصف الليل قضاء ، وذكر في ((العسجد المسبوك)) أن العساكر في عاشر ذي الحجة سنة 644هـ خرجوا إلى ظاهر البلد، وصلوا صلاة العيد وقت غروب الشمس، وأما تقبيل الأرض بحضرة الخليفة مرات عديدة فمن الأمور المألوفة وكذلك تقبيل اليد، وعتبة باب النوبي، وحافر الخيل والأرض والرخام، وقد تميز هذا العصر بكثرة المصادرات، وتفشي الرشوة وعزل كبار الموظفين، وإلقاء القبض عليهم، وبيع ممتلكاتهم، وتفاقم أمر الباطنية والشطار والعيارين، وإشتداد النزاع الطائفي والتفكك الخلقي والإنصراف إلى الملاهي والقيان والتكاثر في الأموال . لقد إهتم الحكام والأمراء والقادة في تلك الفترة التاريخية الحرجة بالتنعم والترف والانغماس في الشهوات والتطلع إلى الزعامة والحفاظ عليها والسعي لها وطلب أسباب العيش الهني ، وقد مضت سنة الله في المترفين الذين أبطرتهم النعمة وابتعدوا عن الشرع بالهلاك والعذاب، قال تعالى: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين" (هود ، آية : 116). وقال تعالى: "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون" (الأنبياء ، الآية : 11 ـ 13). وقال تعالى: "وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً * فذاقت وبال أمرها وكانت عاقبة أمرها خسرا * أعد الله لهم عذاباً شديداً فاتقوا الله يا أولو الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا" (الطلاق ، الآية 8 ـ 10).

16 ـ الوصول إلى آخر نقطة من الإنحلال والتدهور: ذكرت في أسباب سقوط الدولة العباسية ضعف شخصية المستعصم بالله، إلا أن بعض الباحثين حاول الدفاع والثناء على الخليفة المستعصم وبيان تمسكه بالسنة ومناهضته للبدعة وحلمه وتواضعه وإهتمامه بأمور الرعية ومصالح الدولة ..الخ، كما أن شيخنا الجليل والمفكر الإسلامي الكبير أبا الحسن الندوي ذهب إلى هذا الرأي واشار إلى أن الخرق إتسع على الراقع بقوله: كان المستعصم رجلاً صالحاً حسن السيرة والفكر، وكان يحرص على إصلاح الأوضاع ورفاهية البلاد، ولكن فساد النسا واضطرابهم وفساد رجال الحكومة، بلغ مبلغاً لا يؤثر فيه إلا من رزق الإرادة القوية والشخصية العبقرية، ومن يستطع أن يقف سداً منيعاً في وجه الفساد ويتغلب على الأوضاع السيئة ولم ينفع في هذه الحال إلا العظماء الذين افتتحوا عهداً جديداً، وأسسوا حكومات جديدة في التاريخ، لقد تكرر في التاريخ أن آخر أفراد أسرة حاكمة وآخر حاكم في مملكة آخذة في الإنحطاط كان يتصف بالصلاح والتقوى، غير أن تلك الأسرة أو المملكة كانت قد وصلت إلى آخر نقطة من الإنحلال والتدهور، وكان الفساد قد تفاقم والكأس قد طفحت، فلم يكن هنالك من يحول بين هذه الحكومة، وبين نهايتها الأليمة التي يفرضها قانون السماء وتقتضيها طباع الأشياء، وشاءت الأقدار أن يعتبر ذلك الرجل الأخير مسئولاً عن نهاية الحكومة في أسرته الحاكمة بالرغم من أنه كان أكثر صلاحاً وديانة، وأحرص على إصلاح الفساد من سلفه الماضيين وقد كان عدد من الصالحين مشتغلين بالعلم والتدريس والعبادة، كما كان عدد منهم منعزلين في الزوايا والمساجد، ولكن الفساد كان قد استحوذ على طبقة الحكام والمترفين ، يقول المؤرخ أبو الحسن الخزرجي يصف أهل العراق يومئذ: وأهتموا بالإقطاعات والمكاسب، وأهملوا النظر في المصالح الكلية، وأشتغلوا بما لا يجوز في الأمور الدنيوية وأشتد ظلم العمال، وأشتغلوا بتحصيل الأموال، والملك قد يدوم مع الكفر، ولا يدوم مع الظلم .
