كيف دخل التتـر بلاد المسلمين ؟
( الأدوار الخفية في سقوط الخلافة العباسية )
تأليف
سليمان بن حمـد العـودة
أولا: أصل التتر وعقيدتهم:
هذه الأمة ((التترية)) خرجوا من أراضيهم (بادية الصين) وراء بلاد تركستان( )، وأصولهم تركية، بل هم من أكثر الترك عددا( ).
وأول ملوكهم ((جنكز خان))، وهو سلطانهم الأول، وليس للتتر، ذكر قبله، إنما كانت طوائف المغول بادية بأراضي الصين فقدموه عليهم .. وأول مظهره كان في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، هكذا ذكر الذهبي( ).
أما ابن الأثير فهو وإن لم يذكر التتر إلا في سنة 604هـ، فقد تحدث عن التتر الأولى وملكهم ((كشكي خان))، وأن هؤلاء خرجوا من بلادهم حدود الصين قديما ونزلوا بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب( ).
وتحدث عن التتر الآخرة وملكهم ((جنكز خان)) النهرجي، وأنهم خرجوا على التتر الأولى فانشغلوا بهم عن غيرهم( ).
ولم يغفل ذلك الذهبي بل نقل في أحداث سنة 606هـ محاربة ملوكهم للخطا، وأن رأسهم يدعى ((كشلوخان)) حتى خرج عليه ((جنكز خان)) فتحاربوا مدة وظفر جنكز خان وانفرد ودانت له قبائل المغول( ).
فهل ذلك نوع من التضارب في منقولات الذهبي، أم أنه أراد بخروجهم على يد جنكيز خان أنه بداية سماع المسلمين بهم، أو قصد أنه أول ملوك التتر الأقوياء الذين كان لهم أثر في تاريخهم وتنظيم حياتهم، لا سيما وقد ذكر الذهبي أن ((جنكيز خان)) هو أول من وضع لهم ((ياسة)) – أي شريعة- يتمسكون بها( ).
قصد التتر العالم من حولهم ووقعت لهم مصافات وحروب، تفوقوا على غيرهم في الغالب منها، وكانوا يُرهبون عدوهم لشدتهم وشجاعتهم وكثرتهم، وقد جود الموفق البغدادي وصفهم – كما قال الذهبي- حين قال: "حديثهم حديث يأكل الأحاديث، وخبر ينسي التواريخ، ونازلة تطبق الأرض"؛ هذه الأمة لغتها مشوبة بلغة الهند لمجاورتهم، عراض الوجوه، واسعو الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، إلى أن يقول: وهذه القبيلة الخبيثة تعرف بالتمرجـي سكان
براري قاطع الصين ومشتاهم بأرغون( ).
أما عن عقيدة التتر وعوائدهم فيقول عنها ابن الأثير: "وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه"( ).
ويرى ابن تيمية أن التتر خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه( ).
وهو لا ينفي وجود من ينتسب إلى الإسلام من عسكرهم، ويثبت كذلك أن عندهم من الإسلام بعضه، ويفصل القول في معتقدهم وعوائدهم وقربهم أو بعدهم من الإسلام فيقول: "هؤلاء القوم عسكرهم مشتعمل على قوم كفار من النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام – وهو جمهور العسكر- ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يصلي إلا قليل جدا، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من
غيره.. وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها؛ فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه، وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله، وكل من خرج على دولتهم استحلوا قتله وإن كان من خيرا المسلمين.. ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك... وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك، ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى..."( ).
ثانيا: البواعث الأولى:
تستلزم الدراسة مقدمات مهمة تكشف البواعث الاولى لدخول التتر بلاد المسلمين، وتوضح بداية احتكاكهم وطبيعة علاقتهم مع بعض الدول المستقلة عن الخلاقة العباسية – كالدولة الخوارزمية- ومع ملوك الدول الأخرى- كملوك الخطا- وكيف قادت هذه البداية إلى وصول بغداد وإسقاط الخـلافة العباسية.
1- بين الخوارزميين وملوك الخطا:
وتبدأ أحداث الخوارزم شاه مع الخطا منذ أن حاربهم أرسلان ابن أتسز بن محمد بن نوشتكن، وتوفي سنة 568هـ( ).