17 ـ تدهور الأوضاع الإقتصادية: كان لتدهور الأوضاع الإقتصادية أثره البالغ على إضعاف الخلافة العباسية، وفرض بعض الحكام الخراج المرهق على الرعية ووضعوا خطة للتحكم في شئون الأمصار لمصلحة الطبقة الحاكمة مما آل إلى كساد الحياة الزراعية والصناعية، وكان كلما إزداد الحكام غنى، إزداد الفقراء فقراً ولما تجزأت الدولة إلى دويلات قام كل من أولياء الأمر بإبتزاز أموال رعيته، وقضت الحروب المتواصلة بإنقاص عدد الرجال العاملين، فعدت أكثر المزارع مهجورة خربة، وزاد الخراب تكرارُ الفيضان في سهول العراق الجنوبية ، وفي صيف سنة 654هـ/1256م هطلت أمطار غزيرة، سال على أثرها سيل عظيم أغرق مدينة بغداد لدرجة أن الطبقة العليا من المنازل غمرتها المياه واختفت معالمها تماماً وقد استمر انهمار السيل خمسين يوماً ثم بدأ في النقصان، ونتج عن ذلك أن نصف أراضي العراق أصبحت مهجورة خربة .
18 ـ الصراع الداخلي في بغداد: كان سكان بغداد من أهل السنة والشيعة والمسيحيين واليهود وكان هؤلاء جميعاً في خلاف دائم حول المسائل الدينية، كما كانوا يختلفون في الميول السياسية، ولا شك أن مثل هذه الحالة كثيراً ما كنت تثير الفتن والمنازعات بين السكان ومن ذلك أنه في أواخر عهد المستعصم، نشب قتال بين الشيعة وأهل السنة، فعهد الخليفة إلى ابنه أبي بكر بفض هذا النزاع ، فقام أبو بكر بن المستعصم والدويدار الصغير، فشدَّا على أيدي السُّنة حتى نُهب الكرْخ وتمَّ على الشيعة بلاءُ عظيم، فحنق لذلك مؤيد الدين بالثأر بسيف التتار من السنة، بل ومن الشيعة واليهود والنصارى .
19 ـ خيانات الشيعة(الوزير ابن العلقي): هو أبو طالب مؤيد الدين محمد بن أحمد بن على بن أبي طالب ابن العلمقي البغدادي الرافضي ، قال السبكي: كان شيعيا رافضيا في قلبه غلَّ على الإسلام وأهله ، قال الذهبي: تولى الوزارة للخليفة العباسي"المستعصم" مدة أربع عشرة سنة أفشى خلالها الرفض فعارضته السنة، فكبت فتنمّر . وقال ابن كثير: كان رافضياً خبيثاً ردئ الطوية على الإسلام وأهله ، وقال في موضع آخر: كان شيعياً جلداً ورافضياً خبيثاً ، فقد سعى في دمار الإسلام وخراب بغداد كما قال الصفدي ، ومالأ على الإسلام وأهله الكفار حتى فعل ما فعل بالإسلام وأهله ، وهو الذي حفر للأمة قليباً، فأوقع فيه قريباً كما قال الذهبي ، وأما خطواته في ذلك فهي كالتالي:
أ ـ المكاتبة: لقد كاتب هولاكو وجسّره وقوى عزمه على قصد العراق ليتخذ عنده يداً وليتمكن من أغراضه ، بل لقد جر هولاكو وقرر معه أموراً انعكست عليه، واستخدم في هذه المكاتبات شتى الحيل وبلغ نهاية المكر، قد حكي أنه لما كان يكاتب التتار تحيَّل مرة إلى أن أخذ رجلاً وحلق رأسه حلقاً بليغاً وكتب ما أراد بوخذ الأبر كما يفعل بالوشم، ونفض عليه الكحل وتركه عنده إلى أن طلع شعره وغطَّى ما كتب فجهزه وقال: إذا وصلت التتر مرّهم بحلق رأسك ودعهم يقرأون ما فيه وكان في آخر الكلام:قطعِّوا الورقة، فضربت عنقه، وهذا غاية في المكر والخزي، ولم تكن سياسة المكاتبة مع التتر هي الأولى في هذا السياق، بل سبقتها خطوات مهَّدت لها وكانت بمثابة الأرضية والمقدمة لما بعدها .
ب ـ أضعاف الجيش: اتخذ ابن العلقمي سياسة خبيثة في إضعاف جيش الخلافة ساهمت في دخول التتر ببغداد دون مقاومة تذكر، إذ اجتهد قبل مجيء التتر في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان وصرفهم عن إقطاعاتهم، ونجح في ذلك، إذ كانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريباً من مائة ألف، فلم يزل ابن العلقمي مجتهداً في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف في أواخر أيام المستعصم، ويقول الذهبي: استوزر"المستعصم" ابن العلقمي الرافضي فأهلك الحرث والنسل، وحسّن له جمع الأموال، وأن يقتصر على بعض العساكر فقطع أكثرهم ، وبلغت حالة الجيش وعساكر الخلافة بالذات مبلغاً من الذل والهوان، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وحق للشعراء أن ينشدوا فيهم الشعر ويرثوهم بالقصائد وينعوا على الإسلام وأهله ، وكان ذلك بسبب سياسة هذا الشيعي المغرض الذي عبر عن سياسته وأثر وزارته على المستعصم قال ابن كثير حين قال: إنه لم يعصم المستعصم في وزارته، ولم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة ، وقال في موضع آخر: انه كان وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين ، فلما تحقق لابن العلقمي ما أراد كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال ، وهكذا تبدو سياسة ابن العلقمي بعيدة الغور سيئة القصد ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله .
جـ ـ الغدر بالقضاة والفقهاء والخليفة: ولم تقف سياسة ابن العلقمي عند هذا الحد، فقد بادر بإتخاذ الخطوة العملية حين قدم التتار، وكان أول من برز إليهم، وخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه واجتمع بهولاكو ثم عاد فأشار إلى الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤساء الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل هولاكو حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً خلص بهم الخليفة، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، ويقال إنه اضطرب في كلامه من هول ما رأى من الإهانات والجبروت، ثم أعيد إلى بغداد تحت الحوطة والمصادرة يحيط به الطوسي وابن العلقمي ـ الشيعيان ـ ونهب من دار الخلافة أشياء كثيرة من الذهب والحلي والأشياء النفسية، ثم أشار هؤلاء الرافضة على هولاكو بعدم مصالحة الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان قبل ذلك، وحسنوا له قتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي، فلما عاد الخليفة إلى هولاكو أمر بقتله .
س ـ دوافع ابن العلقمي: والسؤال المهم: لماذا فعل ابن العلقمي ما فعل وأحل بدار الخلافة ما حل؟ فخلاصته خبث طوية الشيعة على أهل السنة بشكل عام، وتطرف معتقدهم فيهم، وعدم تحرجهم من التعاون مع الكفار على إبادة المسلمين السنة، يقول ابن تيمية:.. أنهم يكفرون كل من أعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضى عنهم كما رضي الله عنهم، ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور، ويرون في أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم، ويرون إن كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود والنصارى، لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء مرتدون.. وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكيز خان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام، وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم لما دخل فيهم من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم ، وقال: والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل لهم بها من العز مالا يحصل بدولة المسلمين، والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق لخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين وسبي حريمهم، وقضية ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس.. وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيداً ومسرة عند الرافضة . وفي منهاج السنة قال ابن تيمية: وكثير منهم ـ يعني الرافضة ـ يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين، ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق وقتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام وحلب وغيرهما من الرافضة، كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين.. فهم دائماً يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم ، وقد ذكر المؤرخون أن الذي حمل ابن العلقمي على موقفه من التتار أن أبا بكر ابن الخليفة المستعصم والدويدار الصغير قد شدا على أيدي السنة حتى نهب الكرخ وتم على الشيعة بلاء عظيم، فحنق لذلك ابن العلقمي وأراد الثأر بسيف التتار من السنة ، وكاتب هولاكو وطمعه في العراق فجاء رسل هولاكو إلى بغداد، وفي الباطل معهم فرمانات لغير واحد والخليفة لا يدري ما يتم ، وقال ابن كثير: ولما كان في السنة الماضية (يعني سنة خمس وخمسين وستمائة) كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير "ابن العلقمي" فاشتد حنقه على ذلك فكان هذا مما أهاجه على أن دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات .
ش ـ المكر السيئ يحيق بأهله: قال تعالى: "ولا يحيق المكر السِّئُ إلا بأهله" (سورة فاطر، آية : 42). لقد دخل التتار وجندهم بغداد ووقع ما وقع من الظلم والفساد وسفك الدماء وهتك الأعراض ولم يكن ابن العلقمي بعيداً عن ذلك كله، ولا سالماً منه البتة، وقد أحسن الذهبي في تعبيره وكان دقيقاً في وصف حالته حين قال: وحفر للأمة قليبا، فأوقع فيه قريبا، وذاق الهوان وبقي يركب كديشاً بعد أن كانت ركبته تضاهي موكب السلطان، فمات غبناً وغماً وفي الآخرة أشد خزياً وأشد تنكيلاً . ونقل الصفدي ندم ابن العلقمي، حيث لا ينفعه الندم وكان كثير ما يقول: وجرى القضاء بعكس ما أملته، لأنه عومل بأنواع الهوان من أرذال التتار والمرتدة؛ حكي أنه كان في الديوان جالسا فدخل بعض التتار ممن لا وجاهة له راكباً فرسه، فساق إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير وخاطبه بما أراد، وبال الفرس على البساط وأصاب الرشاش ثياب الوزير وهو صابر لهذا الهوان يظهر قوة النفس وأنه بلغ مراده، ولم تكن الشيعة بشكل عام ـ وهم أهله وعشيرته ـ بمنأى عن هذه الجرائم والمآثم، وعجيب أن يكون حنقه على أهل السنة، وحميته للشيعة تبيح له ذلك كله ويروى أن بعض أهل بغداد قال له: يا مولانا أنت فعلت هذا جميعه وحميت الشيعة حمَّية لهم، وقد قتل من الأشراف الفاطميين خلق لا يحصون، وارتكب من الفواحش مع نسائهم وفضَّت أبكارهم مما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقال: بعد أن قتل الدوادار ومن كان على مثل رأيه لا مبالاة بذلك ، وبلغ إذلال"التتر" له أن جعلوه تابعاً لشخص يدعى"ابن عمران" كان خادماً في دولة المستعصم ، ونقل النويري ما هو أشد من ذلك، إذ استدعاه"هولاكو" فلما مثل بين يديه سبّه ووبخه على عدم وفائه لمن هو غذي نعمته ، وذكر السيوطي أنه صار معهم في صورة بعض الغلمان وانه مات كمداً .
إن موقف العلقمي لم يكن سليماً على الإطلاق ولكننا لا نستطيع أن نحمله التبعية كلها، بل، نشرك معه الخليفة ورجال حاشيته الآخرين وعوامل تمّ ذكرها في زوال الدولة العباسية، لقد كانت افعال ابن العلقمي جزءاً من صورة ، اتضحت بذكر الأسباب الأخرى التي ساهمت في سقوط بغداد وقد عد الخميني جريمة ابن العلقمي والنصير الطوسي في قتل المسلمين من عظيم مناقبهما عندهم فقال الخميني في الإشادة بما حققه نصير الطوسي: ويشعر الناس(يعني شيعته) بالخسارة بفقدان الخواجه نصير الدين الطوسي وأضرابه ممن قدم خدمات جليلة للإسلام ، والخدمات هنا ما كشفها الخوانساري من قبله في قوله في ترجمة النصير الطوسي: ومن جملة أمره المشهور المعروف المنقول حكاية استيزاره للسلطان ـ هولاكو خان ـ ومجيئه في موكب السلطان المؤيد مع كمال الاستعداد إلى دار السلام بغداد لإرشاد العباد وإصلاح البلاد بإبادة ملك بني العباس وإيقاع القتل العام في اتباع أولئك الطغام إلى أن أسال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار، فأنهار بها في ماء دجلة ومنها إلى نار جهنم دار البوار .