ثم تلاه ابنه علاء الدين تكش بن أتسز الذي تملك بخارى وأخذها من صاحب الخطا بعد حروب عظيمة، ثم توفي سنة 596هـ( ).
كما نقل عنه الذهبي أنه تملك الدنيا من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان، وهو الذي أزال دولة السلاجقة ( ).
ثم جاء بعده ابنه محمد الذي قصد الخطا سنة أربع وستمائة في جيش عظيم فالتقوا وتمت بينهم مصافات، ثم وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل خلق وأسر السلطان محمد وأمير من أمرائه، ولم يخرج من الأسر إلا بحيلة وعاد إلى خوارزم( ).
وفي سنـة 606هـ عبر خوارزم شـاه (محمـد) جيحون بجيوشه فالتقـاه طاغيـة الخطا (طاينكـو) فانهـزمت الخطـا وأسر ملكهم وهزموا
هزيمة منكرة، وقتل منهم وأسر خلق لا يحصى، وعلى أثرها تملك (خوارزم شاه) بلاد ما وراء النهر مدينة مدينة ناحية ناحية( ).
أما ملوك الخطا هؤلاء فهم قوم كفار، وقد طالت أيامهم في بلاد تركستان وما وراء النهر وثقلت وطأتهم على أهلها حتى ضاق المسلمون ذرعا بهم وكتب سلطان سمرقند وبخارى- وكان كما ذكر ابن الأثير: عريق النسب في الإسلام والملك- يقول الخوارزم شاه: إن الله عز وجل قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار، ونحن نتفق معك على محاربة الخطا، ونحمل إليك ما نحمله إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة والسكة. فأجابه محمد بن خوارزم شاه وعبر إليه نهر جيحون ووقعت المعركة كما سبق( ).
2- بين ملوك الخطا والتتر:
استـفاد التـتر من كسر الخوارزمييـن لملوك الخطـا وتـقووا بكسر خـوارزم شاه لهم، ووقعـت بينهم حروب، وكان رأس التتـر حينها يدعى ((كشلوخـان)) فكتب ملك الخطـا إلى خـوارزم شاه يخوفه بالخطـر
الجديد ويطلب إليه أن يتعاون معه في كسر التتر ويقول: "ما جرى بيننا مغفور؛ فقد أتانا عدو صعب فإن نصر علينا فلا دافع لهم عنك والمصلحة أن تـنجدنا". فكتب إليه ((خورزم شاه)) ما يفيد بموافقته، وأنه قادم لنصرته، وكتب لـ((كشلوخان)) التتري رسالة أخرى قال فيها: إنني قادم وأنا معك على الخطا – قال الذهبي: وكان بئس الرأي( ) - فالتقى الجمعان ونزل خوارزم شاه بإزائهما يوهم كلا من الفريقين أنه معه وأنه كمين له، فوقعت الكسرة على الخطا، فمال خوارزم شاه حينئذ معينا لكشلوخان، واستمر القتل بالخطا، وانضم منهم خلق إلى خوارزم شاه، وخضع له كشلوخان وقال: نتقاسم مملكة الخطا، فقال خوارزم شاه بل البلاد لي وسار لحربه، ثم تبين له قوة التتار فأخذ يراوغهم، فبعث إليه كشلوخان يقول: ما هذا فعل ملك؛ ذا فعل اللصوص، فإن كنت ملكاً فاعمل مصافاً بيننا فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي، وإما أن أفعل أنا بك ذلك، فلم يجبه خوارزم شاه إلى ما طلب( ).
3- بين الخوارزميين والتتار:
خـرج على ملك التتـر الأول ((كشلوخـان)) تتـر آخرون بزعامـة
((جنكز خان)) النهرجي، فانشغل بهم كشلي خان وتحاربوا مدة وظفر ((جنكز خان)) وطغى وتمرد وأباد البلاد والعباد، وأخذ أقاليم الخطا، ودانت له قبائل المغول بعد أن ظفر جنكز خان بابن كشلوخان ولم يكن له معه كبير أمر( ).
أما أول مصاف كان بين خوارزم شاه وجنكز خان فقد كان بقيادة ابن جنكز خان (دوشي خان) سنة 606هـ (هكذا ساقها الذهبي ضمن أحداث هذه السنة وإن لم يصرح به)، وعلى الرغم من انتصار خوارزم شاه في هذه المعركة إلا أنه عاد مهموما قلقا لما رآه من قوة هذا العدو وكثرتهم وشجاعتهم( ).
ولذلك خطر ببال خوارزم شاه أن يكتشف التتار بنفسه فدخل فيهم هو وثلاثة معهم متسترين بزي التتر، فقبض عليهم وقتل اثنان منهم وفر خوارزم وآخر معه في الليل، وذلك سنة 615هـ( ).
أ_ دور الخوارزميين في دخول التتر بلاد المسلمين:
قويت شوكة خوارزم شاه وتملك سنة 611هـ كرمان ومكران والسند وخطب له بهرمز وهلوات، وكان يصيف بسمرقند، وإذا قصد بلدا سبق خبره.
وفي العام الذي يليه توثب خوارزم شاه على ((غزنه)) فتملكها، وهزم صاحب الروم كيكاوس الفرنج وأخذ منهم ((أنطاكية)).
ثم قصد بغداد واستعد له ((الناصر)) ولكن الله صرفه عن بغداد( ).
أما الحادثة المهمة في هذا السياق والتي كانت بداية غزو التتار فهي حين أحس جنكز خان بقوة خوارزم شاه وسعة ملكه، وبعث إليه رسولا يطلب الهدنة معه لإعمار البلاد وإصلاح الإقتصاد ويقول: إنه ما يخفى عليّ عظم سلطانك، وأنت كأعز أولادي، وأنا بيدي ممالك الصين فاعقد بيننا المودة، وتأذن للتجار وتنعمر البلاد، فأجاب خوارزم شاه إلى الصلح – بعد أن عرف من الرسول سعة ملك جنكز خان – فأعجب ذلك جنكز خان ومشى الحال( ).
لكن هل استمرت الهدنة ؟ وكيف نقضت؟ وما أثر هذا النقض في دخول التتر بلاد المسلمين؟ هذه أسئلة مهمة؛ والإجابة عليها تكشف لك البواعث الأولى لمجيء جحافل المغول ودخول التتر بلاد المسلمين.
ذكـر ابن الأثيـر – وهو من أقرب المصـادر لهذه الفتـرة ( ) – أن
جنكز خان سير جماعة من التجار والأتراك ومعه شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى بلاد ما وراء النهر: سمرقند وبخارى ليشتروا له ثيابا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى ((أوترار)) وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب( ) هناك فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه، فقتلهم، وسير ما معهم وكان شيئا كثيرا، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تجار بخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم، فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكز خان أرسل جواسيس إلى جنكز خان لينظر ما هو؟ وكم مقدار ما معه من الترك؟ وما يريد أن يعمل؟
فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم( ).
ب- ندم خوارزم شاه ومشورته:
وعلى الرغم من تجلد خوارزم شاه وفعلته فقد ندم على ما صنع، وأصابه همٌّ وغمٌّ وتحفز استشار لأجله من حوله من العلماء والأمراء.
فقد أحضر الشهاب الخيوفـي – وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به – فحضر عنده فقال له: قد حدث أمـر عظيم ولا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله؛ وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية التـرك في كثرة لا تحصى، فقال له: في عساكرك كثـرة وتكاتب الأطراف، وتجمع العساكر، ويكون النفير عاما، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتـك بالمال والنفس، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب "سيحـون" – وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام – فنكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيـدة لقيناه ونحـن مستريحون وهـو وعساكره قد مسهم النصب والتعب.
وجمع خـوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أربـاب المشورة فاستشارهم فلم يوافقـوه على رأيه، بل قالوا: الرأي أن تتركهم يعبرون "سيحـون"
إلينا، ويسلكون هذه الجبال والمضايق، فإنهم جاهلون بطرقهم، ونحن عارفون بها؛ فنقوى حينئذ عليهم ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد( ).
ثالثا: غزو التتـر ومآسيهم في بلاد المسلمين:
وقطعت جهيزة قول كل خطيب، وبينما السلطان الخوارزمي ومن حوله يتشاورون بشأن التتر إذ ورد رسول جنكز خان ومعه جماعة يتهدد خوارزم شاه ويقول: "تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم، استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به".
فلما سمع خوارزم شاه الرسالة أمر بالرسول فقتل، وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه، وأعادهم إلى صاحبهم جنكز خان يخبرونه بما فعل بالرسول ويقولون له: إن خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك.
وبالفعل تجهز خوارزم شاه، وسار بعد الرسول مبادرا ليكسبهم وسار أربعة أشهر حتى وصل إلى بيوتهم فلم يجد فيها إلا النساء والصبيان والأثقال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية.
وكـان غيبة التتـر الكفار عـن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربـة ملك من ملوك التـرك يقـال له كشلوخـان، فقاتلـوه وهزمـوه – كـما سبـق
البيان – فلقيهم في الطريق خبر خوارزم شاه وما صنع بمخلفيهم، فجدوا السير فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم فتصافوا واقتتلوا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، مدته ثلاثة أيام، وأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفا، وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم، وجرت الدماء غزيرة على الأرض حتى كانت الخيل تزلق فيه من كثرته( ).
1- مأساة التتـر في بخارى المسلمة:
عاد المسلمون بعد هذه المنازلة إلى بخارى وطلب إليهم خوارزم شاه التحصن بها وحمايتها ريثما يعد العدة للتتـر من خوارزم وخرسان، ولكن هؤلاء التتـر عاجلوا المسلمين بالتوجه إلى بخارى وحين وصلوها حاصروها واقتتلوا مع حاميتها قتالا شديدا على مدى ثلاثة أيام فر على أثرها العسكر الخوارزمي إلى خراسان حين أحسوا أنه لا طاقة لهم بهؤلاء التتـر. واشتد الأمر على أهل بخارى حين أصبحوا وقد ترك العسكر الخوارزميـون مواقعهم فارين إلى خراسـان، ولم يكن أمام أهل البلد إلا أن يطلبوا الأمان، فأعطوا الأمان بواسطة أحد القضاة (بدر الدين قاضي خان). وعلى إثـر ذلك فتحت أبـواب المدينـة في الرابع من ذي الحجة عام ست عشـرة وستمائة،
فدخل التتـر الكفار بخارى المسلمة وأظهروا لأهلها العدل حسن السيرة، ثم توجه ((جنكز خان)) إلى القلعة التي احتمى بها طائفة من العسكر كانوا نحوا من أربعمائة فارس لم يتمكنوا من الهرب مع أصحابهم، وطلب جنكز خان من أهل البلد الخروج معه لمحاصرة هذه القلعة ومن تخلف قتـل، فكانت تلك بداية الإستخفاف والإستذلال لأهل بخارى، فخرجوا خوفا من بطشه، وأمرهم بردم الخندق المحيط بالقلعـة ففعلوا وبلغ من سوء التتـر واستهتارهم أن استخدموا كل شيء في ردم هذا الخندق حتى ألقيت المنابـر وريعات القرآن في الخنـدق.
وبعد جهد جهيد وقتال مرير، دخل جنكز خان وأصحابه القلعة وقتلوا من بقي بها من جند المسلمين الذين أصروا على الدفاع عن القلعة بكل ما يملكون وحتى آخر لحظة !
وقل توقفت مأسـاة التتـر ببخـارى عند هذا الحـد ؟ كلا، فحين فرغوا من القلعة طلب جنكز خان أن يُكتب له وجوه القوم ورؤساؤهم، فلما عُرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضـروا، وطلب منهم إحضار ((النقـرة)) التي باعهم إياها خوارزم شـاه وقد أخذت من تجار التتـر – كمـا سبق البيـان – فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يدي ((جنكـز خان)) ثم أمرهم بالخروج من البلـد فخرجوا مجردين من أموالهم ليس مع أحد منهم غير ثيابه التي عليه، ودخل الكفـار البلـد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه، وأحاطـوا بالمسلمين فاقتسمـوهم ونسائهـم، وكان يومـا شديـدا على
المسلمين حتى قال ابن الأثير: وكان يوما عظيما من كثرة البكـاء من الرجال والنساء والولدان ... وتفـرق المسلمـون قددا وتمزقوا كل ممزق، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ولا يقدرون على فعل شيء، ورضي بعض المسلمين بالموت دون ذلك فقاتلوا حتى قتلوا؛ ومن هؤلاء الفقيه الإمام ((ركن الدين إمام زاده)) وولده، وكذلك فعل القاضي ((صدر الدين خان))، ومن استسلم أخذ أسيرا. ولم يرحل التتـر عن بخارى حتى ألقـوا النار في البلد والمدارس والمساجـد وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال - فإنا لله وإنا إليه راجعـون( ).
2- مأساة التتـر في سمرقنـد:
ولم تقف المأسـاة عند حدود بخارى، بل رحل هؤلاء التتـر الرعـاع إلى سمرقنـد يستصحبون معهم من سلم من أهل بخارى أسارى ويسوقونهم مشاة على أقبح صـورة وكأنهم قطيع من الغنم، فكل من أعيا وعجز عن المشـي قتلوه.
فلمـا قاربوا سمرقنـد قدمـوا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثـقال وراءهم حتى تقدمـوا شيئا فشيئـا ليكـون أرعب لقلـوب المسلمين فلمـا رأى أهل البلد سوادهم استعظمـوه فلما كان اليـوم
الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة. وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتـر يتأخرون وأهل البلد يتبعونهم ويطمعون فيهم، وكان الكفار التتـر قد كمنوا لهم كمينا، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولا فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل جانب فلم يسلم منهم أحد؛ قتلوا عن آخرهم شهداء رضي الله عنهم وكانوا سبعين ألفا على ما نقل ابن الأثير( ).
فلما رأى الباقون من الجند والعامة – في سمرقنـد - ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك فقال الجند – وكانوا أتـراكا -: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا، فطلبوا الأمان فأجيبـوا إلى ذلك ففتحوا أبواب البلـد ولم يقدر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفـار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفـار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم، ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعـوا السيـف فيهم وقتلوهم عن آخـرهم،
وأخذوا أموالهم ودوابهـم ونسائهم.
ثم نادوا – في اليوم الرابع – في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا معهم مثل ما فعلوا مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد، وأحرقوا الجامع، وافتضوا الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة للهجرة فلا حول ولا قوة إلا بالله( ).
3- مآسـي وأحـداث أخر:
ولم تكن فاجعة التتـار لتنتهي عند حدود هاتين المدينتين من مدن العالم الإسلامي رغم ما فيهما من مآسـي وأحزان تكفي الواحدة منهما لتكون ملحمة ترويها الأجيال، ويتعب في سبيل تدوين أحداثها المؤرخون والكتاب، لكن الفاجعة سرت في الأقطار الإسلامية سريان النار في الهشيم، فإثر أحداث سمرقنـد سيّـر ((جنكز خان)) مجموعة من جنده يقال لهم ((المغربة)) لأنهم ساروا إلى ((غرب خرسان)) في طلب ((خوارزم شاه)) وقال لهم: ((اطلبوا خوارزم شاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه)).
وسـار هؤلاء يقطعـون الفيـافي والقفـاز ويحتالـون على عبور الميـاه
والأنهار، وحين اعترضتهم المياه الخمسة في ((ينج آب)) ولم يجدوا سفينة يعبرون عليها عمدوا إلى عمل أحواض من الخشب وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء وأمسكوا أذنابها، وتلك الحياض من الخشب مشدودة إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل، والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره، فعبروا كلهم دفعة واحدة، فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة( ).
ومع أن المسلمين قد ملئوا رعبا من هؤلاء إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر ((جيحون)) يحجز بينهم، فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات، وواصل التتـر مسيرهم وفسادهم؛ يرحلون من بلد إلى آخر وقل أن تسلم بلدة من شرهم، وعاثوا فسادا في نيسابور، وما زندران، والري وهمذان، وأذربيجان، وإربل وغيرها من بلاد المسلمين.
وكان للتتـر عوائد سيئة وجبارة، وحيل ماكرة وخبيثة؛ فمن عوائدهم أنهم إذا قصدوا مدينة ورأوا مناعتها عدلوا عنها إلى غيرها، ومنها أنهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون فإن عادوا قتلوهم فكانوا يقاتلون كرها( ).
وكانوا يتقون بهؤلاء الأسارى من الرمي وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب( ).
وأسوأ من ذلك أنهم يستخدمون الأسارى أداة في استخراج المختفين من بطشهم، فكانوا يقولون للأسرى نادوا في الدروب أن التتـر قد رحلوا، فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل( ).
وهل أسوأ من هذا وأذل ؟ وقد تركت هذه الأحداث المؤلمة أثرها وخلفت حالة من الرعب والهلع عمّ الناس كلهم – إلا من رحم الله -، وأصيبوا بالضعف والمسكنة والمذلة والهوان، ويكفي شاهدا على ذلك ما سطره المؤرخون المعاصرون للحدث وغيرهم؛ فقد نقل ابن الأثير رحمه الله أن رجلا من التتـر دخل دربا فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده إليه بسوء( ). وأن آخر من التتـر أخذ رجلا ولم يكن مع التتري ما يقتله به فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض حتى جاء التتري بسيف وقتله به( ).
قال ابن الأثير: بلغني أن امرأة من التتـر دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلا فوضعت السلاح وإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيرا( ).
وقال: وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلا في طريق، فجاءنا فارس من التتـر، وقال لنا: حتى يكتف بعضنا بعضا فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب ؟ فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل فأخذت سكينا وقتلته وهربنا فنجونا. هذه حكاية يرويها ابن الأثير عن شاهد عيان، ثم يعلق عليها بقوله: وأمثال هذا كثير( ).
وقال أيضا: ووصل الخبر إلينا ونحن بالموصل أن التتـر ارتحلوا من مدينة ((مراغة)) خوفا من السيف( ).
أما أهل إربل فضاقوا بذلك ذرعا وقالوا هذا يوم عصيب( ).
وما بالهم لا يخافون، ولم لا يكون الفـزع بشكـل عـام من هـذه
الأمة المتوحشـة الظالمة، وقد أحـصى بعض المؤرخين ما قتلوه في يوم واحد في مدينة واحده وهي ((مـرو)) فبلغ سبعمائـة ألف إنسـان( ) !!!
رابعا: أحـداث بغداد وسقـوط الخلافة العباسيـة:
هذه المآسـي الموجعة وهذه الأحداث المزلزلة لم تكن نهاية المطاف لمصائب التتـر في بلاد المسلمين؛ فقد أعقبتها الكارثـة الكبرى والفتنة العظمى بوصول التتـر إلى بغداد وسقوطها في أيديهم وقتل الخليفة العباسي. وانتهاء الخلافة الإسلامية لبني العباس ويحيط الأسى بالقارئ وهو يطالع أحداث هذه السنة، ويكاد الألم يقطع قلب الكاتب وهو يدون أحداث هذه الفترة بآلامها وكوارثها وآثارها ونتائجها. وأسوق نموذجا لوصف الكارثة:
قال ابن كثيـر: ((ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجـال والنسـاء والولـدان والمشايـخ والكهـول والشبـان، ودخل كثيـر من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقـون عليهم الأبـواب فتفتحها التتـار إما بالكسر وإمـا بالنـار، ثم يدخلـون عليهم فيهربـون منهم إلى أعالـي الأمكنـة فيقتلونهم بالأسطحـة، حتـى
تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم إلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت أنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.
وقد اختلف الناس في كمية من قتـل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة؛ فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي الف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكان دخلوهم إلى بغداد في أواخر المحـرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصهم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبـر أبو العبـاس أحمـد وله خمـس وعشرون سنة ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسـر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسـر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل - والله أعلم – فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابـر الدولة واحدا بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد. وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه ((المنظـرة)) فيذبح كما تذبـح الشـاة، ويؤسـر من يختارون من بناته وجواريه. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار، وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القـرآن، وتعطلت المساجـد والجماعات والجمعـات شهور ببغداد.
ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولمـا نودي ببغداد بالأمـان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر كأنهم الموتـى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكـر بعضهم
بعضا، فلا يعـرف الوالد ولده ولا الأخ أخـاه، وأخذهم الوبـاء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمـر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنـى))( ).
يتبع باقي الموضوع