ك: بن طاوس والخلافة العباسية: كان على بن طاوس يرى عدم مشروعية الدولة العباسية التي لم تخرج في معتقدة عن كونها دولة غصبية، وابن طاوس يعتبر من مرجعيات الشيعة في وقت سقوط بغداد وكان يعمل على ازالتها ولا يرى الوقوف بجانبها أمام أعدائها ورفض في عهد المستنصر العباسي أن يكون موفداً إلى سلطان التتار لتسوية الأزمة السياسية بين الدولتين وكان ذلك في عام 634هـ، لأن ذلك يجعل منه رسولاً دائماً للدولة العباسية ـ الدولة غصبية غير شرعية ـ ولما سقطت بغداد على يد المغول ونزح أهل الحلة إلى البطائح، حضر أكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين ابن طاوس العلوي إلى حضرة السلطان ـ هولاكو ـ وسألوه حقن دمائهم فأجاب سؤالهم وعين لهم شحنة فغادروا إلى بلادهم وأرسلوا إلى من في البطائح من الناس يعرفونهم ذلك فحضروا بأهلهم وأموالهم وجمعوا مالاً عظيماً وحملوه إلى السلطان فتصدق عليهم بنفوسهم . ولما تم احتلال بغداد أمر هولاكو أن يستفتي العلماء: أيما أفضل السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ ثم جمع العلماء وكان رضي الدين على بن طاوس حاضراً المجلس وكان مقدماً محترماً فلما رأى احجامهم تناول الفتيا ووضع خطة فيها بتفصيل العادل الكافر على المسلم الجائر، فوضع الناس خطوطهم بعده ، وقد طلب بن طاوس الأمان من هولاكو قبل فتحها، وزاره، واستدل بكلام منسوب لعلي بن أبي طالب كذباً وزوراً يشنع فيه على بني العباس، فلما وصل إلى مجلس هولاكو وكان ذلك قبل سقوط بغداد وقتل الخليفة قال له كيف قد تشجعت على مكاتبتي والحضور عندي قبل أن تعلموا بما ينتهي إليه أمري وأمر صاحبكم وكيف تأمنون أن يصالحني ورحلت عنه فقال بن طاوس: أقدمنا على ذلك لأنا روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال في خطبة: الزوراء وما أدرك ما الزوراء أرض ذات أثل، يشيّد فيها البنيان، ويكون فيها مخادام وخزّان يتخذها ولد العباس موطنا، ولزخرفهم مسكناً، تكون لهم دار لهو ولعب، ويكون بها الجور الجائر، والخوف المخيف، والائمة الفجرة، والامراء الفسقة والوزراء الخونة، تخدمهم أبناء فارس والروم، لا يأتمرون بمعروف إذا عرفوه، ولا يتناهون عن منكر إذا أنكروه، تكفى الرجال منهم بالرجال، والنساء بالنساء فعند ذلك الغم العميم، والبكاء الطويل، والويل والعويل، لأهل الزوراء من سطوات الترك وهم قوم صغار الحُدُق، وجوههم كالمجان المطوّقة لباسهم حديد، جرد مرد، يقدمهم ملك يأتي من حيث بدا ملكهم جهوري الصوت، قويّ الصولة عالي الهمّة، لا يمر بمدينة إلا فتحها، ولا ترفع عليه راية إلا نكّسَها، الويل الويل لمن ناواه فلا يزال كذلك حتى يظفر . فلما وصف لنا ذلك ووجدنا الصفات فيكم، رجوناك فقصدناك ويعلّق الحلي: فطيب قلوبهم وكتب لهم فرماناً باسم بن طاوس يطيب فيه قلوب أهل الحلة وأعمالها وهذه الرواية من أكاذيب الشيعة على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومحاولة تشويه تاريخ بن العباس على لسانه، والتزلف والتقرب إلى هولاكو الوثني وهذا الذي قاله ابن طاوس: ولا ترفع عليه راية إلا نكسا، الويل الويل لمن ناواه فلا يزال كذلك حتى يظفر ، يكذبها الواقع وحقاق التاريخ حيث نكست راية هولاكو في معركة عين جالوت عندما تصدى لهم سيف الدين قطز والشعب المصري المسلم والسائر على نهج أهل السنة والجماعة، يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Empty
مُساهمةموضوع: رد: المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار   المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار Emptyالإثنين ديسمبر 06, 2010 3:41 pm

كما أن بركة خان المغولي الذي أسلم كسر شوكة هولاكو وهزمه هزيمة مريرة، بل مات هولاكو كمداً وغماً لما حدث لجنوده في معركة عين جالوت وهذا ما سوف يراه القارئ الكريم بإذن الله في الصفحات القادمة.
إن ابن طاوس يتلاعب بفتاويه ويحاول أن يصور بأن هولاكو أفضل من الخليفة المستعصم حيث أن الأول كافر عادل والثاني مسلم جائر، وأي عدل قام به هولاكو غيرالدمار والهلاك وهتك الأعراض واسترقاق الناس، ولكن هذه النفسية المريضة ترى أي ظلم وجور يقع على مسلم سني أو دولة سنية هو من صميم العدل وأما ما قام به ابن طاوس فهو من النفاق والتزلف لهولاكو، كان ابن طاوس لا يمتنع من الدخول في المناورات السياسية المفتوحة ويبني ذلك على رؤى ومواقف متنوعة، فقد مهد بمجموعة من الأخبار الغيبية المختلقة ـ في تسوية الأشكال بين ابن طاوس والدول المغولية، ومهدت تلك الأخبار والروايات المختلقة السبيل وبفعالية غير عادية للاسترسال في بناء علاقة حميمية بالدولة المغولية مستندة إلى نصوص إرشادية توجيهية يعتقد ـ ابن طاوس الفقيه الشيعي ـ بأنها كفيلة برفع الحرج الشرعي ، ومما لا شك فيه أن رموز الشيعة في تلك المرحلة، كابن طاوس الحلي، والعلقمي، ونصير الطوسي وغيرهم كانوا من عوامل هدم واسقاط الدولة العباسية، وكان لديهم استعداد نفسي، للتعامل مع المغول وبناء علاقات قوية معهم على حساب زوال بني العباس.
20 ـ تمرس فرسان التتار وقوة الإمبراطورية المغولية: ويجب ألا يغرب على البال تمرس فرسان التتار بالحرب واخذهم بأسبابها المادية وتوافر عوامل الانتصار، من قيادة حكيمة ووضوح في الهدف، وإعداد الأفراد والحرص على الوحدة والاتحاد ((وسلطة الياسا)) وتقسيم الادوار، والتخطيط السليم، والإدارة الناجحة، والتنظيم المحكم، والدعم الإقتصادي والدعاية الإعلامية لجيوشهم والحيطة والحذر من الأعداء وغير ذلك من الأسباب التي تدل على قوة الإمبراطورية المغولية وتمرس فرسانها على القتال، فهذه هي أهم أسباب سقوط الدولة العباسية، وهي متداخلة ومتشابكة يؤثر كل منها في الآخر تأثيراً عكسياً، فالسبب الديني يؤثر في العامل العسكري، ويتأثر به وهكذا.
إن دراسة أسباب سقوط الدول وعوامل بنائها من الأمور المهمة التي تحتاجها الأمة في مشروعها الحضاري الذي يهدف لقيادة الإنسانية بالمنهج الرباني، وتحقيق استاذية العالم لهذه الأمة المجيدة.

ثامناً: نتائج سقوط بغداد: يعد سقوط بغداد، وانقراض الخلافة العباسية التي استمرت قائمة أكثر

صفخة 215
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
 
المغول ( التتار ) بين الانتشار والإنكسار
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» قصة التتار من البداية.. إلى عين جالوت
» سفارات صليبية للتحالف مع المغول

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
newmultkaschool :: الأقسام التاريخية :: قسم التاريخ الاسلامى-
انتقل الى: