newmultkaschool
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

newmultkaschool

ملتقى الأبحاث الاتاريخية
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 تاريخ الجزائر المعاصر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:22 am


تاريخ
الجزائر المعاصر
( الجزء الأول )
دراســـــــــــــة

الدكتور : محمد العربي الزبيري

الفصــل الأول:


الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
في الجزائر قبيل نوفمبر 1954


الجزائر بلد زراعي، هذه حقيقة قديمة، لا تحتاج إلى تدعيم، ولكن الجديد في الأمر هو أن مؤرخي الاستعمار يدعون بأن المعمرين الفرنسيين هم الذين استصلحوا الأراضي، وصيروا ترتبها طيبة(1). إن هؤلاء المؤرخين يتناسون أو يتجاهلون ما ورد في تقرير السيد "تادنة" الذي قدمه لسلطات الإمبراطورية الفرنسية في أيام عزها، والذي جاء فيه: "إن مناخ الجزائر جميل وأرضها طيبة، توجد بها مراع شاسعة، وسهول فسيحة: تكثر فيها منتوجات أمريكا والهند، بالإضافة إلى ما ينبت في أراضي أوربا، كما أنها تنتج كميات هائلة من القمح والشعير والصوف والجلود والشموع. أما مراعيها فتزخر بأنواع الحيوانات المختلفة مثل الأبقار والأغنام والماعز والبغال والحمير الممتازة"(2)
ويبدو كذلك أن هؤلاء المؤرخين لم يطلعوا على ما أورده السيد (شالر) في كتابه "لمحة تاريخية عن الدولة الجزائرية" إذ يؤكد بأن سهول متيجة تعتبر من أحسن الأراضي وأوسعها في العالم، وذلك نظراً لمناخها وخصوبتها وموقعها، وهي تمتد على مساحة قدرها بالتقريب 330 ميلاً مربعاً(3).
صحيح أن سلطات الاحتلال قد استصلحت بعض المستنقعات القريبة من العاصمة لكنها لاتمثل شيئاً بالمقارنة مع ملايين الهكتارات من الأراضي الخصبة التي اغتصبتها سواء من أملاك الدولة الجزائرية أو من أملاك الأعراش والخواص ثم وزعتها على الكولون المرحين من الجيش أو المرافقين له وعلى عدد من الشركات الفلاحية التابعة لمختلف المؤسسات الفرنسية في "المتروبول"(4).
وكانت معظم الأراضي في الجزائر، قبل الاحتلال الفرنسي، ملكاً مشاعاً للأعراش(5) التي كانت تستثمرها جماعياً لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي وتصدير الفائض من الإنتاج إلى المشرق وإفريقيا السمراء وإلى بلاد جنوب أوربا على وجه الخصوص(6) ثم جاءت قرارات القادة العسكريين االفرنسيين ومراسيم السلطات الاستعمارية فأباحت اغتصاب تلك الأراضي بسبب مشاركة أصحابها في الانتفاضات الشعبية المختلفة(7) وتسليمها بالمجان إلى المعمرين الأوربيين.
وبفعل عمليات الاغتصاب تلك تحول الفلاحون الجزائريون الذين كانوا، قبل الاحتلال، يمثلون الأغلبية الساحقة من السكان، إلى مجرد خماسين أو أوأجراء موسميين أو إلى أناس عاطلين تماماً عن العمل يعيشون من التسول أو من الأعشاب والنباتات التي تجود بها الطبيعة.
وما كاد يحل الاحتفال بمرور قرن على الاحتلال حتى فقدت الجزائر قدرتها على تحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي وتحولت من منتج للحبوب ومصدر لها إلى بلد مضطر لاستيراد المواد الغذائية الضرورية لحاجات سكانه(Cool.
مثل هذه الحقائق تفرض علينا طرح أسئلة كثيرة، وفي مقدمتها: كيف انقلبت الأوضاع بهذه الصورة وبتلك السرعة؟ والجواب يكون سهلاً ومعقولاً، إلا على الفرنسيين، ويكمن في التالي: إن المهاجرين الأوربيين كانوا يجهلون طريقة الاعتناء بالفلاحة، ولم يكونوا يهدفون لغير الإثراء بأية طريقة كانت، لأجل ذلك، ركزوا مجهوداتهم على استنزاف الثروات، وتسخير الأرض بدون حساب، كما أنهم لم يهتموا باستصلاح الأراضي البور، أو الأراضي الموات الممتدة على ملايين الهكتارات جنوب التل شرقاً وغرباً.
وبالإضافة إلى إهمال العمليات الاستصلاحية التي كان من الممكن أن تقلب الجنوب الجزائري جنة خضراء، قادرة على تغذية عشرات الملايين من البشر، فإن المستعمرين قد وجهوا ضربة قاسية ما زالت بصماتها واضحة المعالم على فلاحتنا، وتتمثل في تخصيص حوالي نصف مليون هكتار من أحسن الأراضي لغراسة الكروم المنتجة لعنب الخمور، مع العلم أن الجزائريين مسلمون ولا يستهلكون المشروبات الكحولية(9).
وعلى حساب الحبوب أيضاً اهتم الكولون بالحوامض التي كانت تدر عليهم أضعاف أضعاف ما كانوا يجنونه من القمح والشعير(10). ولقد تطور منتوجها من سبعمائة ألف قنطار سنة 1931م إلى مليونين وسبعمائة وستة عشر ألف قنطار سنة 1950م(11) وأصبح بذلك يحتل المرتبة الثانية في قائمة الصادرات بعد الخمور التي كانت تنتج بمعدل 16 مليون هكتار سنوياً عندما اندلعت الثورة الجزائرية.
ولصالح الكروم والحوامض قضي، في ضواحي معسكر، على زراعة الأرز(12) وكذلك الأمر في شمال شرقي الجزائر، حيث أهملت زراعة القمح وسائر أنواع الحبوب الغذائية والفول والعدس وغيرها.
وإذا كانت مغارس الكروم والحوامض قد أنشئت على حساب زراعة القمح والشعير، فإن اقتصار المعمرين على استغلال المساحات التي وجدها عند الغزو، وعدم التفاتهم إلى الجنوب حيث تتكاثر المياه الجوفية، قد أديا، بسبب ارتفاع عدد السكان وبالتالي تزايد الحاجيات، إلى تحويل الجزائر من بلد مزدهر إلى مستعمرة لا يستفيد منها سوى الكولون الذين اجتمعت بين أيديهم حوالي ثلاثة ملايين هكتار من أخصب الأراضي(13).
وعلى هذا الأساس فإن سنة 1954، قد وجدت الفلاحة الجزائرية متقهقرة بالنسبة لما كانت عليه قبل الغزو: وإن تعسفات الاستعمار، وعمليات الاغتصاب التي قام بها، والتي تعرضت لها كافة أنحاء الوطن، وكذلك روح المستعمرين الانتهازية الاستغلالية، كل ذلك ترتب عنه إبعاد الفلاحين الجزائريين عن التسيير في مجال الزراعة، لتحويل معظمهم إلى آلات تسخر لخدمة المستغليين الأوربيين من جهة، ولتزويد الفلاحين الفرنسيين بما يحتاجون إليه لتحسين منتوجاتهم(14)، ولتنمية طاقاتهم الإنتاجية من جهة ثانية.
وتجمع الإحصائيات بالنسبة للعشرية التي سبقت الثورة، أن الأراضي الصالحة للفلاحة، تبلغ مساحتها أحد عشر مليون هكتار: منها ثمانية بيد الجزائريين الذين يمثلون تسعة أعشار السكان، وثلاثة ملايين هكتار بيد حوالي خمسة وعشرين ألف مستعمر، لأن الباقي يحتكرون التجارة الخارجية والصناعة الهامة ويشغلون مناصب القيادة على اختلاف أنواعها في جميع الميادين.
ولئن كان ممكناً الحديث بإسهاب عن الفلاحة الجزائرية قبل اندلاع الثورة، والإيفاء بذلك الحديث يتطلب عشرات المجلدات، خاصة إذا أردنا التعرض للتفاصيل، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للتجارة الخارجية والصناعة لأنهما تكادان تكونان وقفاً على المعمرين الذين يحتكرون كما ذكرنا، عمليات التصدير والتوريد، واستغلال المناجم على اختلاف أنواعها.
فالصناعة(15)، قبل الاحتلال، كانت أكثر تقدماً وأحسن تنظيماً، تشهد بذلك مختلف المصادر التي تجمع أن الحرفيين، في الجزائر، كانوا يجمعون في نقابات حسب التخصص بحيث تجد النجارين في شارع، والحدادين في آخر، والشواشين(16) في ثالث، والصباغين في رابع، والدباغين في خامس، إلخ... وكانت كل نقابة تسير من قبل أمين ينتخب بديمقراطية ويختار لما له من خبرة وحكمة وحسن سلوك، وللأمناء مجتمعين مكانة مرموقة لدى الحكومة المركزية، أما أمين الأمناء، فإنه يحضر الاجتماعات مع السلطات العليا، ويشارك، فعلياً، في اتخاذ القرارات، سواء منها الاقتصادية أو السياسية(17).
وإلى جانب هذه الصناعة التقليدية، كانت الدولة الجزائرية تهتم كثيراً بمناجم المعادن المختلفة ، وتولي رعاية خاصة لصناعتين كانتا أساسيتين في ذلك الحين، وهما صناعة الأسلحة والذخيرة الحربية، وصناعة السفن(18).
وبعد الغزو، وبالتدريج، أهملت الصناعة في الجزائر، لتتخصص البلاد شأن جميع بلدان العالم الثالث، في تصدير المواد الأولية وقد نجحت السطات الاستعمارية في مهمتها، إذ ما كادت الثورة تندلع حتى اختفت صناعتنا التقليدية، وصارت الجزائر تستورد كل شيء تقريباً، واختفت مصانع الأسلحة والبارود، وورشات البحرية الخاصة بصناعة السفن. وبالمقابل تضاعفت كميات المعادن المنجمية المستخرجة، والتي أصبحت سنة 1954، حوالي ستمائة ألف طن من الفوسفات، وثلاثة ملايين ونصف مليون طن من الحديد، وأربعمائة ألف طن من الفحم، إلخ...(19).
وبقدر ما أنهك الاستعمار صناعتنا، قبل أن يقضي عليها، فإنه خنق التجارة الخارجية التي كانت، هي الأخرى، مزدهرة قبل الغزو الفرنسي. قد يبدو أن قولنا هذا مجرد إدعاء، ولكن المصادر، على اختلاف لغاتها، تثبت بأن الجزائر، قبل الاحتلال كانت تقيم علاقات تجارية مكثفة مع افريقيا جنوب الصحراء، ومع البلاد العربية وأوربا الغربية خاصة(20)، وبأن تجارتها تلك كانت مخططة وتدر على البلاد أرباحاً كثيرة، تستثمر في سائر الميادين. ثم جاءت آفة الاستعمار، وما كادت تمر السنوات الأولى من الغزو حتى أصبح ميزان التجارة الخارجية الجزائرية خاسراً لأن كل عمليات التصدير والتوريد صارت مقصورة على فرنسا.
وفي العشرية التي سبقت ثورة نوفمبر سنة 1954، لم يعد في استطاعة أي عاقل الحديث عن تجارة الجزائر الخارجية، بل كل ما هناك عمليات احتكارية تقوم بها كمشة من المستعمرين، يجمعون الأرباح لأنفسهم على حساب فرنسا والجزائر في آن واحد(21).
وفي المجال الثقافي، فإن الثورة قد اندلعت عندما كان الاستعمار قد انتهى تقريباً من مهمته الأساسية، الخاصة بالمسخ والتشويه والتجهيل(22).
ففي السنوات الأولى من الاحتلال وبالتوازي مع ما كان به من نهب للثروات الوطنية واستيلاء على الأراضي الخصبة الشاسعة، يوزعها على الكولون الجدد وعلى المؤسسات الاستعمارية المختلفة، راح يوظف كل ما لديه من قوة، ظاهرة أو باطنة، للقضاء على مصادر الثقافة الوطنية. فهدم كثيراً من المساجد(23)، وحول أعداداً كثيرة منها إلى كنائس أو ثكنات أومستوصفات(24) وحتى إلى ملاهي لأجناده وماخورات عمومية. وفي نفس السياق وجه ضربات قاسية للمثقفين الجزائريين فقتل من قتل ونفى من نفى وزج في السجون بمن شاء وظل يطارد ويضطهد كل من بقي طليقاً قصد منعه من القيام بواجبه نحو المجتمع وبذلك صارت الإحصائيات تشير قبل اندلاع ثورة نوفمبر إلى أن حوالي 19% فقط، من الجزائريين متعلمون، يدخل في هذه النسبة المئوية من يحسن القراءة والكتابة سواء بالعربية أو بالفرنسية، وكانت جامعة الجزائر التي تعد، نظرياً، من أكبر جامعات فرنسا تجمع في مدرجاتها حوالي ستة آلاف طالب، لا يزيد عدد الجزائريين منهم عن خمسمائة طالب، معظمهم من أبناء الطبقات التي صنعها الاستعمار لخدمة مصالحه(25).
ولكن ماذكرنا، أعلاه ليس هو وجهة نظر المؤرخين الغربيين الذين على غرار السيد هورن(26) يشيدون بما حققته فرنسا، في الجزائر، من منجزات تتمثل في: "شبكة الطرقات والسكك الحديدية والمطارات والمدن الكبرى والمواني، إلى جانب الغاز والكهرباء والمواصلات السلكية واللاسلكية والمنشآت الصحية والخدمات الطبية المتعددة"(27) والحقيقة، أن ذلك ليس مجرد ادعاء، لقد أنجزت فرنسا، ولا يمكن للمؤرخ النزيه أن ينكر ذلك، لكن كل الإنجازات كانت موجهة لخدمة مصالح الأوربيين. وحيث لا وجود للمستعمر، فإن تلك الإنجازات لم تصل ولم تتحقق.
ففي مجال التعليم الابتدائي، مثلاً، نجد أن الأطفال الفرنسيين الذين هم في سن الدراسة كلهم يقبلون في المدارس التي تطبق البرامج السارية المفعول في "الوطن الأم"، وبواسطة معلمين أكفاء تعطى لهم كافة الوسائل الضرورية لأداء رسالتهم على أحسن وجه. أما الأطفال الجزائريون، فإن المصادر المتزمتة نفسها تذكر بأنهم عندما يبلغون سن الدراسة، لا يجدون سوى مقعد واحد لكل خمسة ذكور، ومقعد آخر لعدد يتراوح ما بين ست عشرة وست وسبعين فتاة(28)، معنى ذلك أن طفلين جزائريين فقط من جملة حوالي ثلاثين كان يمكن لهما أن يدخلا المدرسة في سنة 1954(29)، الأمر الذي يسمح لنا أن نؤكد بأن حوالي 7% فقط من أبناء الجزائر كانت لهم فرصة التعليم، أضف إلى ذلك نسب الفشل والعجز عن مواصلة الدراسة نتيجة الفقر والاحتجاج خاصة.
و لم تكتف السلطات الاستعمارية بسد أبواب التعليم الفرنسي في وجه الجزائريين، بل إنها بذلت كل ما في وسعها لمحاربة اللغة العربية سواء في المدارس أو في الكتاتيب(30).
ولقد نجحت في ذلك إلى أقصى الحدود حتى إن الجزائر التي كانت قبل الاحتلال، توفر لكافة أبنائها جميع الشروط اللازمة للحصول على نصيبهم في العلم والمعرفة، قد أصبح شعبها أمياً بنسبة حوالي ثمانين بالمائة سنة اندلاع الثورة(31).
وهكذا، فبقدر ما كانت الجالية الأوربية تستفيد من بناء المدارس ونشر المعرفة، كان الجزائريون يعانون من سياسة التجهيل التي نجح الاستعمار نجاحاً باهراً في تطبيقها على سائر الفئات الاجتماعية.
إن الإحصائيات الرسمية (23) تنص بكل بساطة على أن الجزائر كانت سنة 1944 تشتمل على 6.500 قسم مدرسي في الابتدائي نصيب المسلمين منها حوالي 1000 لاستقبال 108.000 تلميذ أي بمعدل 108مدرس للقسم الواحد.
و في المقابل فإن عدد التلاميذ الأوربيين قد بلغ بالنسبة لنفس السنة 118000 موزعة على 5.500 قسم أي بمعدل 22 مدرساً للقسم الواحد.
أما في التعليم الثانوي، فإن عدد التلاميذ الجزائريين سنة 1951 لم يكن يمثل سوى 6و11% من مجموع المسجلين في الثانويات. وفي سنة 1954 بلغ عدد الثانويين الجزائريين 6.260 من جملة 35.000 تلميذ، علماً بأن عدد السكان الأوربيين كان في ذلك الوقت أقل من عشر العدد الإجمالي للسكان.
وفي التعليم العالي، كان عدد الطلبة الجزائريين سنة 1948 لا يزيد عن 6 من بين حوالي600 أوربي. ومع اندلاع الثورة ارتفع ذلك العدد ليصل إلى 589 طالباً من بينهم 51 طالبة. أما الطلبة الأوربيون فقد كان عددهم 7800.
إن هذه الاحصائيات لا تكون كاملة إلا إذا أضفنا لها عدد الأطفال الجزائريين الذين كانوا يتعلمون بالمدارس الحرة والكتاتيب والتي كانت تستقبل منهم سنة 1954 حوالي 200000 تلميذ. أما جامعات الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب الأقصى والأزهر في مصر فإن عدد الطلبة الجزائريين بها في تلك السنة قد يكون وصل إلى 1270 رحلوا إليها من مختلف جهات الوطن(33).
ويدعي بعض المحللين السياسيين(34) أن الانفجار الديمغرافي واستفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر، خاصة في الربع الثاني من القرن العشرين، هما اللذان كانا في أساس اندلاع ثورة نوفمبر سنة 1954.
ويذهب أحدهم وهو السيد فريديريكس الذي يعتبره السيد أوبرمان(35) واحداً من كبار العارفين بقضايا شمال افريقيا إلى حد القول: "إن الوطنية هي بالنسبة للجماهير الجزائرية رد فعل شعب ينجب من الأطفال أكثر مما يستطيع بلده أن ينتج لهم من الغذاء(36).
صحيح أن الجزائر عرفت في الفترة المذكورة، تطوراً ديمغرافياً خطيراً ومرت أزمات اقتصادية تسببت في مجاعة السكان الجزائريين مرات عديدة، لكن ذلك كله لا يشكل سوى عامل مساعد على توعية الجماهير الشعبية بالواقع الذي فرضه عليها الاستعمار. أما الوطنية كما نستخلصها من النصوص الأساسية وفي مقدمتها بيان أول نوفمبر سنة 1954 فهي النضال بجميع الوسائل وبلا هواده من أجل هدم النظام الاستعماري واسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة بواسطة تحرير الأرض وتحرير الإنسان بأتم ما في كلمة تحرير من معنى.
أما إذا رجع الدارس إلى المسألة الاجتماعية والاقتصادية في الجزائر قبل سنة 1954 وأخضعها للبحث الموضوعي فإنه يكون مضطراً للتوقف عند مجموعة من الملاحظات أهمها مايلي:
أ- إن الإحصائيات الخاصة بعدد السكان الجزائريين غير قابلة للتوظيف رغم كل العمليات الرسمية التي قامت بها الإدارة الاستعمارية والتي كانت دائماً تتوج بنشر أرقام تدعي أنها تعبر بصدق عن الواقع الديمغرافي(37).
ويرجع عدم قابليتها للتوظيف إلى كونها كانت تقريبية فقط بحكم عدم توفر الهياكل اللازمة لإجراء عمليات الإحصاء وبسب فقدان مصالح الحالة المدنية في كثير من أنحاء الجزائر في ذلك النصف الأول من القرن العشرين.
ب- إن الحديث عن طبقة الشغيلة في الجزائر قبل ثورة نوفمبر 1954 في غير محله لأن أربعة أخماس اليد العاملة التي لها شغل دائم أو مؤقت مرتبطة بالأرض. أما عمال الصناعة والتجارة الذين يمثلون الخمس الباقي فأغلبيتهم من الأوربيين. وإذا أردنا الحديث عن العمال الجزائريين كقوة سياسية فينبغي التفتيش عنهم في فرنسا ذاتها حيث وصل عددهم سنة 1954 إلى حوالي 300 ألف أغلبيتهم في عز الشباب.
ج- إن الحديث عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر لا يكون جدياً إلا إذا فصلنا بين مجتمعين متمايزين: المجتمع الأوربي الذي يمثل حوالي عشر السكان ويملك تسعة أعشار الإنتاج الإجمالي والمجتمع الجزائري الذي يمثل تسعة أعشار السكان ولا يملك سوى عشر الإنتاج الإجمالي، وعندما تؤخذ هذه الحقيقة في الاعتبار فإن كل الإحصائيات المقدمة من طرف السلطات الاستعمارية تصبح غير قابلة للتوظيف.
د- إن الأرقام المتعلقة بالبطالة في الجزئر قبل سنة 1954م تحتاج إلى مراجع كلية. فمذكرات الدراسات الوثائقية رقم: 1963(24. 12. 1954) تشير إلى أن الجزائريين البالغين سن الشغل كان عددهم 3.500.000سنة 1948م ومن بين هذا العدد هناك 2.800.000 يشتغلون في الزارعة والغابات والصيد البحري والباقي موزع على قطاعي الصناعة والتجارة. معنى ذلك أن الجزائر لم تكن فيها بطالة وهذا غير صحيح وإلا فقدت الهجرة إلى فرنسا أحد مبرراتها الأساسية ولم يعد للمحللين السياسيين ما يركزون عليه ادعاءاتهم الآنفة الذكر.
فالجزائر، فعلاً، كانت في نظر السلطات الاستعمارية قسمان: قسم الأوروبيين ويعتبرون رغم اختلاف أجناسهم، فرنسيين لهم وعليهم ما للمواطن في فرنسا. وما عليه ولهم، زيادة على ذلك، حق استغلال "الأهالي" واضطهادهم قانونياً.
هؤلاء الأوربيون جاء أجدادهم إلى الجزائر بطرق مختلفة، فقلة منهم صاحبت عملية العدوان سنة 1830م كتجار وأصحاب مهن حرة ورهبان في خدمة الغزاة أو لتنصير الجزائريين. وبعد الاستحواذ على خزينة الدولة الجزائرية والاطلاع على خصوبة سهل المتيجة المحيط بالعاصمة شرع الجنرال كلوزيل في تسريح بعض الأجناد وتمكينهم من مزارع البايلك يستغلونها لحسابه في شكل شركة سميت: مزرعة إفريقيا التجريبية(38) وحذا حذو كلوزيل ضباط سامون آخرون حتى إن كل الساحل والمتيجة تحول إلى الأوربيين في ظرف عشر سنوات فقط(39).
وتمركزت مجموعة الكولون الأولى التي وصل عددها حوالي خمسين ألف نسمة بالنسبة لتلك الفترة(40) وبعد إلحاق الجزائر بفرنسا وتناقلت وسائل الإعلام أخبار المستعمرة الجديدة وما تزخر به من ثروات، وبعد أن أعلن الجيش الاستعماري عن استعداده لاستقبال كل الراغبين في تجسيد فكرة الاستعمار الاستيطاني، بدأ الكولون يصلون من مختلف أنحاء أوربا حتى أن جاليتهم أصبحت تتكون من حوالي150.000 في ظرف عشرين سنة فقط(41). ثم راحت تتكاثر بنفس الوتيرة إلى أن قاربت المليون نسمة عشية اندلاع ثورة نوفمبر سنة 1954م وأصبحت تملك أخصب ما في الجزائر من أراضٍ صالحة للزراعة وتسيطر، فعلياً، على إدارة البلاد وصناعتها وتجارتها بجميع أنواعها.
أما القسم الثاني فهم أبناء الوطن الذين تسميهم الإدارة الاستعمارية بأسماء متعددة غير الاسم الصحيح. فهم أحياناً: الأهالي الذين يحكمهم قانون تعسفي يسمى قانون الأهالي الذي يكاد يحرمهم من حق التنفس، وهم العرب في نظر الكولون، والمسلمون في نظر المؤرخين أمثال روبرت آجرون، وهم يمثلون عشرة أضعاف الجالية الأوربية لكنهم لا يملكون شيئاً بالمقارنة مع ما هو في حوزة الكولون وليس لهم حقوق المواطنة ولا يتمتعون بأي نوع من أنواع الحرية.
إن هذا القسم، في مأساته، يشتمل على فتئتين اجتماعيتين. تتشكل الأولى من العائلات المقربة من السلطات الاستعمارية نتيجة ما تقدمه لها من خدمات في مجال تسيير شؤون "الأهالي" وهي رغم ما تحظى به من امتيازات وما تملكه من متاع لا ترقى إلى مستوى أحط الأوربيين شأناً وأقلهم ثروة. ومن الناحية العددية، فإن هذه الفئة قليلة جداً حتى عندما تضم إليها من كانوا يسمون بالنخبة ولذلك، ولأنها غير متجانسة، فإنها لا تُكِّون طبقة مستقلة بذاتها، أما الفئة الاجتماعية الثانية فتتشكل من باقي السكان الذين يعيشون أوضاعاً متقاربة جداً ويتعرضون لنفس أنواع الاستغلال والاضطهاد والعسف.
انطلاقاً من هذه الحقائق، نستطيع القول إن الحديث عن تطور الجزائر وما عرفته من انجازات اقتصادية واجتماعية وثقافية لا يكون صحيحاً إلا إذا ظل مقصوراً على الأوربيين فقط، وعلى سبيل المثال نتوقف عند القرار الذي سن المنح العائلية سنة 1941 وتضمن في مادته الأخيرة أن تطبيقه يمتد أيضاً إلى الجزائر. إن ذلك التمديد قد وقع بالفعل ولكنه لم يتعد الجالية الأوربية ولم يستفد منه، كما ينبغي، حتى أبناء الجزائريين المغتربين في فرنسا(42).
وعندما نريد تقييم الإنسان الجزائري، تقييماً مطلقاً، فإننا نجد أن قيمته عشية اندلاع الثورة لم تكن أفضل من قيمة البهائم(43). فالإدارة الاستعمارية لا توليه أي اهتمام إلا عندما يتعلق الأمر بفرض مختلف أنواع الضرائب عليه. ونقول مختلف أنواع الضرائب لأن "الأهالي" في الجزائر، لم يكونوا يحكمون بقانون، بل أن حياتهم اليومية تسير وفقاً لمشيئة المستعمر الذي يخطط للمداخيل والمصاريف، والذي يوزع المهام ويخلق الأوضاع حسب إرادته وتماشياً مع مصالحه الخاصة.
إن الشرطة، في المدن، والحراس والشواش، في الأرياف، وكذلك القواد والباشغوات كلهم يأتمرون بأوامر غلاة المعمرين الذين لهم اليد الطولى في التعيين والترقية والعزل، لأجل ذلك، كثيراً ما نرى فلاحاً جزائرياً يُغرَّم لأنه ركب حماره، أو وُجِدَ يأكل الخبز والعنب في الغابة، أو أن أخباراً أفادت بأنه ذبح خروفاً أو ديكاً دون رخصة خاصة(44).
إن هذا التعسف، وعدم وجود السلطة المستقلة التي يحتكم إليها هما اللذان جعلا معظم أبناء الجزائر يفضلون العزلة والعيش على الهامش موكلين كل ما يتعلق بمصيرهم للقضاء والقدر، راضين بحياة البهائم المفروضة عليهم.
وكانت المرأة، بالإضافة إلى ما يعاني منه الرجل، تخضع لظروف قاسية نتيجة التأويل الخاطئ لمبادئ الإسلام السمحة(45).
ولقد كانت وظيفتها تكاد تكون منحصرة في الطبخ والإنجاب، لذلك فإنها لم تكن في حاجة إلى العلم والمعرفة اللذين كان الرجل يعتبرهما معرة بالنسبة إليها، بل سُبَّة حتى بالنسبة للواحد منهم، إذ الرجل الحقيقي، في ذلك الحين، هو الفلاح والتاجر وكل من هو قادر على جلب قوته، وسد حاجيات عياله بواسطة عضلاته. أما "الطالب" أو المتعلم فيحترم حقاً، ولكنه يعيش دائماً في احتياج، وعالة على غيره(46).
ومن الجزائريين، رغم كل شيء، من يوفر لبناته تعليماً قرآنياً وقلة قليلة جداً منهم من يرضى بإرسالهن إلى المدرسة الفرنسية. وسواء تعلمت الجزائرية في هذه أو في تلك من المدرستين، فإنها تلازم البيت، نزولاً عند رغبة العائلة ووفقاً لما تنص عليه عادات البلاد وتقاليدها(47).
إن هذا التجهيل المخطط له، في الواقع، قد أدى إلى خلق مجتمع ساذج في أغلبيته، له نحو المستعمر شعور مزدوج بالإعجاب والكراهية: أما الإعجاب ففيما توصل إليه الأجنبي من معرفة، وما حققه من تقدم وازدهار، وما حاز عليه من ثروة ورفاهية وسيطرة على التقنيات العصرية، وأما الكراهية فناتجة عن الإحساس بكون ذلك الأجنبي يمتص خيرات البلاد، وينهب أهلها دون أن يجد من يقف له بالمرصاد، وما من شك أن هذا الشعور المزدوج هو الذي ساعد، مع مر الأيام، على ميلاد ثم تطوير وتدعيم الحركة الوطنية في الجزائر.
ولكن الغريب في الأمر، أن المؤرخين الفرنسيين لم يعيروا الاهتمام لذلك الواقع الصارخ، وضربوا عرض الحائط بكل حقيقة يمكن أن تنقص من قيمة الأمة الفرنسية المتحضرة التي حملت نفسها، ظاهرياً، رسالة تمدين الجزائريين وإخراجهم من طور التوحش والهمجية.
وفي ميدان النقل والمواصلات، فإن فرنسا لم تزد على كونها وسعت وعبدت بعض الطرقات الرابطة بين أهم مراكز الإنتاج والمدن الكبرى أو الموانئ، لتسهيل عمليات التصدير والتوريد، وإن كتب الرحالة ودراسات المؤرخين التي عالجت أوضاع الجزائر قبل الاحتلال كلها تثبت بأن الشبكة البرية الموجودة سنة 1954 لا تختلف كثيراً في أساسها عن الشبكة التي كانت الأيالة تتوفر عليها عندما بدأت عمليات الغزو الفرنسي(48).
وإن الذين كانت لهم فرصة التجول، وزيارة مختلف مناطق البلاد، وكذلك المناضلين الذين كان إيمانهم بالوطن يدفعهم للتنقل، راجلين أو على متن حيوان إلى كل مكان تشتم فيه رائحة السكان، إن هؤلاء وأولئك ما زالوا يذكرون اليوم، بأن السيارة لم تكن قبل اندلاع الثورة بقليل، ذات فائدة كبرى في التوجه إلى الأرياف وفي قطع أكثر المسافات الرابطة بين بعض المدن والقرى في داخل البلاد. هناك إنجاز واحد جديد في ميدان النقل ويتمثل في خط السكة الحديدية الذي بلغ طوله عشية اندلاع الثورة: 4500 كلم يربط أهم مدن الشمال بعضها ببعض(49).
وبالنسبة للخدمات الطبية والمنشآت الصحية، أيضاً فإن السلطات الاستعمارية لم تهتم بها إلا في المراكز الآهلة بالمستعمرين. لذلك اندلعت ثورة نوفمبر سنة 1954 والأغلبية الساحقة من الجزائريين لا تعرف الطبيب أو المستشفى أو المستوصف، ولا تستعمل الأدوية، بل إن التداوي، في أريافنا، مع العلم أن معظم الأهالي في الأرياف وفي القرى، إنما كان يتم بالطرق التقليدية، مثل استعمال العشب باختلاف أنواعه وسائر الحبوب النشوية، واللجوء في كثير من الأحيان، إلى الرقيا والنار والتمائم.
ولن أكون مغالياً إذا قلت: إن المواطنين الجزائريين صاروا، نتيجة ذلك، يؤمنون بتلك الطرق أكثر من إيمانهم بفعالية الطب الحديث. وإلى يومنا هذا، مازال هناك، وهم كثرة، ومن مختلف الفئات الاجتماعية، من يفضل زيارة قبر مهجور أو شجرة متآكلة، أو تعليقاً لتمائم على المثول أمام أشهر الأخصائيين في جميع مجالات الطب.
وبإيجاز، فإن سنة 1954، عندما تطل على الجزائر سوف تجد الطليعة فيها مشمرة على سواعدها قصد التصدي للفتور الذي أصاب الأمة، ونفض الغبار الذي حجب الرؤية، والعمل من أجل إزالة التشويه ومحاربة التزييف والانحراف وسائر الأمراض التي نفثها المستعمر داخل مختلف فئات المجتمع.
وبفضل مجهودات تلك الطليعة، صار الأطفال الجزائريون يستنكرون أن يكون أجدادهم الغال(50) ويفتخرون بانتسابهم للعروبة والإسلام، وصار الأهالي، في معظمهم، يدركون التمايز بينهم وبين المستعمرين وأبناء ما يسمى بالوطن الأم، وبعبارة أوضح، صار الوضع مناسباً والظروف ملائمة لإشعال فتيل الثورة التي سيكون لها الفضل في تقويض أركان الاستعمار الفرنسي.



 الهوامش:
1- Tripier (philipe pe), Autopsie de la guerre d’Algèrie, paris 1972p: 23, La Terririguèe N offre que 100,000 km2, de surface arable, dont la portion la plus fèconde a ètè arrachèe par les colons europèens aux marais et aux maquis imptoductifs.
2- قدم هذا التقرير إلى السلطات المختصة بتاريخ 19/08/1802، وقد أطلعنا على الأصل في دار المحفوظات بباريس ويحمل رقم: 304.
3- شالر- لمحة تاريخية عن الدولة الجزائرية، تعريب وتحقيق العربي الزبيري ص108.
4- وكذلك أجرون ص 481 حيث يؤكد أن السلطات الاستعمارية اغتصبت في ظرف ست سنوات (1928-1934) 1.055.500 هـ من أراضي الأعراش الجزائريين.
5- ملكية الأرض، كانت قبل الاحتلال أربعة أنواع: أ- أملاك الدولة أو البايلك، ب- الأملاك المشاعة للقبيلة وهي ما يسمى بأرض العرش، ج- الأوقاف، د- الأملاك الخاصة وكانت قليلة جداً بالمقارنة مع الأنواع الأخرى.
6- محمد العربي الزبيري، التجارة الخارجية للشرق الجزائري ص85.
7- انظر خاصة الأمرية الصادرة بتاريخ: 22 جويلية 1834م.
8- انظر خاصة جريدة الأخبار في عددها الصادر بتاريخ 7 أفريل 1930م.
9- أوبرمان، ص53 المصدر السابق.
10- مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1926 (22-12-1954)، وما بعدها، لقد ورد في تلك المذكرات أن المستعمر كان يجني 320.000 ف من هكتار الحوامض بينما لاتزيد فائدته على 1.5.000ف من هكتار الحبوب.
11- المصدر السابق ص486.
12-تذكر المصادر التاريخية أن أرز معكسر كان من أجود الأنواع في العالم، أنظر شالر، ص 169.
13- مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1962، (22-12-1954) ص16 وما بعدها وكذلك أجرون، ص495 وأبرمان ص54.
14- مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1963،(24-12- 1954) ص17 وما بعدها.
15- المصدر السابق أجرون ص495 وكذلك شالر، ص108.
16- الشواشون هم صانعو الشواشي ومفردها شاشية وهي مقابل القلنصوة
17- حمدان خوجة، المرأة تقديم وتعريب محمد العربي الزبيري، الجزائر 1972م ص 81 وما بعدها.
18- المصدر نفسه وكذلك فيروشارل "النقابات الحرفية في قسنطينة قبل الاحتلال الفرنسي" (المجلة الإفريقية ج16 سنة 1872م، ص70 وما يليها).
19- المصدر السابق، أبرمان ص55.
20- محمد العربي الزبيري، المصدر السابق، التجارة الخارجية للشرق الجزائري قبيل الاحتلال، انظر الفصول الخاصة بموضوع العلاقات مع البلدان المذكورة، ص: 117وما بعدها.
21- Schutze (G), Le Situation Dèmographique et Economique de I’Algèrie en 1953, Bulletin de Statistiques Gènèrales, trimestre de 1954 p: 175 et suivant
22- لقد ابتدأ الاستعمار بضرب المثقفين ومصادر الثقافة، فسجن العديد من العلماء ونفى كثيرين منهم ثم هدم المساجد أو حولها إلى كنائس ومستوصفات واصطبلات، وانتهى قبل نهاية القرن إلى اعتبار العربية لغة أجنبية.
23- يذكر نوشي اندريا في كتابه: "قسنطينة عشية الاحتلال" ص: 186 وما بعده أن قسنطينة وحدها كانت تشتمل على 42 مسجداً و 90 مدرسة ابتدائية يدرس بها 700 تلميذ في الثانوي و 1350 في المرحلة الابتدائية، وبعد قرن من الاحتلال صار عدد تلاميذ الثانوية في كامل أنحاء القطر الجزائري يبلغ 776 فقط أنظر في هذا الموضوع كذلك أمري مارسيل: "الوضع الثقافي والمعنوي في الجزائر سنة 1830" مجلة التاريخ الحديث والمعاصر، العدد الأول الصادر بتاريخ جوليت/ سبتمبر سنة 1954، ص 199 وما بعدها وأجرون، ج2 ص536.
24- نوع من العيادات الطبية المخصصة للعلاج الخفيف.
25- ميشال هابار، تاريخ نكث العهد، باريس 1960، ص 138 وكذلك قرار الولاية العامة الصادر بتاريخ 18 أكتوبر سنة 1892.
26- السيد الستار هارون مؤرخ انكليزي له عشرة مؤلفات، آخرها تاريخ حرب الجزائر الذي نشره سنة 1977، ويشتمل على حوالي ستمائة صفحة.
27- الستار هارون، تاريخ حرب الجزائر، لندن 1977، ترجم إلى الفرنسية ونشر بباريس سنة 1980 ص: 61.
28- من المعلوم أن الفتاة في الجزائر، لم يكن يسمح لها بالخروج سافرة ولا بالذهاب إلى المدرسة.
29- هذه هي الإحصائيات التي جاءت في التقرير الأدبي الذي صادق عليه سنة 1963، مؤتمر الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين المنعقد بنادي الصنوبر في ضواحي الجزائر العاصمة.
30- المصدر السابق، ميشال هاربار، تاريخ نكث العهد، ص 138.
31- آجرون، تاريخ الجزائر المعاصر، ج2 ص534 وما بعدها.
32- مذكرات ودراسات وثائقية رقم 1963 (24-12-1954) ص11.
33- نفس المصدر
34- نذكر على سبيل المثال
Blanchard (I) Le problème Algèrien, paris 1955, p:54 et suivantes
- Aron (raymond), La tragedie Algèrienne, paris plon, 1957, p. 40 et suivantes.
- philpe (Andrè), Le socialisme trahi, paris 1957, p 166.
35- أوبرمان، ص 41.
36- Frederix (P), Le nationalisme Algèrien, le monde du 05. 04. 1952.
37- رسمياً فإن الإدارة الإستعمارية قد أحصت سكان الجزائر تسع مرات في الفترة ما بين 1901و 1953 كما يظهر ذلك من خلال مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1962 (24-12-1954) التي نستخرج منها الجدول التالي:

السنة السكان المسلمين السكان غير المسلمين سكان آخرون المجموع
1901 4089150 633850 16331 4739331
1906 4447788 680263 73799 5231850
1911 4740526 752043 71259 5563828
السنة السكان المسلمين السكان غير المسلمين سكان آخرون المجموع
1921 4923186 791370 89719 5804275
1926 5150756 833359 82265 6066380
1931 5588314 881584 83553 6553451
1936 6201144 946013 87527 7234684
1948 7679078 922272 80435 8681785
1953 823200 1019000 9251000
38- جليان، تاريخ الجزائر المعاصرة ص 76 وما بعدها.
39- Berthezene (Le Baron pierre), dix huit mois à Alger ou recit des èvenements qui su sont passès de puis le 14 juin 1830 jusqua la fin de decembre 1831, Montpellier 1834, p. 65, BNA 52285.
ويذكر الجنرال أنه راسل وزير الدفاع الفرنسي المارشال سولت في الموضوع وأخبره أن كلوزيل اغتصب أملاك ورثة حسن باشا وبابا علي وواعلي عدة لفائدته الخاصة.
40- مذكرات ودراسات وثائقية رقم: 1963 (24-12-1954)
41- نفس المصدر.
42- أبرومان، ص57.
43- نتيجة التجهيل والتفقير وتطبيق قانون الإنديجينا
44- هذه ممارسات يعرفها جميع الجزائريين ولم تختف إلا مع اندلاع ثورة نوفمبر
45- لقد كانت المرأة مستغلة أبشع الاستغلال ومحقرة إلى درجة أن الرجل كان يقول "المرأة حاشاك" "أو عفاك اللَّه" أو" أكرمك اللّه"
46- هناك مثل شعبي يقول: "شوف لبنتك طالب حتى تجد لها راجل".
47- يقولون في مدن الجزائر خاصة: إن المرأة كنز وككل الكنوز يجب سترها والمحافظة عليها.
48- لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى فانتور دي بارادي: "الجزائر في القرن الثامن عشر" المجلة الإفريقية رقم2 الفصل الرابع من سنة 1895، ص 286، وكذلك الأرشيف الوطني بباريس، الملف رقم ف1970280 ، اللجنة الإفريقية، التقرير رقم 2، ص10 والملف رقم أو ب 3304، تقرير السيد تادنة، ص12.
49- مذكرات ودراسات وثائقية رقم 1962 (22-12-1954) ص35 وما بعدها.
50- إن كتب التاريخ المقررة في المدارس الابتدائية تؤكد على أن بلاد الغال هي بلاد أجدادنا وأن الجزائر أرض فرنسية لا يمكن أن تكون غير ذلك.

يتبع باقي الموضوع


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:25 am

الفصل الثاني


الحركة الوطنية الجزائرية
في مرحلة النضج


الحدث التاريخي يلد الحدث التاريخي، ولا يمكن للدارس الجاد أن يحيط بأي حدث تاريخي مالم يهتد إلى الحدث أو الأحداث التي كانت في أساسه والتي انطلقت منها بوادره. إن الحدث التاريخي المعزول عن غيره لا وجود له في تاريخ الإنسانية جمعاء. ومن هذا المنطلق سوف نحاول من خلال هذه الدراسة، إيجاد الخيط الرابط بين مختلف المحطات التاريخية التي ساعدت على تطوير الحركة الوطنية الجزائرية خاصة في الأربعينات من هذا القرن، ومباشرة قبل اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر سنة 1954.
إن أبرز حدث تاريخي يجب الرجوع إليه لفهم هذه الفترة وما عرفته من تحركات سياسية إنما يتمثل في إنزال الحلفاء قواتهم على الساحل الجزائري ابتداء من الثامن من نوفمبر سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة وألف.
إن ذلك الحدث قد حتم على قادة الساحة السياسية الوطنية الجزائرية الإسراع في التلاقي من أجل التشاور حول ما ينبغي القيام به لحماية الشعب الجزائري وتمكينه من تقرير مصيره بنفسه واسترجاع سيادته التي كانت قد اغتصبت سنة 1830.
وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي أوجدتها الحرب الإمبريالية الثانية(1) التي لم يكن من شأنها المساعدة على تسهيل الاتصالات بين أولئك القادة الذين كان منهم من يعيش في الإقامة الجبرية(2) ومنهم من كان متخفياً ويعيش حياة سرية(3) في حين كان بعضهم يتحايل للبقاء طليقاً(4) ليكون همزة الوصل التي لا بد منها لتبادل الأراء والأفكار ولمحاولة إيجاد الأرضية الملائمة لتوحيد الجهود النضالية وتقريب وجهات النظر حول كيفية التصدي للغزو الأجنبي بجميع أنواعه؛ على الرغم من تلك الظروف الاستثنائية، وفي واقع الأمر، فإن الطاقات الفكرية الوطنية قد وجدت طريقها إلى صياغة ما سوف يصطلح على تعريفه ببيان الشعب الجزائري الذي، رغم توقيعه فقط من طرف مجموعة من المنتخبين الجزائريين، فقد كان تعبيراً عاماً عن كثير من المواقف السياسية والإيديولوجية والفكرية التي كانت حتى ذلك التاريخ حكراً على مناضلي الحركة المصالية في الجزائر.
لقد جاء البيان تقييماً موضوعياً لمختلف المراحل التي قطعها الاستعمار الفرنسي في الجزائر والتي جعلت غلاة الغزاة يقولون "لقد سيطرنا على البلاد بالقوة، لأن الاحتلال لا يكون إلا كذلك، وهو يستلزم غالبين ومغلوبين، وعندما تم ترويض هؤلاء الأخرين تمكنا من تنظيم البلاد بالكيفية التي تشهد بتفوق الغالب لا المغلوب، والمتحضر على الرجل الأدنى، إننا نحن المالكون الشرعيون للبلاد) مجلة إفريقيا اللاتينية الصادرة بتاريخ مايو (أيار) 1922.
وبعد تقييم مراحل الاستعمار، توقف البيان عند أهم المقاومات الشعبية وما ترتب عنها من تصميم وعزم في صفوف الجزائريين ومن إفقار وتهميش لهم بسبب اغتصاب أراضيهم وانتزاع سائر ممتلكاتهم قبل إخضاعهم لقوانين الاضطهاد والاستبداد(6) التي يعتبر قانون الأنديجينا واحداً من أفضلها وأكثرها رحمة.
ولم ينس البيان مجموعة مشاريع الإصلاح والوعود الرامية إلى تمكين الجزائري من أسباب الرقي والتقدم، بدءاً من اقتراح المارشال بيجو الموجه لحكومته سنة 1844 والقائل: "إننا أبدينا قوتنا وعظمتنا للقبائل الإفريقية، وأصبح علينا الآن، أن نظهر لها طيبتنا وعدلنا"، ومروراً باقتراح ميشلان وقوتي Michelin et Gautier سنة 1887 حول إمكانية منح صفة المواطنة الفرنسية لمسلمي الجزائر، ومشاريع مارتينو Martineau سنة 1890 وجان جوريس سنة 1898 وكليما نسوسنة 1915، وانتهاء بمشروع فيوليت Violette الذي يعطي حق المواطنة الفرنسية لحوالي ثلاثين ألف جزائري.
وبعد التأكيد على أن كل تلك المشاريع وتلك الوعود لم تجد طريقها إلى التنفيذ وظلت حبرا على ورق بسبب تعنت الكولون الذين كانوا يتعاملون مع القضية الجزائرية على أساس عرقي قومي وديني، خلص البيان إلى القول: "لقد فات الآوان الذي كان المسلم الجزائري يطلب فيه أن يكون شيئاً آخر غير جزائري مسلم، وبعد إلغاء مرسوم كريمو Grèmieux خاصة، فإن الجنسية والمواطنة الجزائرييين قد أصبحتا ملاذه الأفضل باعتبارهما تتضمنان الحل الأكثر وضوحاً ومنطقية لمسألة تطوره وتحرره".
إنطلاقاً من كل ما تقدم وتماشياً مع الواقع الجديد الذي أوجده ذلك البيان الذي أصدره الرئيس روزفلت Roosevelt باسم الحلفاء والذي يضمن احترام حقوق كافة الشعوب الصغيرة والكبيرة، فإن بيان الشعب الجزائري قد حدد الأهداف الأساسية في خمس نقاط هي:
1- إدانة الاستعمار وإلغائه؛ ومعنى الاستعمار هو إلحاق واستغلال شعب من طرف شعب آخر، وهو شكل جماعي للاستبداد الذي كان يمارس على الأفراد في العصور الوسطى، وعلاوة على ذلك، فهو واحد من الأسباب الرئيسية للتنافس والتطاحن بين الدول العظمى.
2- تطبيق جميع البلدان الصغيرة والكبيرة لحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
3- تزويد الجزائر بدستور خاص بها يضمن:
أ- الحرية والمساواة المطلقة بين سائر سكانها دون أي تمييز عنصري أو ديني.
ب- إلغاء الملكية الاقطاعية وذلك بواسطة إصلاح زراعي واسع وتمكين أغلبية الفلاحين المعدمين من حقهم في العيش الرغيد.
ج- الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية على غرار اللغة الفرنسية.
د- حرية الصحافة وحق إنشاء الجمعيات.
هـ- مجانية التعليم وإجباريته لجميع الأطفال من الجنسين.
و- حرية التدين بالنسبة لجميع السكان وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة فيما يخص جميع الأديان.
4- مساهمة جميع الجزائريين المسلمين مساهمة فورية وفاعلة في تسيير بلادهم اقتداء بما فعلته حكومة الجلالة البريطانية والجنرال كاترو Catroux في سوريا، وحكومة المارشال بيتان pètain والألمان في تونس. إن هذه الحكومة الجزائرية وحدها هي التي تستطيع تحقيق اشتراك الشعب الجزائري في الكفاح المشترك وذلك في جو من الوحدة المطلقة.
5- إطلاق سراح جميع المحكوم عليهم والمعتقلين السياسيين على اختلاف أحزابهم.
إن هذا البيان، في الظاهر، من وضع السيد فرحات عباس الذي يجمع المؤرخون الغربيون خاصة، أنه هو الذي أقنع المنتخبين بمعقولية ما ورد فيه من آراء وأفكار، ثم جعلهم يتحملون مسؤولياتهم في التوقيع عليه وفي تقديمه إلى الحلفاء وإلى ممثل السلطات الاستعمارية في الجزائر. لكن قراءة فاحصة ومتأنية تقودنا حتماً إلى ضبط المواطن المعبرة عن تأثير سائر التشكيلات الوطنية وإلى كشف بصمات أمثال الدكتور محمد الأمين دباغين وحسين عسلة اللذين شاركا مشاركة فعلية في الصياغة كي تكون مقبولة من طرف القواعد المناضلة في صفوف الحركة المصالية ومن طرف المعتدلين في باقي التشكيلات السياسية والاجتماعية العاملة بالجزائر.
وعندما يتوقف القارئ عند سائر الأفكار الرئيسية التي تضمنها البيان فإنه لا يجد بداً من الاعتراف بأنها في معظمها، مستوحاة من البرنامج السياسي الذي وضعه نجم شمال إفريقيا سنة 1933، لأن السيد فرحات عباس لم يكن متعوداً على مجموعة المفاهيم والمصطلحات التي بني البيان على أساسها والتي كان مناضلو حزب الشعب الجزائري يحملون وحدهم لواء نشرها في أوساط الجماهير الشعبية والعمل على جعل هذه الأخيرة تتبناها عن وعي وتتجند قصد الإسهام في إدخالها حيز التنفيذ، ونذكر من جملة تلك المفاهيم والمصطلحات، "البرلمان الوطني الجزائري المنتخب بواسطة الاقتراع العام" و "إلغاء الملكية الاقطاعية بواسطة الإصلاح الزراعي الواسع" ومجانية التعليم وإجباريته بالنسبة لأبناء الجزائر"و "المواطنة والجنسية الجزائريتان".
ومهما يكن من أمر، فإن البيان قد شكل، في وقته، همزة وصل ثابتة بين طموحات مختلف التيارات السياسية الوطنية في الجزائر وكان كما قال السيد أحمد بومنجل: "تعبيراً عن مصالحة أملتها التجربة والظروف "أما السلطات الاستعمارية، في الجزائر وفرنسا على حد سواء، فإنها قد ارتاعت للحدث وساءها خاصة أن يكون كل الموقعين من غير المعروفين بميولهم الوطنية، بل كان جميعهم من المنتخبين الذين اشتهروا بموالاتهم لفرنسا وحبهم لها وإذا كان السيد بايورتون peyourthon قد استقبل السيد فرحات عباس وأبدى له استعدادات فرنسا المبدئية للتعامل مع البيان حيث التمس إجراء بعض التعديلات التي من شأنها صيانة الشرف الفرنسي، فإن الجنرال كاترو Catroux قد أدار الظهر لموقف سلفه، وعندما زاره السيدان عباس وطمزالي يوم 11/06/1943 قصد تسليمه ملحق البيان الذي وقعت صياغته استجابة لرغبة الوالي العام السابق، أعلن لهما عن رفضه للوثيقتين مدعياً أن متطلبات الحرب تقتضي السكوت عن المطالب أي كان نوعها.
إن كاترو، الاشتراكي المذهب(7)، لم يتمكن من تجاوز عواطفه الوطنية للاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، بل إنه فضل نكث عهد الحاكم العام المستقيل وراح يضاعف المساعي الرامية إلى إيجاد الشروط اللازمة لتمكين بعض آلاف الجزائريين من المواطنة الفرنسية ولمحاربة بعض أنواع العسف والاستبداد المسلطة على أبناء المستعمرة. لكن فرحات عباس لم ينخدع لتلك الإجراءات الصبيانية، واستطاع تعبئة الأغلبية الساحقة من المنتخبين الجزائريين الذين رفضوا معه المشاركة في اجتماعات المندوبيات المالية ثم وجهوا نداء إلى الجنرالين ديغول وكاترو ويؤكدون، من خلاله، التزامهم المطلق بما ورد في البيان وفي ملحقه.
وكان رد فعل الجنرال كاتروا عنيفاً، لجأ إليه من أجل الضغط على المنتخبين الذين كان يعرف أن عدداً ممن وقع منهم مع عباس لم يفعلوا ذلك عن قناعة ولكنهم تبعوا الحركة آلياً حتى لا يقال، مستقبلاً، إنهم تخلفوا.
وتمثل رد الفعل ذاك في الإعلان يوم 23/09/1943 عن حل الفرعين الجزائريين للمندوبيات المالية وفي فرض الإقامة الجبرية على السيدين فرحات عباس وعبد القادر سائح متهماً إياهما بتحريض المنتخبين على العصيان في وقت الحرب.
وكجواب على هذه الاجراءات التعسفية، نظم حزب الشعب الجزائري، المحلول رسمياً، مظاهرات شعبية في مدن الجزائر وبسكرة وسكيكدة وقسنطينة رفعت فيها اللافتات المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم مصالي وعباس وسائح، لكن مدير الشؤون الإسلامية في الولايات العامة(Cool، استطاع بمساعدة الدكتور طمزالي أن يقنع المنتخبين بالتراجع عن توقيعاتهم.
ففي الخامس عشر من شهر أكتوبر استقبل الجنرال كاترو مجموعة من المندوبين الماليين مكونة من اثني عشر شخصاً، وفي اليوم الموالي أصدرت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني بياناً جاء فيه أن اللقاء حضره إلى جانب الجنرال كل من السيدين قونون Gonon الأمين العام للولاية العامة وأوغستين بارك مدير الشؤون الإسلامية، وناب عن مجموعة المندوبين الرئيس عبد النور طمزالي فوضح أن زملاءه يتأسفون عما حدث يوم 22/09/1943 ويؤكدون رغبتهم في أن تتم الإصلاحات بسرعة وفي إطار الشرعية والاستقرار داخل المجموعة الفرنسية ووفقاً لمثل فرنسا الديمقراطية، كما أنهم يعربون بكل صدق عن وطنيتهم ووفائهم لفرنسا التي يتمنون لها تحريراً عاجلاً وكاملاً، وللجنة التحرير الوطني وللجنرال كاترو، فإنهم يعلنون عن ولائهم الشديد وإراداتهم في المساهمة في مجهود الحرب من أجل تحرير الوطن وانتصار الديمقراطيات(9).
وعلى إثر هذا التراجع المزري والمخطط له في آن واحد، أعلن الجنرال كاترو بتاريخ 30/10/1943 أنه سيسمح للمندوبيات المالية باستئناف نشاطها لكنه لم يفرج عن السيدين عباس وسائح إلا في يوم 02/12/1943.
هكذا، جعل كاترو قرار الإرجاع مربوطاً بإعلان المندوبين عن توبتهم والتزامهم بعدم الخروج عن الصف ثانية، لكن الحقيقة لم تكن كذلك، فالمظاهرات الشعبية المشار إليها أعلاه مضافة إلى ريح التحرر التي بدأت تجتاح مختلف العالم المتخلف قد شكلت نوعاً من الضغط على لجنة التحرير الوطني التي أعلنت، بواسطة خطاب ألقاه ديغول في قسنطينة يوم 02/1943، أنها تمنح،حيناً،حقوق المواطنة الفرنسية كاملة لعدة عشرات الآلاف من المسلمين الفرنسيين في الجزائر.. وفي نفس الوقت سوف ترتفع نسبة المسلمين الفرنسيين في الجزائر داخل سائر الجمعيات التي تنظر في القضايا المحلية"(10)
وإذا كان عدد من المنتخبين وممن يسمون بالنخبة قد ابتهج لخطاب قسنطينة واعتبره بداية طيبة في طريق الإصلاحات المطلوبة والمنتظرة منذ عقود بأكملها، فإن فرحات عباس والعلماء والمصاليين قد رأوا في ذلك طبعة جديدة لمشروع فيولات، وراحوا يؤكدون من جديد أن الحل الوحيد يكمن فقط في إعادة إقامة الدولة الجزائرية المستقلة وما يصحب ذلك من برلمان ومواطنة وألوان وطنية.
وتطبيقاً لما جاء في خطاب الجنرال ديغول، أصدرت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني يوم 14/12/ 1943(11) قراراً، كلفت بموجبه المندوب السامي الجنرال كاترو بتشكيل لجنة تسند لها مهمة وضع برنامج للإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لفائدة المسلمين الفرنسيين. ولقد تكونت اللجنة المذكورة بالفعل(12) وشرعت في عملها يوم 21/ 12/ 1943 ولم تتوقف عن سماع آراء الزعماء السياسيين والأعيان الجزائريين إلا يوم 08/ 07/ 1944، ثم جمعت كل محاضرها في مجلدين يمكن الرجوع إليهما اليوم في أرشيف آكس آن بروفانس Aix En Provence. إن المطلع على ما تضمنته تلك المحاضر يستطيع تصنيفها إلى ثلاثة أنواع هي:
1- إدلاءات الأوربيين الذين كانوا جميعهم رافضين لتوحيد هيئة المنتخبين لكنهم غير متفقين فيما يخص منح المواطنة الفرنسية للمسلمين الجزائريين. ومن بين أولئك الأوربيين تجدر الإشارة إلى رئيس فيدرالية رؤساء البلديات السيد عبو (Abbo) وعامل عمالة وهران السيد باتيستيني Battistini ورئيس بلدية تلم السيد فالور (Valleur) وقد أشار كلهم على اللجنة بعدم تجاوز خمسين ألف مواطن جديد، ويبدو أن أمرية الجنرال ديغول قد أخذت ذلك في الاعتبار.
2- إدلاءات الجزائريين الموالين لفرنسا والمدافعين عن حق المواطنة الفرنسية دون التخلي عن الإطار الإسلامي للأحوال الشخصية. ومن بين هؤلاء، تجدر الإشارة إلى السادة: شيخ العرب ابن قانة والشيخ ابن تكوك شيخ الزاوية السنوسية، والشيخ الساحلي أمقران الناطق باسم أعيان منطقة القبائل والآغا سليمان رئيس الفرع العربي للمندوبييات المالية، وكذلك الدكاترة عبد السلام طالب وابن جلول وخضري وعبد النور طمزالي وروني فضيل والشيخ الطيب العقبي وعمار أوزقان الأمين الوطني للحزب الشيوعي الجزائري.
3- إدلاءات الوطنيين وقد جاءت ضمن ثلاث وثائق هي حسب ترتيبها الزمني:
أ- تصريح السيدين فرحات عباس وعبد القادر سائح جاء في هذا التصريح أن مبادرة اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني، المعلن عنها بواسطة رئيسها الجنرال ديغول، ليست إلا إعادة لمشروع فيولات الذي أدت معارضته، في الجزائر وفي فرنسا، إلى إقصائه نهائياً، مع العلم أن الأوضاع اليوم قد تغيرت عما كانت عليه سنة 1937. فالأمر لم يعد يتعلق بتوسيع امتيازات طبقة إلى واحدة أو أكثر من فئات الأهالي، وإنما أصبح الهدف هو إلغاء تلك الامتيازات وهدم كل دكتاتورية في الجزائر. لأجل ذلك، فإن الإصلاحات التي يمكن أن تكون في مستوى فرنسا الجديدة يجب أن تتم في إطار المبدأين التاليين:
المبدأ الأول : إن الناس يولدون ويعيشون أحراراً وسواسية في الحقوق.
المبدأ الثاني : كل شعب حر في تقرير مصيره بنفسه.
وبعد التعرض من جديد إلى محتوى بيان الشعب الجزائري، أكد السيدان عباس وسائح أن الاستقلال الداخلي الذي ينبغي أن يحل محل النظام الاستعماري المتوحش يشكل قاعدة التجديد بالنسبة لفرنسا وللجزائر، وعليه يتوقف ميلاد نظام جديد.
فالاستقلال الداخلي يضبط العلاقات بين فرنسا والجزائر منطقياً وعقلانياً بحيث تكون علاقات شعب بشعب.
إنه يترك لفرنسا حق النظر في عملية تطوير الجزائر.
إنه يضع حداً للغموض وللتحليلات التي يلجأ إليها النظام الاستعماري لتأييد سيطرته.
إنه يقضي على مصادر الخلاف حول ممارسة المواطنة في الجزائر واحترام العادات والديانة الإسلامية، كما أنه يحول دون مخاطر مغامرة مثل تلك التي يعيشها يهود الجزائر بعد إلغاء مرسوم كريميو(13) Dècret Crèmieux الذي يحترم مبدأ اللامركزية الذي هو مصدر حياة أو موت بالنسبة للجزائر ولغيرها من البلدان، وذلك لأن الاستقلال الداخلي يبقي المجالس الجزائرية ويجعلها ديمقراطية، ويحول الولاية العامة إلى حكومة جزائرية.
إنه يعطي إمكانية تكوين فدرالية شمال إفريقيا مع تونس والمغرب، تحت إشراف فرنسا.
إنه يرضي كل السكان المسلمين الذين عندما يستشارون بواسطة الاستفتاء، سوف يوافقون عليه بالإجماع.
ب- شهادة الشيخ البشير الإبراهيمي.
في اليوم الثالث من شهر كانون الثاني سنة 1944 وهو نفس اليوم الذي سلم فيه عباس وسائح تصريحهما تقدم الشيخ البشير الإبراهيمي إلى أعضاء اللجنة وعبر لهم، أصالة عن نفسه ونيابة عن العلماء الجزائريين، عن رفض مشروع الإصلاح المقدم من قبل اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني والذي هو فقط محاولة لإحياء مشروع فيولات الذي كانت جمعية العلماء قد وافقت عليه، في حينه، لكن "من الناحية التكتيكية وللتمكن من الوصول إلى ما هو أفضل". وقبل الاستئذان بالخروج سلم الشيخ البشير الإبراهيمي لمكتب اللجنة مذكرة مطولة عالج، من خلالها، نقاطاً ثلاثاً هي صلب برنامج عمل الجمعية التي يرأسها وجاء يتحدث باسمها.
ولقد حرص الشيخ، في مقدمة المذكرة، على تأكيد دور الجمعية الإصلاحية الديني مبيناً أن هذا الدور لن يكتمل إلا في جو من إصلاح التعليم والإصلاح السياسي لأجل ذلك، وعلى الرغم من كون العلماء لم يسطروا برنامجاً سياسياً خاصاً بهم، فإنهم لم يخفوا قناعاتهم بخصائص الشعب الجزائري الذي لا تربطه بفرنسا سوى مجموعة من المصالح. وهم إذ يعتبرون أن "الإصلاحات الإسلامية" كل لا يتجزأ وينبغي أن تشمل كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية، فإنهم يركزون في مرحلة أولى، على ضرورة الإسراع بإصلاح القضاء الإسلامي والمساجد والأوقاف والتعليم العربي.
فبالنسبة للقضاء الإسلامي، ترى مذكرة الشيخ الإبراهيمي أنه في وضع يرثى له من الناحيتين النظرية والعملية، وأن تصريحات الجنرال ديغول فيما يخص الإبقاء على الأحوال الشخصية لا معنى لها، لأن الموضوع أفرغ من محتواه الحقيقي ولم تترك الإدارة الاستعمارية للقاضي المسلم سوى النظر في مسألتي الزواج والطلاق اللتين يمكن للقضاء الاستعماري التدخل فيهما على مستوى الاستئناف.
ومن الناحية النظرية، فإن تكوين القضاة مدعاة للتأسف الشديد حيث لا يشتمل "على تعليم الشريعة الإسلامية التي هي أساس القضاء في الإسلام" وهو يفتقر إلى المنهجية السليمة التي من شأنها أن تجعل الطالب قادراً على تأدية الأغراض المسطورة له، وحائزاً على الكفاءة اللازمة والضرورية للقيام بوظيفة القاضي.
وعندما يحصل كل ذلك بواسطة تطوير برامج التعليم وحسن اختيار الأساتذة المقتدرين، فإن الشيخ البشير الإبراهيمي يرى من الضروري تشكيل هيأة يرجع إليها في اختيار القضاة وتعطى لها سلطة مراقبة أحكامهم.
وفيما يخص التعليم العربي الحر، فإن الشعب الجزائري ما فتئ يحتج على إجراءات الاضطهاد المسلطة على لغته التي تصله بدينه وتاريخه وثقافته، علماً بأن تعليمها في المدارس الحكومية يكاد يكون بدون معنى وتعليمها في المدارس الحرة معرض للقمع الإداري. فعلى هذا الأساس يجب أن تخصص الإصلاحات مكانة مرموقة للتعليم العربي بحيث "تعطى الحرية المطلقة للشعب الجزائري المسلم لكي يعلم أبناءه لغة الدين والثقافة.. علماً بأن الحكومة الفرنسية لن تتحمل أي مصروف في الموضوع، لأن المسلمين مستعدون للتبرع بالأموال اللازمة لذلك"(14). وعن المساجد وأوقافها والعاملين بها، فإن مذكرة الشيخ البشير الإبراهيمي تتوقف عند ممارسات الولاية العامة التي تحتكر تسيير المساجد وتعيين أئمتها ومؤذنيها والإشراف المطلق على أوقافها والتي تسعى بجميع الوسائل لمنع تطبيق القانون الخاص بفصل الدين عن الحكومة طبقاً لمرسوم السابع من سبتمبر سنة سبع وتسعمائة وألف، ليس حباً في الإسلام وعملاً على رعايته كما تزعم الإدارة الاستعمارية، ولكن عملاً على منع المسجد من تأدية الدور الحقيقي الذي وجد من أجله وتهميش الإسلام بعد تزييفه وتحريفه وإغراقه في متاهات الخرافة والشعوذة.
من هذا المنطلق، فإن الإصلاحات يجب أن تمكن الشعب المسلم في الجزائر من تولي تسيير مساجده وأوقافه بنفسه "لأنه هو الوحيد المؤهل لذلك، ولأن ذلك يتوقف فقط على السماح له بتشكيل لجنة دينية من الأشخاص الذين يثق في عملهم وسلوكهم تتولى الإشراف على الممتلكات وكذلك اختيار الأئمة والمؤذنين"(15).
إن ممثلي جميع اللجان الدينية التي تكون قد تشكلت بعيداً عن نفوذ الإدارة الاستعمارية يجتمعون في العاصمة، دورياً، تحت إشراف هيأة عليا يختارونها بأنفسهم، للنظر في جميع القضايا الدينية وبحث كل ما يستعسر من شؤونها مع ممثلي الحكومة الفرنسية.
وفيما يتعلق بالإصلاحات السياسية أشارت المذكرة إلى أن "الإعلان الرسمي عن منح المواطنة الفرنسية لبضع عشرات الآلاف من المسلمين الجزائريين دون الاستشارة المسبقة للشعب المعني مباشرة، قد أعاد إلى الأذهان ذكرى مشروع فيولات الذي ذهب ادراج الرياح لأنه لم يكن صالحاً.. إن الشعب الجزائري المسلم يعتبر أن مثل هذا المسعى يقود إلى الاندماج الذي يرفضه كما يرفض بشدة استبدال هويته وشخصيته الإسلامية"(16). وإذا كانت فرنسا ترغب، فعلاً، في إجراء الإصلاحات السياسية فإن عليها أن تأخذ في الاعتبار مصلحة الجزائريين الأولى التي تكمن في العمل على إبعاد الشبح المخيف المتمثل في استعمارهم من طرف جنس آخر واستقلالهم من طرف فئة من الأجانب. وتسهيلاً للوصول إلى هذه النتائج التي لا بد منها لنجاح الإصلاحات الجديدة، يعدد الشيخ الإبراهيمي ما يلي:
- إنشاء المواطنة الجزائرية التي تستفيد منها مختلف عناصر سكان هذا البلد بدون تمييز عرقي أو ديني والتي تنشأ معها نفس الحقوق للجميع ونفس الواجبات عليهم.
- استبدال الميكنزمات الاستعمارية بنظام حكومي، أي بحكومة جزائرية تكون مسؤولة أمام البرلمان الجزائري.
- السماح لجميع الجزائريين بالارتقاء إلى جميع المناصب الوظيفية بدون شرط آخر غير الكفاءة المهنية اللازمة لذلك.
- اعتبار اللغة العربية رسمية على قدم المساواة مع اللغة الفرنسية.
- حرية التدين، وحرية كل مجموعة دينية في الإشراف على أوقافها ومؤسساتها الدينية
- إخضاع الأحوال الشخصية الإسلامية لقضاء إسلامي محض.
ج-تصريح الحاج مصالي كتبه في الشلالة يوم 7/1/1944 وسلمه إلى اللجنة بعد ذلك بأسبوع.
لقد كان خطاب الجنرال ديغول في نظر الحاج مصالي مجرد تخريجة جديدة لمشروع فيولات الذي حاربه حزب الشعب الجزائري بكل قواه سنة 1937 والذي لم يجد أنصاره من الجزائريين إلا بسبب اليأس من الحصول على شيء آخر.
لكن ست سنوات من خبرة الاستعمار قد غيرت الأوضاع ومكنت من ظهور تطور ملحوظ على الساحة السياسية في الجزائر، أما فيما يخصنا، فإن موقفنا لم يتبدل:

لقد عارضنا مشروع فيولات ونحن نعارض مشروع 1943 للأسباب التالية:
- لأنه مناف للديمقراطية إذ يحدث فئة من ذوي الامتيازات ويبقي الأغلبية الساحقة خاضعة للسياسة الاستعمارية.
- لأنه يتناقض مع طموحات الشعب الجزائري المسلم الذي هو وَفيٌّ للغته ودينه وماضيه التاريخي.
- لأن سياسة الاندماج قد فشلت وأصبح من الضروري استبدالها بسياسة تحررية لحل المشكلة الجزائرية.
- لأن المسلمين الجزائريين لم يعودوا يقبلون المعاملة، في بلدهم، كأناس دون الأقليات التي تعيش معهم وهي تتمتع بجميع الامتيازات.
- لأن الجزائري المسلم يريد بإلحاح المواطنة الجزائرية التي تضمن له احترام لغته ودينه وحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية الضرورية لتقدمه.
- لأن الإنسان الجزائري يرى أن الديمقراطية تكمن في حريات الإنسان وفي حرية الشعوب في تقرير مصيرها.
- لأنه لا يمكن الاستمرار بواسطة نظام استعماري، في حرمان ثمانية ملايين عربي من تسيير بلادهم وترك ذلك لأقلية تتحكم في كل صغيرة وكبيرة.
ولتجاوز هذه الأوضاع اللاطبيعية، قال السيد الحاج مصالي أنه يطالب بممارسة الديمقراطية في جميع المجالس الجزائرية وبتحويل المندوبيات المالية إلى برلمان جزائري ينتخب بواسطة الإقتراع العام من طرف كافة الجزائريين بدون أي تمييز عرقي أو ديني.
وقبل الانتهاء من عرضه لفت السيد مصالي انتباه أعضاء اللجنة إلى أمرين اثنين عبر عنهما كالآتي:
1- أن الأفكار السياسية التي أوردتها أمامكم ليست جديدة، بل دافعت عنها في فرنسا وفي الجزائر أمام المحاكم التي كان لي شرف المثول أمامها من أجل نفس هذه الآراء. معنى ذلك، أيها السادة، أنني لم أنتظر استسلام فرنسا سنة 1940 لإبداء عواطفي تجاه المشكل الجزائري.
2- أرجو من اللجنة أن تقدم للحكومة مشروع عفو عام على جميع المعتقلين السياسيين سواء كانوا محبوسين أو في الإقامة الجبرية، لأن التقاليد الجمهورية، في فرنسا، تقتضي أن يسبق كل إنجاز تحرير الذين سجنوا من أجله.
لقد ظلت اللجنة تستمع إلى أعيان الجزائريين وشخصياتهم طيلة الفترة الممتدة ما بين 21/12/1943 و 8/7/1944، لكن اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني لم تعر كثير اهتمام لمحاضرها، بل إن الجنرال ديغول لم يحاول حتى تطوير خطابه الذي كان في أساس تشكيل اللجنة المذكورة، وبدلاً من أن يأخذ في الاعتبار التوجه الوطني الجديد الذي أجمع قادته على ضرورة تجاوز الماضي العقيم لفتح آفاق المستقبل الواعد، فإنه لم يجد غير نص أمرية أصدرها على عجل بتاريخ السابع مارس سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف دون أن يجهد نفسه لإزالة ما تميز به من غموض وتناقض.
فالمادة الأولى من تلك الأمرية تنص صراحة على أن المسلمين وغير المسلمين في الجزائر فرنسيون، يتمتعون بنفس الحقوق ويخضعون لنفس الواجبات. لكن المادة الثالثة تؤكد أن المواطنة الفرنسية لا تعطى إلا للمسلمين الذكور الذين يتجاوز سنهم واحدة وعشرين حجة والذين ينتمون إلى مجموعة من الفئات الاجتماعية التي تتوفر فيها شروط ذكر مدير الشؤون الأهلية، بعد الإحصاء، أنها تجعل المستفيدين من تلك المواطنة لا يزيد عددهم عن 65.285 شخص.
أما المادة الرابعة، فإنها تشير إلى بقاء الهيأتين الانتخابيتين وتؤكد تمثيل الجزائريين في المجالس العامة والمندوبيات المالية بنسبة خمسي (2/5) أعضائها.
وتنص المادة السادسة على أن سكان وادي ميزاب وسكان سائر المناطق الصحراوية يخضعون لقانون خاص.
إن هذه الأمرية، زيادة على التناقض الحاصل بين موادها، تتناقض من حيث مضمونها مع خطاب الموقع عليها الذي ألقاه بمناسبة انعقاد ندوة برازفيل في الفترة ما بين 30/1/ و 8/2/1944 والذي جاء فيه على الخصوص: "إنه لن يكون هناك تقدم بمعنى الكلمة إذا كان أبناء البلد لا يستفيدون منه معنوياً ومادياً"(17) وعلى الرغم من ذلك فإنها صدرت باسم اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني وحظيت بمساندة المجلس الاستشاري وجميع الأحزاب المشاركة في المقاومة بما في ذلك الحزب الشيوعي الفرنسي الذي صرح ممثله قائلاً: "إن الجمهورية الفرنسية، الميتروبول وما وراء البحار، واحدة ولا تتجزأ"(18).
وإذا كانت وحدة الفرنسيين قد تجلت في تصميمهم على منع شعوب المستعمرات من ممارسة حقها في تقرير مصيرها بنفسها، متجاوزين، في ذلك، كل القناعات الفكرية والتوجهات الأيديولوجية، وضاربين عرض الحائط سائر المثل والمبادئ والشعارات التي كانت، يومها، تشكل أساس الخطاب السياسي في فرنسا وفي العالم أجمع، فإن الطاقات الوطنية الجزائرية، أيضاً، قد وجدت طريقها إلى التوحد حول برنامج سياسي أدنى ألقت به إلى الشارع في إطار تنظيم اتفقت على تسميته "أحباب البيان والحرية".
إن السيد فرحات عباس هو الذي صاغ القانون الأساسي للتنظيم الجديد بعد أن أخذ موافقة قطبي الحركة الوطنية في ذلك الوقت: السيد الحاج مصالي والشيخ محمد البشير الإبراهيمي. وفي اليوم الرابع من شهر افريل سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف، قدم الوثيقة إلى المصالح المختصة لدى عمالة قسنطينة من أجل الحصول على الترخيص الرسمي الضروري لانطلاق النشاط الميداني في كافة أنحاء التراب الوطني.
إن "أحباب البيان والحرية" تجمع يهدف إلى التعريف ببيان الشعب الجزائري والدفاع عنه أمام الرأي العام الجزائري والفرنسي، كما أنه يرمي إلى المطالبة بحرية التعبير لجميع الجزائريين. ولقد تفنن السيد فرحان عباس أثناء صياغة القانون الأساسي، في اختيار الكلمات والتعابير التي لا تثير حساسية السلطات الفرنسية. وعلى هذا الأساس فإن التجمع الجديد لن يستعمل سوى سلاح القول والكتابة لمحاربة الاستعمار وللتصدي إلى عنف القوات الإمبريالية واعتداءاتها في افريقيا وآسيا ضد الشعوب الضعيفة.
وبالنسبة للعمل داخل الجزائر، فإن التجمع قد حصر مجالات نشاطه في مساعدة ضحايا قوانين الاستثناء والقمع الاستعماري، وتعميم فكرة الأمة الجزائرية وتحبيذ إقامة جمهورية مستقلة ذاتياً ومتحدة مع الجمهورية الفرنسية المتجددة والمناهضة للاستعمار والإمبريالية.
ويرى التجمع أن هذه الأهداف يمكن تحقيقها بواسطة المحاضرات والندوات في جميع الأوساط والأوساط الفرنسية على وجه الخصوص بغرض محاربة الامتيازات التي تستحوذ عليها الطبقات المسيطرة، والدعوة إلى تحقيق المساواة بين الناس وتمكين الشعب الجزائري من حقه في ممارسة الحياة الوطنية مع التذكير بتاريخه العريق وإسهاماته في إثراء الفكر الإنساني وتضحياته في سبيل تحرير فرنسا ومن أجل انتصار الشعوب الأوروبية وقضايا الديمقراطية(19).
وعلى الرغم من أن القانون الأساسي لأحباب البيان والحرية قد اكتفى فقط بملامسة الأفكار الرئيسية التي تضمنها البيان الذي كان في أساس التجمع، فإن هذا الأخير قد عرف إقبالاً منقطع النظير من طرف مختلف الفئات الاجتماعية الجزائرية التي شعرت، لأول مرة، أن ثمة حركة وطنية قادرة على إخراج البلاد من حالة الاستعمار والتبعية. ومما لا شك فيه أن للإقبال المذكور دوافع متعددة لكننا نعتقد أن أهمها ما يلي:
1-تمكن أكثر الزعماء شهرة في أوساط الجماهير الشعبية من الالتقاء حول الخطوط العريضة لبرنامج واسع جاء، رغم بساطته، معبراً تعبيراً صادقاً عن طموحات أغلبية أفراد الشعب الجزائري.
وبالفعل فإن قراءة فاحصة للبيان وملحقة تقودنا، حتماً، إلى التعرف على مختلف التنازلات التي قدمها كل واحد من الأطراف الرئيسية الثلاثة على الأقل. فالسيد فرحات عباس وافق على أن تقبر إلى الأبد قناعاته الخاصة بإمكانية الحصول على المساواة التي يتوقف عليها الارتقاء إلى المواطنة الفرنسية التي كان يعتقد أنها تفتح أبواب الرقي والتقدم لأبناء جلدته ممن كانوا يسمون بالأهالي.
وأكثر من ذلك، أصبح يؤمن بضرورة إقامة الجمهورية الجزائرية والبرلمان الجزائري الذي يتم انتخابه بواسطة الاقتراع العام المفتوح لجميع سكان الجزائر بدون أدنى تمييز في أي مجال كان، أما السيد الحاج مصالي فإنه أغمض عينيه عن أنجح وسيلة تمكن الجزائر من استرجاع استقلالها وهي: العنف الثوري كما أنه وافق السيد عباس على العمل من أجل جمهورية جزائرية متحدة مع فرنسا(20).
وأما الشيخ البشير الإبراهيمي فإنه أعلن صراحة أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مستعدة لخوض المعارك السياسية على أساس ما ورد في بيان الشعب الجزائري وملحقه وذلك بالإضافة إلى الدور الثقافي والتعليمي والديني المذكور في قانونها الأساسي الصادر بتاريخ الخامس مايو(أيار) سنة واحدة وثلاثين وتسعمائة وألف.
2-نشاط مناضلي حزب الشعب المحلول رسمياً والمنتشر فعلياً عبر مختلف أنحاء الوطن. لقد استطاع المناضلون توظيف خبرتهم الواسعة في تعميم الأفكار الجديدة وجعلها في متناول الجماهير الشعبية الواسعة.
3-إزالة جميع الحواجز البيروقراطية التي من شأنها الحد من رغبة المواطنين وجعلهم يترددون أو يحجمون عن الالتحاق بالصفوف. وبالفعل، فإن الانضمام إلى التجمع لم يكن مشروطاً بتقديم أي ملف ما عدا تصريح على ورق عادي يعبر فيه صاحبه البالغ من العمر أكثر من 18 سنة، عن إرادته في الالتحاق بأحباب البيان والحرية.
4-إنشاء لجان محلية للتجمع في سائر أنحاء الوطن والعمل على ربطها بسرعة بلجان العمالات التابعة مباشرة إلى اللجنة المركزية(21).
إن هذه الدوافع مجتمعة قد جعلت تجمع أحباب البيان والحرية، يتحول، بسرعة فائقة، إلى أكبر تجمع وطني في الجزائر مقبول من جميع أصناف الشعب ومشتمل في صفوفه على أكثر من نصف مليون منخرط بعد سنة واحد من ميلاده فقط(22).
وعلى الرغم من أن تجمع أحباب البيان والحرية لا يذكر إلا مقروناً باسم السيد فرحات عباس والدكتور سعدان بدرجة أقل، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وحزب الشعب الجزائري قد شكلا منذ اللحظات الأولى، قلبه النابض، وبدونهما ما كان يمكن له أن يتجذر بتلك السرعة، في أوساط جماهير الشعب الجزائري.
فقادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد تحركوا مع حلول شهر أفريل 1944، في جميع اتجاهات الوطن يدعون الناس إلى الالتفاف حول المولود الجديد مركزين على ضرورة التمسك بالإسلام وبلغة القرآن ومؤكدين على أن الوقت قد حان لتوحيد الجهد الوطني في سبيل تقويض أركان الاستعمار. وكانت تلك الجولات مناسبة لتحريض المواطنين على الالتزام بمبادئ الإسلام، وعلى التبرع بما يستطيعون من أموال لبناء المدارس الحرة وللمساعدة على توفير الشروط اللازمة لنشر التربية الإسلامية الصحيحة. ولقد كانت لهذا المسعى آثاره الإيجابية يمكن استشفاف بعضها من خلال ارتفاع عدد المصلين وظهور جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتشار نشيد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس: "الشعب الجزائري" الذي أصبح على ألسنة الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب.
وعبأ حزب الشعب الجزائري المحظور كل طاقاته النضالية لهيكلة التجمع الجديد ولإعطائه نفسا وطنياً قادراً على سد الطريق في وجه السلطات الاستعمارية التي صارت تسعى بكل الوسائل لاسترجاع ثقة من كانوا يسمون بالمعتدلين ولفصل العلماء عن الحركة المصالية.
ومن جهة أخرى، اتخذت قيادة الحزب من أحباب البيان والحرية غطاء للقيام بنشاطها السري في اتجاه الشباب الجزائري المتعلم حيث تمكنت من تأسيس جمعية التلاميذ المسلمين في الثانوي(23) ورابطة الطلبة المسلمين الجزائريين في الجامعة(24) ومن تعميم الشعارات والمبادئ الثورية في سائر الأوساط الشعبية.
وعندما يرجع الدارس، اليوم، إلى نشرية اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني في أعدادها الصادرة ما بين شهري افريل وديسمبر سنة 1944 يدرك مدى فعالية التنظيم الذي كان عليه حزب الشعب الجزائري المحلول الذي تمكن، في الفترة المشار إليها، من تحويل حيطان الجزائر إلى لافتات عملاقة يقرأ عليها الصغير والكبير: "حرروا مصالي والمعتقلين السياسيين" "الجزائر أمة حرة" "ليس في الدنيا ما يمكن أن يحول الإنسان العربي إلى إنسان فرنسي" عاش بيان الشعب الجزائري "كلنا فداء الجزائر" وفي النشرية الإعلامية التي أصدرتها الولاية العامة في شهر افريل سنة 1944 يجد القارئ إشارات كثيرة إلى وجود "قوات الداخل العربية" التي هي تنظيم سري أوجده الحزب لإشعال فتيل الثورة عندما يحين أوانها وعندما ترفض السلطات الاستعمارية تمكين الشعب الجزائري من ممارسة حقه في تقرير مصيره.
وفي نشرتي اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني الصادرتين في شهر أكتوبر ونوفمبر سنة 1944 تركيز على اشتراك حزب الشعب الجزائري مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تنظيم حملة واسعة النطاق لمقاطعة دور سينما الأوربيين ومقاهيهم ومتاجرهم ولمحاربة الخمارات بجميع أنواعها.
ولكي يحقق حزب الشعب الجزائري أهدافه البعيدة المتمثلة في الاستعداد للمعركة الكبرى من أجل استرجاع السيادة الوطنية، أسس جريدتين إحداهما بالفرنسية وهي: L,Action Algèrienne" والثانية باللغة العربية وهي: الجزائر الحرة "وقد ظلتا تصدران إلى ما بعد حركة مايو 1945 الثورية، دون أن تتمكن السلطات الاستعمارية لا من العثور على مكان طباعتهما ولا من التعرف على أعضاء هيأة تحريرهما وذلك رغم كل ما استعملته من وسائل وما جندته من إمكانيات(25).
ولضمان استمرارية التوجه الوطني لأحباب البيان والحرية، يذكر السيد محمد السعيد معزوزي(26) إن الحاج مصالي أصدر تعليمات صارمة إلى مناضلي القواعد الحزبية في كل أنحاء البلاد كي يشغلوا منصبي المالية والسكرتارية في جميع الفروع المحلية. وإضافة إلى ذلك تجدر الإشارة إلى أن مكتب اتحادية عمالة قسنطينة تشكل كله من مسؤولين قياديين في حزب الشعب الجزائري المحلول (هؤلاء المسؤولون هم: الشاذلي مكي، مسعود بوقدوم وجمال دردور).
أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فإنها هي الأخرى، قد استعملت غطاء أحباب البيان لتقييم مسيرتها وبلورة أفكارها وآرائها من خلال مذكرة مفصلة وجهتها بتاريخ 15/8/1944 إلى السلطات الفرنسية.
إن جمعية العلماء، تقول المذكرة، ترى أن تسيير المساجد وسائر المؤسسات الإسلامية يجب أن يكون من اختصاص الجماعة الإسلامية، وأن الأوقاف ينبغي أن تخرج من قبضة الإدارة الاستعمارية حتى يتسنى للمشرفين عليها أن ينفقوا مدخولاتها في سد الحاجات الدينية والاجتماعية بعيداً عن كل تدخل أجنبي مهما كان نوعه- والشعب المسلم في الجزائر أولى من غيره باختيار أئمته ودعاته وأساتذته وقضاته وبما أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مسؤولة على رسالتها أمام اللّه وأمام كافة أفراد الشعب، فإنها ترفع إلى السلطات الفرنسية، فيما يلي، موقفها من الموضوعات الحيوية الثلاثة التالية:
1-تطبيق مبدأ فصل الدين الإسلامي عن الإدارة.
في مرحلة الاستعمار الأولى قامت الحكومة الفرنسية باتخاذ عدد من الإجراءات والتدابير استحوذت، بموجبها، على المساجد والأوقاف التابعة لها، موهمة الناس بأنها تسعى إلى توفير الشروط اللازمة ليكون الإسلام محترماً طبقاً لمعاهدة الاستسلام، غير أن التاريخ بين عكس ذلك وأثبت أن الإدارة الفرنسية لم تترك أي مجال لتنفس المسلمين وحينما جاءت الجمهورية الثالثة ورفعت شعار فصل الدين عن الدولة، فإن المؤسسات الإسلامية لم تستفد من ذلك، وحتى عندما صدر مرسوم 27 سبتمبر 1907، فإن الإدارة الاستعمارية لم ترفع يدها عن تلك المؤسسات بل إنها صارت تتفنن في إذلال المسلمين وإهانتهم إلى درجة أنها لم تعد تستحي من تشكيل الجمعيات الدينية وتعيين المشرفين عليها من بين المسيحيين والأميين. وعلى إثر الحرب الإمبريالية الأولى أصبحت المناصب المالية في المساجد خاصة. تسند إلى قدماء المحاربين بقطع النظر عن تكوينهم وانتماءاتهم ثم جاء بيان الجنرال كاترو المؤرخ بيوم 4/8/1944 والمبشر بتطبيق المرسوم المذكور أعلاه، فاستبشر المسلمون خيراً لكنهم سرعان ما خاب ظنهم عندما أقدمت الإدارة في نفس الإسبوع على تعيين مفتي الجزائر بالطريقة القديمة ووفقاً للمعايير الاستعمارية المعهودة.
إن التمعن في مختلف هذه المراحل هو الذي جعل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقترح على الحكومة الفرنسية برنامج عمل من شأن تطبيقه أن يقود إلى تحرير الإسلام وتمكين المسلمين، في الجزائر، من ممارسة دينهم كما ينبغي ويتكون البرنامج المذكور من المراحل الأساسية الآتية:
أ-يؤسس في الجزائر العاصمة مجلس إسلامي أعلى مؤقت يكون مكوناً من عناصر ثلاثة هي:
- بعض العلماء الأحرار المعروفين في الأوساط الإسلامية.
- بعض الأعيان المسلمين المعروفين بتدينهم وبعدم تقلدهم لأية وظيفة رسمية.
- بعض الموظفين المسلمين شريطة ألا يتجاوز عددهم نصف أعضاء المجلس.
ب-يتولى المجلس المذكور تكوين الجمعيات الدينية عبر مختلف أنحاء البلاد على أساس المقدرة والكفاءة وحيث تكون هذه الجمعيات موجودة مع توفر المعايير المطلوبة، فإنه يرسمها.
ج-بعد تنصيب مكاتب الجمعيات ينظم مؤتمر يحضره، زيادة على أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى المؤقت، رؤساء الجمعيات الدينية وبعض الأعضاء البارزين.
د- تكون قرارات المؤتمر ملزمة وتظل كذلك إلى أن يفسخها مؤتمر لاحق، علماً بأن المؤتمر ينعقد سنوياً طبقاً لقانونه الأساسي ونظامه الداخلي.
هـ- مع انعقاد المؤتمر الأول، يحل المجلس الإسلامي الأعلى المؤقت ويترك مكانه للمؤتمرين الذين ينتخبون مجلساً إسلامياً أعلى تسند له مهمة تطبيق القرارات المصادق عليها.
2-تعليم اللغة العربية، المدارس والمعلمون الأحرار.
قبل الحرب الإمبريالية الأولى، كانت الإدارة الاستعمارية تبدي نوعاً من التسامح إزاء وجود الكتاتيب القرآنية لأن التعليم فيها لا يؤثر على المحيط، وعندما شرع العلماء في تعليم اللغة العربية التي لا بد منها لفهم الدين، وتأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لتقود عملية الإصلاح ولتطور التعليم المذكور، فإن السلطات الفرنسية قد قابلت ذلك باتخاذ مجموعة من الإجراءات والقوانين التعسفية الرامية كلها إلى إجهاض الحركة الإصلاحية وتهميش لغة القرآن باعتبارها وسيلة أساسية للتبحر في الدين ولإحداث النهضة الفكرية التي تسبق كل ثورة. ومن جملة القوانين المزرية ذلك الذي يجعل اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، الأمر الذي ترتب عليه ملاحقة معلميها وتغريمهم وحبسهم بعد غلق مدارسها. لأجل ذلك، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تطالب، اليوم، بما يلي:
أ-إلغاء جميع الإجراءات والتدابير القمعية إدارية كانت أم وزارية.
ب-إصدار نص يضمن حرية تعليم اللغة العربية في المدارس، ويكون ذلك على النحو التالي:
- يحق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولسائر الجمعيات الدينية إنشاء المدارس حيث يكون لهم ذلك ممكناً ودون استرخاص الإدارة. يكفي فقط أن يقدم طلب يكون متضمناً اسم المدرسة وعنوانها.
- يتضمن النص المطلوب إصداره ضمانات تكفل للمدارس الحرة حماية من تعسف الإدارة وللمعلمين الأحرار عدم الملاحقة والمتابعات القضائية الظالمة.
- لا يكون للإدارة الاستعمارية حق لا في اختيار المعلمين ولا في وضع برامج التعليم أو تعيين الكتاب المدرسي.
- تخضع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وسائر الجمعيات الثقافية الأخرى إلى ما تتطلبه الرقابة الصحية وتقبل في مدارسها التفتيش الرسمي الذي يقوم به موظفو التعليم العمومي.
3-القضاء الإسلامي
ترى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن القضاء في الجزائر يجب أن يكون صادراً عن الكتاب والسنة. وحيث أن السلطات الفرنسية تمكنت على مر السنين من تهميش القضاء الإسلامي، وحيث أن أمر إعادة تأهيل هذا الأخير لن يكون إلا تدريجياً، فإن الجمعية تقترح الإجراءات التالية:
أ-إعادة النظر في برنامج تكوين القضاة بحيث تعطى مكانة واسعة للغة العربية وللشريعة الإسلامية وعلم النفس وتاريخ القضاء في الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يتحتم فتح مؤسسات تكوين القضاة إلى المعلمين الأحرار خريجي الزيتونة وغيرها من الجامعات الإسلامية وألا يكون هناك معيار آخر في الاختيار غير مقياس الكفاءة والمقدرة.
ب-إنشاء مجلس أعلى للقضاء يكون مشكلاً فقط من القضاة وتكون مهمته تعيين القضاة ومراقبتهم، ويكون مستقلاً عن أجهزة القضاء الفرنسي.
ج-إنشاء محاكم الاستئناف الإسلامية بحيث لا يؤيد ولا يلغى الحكم الصادر عن القاضي المسلم إلا من طرف قضاة مسلمين.
وبالإضافة إلى هذه الموضوعات الرئيسية الثلاثة، تلفت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين انتباه الحكومة الفرنسية إلى ضرورة تسهيل مهمة الدعاة وعدم مضايقتهم أثناء تأديتهم لمهمة الوعظ والإرشاد عبر مختلف أنحاء البلاد، وإلى رفع الحصار المضروب على النوادي التي هي، في واقع الأمر، مؤسسات مكملة للمدرسة وللمسجد. وفي هذا الإطار، فإن الجمعية تطالب بإلغاء المرسوم الصادر بتاريخ الثامن من مارس(آذار) سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة وألف.
لكن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تكتف بالمواقف المكتوبة للتعبير عن التزامها بما ورد في البيان وملحقه بل إن دعاتها كانوا، حيثما يحلون، يرفعون نفس الشعارات ويؤكدون للناس أن الالتحاق بأحباب البيان والحربة "واجب كل مسلم" حتى يشرق فجر الخلاص من ربقة الاستعمار، وكانت آذان الشعب صافية خاصة وأن الحاج مصالي وجه، هو الآخر، من منفاه، وبصياغة أخرى نفس الدعوة لتعزيز صفوف المولود الوطني الجديد. واستمعت جحافل مناضلي حزب الشعب لنداء الزعيم وتعانق لأول مرة، في تاريخ الجزائر، تيار العلماء وتيار المصاليين فتغير وجه الجزائر السياسي وفاض الشارع حماساً، كان على فرحات عباس أن يبذل جهوداً جبارة للتمكن من توظيفه لإقناع الحلفاء والسلطات الفرنسية بأن الجماهير الشعبية قد اختارت طريق الجمهورية الجزائرية المستقلة.
يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:34 am

وفي إطار هذا الجو الجديد الذي وجد امتداداً له وغذاء نافعاً في المبادئ الجديدة التي شاعت في مختلف أنحاء المعمورة والتي تدعو إلى تمكين سائر الشعوب من حقها في تقرير مصيرها بنفسها، عرف برنامج أحباب البيان والحرية تطوراً سريعاً وملحوظاً.
ففي فترة لا تتجاوز شهرين، تشكلت اتحادية عمالة قسنطينية وعقدت مؤتمرها الأول يوم 22/5/1944، وقد توجت أشغال هذا الأخير بلائحة كان التركيز فيها على المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم الحاج مصالي، وكذلك رفع الحصار المضروب على الشيخ البشير الإبراهيمي والتنديد بعملية الاندماج التي بشرت بها أمرية الجنرال ديغول لأنها تتناقض مع طموحات الجزائريين.
وفي انتظار الحلول النهائية المنتظرة للمشكل الجزائري بعد أن تضع الحرب أوزارها، طالب المؤتمرون بحرية الرأي وحرية الصحافة وحرية العبادة وحرية تعليم اللغة العربية، وبذلك يكونون قد تجاوزوا كثيراً فحوى بنود القانون الأساسي لأحباب البيان والحرية المشار إليه آنفاً.
لكن التحول الجذري في برنامج التجمع الجديد لم يظهر إلا من خلال اللوائح التي صادق عليها أول مؤتمر وطني جرت أشغاله بالجزائر العاصمة أيام 2-3-4 مارس(آذار) سنة 1945 أي بعد تاريخ التأسيس بأقل من عام.
لقد استعمل المؤتمرون أسلوباً مباشراً حيث جددوا قناعتهم بأن بيان الشعب الجزائري هو الوثيقة الوحيدة التي يمكن اعتمادها في كل عمل يكون الهدف منه تسوية المشكل الجزائري بكيفية جدية. أما تجاهلها بعد قبولها كما فعلت الحكومة الفرنسية، فإنه لا يقود سوى إلى التمادي في الخطأ وإلى محاولة فرض سياسة تتناقض كلية مع طموحات الشعب الجزائري.
ومن جهة ثانية، أكد المؤتمرون أن السياسة الواقعية الوحيدة هي التي تأخذ في الاعتبار الإرادة الشعبية وتنطلق من كون بناء مستقبل شعب لا يمكن أن يتم بدون استشارته. ولأجل ذلك، فإن المؤتمر طالب بأن تنجز حينا الإجراءات التالية:
1-استبدال الجمعيات الجزائرية ببرلمان منتخب.
2-استبدال الولاية العامة بحكومة جزائرية
3-الاعتراف بالألوان الوطنية
وإذا كانت حركة أحباب البيان والحرية ترى أن مستقبل الشعب الجزائري يكمن في استرجاع سيادته وإقامة جمهورية جزائرية مستقلة، فإن الحزب الشيوعي الجزائري على غرار نظيره الفرنسي، يرفض الاعتراف بوجود الشعب الجزائري الذي تزعم أدبياته أنه ما زال في طور التكوين، وهو، وفي تلك المرحلة، عبارة عن تلاحم عدد من العناصر أهمها: العربي والقبائلي والميزابي والشاوي واليهودي والأوربي الخ.. لأجل ذلك فإن القيادة قد أبدت، منذ اللحظات الأولى، مناهضتها للحركة الوطنية الفتية، ولتجسيد تلك المناهضة على أرض الواقع قررت تأسيس حركة منافسة أسمتها: "أحباب الديمقراطية".
إن بيان أحباب الديمقراطية يدعو الجزائريين إلى المساهمة في مجهود الحرب وفي بناء فرنسا الجديدة التي سوف يترتب على قيامها تخليص الجزائر من النظام الاستعماري وأعوانه المرتشين والرجعيين والقواد(32).
أما المطالب التي ينبغي أن يناضل المسلمون من أجل تحقيقها في القريب العاجل فتتعلق جميعها بتحقيق المساواة مع الأوربيين في مجالات التموين والكساء والتنظيم الإداري، وقد وضع لبلوغ هذه الأهداف برنامج من تسع نقاط هي:
1- تمكين كل الجزائريين من تموين عادي، أي 300 غ خبز يومياً أو 10كغ قمح شهرياً مع مضاعفة الكمية بالنسبة للعمال اليدويين أمثال عمال السكة الحديدية والمواني والفلاحة.
2- تطبيق الأجر الأدنى المحدد من طرف الولاية العامة، أي 10
..........................
...........................(*)
7-إلغاء البلديات المختلطة بواسطة إرجاع مراكز الدواوير البلدية التي علقت في عهد فيشي.
8-إعادة فتح جميع المدارس الموجودة وإيجاد أخرى جديدة في محلات تؤمم للضرورة وتزود بمعلم يقدم للأطفال مبادئ التعليم بالفرنسية والعربية في انتظار حل شامل لمليون من الأطفال غير المتمدرسين.
9-الاعتراف باللغة العربية لغة رسمية إلى جانب اللغة الفرنسية.
كان الشيوعيون، بهذه المطالب البسيطة، يعتقدون أنهم وجدوا أفضل الوسائل لتعبئة الجماهير الشعبية بقصد سد الطريق في وجه أحباب البيان والحرية، لكن التربة الجزائرية كانت ترفض الغرس الشيوعي ولذلك فإن الإقبال على حركة أحباب الديمقراطية كان معدوماً.
وأمام ما كان لأحباب البيان والحرية من شعبية ومن إبداء الجزائريين استعداداتهم المطلقة للانخراط فيها ولتبني برنامجها الذي ما فتئ يتطور إيجابياً، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعلى الرغم من المساعي المختلفة التي قامت بها السلطات الاستعمارية لدعم الشيوعيين من أجل تثبيت حركتهم الجديدة فإن هذه الأخيرة لم تعمر طويلاً وسرعان ما تركت المجال للحزب الشيوعي الجزائري فراح يستعمل كل الوسائل لإيقاف الزحف الوطني الذي وجد في محاربة الشيوعيين له قوة مكنته من التجذر بسهولة في أوساط سائر فئات الشعب الجزائري.
إن الحزب الشيوعي الجزائري في مصارعته لأحباب البيان والحرية كان يعتقد أن وصف القياديين الوطنيين بدعاة الانفصال عن الميتروبول سوف يقلل من شأنهم لدى مواطنيهم، زاعماً أن الاستقلال أمر مستحيل "أنه لا يخدم الجزائر ولكنه يكون في صالح غلاة الكولون والإمبرياليات الأجنبية الأخرى التي ليس لها من هم سوى آبار البترول(33).
لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري يرى أن الذين يعملون على استرجاع الاستقلال الوطني "هم عصابة من المفسدين في ركاب الفاشية، يتسترون بالدين لمحاربة المشروبات الكحولية"(34) إنهم "وطنيون مزيفون يسعون بدافع إمبريالي أجنبي، لفصل الجزائر عن فرنسا الجديدة" وعلى الرغم من هذه المواقف العدوانية ومن قناعة السيد فرحات عباس بأن "أحباب الديمقراطية صنيعة للشيوعية المقصود منها هو خلط الأوراق وذبذبة الضمائر(36)، فإن المكتب المركزي لأحباب البيان والحرية قد وجه نداء إلى أحباب الديمقراطية من أجل التعاون على أساس شرط واحد هو أن يدرج الشيوعيون ضمن مطالبهم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وحرية الصحافة بالنسبة لجميع الأحزاب والمنظمات الجزائرية، لأن برنامج أحباب الديمقراطية بجميع نقاطه المسطورة أعلاه لا يشتمل على أي عنصر جدي يمكن الأخذ به لتعبئة جماهير الشعب الجزائري، لكن الشيوعيين، من خلال قيادة أحباب الديمقراطية، رفضوا عرض الوطنيين لسبب أيديولوجي واضح هو: عدم إيمانهم بالوطن الجزائري ككيان واحد ومستقل عن فرنسا. ولم يتوقفوا عند رفض العرض، بل إنهم جندوا كل آلياتهم واستنجدوا بالسلطات الاستعمارية لإقامة العراقيل في طريق أحباب البيان والحرية.
هكذا، إذن لم تمض سوى ستة أشهر على تأسيس أحباب البيان والحرية حتى وجد هذا التجمع الوطني الجديد نفسه أمام عدد من الصعوبات والمخاطر كان أهمها ما يلي:
1-رفض الإدارة الفرنسية لبيان الشعب الجزائري بعد أن كان الوالي العام السيد بايروتون قد أفهم السيد فرحات عباس أن الاقتراحات الواردة ضمنه مقبولة لكنها تتطلب قليلاً من المراجعة وهوما تم بموجب الملحق الذي سبقت الإشارة إليه.
وجاء الرفض مصحوباً بإجراءات بعضها قمعي والآخر يتعلق بدس أعوان مقنعين في صفوف المناضلين ينشطون لفائدة مصالح المخابرات والاستعلامات العسكرية.
2-حرب بلا هوادة يغذيها الشيوعيون الجزائريون بدعم من الحزب الشيوعي الفرنسي من أجل إفشال الجبهة الوطنية التي استطاعت أن تعبئ الجماهير الشعبية حول مطلبي الجمهورية والبرلمان الجزائريين، أي تجنيد مختلف فئات الشعب لفائدة الانفصال عن فرنسا. ولقد كانت الحرب تجري نيرانها على ثلاث جبهات هي:
أ-الجبهة الخاصة بإبراز نواقص الحركة المصالية التي يتمثل انحرافها وتزمتها، حسب المنطق الشيوعي، في رفعها لراية الاستقلال. ففي هذه الجبهة يسعى الشيوعيون إلى محاولة إقناع قواعد حزب الشعب الجزائري بالتخلي عن قيادتها وضمها، بشتى الوسائل(37) إلى أحباب الديمقراطية. وطبيعي أن في ذلك إضعاف لأحباب البيان والحرية.
ب-الجبهة المخصصة لتهميش المثقفين الإسلاميين الذين يستعملون العاطفة الدينية لحمل الجماهير الشعبية على الالتحاق بصفوف أحباب البيان والحرية، ومما لا شك فيه أن تحييد هؤلاء العناصر سيفسح المجال لأحباب الديمقراطية من أجل التحرك بحرية في أوساط الجماهير الإسلامية.
ج-الجبهة المخصصة للتنديد بالمنتخبين وأعضاء النخبة الذين تخلوا عن فكرة الاندماج وتحولوا إلى "وطنيين مزيفين" ومناهضين للفرنسة وللفرنسيين.
3-وجود الفارق الكبير في أسلوب العمل الذي تمارسه اطارات ومناضلو أحباب البيان والحرية من أجل تحقيق الأهداف الوارد تعدادها في بيان الشعب الجزائري، فبينما يكتفي المنتخبون والعلماء بالقلم والكلمة، فإن عناصر الحركة المصالية ينادون بالعنف الثوري انطلاقاً من كون ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة.
ولتجاوز هذه الأوضاع الصعبة، ولتعميم الفكر السياسي الجديد وتمكين الجماهير الشعبية من التفاعل مع برنامجها فإن جمعية أحباب البيان والحرية قد أصدرت لساناً مركزياً بعنوان Egalitè وظفت له كثيراً من الإمكانيات المادية والأقلام الوطنية بحيث استطاع، في فترة وجيزة جداً، أن يحتل مكانة مرموقة بين نشريات ذلك الوقت وأصبح رغم كل المنافسات، الجريدة المحببة التي تنتظرها بلهفة أعداد غفيرة من الجزائريين في مختلف البلاد. غير أن ذلك لا يعني أن سحبها كان مرتفعاً، بل ضعيفاً لم يتجاوز ثلاثين ألف نسخة بسبب أزمة الورق.(39).
وعندما نعود اليوم، إلى مختلف أعداد الجريدة، فإننا نلاحظ بكل سهولة الدور الإيجابي الذي أدته سواء بالنسبة لإنجاح عملية التعبئة الشاملة حول برنامج الحركة أو فيما يتعلق بمحاورة الأوربيين الذين كانوا متخوفين من فكرتي الأمة الجزائرية والبرلمان المنتخب بواسطة الاقتراع العام، أو فيما يخص تعرية أمرية الجنرال ديغول التي قال عنها السيد فرحات عباس: أنها لم تأخذ في الاعتبار تاريخ الجزائر وتطور ذهنيات أبنائها"(40).
وبالإضافة إلى الدور الإعلامي الذي كانت الجريدة تقوم به على أحسن وجه فإن أعمدتها كانت مفتوحة لبرامج التوجيه والتكوين الأيديولوجيين وللتحقيقات التي كانت تعالج موضوعات أساسية في مجالات الدين والتربية وحول أوضاع المرأة والطفل المسلمين إلى غير ذلك مما له علاقة بتطوير المجتمع وإعداده لمستقبل أفضل.
ولم يكن نشاط الجريدة ليرضي الإدارة الاستعمارية ولا ليطمئن الحزب الشيوعي الجزائري. فأما الأولى فإنها راحت تقابله بتقليص كمية الورق المخصصة للحركة وبعرقلة عملية التوزيع التي كانت تعتمد أساساً على مبادرات المناضلين، وأما الثاني فإنه جعل من صحافته منبراً للتنديد بمحرري الجريدة والمشرفين عليها مع التركيز على رئيس التحرير السيد عبد العزيز كسوس. وفي مجال آخر، ورغم ظروف الحرب الصعبة، كان السيد فرحات عباس ينتقل من مكان لآخر عبر مختلف أنحاء الوطن: يخطب ويحاضر تارة ويحاور ويناقش مرة. وفي جميع الحالات، كان يسهم بفعالية في شق طريق الحركة نحو التجذر والانتشار. ومما يستحق الذكر أن تلك الاتصالات المباشرة والمكثفة، وبقدر ما أفادت أحباب البيان والحرية، فإنها سمحت للرجل أن يثبت أقدامه في عالم الوطنية الجزائرية وأن يتخلى نهائياً، عن قناعات ظل بها متمسكاً إلى أن كانت صياغة البيان.
وإذا كانت الحركة المصالية قد هللت لهذا التحول الإيجابي لدى أهم أقطاب المنتخبين الجزائريين، فإن الإدارة الاستعمارية لم تخف استياءها وراحت تعبر عنه بالعمل ميدانياً وبشتى الوسائل، على إحداث التصدع في البناء الجديد وزرع الشقاق بين سائر الأطراف المكونة له. لكن حزب الشعب الجزائري المحظور فوت عليها الفرصة بفضل ما أصدره من تعليمات لإطارته ومناضليه يدعوهم من خلالها إلى إحاطة السيد فرحات عباس بكل أنواع الرعاية والعناية وإشعاره بأنه قائد أساسي إلى جانب الزعيم الذي كان يحرك الخيوط من إقامته الجبرية.
وبينما كانت حركة أحباب البيان والحرية تواصل العمل الهادف إلى تطبيق برنامجها، كان حزب الشعب الجزائري ينشط في السرية وفقاً لإيديولوجيته المعبر عنها رسمياً سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف وكما سبقت الإشارة لذلك في بداية هذه الدراسة.
كان حزب الشعب الجزائري، في مؤتمره المنعقد بالجزائر يوم 24/7/1938 قد قرر باجماع المؤتمرين تأسيس هيأة أسماها "اللجنة الخضراء" وأسند لها مهمة التكوين العسكري استعداداً للكفاح المسلح في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني، وقبل نهاية نفس الشهر قامت الهيأة المذكورة بتكوين لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري"(41) التي اختارت من بين أعضائها مجموعة سيرتها إلى برلين قصد التدرب على استعمال الأسلحة وممارسة النشاط السري.
صحيح أن السلطات الألمانية قد استقبلت المجموعة التي كان يرأسها السيد محمد طالب(42) وصحيح، أيضاً، أنها أولت عناية كبيرة بتدريب أفرادها، لكنها أرجأت البت في موضوع الاستعمار إلى ما بعد نهاية الحرب ولم تبد كثير استعداد عندما نشرت أمامها قضية التسليح.
لأجل ذلك، فإن لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري قد فضلت إنهاء العلاقة معها وولت وجهها نحو إيطاليا التي لم يكن موقفها أكثر التزاماً مع مسألة تحرير الشعب الجزائري. غير أن كل ذلك لم يمنع بعض أعضاء اللجنة وبعض المسؤولين الآخرين أمثال بلقاسم راجف وسي جيلاني(43) من الاستمرار في محاولة الاستفادة من دول المحور بصفة عامة.
وعلى الرغم من معارضة الحاج مصالي لفكرة التعاون مع الألمان وإقدامه، وهو سجين، على فصل أعضاء لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري من صفوف حزب الشعب الجزائري بسبب اتصالاتهم ببرلين وتعاونهم مع مصالح الجيش الألماني، فإن محاولات التقارب مع دول المحور لم تنقطع طيلة سنوات الحرب.
ومن الجدير بالذكر أن بعض مساعي الوطنيين قد أثمرت خاصة في مجال الاستفادة من تقنيات التنظيم السري واستعماله الأسلحة بجميع أنواعها.
انطلاقاً من كل ما تقدم، وعندما نريد ضبط الأوضاع التي كان عليها حزب الشعب الجزائري، فإننا نخلص إلى ما يلي:
1-كان الحزب ينشط في السرية نتيجة حله بموجب قرار إداري صدر بتاريخ 26/7/1939.
2-كان معظم قادته وفي مقدمتهم الحاج مصالي(44) محبوسين بمقتضى أحكام تتراوح ما بين 16 و3 سنوات، صدر معظمها يوم 28/3/1941.
3-فرضت طبيعة النضال السري ومقتضيات تلك المرحلة الصعبة ظهور قيادة جديدة من الشباب(45) معظمهم من المثقفين، في مقدمتهم الدكتور محمد الأمين دباغين(46).
4-تبلور النشاط السري خاصة في مجالين: التنظيمي حيث أعيدت هيكلة الحزب بكيفية تتلاءم مع الأوضاع الجديدة، والإعلامي الذي تميز بالكتابات الحائطية وحملات التوعية والتربية الدينية(47) وبصدور جريدتي L,Action Algèrienne والجزائر الحرة.
5-ظهور "منظمة الشباب"(48) "ومنظمة الجيش الثامن"(49) اللتين كانتا تدعوان إلى عدم الالتحاق بصفوف الجيش الفرنسي قبل أن تتضافر جهودها لتأسيس منظمة عسكرية تكون "قادرة على رفع لواء الكفاح المسلح عندما تفتح الجبهة الثانية أو يتم إنزال قوات الحلفاء، وتكون هي الممثل الشرعي للشعب الجزائري عند اقتضاء الحاجة"(50).
6-إطلاق سراح الحاج مصالي يوم 24/4/1943 ووضعه في الإقامة الجبرية بالشلالة. ومن هناك صار يوجه نشاط الحزب المحظور رسمياً، ومما يستحق الذكر أنه قرر السماح لأعضاء لجنة شمال افريقيا للعمل الثوري المفصولين بالعودة إلى صفوف الحزب كما أنه قرر عدم إبقاء أي تنظيم خارج الإطار النظامي.
7-إن الحزب، نتيجة كل هذه العوامل، قد أصبح تنظيماً سياسياً أكثر قدرة على تعبئة الجماهير وتوعيتها، وأكثر دقة في العمليات التي يقوم بها من أجل تجسيد إيديولوجيته على أرض الواقع.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن هياكل الحزب العادية قد تعززت، عبر مختلف أنحاء الوطن، بآليات متخصصة في التوثيق والإحصاء والنشاط السري والعمل السيكولوجي، كما أنها تدعمت بتنظيمين أساسيين أحدهما مسؤول عن الأمن والمراقبة بجميع أنواعها والثاني مكلف بالدراسات ومتابعة الأحداث وتوظيفها لفائدة الحزب. وكان التنظيمان، على غرار الآليات الأخرى، ممثلين في جميع مستويات الهيكلة الحزبية، لكن نشاطهما كان يتم في سرية مطلقة.
8-استطاع الحزب، بفضل مساعي تنظيماته المختلفة، أن يجمع كمية معتبرة من الأسلحة والذخيرة اشترى بعضها من جيوش الحلفاء ووصله بعضها الآخر عن طريق مناضليه ومحبيه العاملين في صفوف الجيش الفرنسي. وزعت كل المعدات الحربية على سائر الاتحاديات والدوائر ووقع خزنها في انتظار يوم المعركة الذي أصبح متداولاً لدى العام والخاص أنه سيحل مع نهاية الحرب الامبريالية الدائرة رحاها في أوربا وشمال افريقيا وبعض مناطق آسيا.
9-استطاع الحزب، بفضل تجربة مناضليه الواسعة، أن يسيطر بكيفية شبه كلية على حركة أحباب البيان والحرية، وتمكن، في ظرف قصير جداً، من إدخال تغييرات جذرية على برنامجها السياسي كما أشرنا إلى ذلك آنفاً.
10-إن فكرة الكفاح المسلح قد نضجت بما فيه الكفاية، ووجد في داخل الحزب تيار قوي من المناضلين الشباب الذين التحق معظمهم بالصفوف فقط في الفترة ما بين 1939-1944، لكنهم يرفضون تكتيك القيادة الذي كان الحاج مصالي قد لجأ لمحاولة التقرب من باقي أطراف التيار الوطني، والذي جعل الحزب يتنازل عن هدف الانفصال عن فرنسا ويعوضه بالشعار الغريب "لا اندماج ولا انفصال، ولكن ترشيد وتحرر"(51). إن أولئك الشباب الذين اكتسبوا خبرة واسعة من خلال نشاطهم السري ضمن "منظمة الشباب" و"الجيش الثامن" قد أصحبوا على كامل الاستعداد لإشعال فتيل الثورة والانتقال إلى المرحلة الحاسمة من الكفاح التحريري.




الفصــل الثالــث


حـــــركة مايــــو الثوريــــة

هناك كتابات كثيرة عالجت هذا الموضوع لكنها لم تشبعه بحثاً، وحتى الآن، فإن الآراء لم تنفق حول المسائل الأساسية التي تتحكم في كل دراسة علمية والتي بدون الفصل فيها لا يمكن التوصل إلى حقيقة ما وقع في ذينك الاسبوعين الأول والثاني من شهر مايو(أيار) سنة 1945.
فالمؤرخون الفرنسيون والمتأثرون بهم من الجزائريين يتجنبون الحديث عن الثورة ويركزون على مصطلح الأحداث او المظاهرات، بعد ذلك يتعمدون الضبابية حتى يظل المصدر مجهولاً وتبقى الأهداف المسطورة من طرفه غير واضحة وقابلة للتفسيرات المغرضة والتآويل المختلفة. وزيادة في التعتيم، يؤكد أولئك المؤرخون أن "حوادث مايو" كانت عفوية ولا يوجد أي تنظيم.
وإذا كانت السلطات الاستعمارية قد اتهمت أحباب البيان والحرية معتمدة على كون العديد من القتلى والمعتقلين الجزائريين كانوا يحملون بطاقات العضوية في تلك الحركة(52)، فإن الحزب الشيوعي الجزائري، فيما يخصه، قد وجه أصابع الاتهام إلى من أسماهم بالوطنيين المزيفين الذين يعملون في ركاب "الفاشية الهتلرية" و"الفاشية الإيطالية" وإلى الأوربين الاقطاعيين والمسؤولين الإداريين تحت سلطة حكومة فيشي.
ونحن عندما نعود إلى تلك الفترة الزمنية نستنطقها، وإلى النصوص المعاصرة نحللها ونفحص المعلومات الواردة فيها، وحينما نتوقف عند الشهادات التي أدلى بها المسؤولون السياسيون الذين كانوا يصنعون الحدث التاريخي في ذلك الوقت، وعندما نعيد قراءة الجرائد والمجلات التي عالجت الموضوع في وقته، فإننا لا نستطيع سوى الاعتراف بأن ما وقع في شهر مايو سنة خمس وأربعين وتسعمائة وألف إنما هو حركة ثورية أعدت لها قيادة حزب الشعب الجزائري التي كانت قد أخذت كل الاحتياطات لتكون النتيجة الحتمية هي إقامة الجمهورية الجزائرية وما يتبعها من مؤسسات وطنية.
إن ما وقع في شهر مايو سنة 1945 يجب البحث عن أسبابه القريبة في شهر مارس(آذار) من نفس السنة. ففي اليوم الثالث من ذاك الشهر، وبينما كان طريح الفراش، أرسل السيد فرحات عباس لائحة إلى مؤتمر أحباب البيان والحرية، غير أنها لم تلق قبولاً ورفض المؤتمرون المصادقة عليها، رغم ما كان لعباس من مكانة، لأنها تدعو إلى إدراج الجزائر في نظام اتحادي مع فرنسا. وفي نفس الفترة صرح الشيخ البشير الإبراهيمي، في تلمسان، أن الرئيس روزفالت وعد باستقلال الجزائر عن طريق ندوة سان فرانسيسكو (San Francisco) المزمع عقدها في نهاية أفريل(نيسان) سنة 1945)(54).
وإذا كنا في غير حاجة إلى التذكير "بمنظمة الشباب" والجيش الثامن وما كان يجري فيهما من إعدادات واستعدادات، فإننا لا نستطيع إغفال بعض الأحداث المعبرة التي وقعت في شهر أفريل وهي تحمل في طياتها دليلاً قاطعاً على أن الجانبين الجزائري والاستعماري كانا يعملان: الأول من أجل خرق الموانع التي تحول بينه وبين سيادته المغتصبة، والثاني من أجل تأبيد حالة السيطرة والاضطهاد والتبعية حتى ولو كان ثمن ذلك هو إبادة الشعب الجزائري بأكمله، ومن جملة تلك الأحداث المعبرة نذكر ما يلي:
1-إن المكتب المركزي لأحباب البيان والحرية قد أصدر نشرة بتاريخ 2/4/1945 دعا من خلالها إلى التمسك بالمطالب الواردة في بيان الشعب الجزائري وإلى العمل بجميع الوسائل في سبيل تحرير المعتقلين السياسيين وحمل الحكومة الفرنسية على الاستجابة لطموحات الجزائريين في تحقيق الأهداف المسطورة في الوثائق المرفوعة إليها عن طريق الوالي العام السيد بايروتون.
2-في شهر افريل أيضاً، قامت الجماهير الشعبية في قصر الشلالة بمنع السلطات الفرنسية من اعتقال أربعة مناضلين مسؤولين في صفوف حزب الشعب الجزائري المحظور وتصدت لعامل ولاية الجزائر ومرافقيه بالرجم والشتم، هاتفة باستقلال الجزائر وحياة زعيمها الحاج مصالي مما استدعى تدخل القوات العسكرية.
3-في يوم 24/4/1945 قام ستة مندوبين عامين أوروبيين(55) بتوجيه بيان إلى عامل ولاية قسنطينة دعوه فيه إلى اتخاذ إجراءات صارمة تمنع ما قد يقع من أحداث نتيجة ما لاحظوه لدى الأهالي من سلوكات حاقدة على فرنسا والفرنسيين.
ومما جاء في ذلك البيان "إن ذهنية الأهالي قد تغيرت، وصار الموظفون والتجار المسلمون متجبرين، ويعلنون لمن يريد السماع أنهم عازمون على البقاء، وحدهم، في أرض أجدادهم وأنهم سوف يسترجعون استقلالهم الكامل.. أما العمال، فإنهم أصبحوا يرفضون الاشتغال في الحظائر الخاصة وفي ملكيات الفرنسيين"(56).
4-في يوم 26/4/1945 قال عامل عمالة قسنطينة للدكتور سعدان" اضطرابات سوف تقع، وعلى إثرها يحل حزب عتيد"(57) وفي نفس اليوم أعلن رئيس بلدية abbo (سيدي داوود حالياً) إن أحداثاً لآتية ومعها ستضطر الحكومة للتراجع على أمرية السابع مارس"(58).
5-في نفس شهر أفريل استقبل الحاج مصالي كلاً من الدكتور محمد الأمين دباغين وحسين عسلة فاطلعاه على مشروع إشعال فتيل الثورة مباشرة بعد أن تضع الحرب أوزارها. ووافق زعيم حزب الشعب الجزائري على المشروع كما وافق على أن يهرب إلى ناحية سطيف حيث يعلن عن تأسيس الحكومة الجزائرية المؤقتة التي يكون مقرها بمزرعة المناضل الأستاذ معيزة.(59). لكن الإدارة الاستعمارية كانت أسرع فبادرت إلى نقل الحاج مصالي إلى المنيعة يوم 23/4/1945 قبل أن تنفيه في نهاية الشهر، إلى برازافيل.
6-في شهر افريل نفسه كتب الجنرال Henry Martin (هنري مارتان) بات مؤكداً نقلاً عن مصادر مختلفة في سطيف، أن حزب الشعب الجزائري يعمل على تنظيم الثورة الشاملة"(60).
7-إن الأمين العام للولاية العامة السيد Gazagne قد وجه إلى باريس تقريراً مفصلاً يحمل تاريخ أفريل 1945 جاء فيه على الخصوص" يجب علينا اتخاذ الإجراءات الملائمة لإيقاف الحركة، ولكي تعلم الجماهير أننا غير مستعدين لغض الطرف.. ولقد علمنا من جهات مختلفة أن عملية ما، يجري تنظيمها بمناسبة انتهاء الحرب، وسوف تكون عامة. أما مناطقها الحساسة فكثيرة ومنها: سطيف، تبسة، بسكرة، الأوراس، الجزائر، تلمسان، وهران، ومعسكر"(61).
8-إن الحركة الوطنية الجزائرية التي وجدت طريقها إلى التوحد حول عدد من المحاور الرئيسية في إطار" أحباب البيان والحرية"، لم تتوقف عن إرسال الوفود الواحد بعد الآخر، إلى ممثلي الحلفاء قصد إطلاعهم على حقيقة الواقع الاستعماري في البلاد وتحميسهم لمساعدة الشعب الجزائري على ممارسة حقه في تقرير مصيره.
وإذا كان السيد فرحات عباس، في لقاءاته المتعددة مع السيد روبرت مرفي (Robert Murphy) قد حصل على وعد صريح من هذا الأخير مفاده أن أميريكا ستعمل، في الوقت المناسب، على جعل فرنسا تنهي حالة الاستعمار في الجزائر، فإن ممثلي حزب الشعب الجزائري الذين قاموا بنفس المهمة قد قوبلوا ببرودة من طرف نفس المسؤول الأمريكي الذي قال لهم: "إن المعلومات المستقاة من مصادر مختلفة تدل على أن حركتكم لا تمثل أغلبية الشعب الجزائري، وإن هذا الأخير لن يتبعكم ولن يعطيكم ثقته في حالة استشارته(62). فأمام هذه اللغة المزدوجة، أصبح على قادة الحركة الوطنية أن يقوموا بنشاط علني يثبتون، من خلاله، سوء تقدير الحلفاء، ويبرهنون به على أنهم الناطق الشرعي باسم جماهير الشعب الجزائري الذي صار هدفه الأسمى هو استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الجمهورية الجزائرية بجميع مؤسساتها.
9-إن أخباراً متواترة قد بدأت تصل إلى أسماع قادة الحركة الوطنية مفادها أن اللجنة الفرنسية للتحرير قد تمكنت من إقناع الحلفاء بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا، وبأن دعاة الانفصال لا يمثلون إلا أنفسهم، وهم منبوذون من الشعب الحقيقي ونتيجة ذلك الإقناع صرح السيد مرفي أن" السلطات الأمريكية لن تتدخل في الشؤون التي هي من اختصاص الإدارة الوطنية أو التي لها علاقة بالسيادة الفرنسية"((63).
10-إن حزب الشعب الجزائري المحظور قد تمكن بالموازاة مع نشاط اطاراته ومناضليه داخل صفوف أحباب البيان والحرية، من تحقيق نتائج باهرة في مجالات التنظيم والتكوين والتسليح، وأصبح واضحاً للعيان أن تلك النتائج تؤهله لجر الحركة الوطنية إلى ثورة شعبية مسلحة من أجل استرجاع الاستقلال الوطني كاملاً وبالشروط الواردة في برنامج نجم شمال افريقيا المشار إليه سابقاً. ولقد أدركت قيادة أحباب البيان والحرية من غير عناصر حزب الشعب الجزائري ذلك الواقع وارتاعت لما يمكن أن تكون عواقبه، خاصة وأنها لا تؤمن بالكفاح المسلح كوسيلة لحمل فرنسا على الاستجابة لطموحات الشعب الجزائري. لأجل ذلك فإن السيد فرحات عباس قد جعل المكتب المركزي للحركة يتوج اجتماعه المنعقد بنداء إلى المواطنين جاء فيه" أن أحباب البيان والحركة لن تتحمل أية مسؤولية فيما تقوم به بعض العناصر المشبوهة من أحداث..وبالتالي فهي تدعو كافة المناضلين إلى تسليمها كل مشاغب تشتم فيه رائحة العمل في غير الإطار المعلوم"(64).
إن التمعن في كل هذه النقاط، والتوقف ملياً عند سائر جزئياتها يدعون الدارس بالضرورة إلى إعادة النظر في كيفية تعامل المؤرخين الفرنسيين وتلامذتهم من الجزائريين مع ما وقع في شهر مايو 1945 هل كان بالفعل مظاهرات استفزازية وعفوية؟ أم هي أحداث دامية تسبب فيها المتطرفون الجزائريون والفرنسيون على حد سواء؟ أم هي تمردات عشوائية سببها الجوع والحرمان فقط؟ أم هي انتفاضة شعبية فشلت بسبب عدم وجود القائد والمخطط؟
وهل يمكن التحدث عن فاتح مايو بمعزل عن ثامنه؟ وهل إن ما جرى قد اقتصر على يومي الفاتح والثامن مايو سنة 1945؟ وهل يمكن القول: إن مايو 1945 هو أساس ثورة 1954؟
كل هذه الأسئلة طرحناها بإلحاح على عدد كبير من مسؤولي الحركة الوطنية ممن كان بيدهم الحل والربط في ذلك الوقت(65)، ثم عدنا بها إلى مختلف النصوص المعاصرة بقطع النظر عن الجهات الصادرة عنها، وانتهينا، بعد بحث وتمحيص إلى أن ماجرى في شهر مايو 1945 كان حركة ثورية جاءت تتويجاً لعمل نضالي تواصل بدون انقطاع طول المدة التي دامتها الحرب الامبريالية الثانية. وإذا كان يوما الفاتح والثامن من مايو يرمزان إلى محطتين رئيسيتين في مسار تلك الحركة، فإن الشهر كله قد تميز بالنشاط الثوري الذي فتحت له الجماهير الشعبية أحضانها المتينة والذي تطور بسرعة فائقة عبر مختلف أنحاء شمال شرقي البلاد وكان من الممكن أن يمتد إلى سائر أرجاء الوطن لولا إحجام القيادة وترددها أمام عمليات القمع الأعمى التي قامت بها سلطات الاستعمار على مسمع ومرأى ممثلي الحلفاء المنتصرين الذين كان سكوتهم دليلاً قاطعاً على تبنيهم للجريمة الفرنسية وارتياحهم لوقوعها.
أحداث الفاتح من مايو 1945:
إن اللجنة المديرة لحزب الشعب المحلول هي التي قررت بالإجماع تنظيم مظاهرات شعبية بمناسبة الاحتفالات بعيد الطبقة الشغيلة، ولقد اتخذت قرارها ذلك عشية الفاتح من مايو نفسه ووجهت تعليماتها في تلك الليلة إلى كافة الهيآت الحزبية وهي تهدف من وراء ذلك، إلى التدليل على نفاذها المحكم في أوساط الجماهير الشعبية، وعلى أنها محل ثقة الشعب الجزائري الذي تتحدث باسمه وتعمل من أجل تحريره وتمكينه من ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه.

ويذكر المسؤولون السياسيون(66) الذين باشروا الأعمال التحضيرية وأشرفوا على سير الأحداث فيما بعد، أن المدن الجزائرية الكبرى ومدينة العاصمة على وجه الخصوص قد عاشت ليلة بيضاء وتحولت إلى ورشات كبيرة للإنجاز، وما كاد الصباح يلوح حتى وجدت الأعلام الوطنية بالمئات، وكتبت اللافتات باللغتين العربية والفرنسية، وتم تعيين فرق التأطير والإسعاف والإسناد والتحريض، وضبطت مراكز انطلاق المتظاهرين، وحددت نقاط التقاط الروافد الشعبية والمحطات النهائية. كل ذلك في سرية تامة تدل، بما لا يدع أي مجال للشك، على قدرة فائقة في التخطيط والتسيير، وعلى سيطرة القيادة على قواعدها وتفاعلها مع إطاراتها ومناضليها.
لم تكن قيادة حزب الشعب الجزائري تريد، فقط، المشاركة في احتفالات أول مايو بل إنها كانت ترمي إلى توظيف تلك المناسبة من جهة لتختبر مدى قدرتها على تعبئة الجماهير وتجنيدها، ولتعلم إلى أي حد تستطيع هذه الأخيرة أن تسير وراءها بكل الثقة التي لا بد منها لنجاح المشاريع الحيوية، ومن جهة أخرى، فإن اللجنة المديرة كانت تسعى إلى اجتياح الشارع بقوتها الحقيقية حتى يتغير رأي الحلفاء ويتأكدوا من التفاف أغلبية الشعب الجزائري حول الحركة المصالية في نضالها من أجل استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الجمهورية الجزائرية المستقلة عن فرنسا.
على هذا الأساس، سهرت قيادة الحزب السرية على أن تكون المظاهرات التي تنظمها مغايرة تماماً، شكلاً ومضموناً، للمظاهرات التي تعودت النقابات تنظيمها بتلك المناسبة. أما من حيث الشكل فإنها قررت أن تجعل منها نموذجاً للعلم المتقن وللجدية والانضباط اللذين ينمان عن وعي المشاركين بخطورة الموقف وقدرتهم الفائقة على تطبيق التعليمات، وأما فيما يخص المضمون، فإنها، رغم احترامها للمطالب العادية التي ينادي بها العمال في مثل تلك التجمعات، قد قررت أن يرفع المتظاهرون شعارات وطنية فيها مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم زعيم الشعب الجزائري السيد الحاج مصالي، وبحق الجزائر في تقرير مصيرها بنفسها وفي استرجاع سيادتها وإقامة المؤسسات الوطنية المستقلة. ولإعطاء كل تلك الشعارات وزناً أثقل وقيمة أعظم كان لا بد من رفع الأعلام الوطنية التي صدرت تعليمات صارمة برعايتها وحماية رافعيها والاستماتة في الدفاع عنها كي لا تقع في أسر الشرطة الاستعمارية.
وتمهيداً للمظاهرات، وفي نفس ليلة الفاتح من مايو، تم توزيع آلاف المنشورات عبر مختلف أنحاء الوطن لتكون مرشداً سياسياً بما تضمنته من تذكير بالمطالب التي يجب التركيز عليها أثناء المسيرات الشعبية وبالشعارات التي ينبغي رفعها حتى يضفي على المظاهرات، في جميع المدن والقرى الجزائرية، طابع الشمولية والوحدة، وليدرك الملاحظ، الأجنبي خاصة، أن المنطلق أيديولوجي ولا علاقة له بالخبز ولا بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي المترديين.
لقد كانت تلك المنشورات مصاغة بأسلوب تلغرافي حتى يسهل توظيفها والاستفادة من محتواها إلى أقصى الحدود، وإذا كان كل ما جاء فيها من شعارات ومطالب لا يتجاوز ما هو معمم بالفعل في أوساط الجماهير الشعبية الواعية، فإن ثمة جديداً لا بد من التوقف عنده لما له من دلالة سياسية، ويتمثل ذلك في كون تلك المنشورات لم تكتب فقط باللغتين العربية والفرنسية ولكن جزءاً منها جاء مكتوباً باللغة الانكليزية وهي دعوة صريحة للحلفاء كي يعيدوا النظر في مواقفهم الأخيرة التي حادت عن الوعود المشار إليها أعلاه.
إن كل من كتبوا حول هذا الموضوع يتفقون على أن تعليمات اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري قد اتبعت بدقة شديدة، وخرج المتظاهرون في هدوء ونظام مثاليين سواء كان ذلك في سائر مدن الشرق الجزائري أو في مدن تلمسان والجزائر العاصمة ووهران. وفي كل مدينة كانت المواكب تضم أعداداً من المواطنين تفوق بكثير الأعداد التي تمكنت النقابات المختلفة من جمعها للاحتفال بعيد الطبقة الشغيلة. وتنفيذاً لما جاء في المنشورات رفع المتظاهرون لافتات كتبت عليها سائر الشعارات المحددة من طرف قيادة الحزب، وكانت الأعلام الوطنية تتقدم الأمواج البشرية التي كانت تهتف بحياة الجزائر وتنادي باسترجاع سيادتها وإقامة مؤسساتها المستقلة وإطلاق سراح معتقليها السياسيين وفي مقدمتهم الزعيم الحاج مصالي.
وعلى الرغم من أن القمع الاستعماري كان وحشياً ضد المشاركين في جميع المسيرات التي وقعت في كافة أنحاء البلاد، وعلى الرغم من أن الشرطة أطلقت النار على المتظاهرين في كثير من المدن الجزائرية وخاصة منها وهران حيث استشهد مواطنان وجرح أكثر من عشرين شخصاً،(67) فإن مظاهرات العاصمة هي التي، أكثر من غيرها، قد استوقفت الكتاب والمؤرخين.
انطلقت مظاهرات العاصمة من محطات ثلاث هي: بلكور، القصبة وباب الوادي(68)، على أن تكون ساحة البريد المركزي هي نقطة التجمع العام الذي كان من المقرر أن يتناول فيه الكلمة عدد من أعضاء اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري المحظور(69).
وبالفعل اجتمعت جماهير غفيرة في باب الوادي ثم تكاثرت أعدادها بانضمام المتجمعين في ساحة الحكومة (ساحة الشهداء حالياً) إليها، وسلك الموكب نهج باب عزون ليمر أمام مبنى المسرح الوطني قبل أن يدخل إلى نهج علي بومنجل حيث يلتقي في نهايته مع الموكب الذي انطلق من جامع سيدي عبد الرحمن ومر جزء منه بنهجي عمار القامة وذبيح الشريف حالياً. أما الجزء الثاني فإنه سلك نهج ذبيح الشريف صعوداً وتبع نهج موقادور) (Mogador ليصل إلى ساحة الأمير عبد القادر حالياً ومنها التحق بالبريد المركزي. أما الموكبان الملتحمان في نهاية نهج علي بومنجل (ديمون ديرفيل سابقاً) فإنهما دخلا في مظاهرة صاخبة إلى شارع العربي بن مهدي (إيزلي سابقاً) وراحا يتقدمان بنظام وانتظام في اتجاه البريد المركزي. غير أن سكان الشارع كانوا كلهم أوروبيين فاستنجدوا بالشرطة التي وصل رجالها بسرعة كبيرة وبدأ الرصاص يطلق على المتظاهرين من شرفات المنازل ومن قبل عناصر الشرطة. وفي مستوى الكازينو. سقط الشهيدان غزالي الحفاف وعبد القادر زياد.(70).
لقد كان أول مايو سنة 1945 امتحاناً عسيراً بالنسبة لجميع القرى والمدن الجزائرية التي أقدم فيها حزب الشعب المحظور على تنظيم مسيراته الاستظهارية، وفي نهاية اليوم، عندما اجتمعت القيادات الحزبية محلياً ووطنياً، كانت النتيجة إيجابية إذ ثبت أن الجماهير الشعبية في الجزائر حينما يطلب منها الإقدام على التضحيات القصوى فإنها لا تتأخر وهي على استعداد لاتباع الحركة الوطنية في طريق النضال بجميع الوسائل من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة.
وبالنسبة للأوروبيين، فإن أول مايو 1945 كان يوماً مرعباً، ليس لما وقع فيه من مظاهرات شعبية وقمع وحشي، ولكن لأنه كان تعبيراً قوياً على المستوى العالي من النضج السياسي الذي وصلت إليه أغلبية جماهير الشعب الجزائري، لأجل ذلك فإنهم بجميع مشاربهم السياسية وانتماءاتهم الفكرية والأيديولوجية، راحوا يطالبون السلطات الحاكمة باتخاذ جميع الإجراءات لإقامة سد منيع بين الحركة الوطنية في الجزائر وأهدافها الخاصة باسترجاع الاستقلال الوطني، ولكي لا يتكرر مثل ذلك اليوم في حياة البلاد التي يريدونها، فقط، حقلاً واسعاً وهادئاً للاستغلال بسائر أنواعه.
وأما بالنسبة للإدارة الاستعمارية ذاتها، فإن أول مايو 1945 كان دليلاً قاطعاً على أن أعداداً كبيرة ممن كانوا يسمون بالمعتدلين والموالين لفرنسا قد قطعوا الحبال التي كانت تشدهم إلى "الميتروبول" والتحقوا رغم كل شيء بصفوف الوطنيين العاملين على استرجاع السيادة الوطنية بجميع الوسائل ومهما كان الثمن. معنى ذلك، أن الحلول الاستعمارية الجاهزة مثل الاندماج والالحاق والمساواة كلها أصبحت معرضة للاختفاء والزوال. لأجل ذلك، فإن المشرفين على تلك الإدارة قد أرهفوا السمع لأصوات الكولون والشيوعيين المطالبة بإحكام التصدي للحركة الوطنية الجزائرية باعتبارها وكراً لمناهضي الديمقراطية وكابحاً قوياً يمنع قطار الحرية والسلام من التقدم.
من هذا المنطلق، وعلى هذا الأساس، ألقي القبض على مجموعة كبيرة من الإطارات القيادية في حزب الشعب الجزائري المحظور(71)، بينما لجأت مجموعة أخرى منهم إلى الحياة السرية في المدن والقرى الجزائرية أو إلى الجبال تحتمي بقممها ووديانها وشعابها.
واغتنم الحزب الشيوعي الجزائري هذه الفرصة فوزع منشوراً(72)، يتهم فيه الحركة المصالية بأنها "لوثت انتصارات الطبقة الشغيلة بدماء الأبرياء "في حين كان يجب أن تتحد جهود المحرومين من أجل تحقيق انتصارات جديدة. وفي اليوم الموالي جاء جواب حزب الشعب الجزائري بواسطة منشور يحمل تاريخ 4/5/1945 وهو موجه إلى جميع الفرنسيين وخاصة منهم إلى العمال المنخرطين في صفوف الكنفدرالية العامة للشغيلين وإلى الحزبين الاشتراكي والشيوعي الفرنسيين وكذلك إلى منظمة فرنسا المكافحة. ومما جاء في ذلك المنشور: "أن الهتليريين الحقيقيين إنما هم أولئك الذين سلحوا الشرطة لتقتل إخوان وآباء وأقارب الأجناد الذين ساهموا لتحرير فرنسا وحاربوا في ألمانيا جحافل الفاشية والنازية"(73).
واجتمع المكتب المركزي لحركة أحباب البيان والحرية برئاسة السيد فرحات عباس في نفس اليوم الذي وزع فيه منشور حزب الشعب الجزائري، وصادق بالإجماع على نشرة موجهة إلى جميع الفرنسيين(74) فيها تنديد بالقمع الذي تعرض له المشاركون في مظاهرات فاتح مايو 1945، واحتجاج على حملات الاعتقال الموجهة ضد الوطنيين الجزائريين ومطالبة بإطلاق سراح الحاج مصالي وسائر المعتقلين السياسيين وفي اليوم الموالي للاجتماع، أصدر المكتب المركزي بياناً ندد فيه بالاتهامات القائلة إن منظمي مظاهرات أول مايو في مختلف مدن الجزائر وقراها كانوا هتليريين يهدفون إلى إفساد الاحتفالات بعيد الشغل العالمي.(75).
أحداث ثامن مايو:
وفي نهاية الإسبوع الأول من شهر مايو سنة 1945 استسلمت ألمانيا أمام ضغط الحلفاء والاتحاد السوفياتي وتقرر أن يكون اليوم الثامن من الشهر المذكور موعداً للاحتفال بالنصر المبين، وإذا كانت قيادة حزب الشعب الجزائري قد قررت المشاركة الفعلية في تلك الاحتفالات من أجل تأكيد رغبة
.................
...................(*)
العسكرية التي قادت الأول إلى السجن ووجهت الثاني إلى مستشفى "مايو" للعلاج"(78).
والحرية قد أقدمت، في الشرق الجزائري خاصة، على تنظيم مسيرات مستقلة عن المظاهرات الرسمية، وتمكنت في بعض المدن والقرى من إنجاز ذلك في إطار قانوني بعد أن حصلت على ترخيص من السلطات المعنية(79). لكن ذلك لم يحل دون القمع البوليسي وإراقة دماء الأبرياء.
أما فيما يخص قرار المشاركة الذي اتخذته قيادة حزب الشعب الجزائري، فإن السيدين أحمد بوده وعبدون يزعمان، من خلال الشهادات التي أعطياها لعدد من الكتاب والجامعيين(80)، أنه نقل بدون تعليق إلى القواعد الحزبية ثم تركت المبادرة إلى المناضلين ينفذونه كيفما شاؤوا وطبقاً لإمكانياتهم وحسبما تمليه الظروف المحلية، ويضيف المسؤولان أن الأمر بالتظاهر قد صدر، فقط، عن قيادة حركة أحباب البيان والحرية.
إن هذا الإقرار غير صحيح، لأن السيد شوقي مصطفى، الذي كان من القياديين الوطنيين الأساسيين، يذكر أنه تولى بنفسه صياغة التعليمات التي أرسلت إلى القواعد من أجل تجسيده قرار القيادة على أرض الواقع(81). وأن القارئ ليجد تأكيداً لذلك في شهادة السيد السعيد عمراني التي قدمها إلى الرئيس ابن يوسف بن خدة والتي جاء فيها أن التعليمات المذكورة تضمنت أمر المناضلين برفع الأعلام الوطنية وكذلك أعلام الحلفاء بما في ذلك العلم الفرنسي(82)، ومهما يكن من أمر، فإن كل المسؤولين والمناضلين يؤكدون أن حزب الشعب الجزائري قد أعد منشوراً في الموضوع ووزعه يوم 6/5/1945 في الجزائر العاصمة وفي أهم مدن البلاد وقراها.
ولقد تضمن المنشور المذكور دعوة جميع المناضلين إلى رفع الأعلام الوطنية وكذلك عدداً من اللافتات التي تعبر عن المطالبة بتحرير الشعب الجزائري وإطلاق سراح الحاج مصالي وسائر المعتقلين السياسيين، وعن التنديد بالاستعمار والامبريالية بجميع أشكالها. وفي الواقع، فإن جميع المسيرات الشعبية بما في ذلك تلك التي أشرفت على تنظيمها فروع حركة أحباب البيان والحرية، قد وظفت نفس الشعارات لأن مناضلي حزب الشعب الجزائري كانوا، في كل الحالات، هم المحرك الرئيسي للمظاهرات.
على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق، نستطيع الجزم بأن قيادة حزب الشعب الجزائري السرية هي مصدر الأمر بتنظيم المسيرات الشعبية والمشاركة فيها بمناسبة الاحتفالات بعيد الانتصار على النازية، وإذا كانت القيادات المحلية لحركة أحباب البيان والحرية، في جل الأماكن، هي التي أشرفت مباشرة على العملية، فلأنها كانت، في معظمها، مكونة من إطارات قيادية من الحزب المذكور وهي، في تحركها، إنما كانت تطبق التعليمات الصادرة عن قيادتها الأساسية، لأن القيادة العليا لحركة أحباب البيان والحرية لم تتلق موافقة السلطات الاستعمارية ولم تكن مستعدة لخرق القانون.
ولقد كان حزب الشعب الجزائري يهدف، من خلال تنظيم المسيرات الشعبية، إلى لفت انتباه الحلفاء عامة وحكومة الجنيرال ديغول بصفة خاصة، إلى الواقع الجديد الذي آل إليه الشعب الجزائري وهو واقع الاستعداد المطلق لتحمل مسؤولياته كاملة في تسيير شؤونه بنفسه.
ومن الجدير بالذكر، أن ذلك الواقع الجديد لم يتشكل دفعة واحدة بل هو حصيلة كل الأحداث والتطورات التي وقعت خاصة أثناء الحرب الامبريالية الثانية، والتي تعرضنا إليها بإيجاز كبير في الصفحات السابقة، ويمكننا، بعد التدقيق والتمحيص، أن نقول عنها إنها ممهدات الثورة من أجل استرجاع السيادة الوطنية.
المؤامرة الاستعمارية:
ولقد كانت السلطات الاستعمارية التي عايشت عن كثب تلك الأحداث والتطورات، تعرف أنها أمام حركة سياسية نوعية استطاعت أن تنفذ بسرعة وبحكمة إلى جميع الأوساط الشعبية، وتمكنت من نشر الوعي اللازم لجر الجماهير الواسعة إلى العمل الثوري بجميع أنواعه ومن إقناعها بالإقدام على التضحية القصوى في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني الكامل. لأجل ذلك، فإنها لم تبق مكتوفة الأيدي. وبقدر ما كانت تعمل على خرق الصفوف الوطنية ومضايقة الإطارات القيادية وملاحقتهم، فإنها كانت تستعد الاستعداد اللازم لاقتلاع جذور الحركة الاستقلالية في أول فرصة تتاح لها. ويتمثل استعداد تلك السلطات الاستعمارية في العمل على جبهتين أساسيتين هما:
1-الجبهة السياسية التي خصصتها لزرع بذور الشقاق في صفوف حركة أحباب البيان والحرية بقصد فصل من كانوا يسمون بالمعتدلين والمنتخبين عن مناضلي الحركة المصالية. وقد استعملت الإدارة الفرنسية في هذه الجبهة، جميع مالديها من وسائل الترغيب والترهيب(83)كما أنها لم تتردد في اللجوء إلى توظيف الجهوية والعشائرية والانتماءات الفكرية والثقافية.
2-الجبهة المادية التي خصصتها لإعداد وسائل القمع الضرورية لإنجاز مهمة الاستئصال ولتوفير الإمكانيات العسكرية والأمنية اللازمة لخنق بوادر الثورة في الوقت المناسب. ومن جملة الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الاستعمارية بهذا الصدد نذكر على سبيل المثال:
أ-حصر المناطق التي تجمع التقارير المخابراتية على أنها أوكار للحركة المصالية العاملة على تحقيق الانفصال عن فرنسا بواسطة استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة سنة 1830. وحسب تلك التقارير، فإن المناطق الأكثر خطورة هي: الجزائر العاصمة، الشمال القسنطيني، القبائل الكبرى والقبائل الصغرى، وهران، تلمسان والأوراس.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:39 am

ب-تدريب قوات الجيش الفرنسي المرابطة بالمناطق المذكورة على التصدي لحرب العصابات. ويذكر بايا(84)(Paillat) إن تلك القوات كان تعدادها يزيد عن ستين ألف جندي وضابط، وأن أول تدريب ميداني شارك فيه القادة العسكريون والمدنيون إنما وقع في شهر يناير(كانون الثاني) سنة 1945.
ج-إقدام عامل عمالة قسنطينة السيد لاستراد كربونال (Carbonnel Lestrade) على تكوين فصائل الميليشيا بنواحي برج بوعريريج، وذلك ابتداء من شهر ديسمبر(تشرين ثاني) سنة 1944. وعلى إثر فترة التدريب تم تعين القادة ووزعت الأسلحة وأعطيت التعليمات التي كانت تتلخص في العمل من أجل هدف واحد هو إبادة إطارات ومناضلي حزب الشعب الجزائري(85).
إن بعض المحللين السياسيين، اليوم، يلقون باللائمة على قيادة حزب الشعب الجزائري متهمين إياها بالتهور وعدم الوعي بالأخطار التي عرضت لها عشرات آلاف الجزائريات والجزائريين. إن هذا الموقف، مهما كانت دوافعه، غير سليم خاصة عندما نعرف أن القيادة المذكورة كانت، فعلاً، مصممة على إشعال فتيل الثورة كإجراء أخير من أجل إرغام فرنسا على التسليم بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه؛ لكن الثامن من مايو لم يكن هو اندلاع الثورة بل إنه، على غرار الفاتح من نفس الشهر، كان، فقط استظهاراً لما تتوفر عليه الحركة الوطنية الجزائرية من قدرة على تعبئة الجماهير الشعبية وتجنيدها، ومنبهة للحكومة الفرنسية وللحلفاء على درجة النضج التي بلغها الجزائريون الذين أصبحوا تواقين للحرية والانعتاق.
ومما لاشك فيه أن الإدارة الاستعمارية كانت تدرك كل ذلك، كما أنها كانت تعلم أن قيادة حزب الشعب الجزائري التي أمرت بتنظيم المسيرات الشعبية تخليداً لانتصار الديمقراطية في العالم، قد أصدرت في ذات الوقت تعليماتها الصارمة لجميع المناضلين كي لايحملوا معهم أي نوع من أنواع السلاح حتى يظل التظاهر سلمياً وللغرض المشار إليه أعلاه فقط لكن الأهداف الاستعمارية كانت مسطورة من قبل وكانت المسيرة هي المصيدة على حد تعبير السيد فرحات عباس(86).
لقد كان الثامن من مايو سنة خمس وأربعين وتسعمائة وألف يوم ثلاثاء، وبحكم تواجد معظم الميليشيات في المحور الرابط بين برج بوعريريج ومدينة سطيف، فإن هذه الأخيرة قد اختيرت من طرف الإدارة الاستعمارية لتكون منطلق المجزرة الرهيبة التي لاشك في أنها كانت من تخطيط وتنفيذ السلطتين المدنية والعسكرية في الجزائر، وبمباركة حكومة باريس التي كانت برئاسة الجنرال ديغول في ذلك الوقت(87).
إن كل المصادر التاريخية بما في ذلك تقرير الجنرال تيبار (Tubert)(88)، يثبت أن نائب عامل الولاية في سطيف قد أبدى موافقته الشفاهية للوفد الذي ذهب إليه يلتمس الإذن لتنظيم مسيرة شعبية تتوج بوضع أكليل من الزهور على قبر الجندي المجهول.
وفي مدينة قالمة، أيضاً، حصل فرع حركة أحباب البيان والحرية على ترخيص من نائب عامل العمالة. وللتذكير، نشير إلى أن عامل الولاية هو لاستراد كريونال، المشرف العام على فرق الميليشيا. وبالموازاة مع الترخيص فإن نائبي عامل الولاية قد أمرا محافظي الشرطة وضباطها بخلق الفرص لإطلاق النار قصد تفجير الأوضاع وتمكين الكولون والأجناد من ارتكاب الجريمة.
ولم يكن عامل ولاية قسنطينة هو المهندس الوحيد لعمليات القمع الإجرامية رغم أنه كان، بواسطة نائبيه في سطيف وقالمة، معلناً على بداياتها ومسؤولاً على تأجج نيرانها، ولكن مصادر التاريخ فيما بعد، قد أثبتت أن كربونال كان ينشط تحت الإشراف المباشر لسكرتير عام الولاية العامة السيد روني قازان (Rene Gazagne) الذي كان واحداً من دعاة اللجوء إلى العنف لاستئصال الحركة الوطنية في الجزائر(89) والذي كان، إلى جانب غلاة الكولون، قد قام باتصالات واسعة النطاق في فرنسا من أجل ضمان مساندة مجموعة من أصحاب الحل والربط في حكومة باريس.
ولقد كان الكولون وأعوانهم يعتقدون أن التقتيل الأعمى سيمكنهم من القضاء نهائياً على قواعد حزب الشعب الجزائري، ومن زرع الرعب في نفوس كل الجزائريين، قصد صدهم عن مجرد التفكير في محاولة العمل على ضرب المصالح الاستعمارية في الجزائر. ومن الغريب أنهم استطاعوا، بكل سهولة، أن يرسخوا ذلك الاعتقاد في أذهان عدد كبير من أصحاب القرارومن القريبين منهم في أوساط الحكم الفرنسي على اختلاف أنواعه.
فن هذا الباب كان التخطيط للجريمة محكماً، تبناه الجنرال ديغول في أعلى قمة الهرم، وأشرف على تنفيذه من بعيد وزير الحرب الفرنسي آنذاك، السيد تييون (Tillon) الذي كان من الأعضاء البارزين في قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي(90).
ومما يدل دلالة قاطعة على أن القمع كان مبيتاً وأن الإدارة الاستعمارية كانت في أتم الاستعداد له وأن التدخل العسكري جاء سريعاً للغاية حتى في القرى والمداشر النائية. وعلى سبيل المثال، فإن المسيرة التي انطلقت في الأوريسية بالقرب من مدينة سطيف على الساعة الثانية والنصف من زوال اليوم الثامن من شهر مايو قد اصطدمت بفرق من الجيش الفرنسي على الساعة الرابعة أي فقط بعد ساعة ونصف من انطلاقها وهو أمر مستحيل في الظروف العادية. وفي اليوم التاسع من شهر مايو وفي مدينة لافاييت (بوقاعة حالياً) وصل الأجناد إلى مكان المسيرة في ظرف ساعة فقط(91).
على هذا الأساس، وتنفيذاً للتعليمات الصادرة عن عامل ولاية قسنطينة ومساعديه في كل من سطيف وقالمة، أقدم ضباط الشرطة في هاتين المدينتين الأخيرتين على استفزاز المتظاهرين من أجل إيجاد الظروف التي تسمح بإطلاق النار؛ وفي المدينتين كانت تلك الظروف هي محاولة انتزاع العلم الجزائري من أيدي المناضلين الذين رفضوا الامتثال لأوامر ممثلي السلطة الاستعمارية الذين لم يترددوا في اللجوء إلى أسلحتهم(92). وبسقوط الضحايا الأوائل أخذت المسيرات الشعبية السلمية طابعاً آخر جعلها تتحول بالتدريج إلى حركة ثورية ظلت متواصلة طيلة ماتبقى من شهر مايو سنة 1945.
وفيما يخص الاستفزازات البوليسية هناك شهود عيان(93) يذكرون أن المسيرة في مدينة سطيف انطلقت هادئة من ناحية المسجد الجديد، وظلت كذلك حتى قطعت حوالي ألف متر ووصلت إلى مقهى فرنسا على الشارع الرئيسي حيث كان يجلس المفتش لافون Laffont مرتدياً الزي المدني. إن هذا الأخير غادر مكانه بسرعة وراح يخرق صفوف المتظاهرين محاولاً افتكاك اللافتات المنادية بحياة الحلفاء وسقوط الامبريالية من حامليها. وأمام رفض المناضلين ومقاومتهم الشديدة أطلق الرصاص عليهم فكان ذلك إيذاناً ببدء المجزرة على أيدي أفراد الشرطة الذين كانوا يؤطرون المسيرة.
وإن وزير الداخلية الفرنسي نفسه قد أكد أن جميع التقارير التي وصلته لم تتضمن "أي دليل على أن القادة الوطنيين كانوا يريدون إشعال فتيل الثورة الشاملة يوم 8/5/1945. بل إنها (أي التقارير) شكلت لديه قناعة مطلقة بأنهم فقط كانوا يهدفون إلى استظهار قوتهم وإخراج مناضليهم قصد عدهم ودعم انضباطهم ونشر قوتهم أمام السلطات الفرنسية وحكومات الحلفاء"(94).
رد الفعل الوطني والثورة الشاملة:
إن ماأورده السيد أدريان تيكسي هو الحقيقة، وهو الدليل على أن التقارير الواردة إليه كانت صحيحة: لكن الذي ينعدم في شهادة السيد وزير الداخلية هو أن استفزازات الشرطة التي كانت بأمر من مسؤولي الإدارة الاستعمارية هي التي كانت السبب المباشر في إشعال فتيل الثورة الشاملة.
وبالفعل، فإن سقوط الضحايا الأوائل قد أحدث في أوساط المتظاهرين ضجة وارتباكاً كبيرين قادا، في غمرة المفاجأة، إلى مجموعة من ردود الفعل منها على سبيل المثال:
1-ارتفاع الأصوات المنادية ببدء الجهاد في سبيل اللّه، والداعية إلى العودة إلى المنازل وإخراج مافيها من أسلحة ثم الرجوع إلى الشارع للاقتصاص من الأوروبيين بصفة عامة.
2-مغادرة المتظاهرين المدن وأطرافها واللجوء إلى القرى والمداشر، وفي الطريق كانوا يخبرون الناس بأن الجهاد قد أعلن وأن المعارك الطاعنة تدور رحاها في شوارع المدن التي هم منها قادمون.
3-اجتماع القيادات المحلية لحزب الشعب الجزائري. وبعد دراسة الأوضاع رفعت التقارير في حينها إلى اللجنة المديرة المؤقتة في العاصمة التي عقدت جلسة عاجلة في تلك الليلة لم ترفعها إلا بعد أن حصل الإجماع على الإجراءات اللازم اتخاذها لحماية الجماهير الشعبية في الشرق الجزائري خاصة من عمليات التقتيل الجماعي التي انتشرت بسرعة فائقة تحت إشراف قائد القوات المسلحة الجنرال ديفال (Le General Duval) وبمشاركة الكولون المسلحين والشرطة ورجال الدرك والأجناد من مختلف الأسلحة.
4- سجلت اللجنة المديرة المؤقتة لحزب الشعب الجزائري نبأ اعتقال السيدين عباس وسعدان ثم ناقشت جميع المعطيات المتوفرة لديها وقررت أن تكون بداية الثورة الشاملة عند منتصف الليل بين يومي 23و24 مايو 1945، ووزعت المهام على الطريقة التالية:
-يتولى الإشراف على العاصمة وضواحيها السيد محمد بلوزداد.
-توكل مسؤولية الغرب الجزائري للسيدين محمد محفوظي
وعبد اللّه فيلالي.
-تسند مسؤولية الشرق الجزائري للسيدين مسعود بوقادوم
والشاذلي مكي.
-يتولى مسؤولية الجنوب الجزائري السيد أمحمد بن مهل.
-تسند مسؤولية منطقة القبائل للسيد علي حاليت، ومنطقة شرشال للسيد جيلالي رقيمي بينما يتولى السيد أحمد بوده مسؤولية منطقة الأربعاء وتابلاط.
وبدون أدنى تردد أو انتظار شرع في تطبيق القرار الذي وجد كل الترحاب في أوساط القواعد المناضلة، لكن السلطات الاستعمارية لم تتوقف عند الجرائم المرتكبة في ذلك اليوم الرهيب، بل إن القوات الفرنسية المسلحة قد استمرت، خلال الأيام الموالية وبكيفية تصاعدية في ممارسة القمع الأعمى تجاه المداشر والقرى وفي سائر الشرق الجزائري، ولم تترك سلاحاً واحداً بعيداً عن العملية ونظيفاً من دماء الجزائريات والجزائريين الأبرياء.
إن المؤرخين الفرنسيين، وتباعاً الغربيين بصفة عامة يتجاهلون الحقيقة عندما يتحدثون عن رد فعل السلطات الاستعمارية، ولو كانوا موضوعيين لكتبوا عن أفعالها الوحشية واللاإنسانية التي أدت إلى رد فعل جماهير الشعب الجزائري بقيادة طلائعه الوطنية.
فالجزائريون لم يلجأوا إلى العنف إلا بعد أن بدأت الشرطة الفرنسية تطلق الرصاص على المتظاهرين بدون تمييز. عندها فقط ارتفعت أصواتهم مدوية تدعو إلى الاقتصاص وإلى الانضواء تحت لواء الجهاد في سبيل اللّه ومن أجل تحرير البلاد والعباد.
وأمام عمليات التقتيل المنظمة والمستهدفة إبادة أكبر عدد ممكن من الجزائريين، وتصدياً لتحركات فيالق الجيش الفرنسي المدعمة بوحدات إفريقية(95)، وللقصف المكثف الذي كانت تقوم به أسراب الطائرات وقطع البحرية العسكرية، اضطر الجزائريون إلى الهجوم على المراكز الإدارية الرسمية وعلى ثكنات العدو وحصونه حيثما وجدت مستعملين في ذلك كل ماتوفر لديهم من أسلحة بدءاً من السلاح الأبيض وانتهاءاً بالأسلحة الأوتوماتيكية مروراً ببنادق الصيد والمتفجرات التقليدية.
في هذا الإطار، وعلى سبيل المثال فقط، تجدر الإشارة إلى تقرير قائد الدرك الوطني في قرية بني عزيز (شوفراي سابقاً) الذي جاء فيه: "يوم 9/5/45 في الساعة الثانية صباحاً أطلق الرصاص في القرية وتعرضت المنازل إلى الرشق بالحجارة. وعند الساعة السابعة قام أكثر من ألف رجل بتطويق الثكنة وأمطروها بوابل من نيران الأسلحة الفردية والأوتوماتيكية. ثم أتلفوا قنوات المياه وخط الكهرباء. وقد كان عملهم يتميز بانضباط عسكري بحت. وفي الساعة العاشرة وعشرين دقيقة تدخلت مجموعتان من الطائرات المطاردة، لكن المهاجمين بادروا إلى إطلاق نيران مكثفة على جميع فتحات الثكنة. وفي نفس الوقت قام حوالي مائة منهم بالدخول إلى الطابق الأرضي مضطرين المدافعين على اللجوء إلى الطابق الأول. وأشعلت النار في الأسطبل وفي المخازن... وفي يوم 10/5/1945 تدخلت وحدات عسكرية متنقلة لتشتيت المحاصرين الذين كانوا يستعدون لتفجير الثكنة بواسطة ما اقتنوه من متفجرات"(96).
عمليات الإبادة وتشغيل الأفران:
كانت عمليات القمع رهيبة. ونحن نعتقد، رغم كل مانشر، أن نتائجها لم تضبط حتى الآن، ولايمكن أن تحصر بصفة دقيقة ونهائية، لكن الذي لايعتريه أدنى شك هو أنها تأتي في مقدمة جرائم الحرب المرتكبة ضد الإنسانية، قبل كل الجرائم التي تحظى اليوم بعناية المؤرخين ورعاية الدول العظمى والمنظمات الدولية وخاصة منها منظمة الأمم المتحدة.
فالأفران المحرقة شغلت نواحي مدينة قالمة: ومازال الشعب يذكر، بألم وحسرة، كيف كانت تبتلع بنهم مئات الجثث الطاهرة البريئة. غير أن العالم، اليوم، لايتحدث إلا عن الأفران التي قد يكون الألمان استعملوها لحرق اليهود أثناء الحرب الامبريالية الثانية. كما أن وسائل الإعلام الدولية ترفض أن تتوقف عند الأفران الأولى التي أقامها الجيش الاستعماري في منطقة الضهرة ليحرق قبيلة أولاد رياح مع معظم حيواناتهم الأليفة.
إن الوحشية الاستعمارية لم تتغير كثيراً خلال قرن كامل من السيطرة والاضطهاد والاستغلال، ولم تتغير كذلك سلوكات الضباط الفرنسيين وتصرفاتهم إزاء الجزائريين. ويكفي للتدليل على مانقول أن نسوق فيما يلي اعترافات الجنرال كافينياك (Cavaignac) حول مافعله لإبادة قبيلة بني صبيح سنة 1844. قال الجنرال: "لقد تولى الأجناد جمع كميات هائلة من أنواع الحطب ثم كدسوها عند مدخل المغارة التي حملنا قبيلة أولاد صبيح على اللجوء إليها بكل ماتملك من متاع وحيوانات. وفي المساء أضرمت النيران وأخذت الاحتياطات كي لايتمكن أي كان من الخروج حياً"(97).
وبالنسبة لبقايا بني صبيح الذين نجوا من فرن كافينياك بسبب وجودهم خارج أراضي القبيلة، فإن العقيد كانروبار (Canrobert) لم يدخر أي جهد للبحث عنهم، ولما تسنى له جمعهم بعد حوالي عام من حرق أهاليهم، فإنه قادهم مقيدين إلى مغارة ثانية ثم أمر ببناء جميع مخارجها ليجعل منها على حد تعبيره "مقبرة واسعة لإيواء جثث أولئك المتزمتين. ولم ينزل أحد إلى تلك المغارة، ولايعرف أحد غيري أنها تضم تحت ركامها خمسمائة من الأشرار الذين لم يقوموا، بعد ذلك، بذبح الفرنسيين". وفي تعليقه على هذه الجريمة قال السيد برار: (Berard) لقد ظلت تلك المقبرة مغلقة وبداخلها جثث رجال ونساء وأطفال وقطعان تتآكل أويأكلها التراب"(98).
أما الرائد مونطانياك (Montagnac) الذي كان يقود الجيش الاستعماري بنواحي سكيكدة سنة 1843، فإنه لم يكن من هواة الأفران المحرقة أو المقابر الجماعية، لكنه كان عندما يجتاحه القلق يلجأ إلى "قطع رؤوس العرب" لاعتقاده بأن العرب بدءاً من خمس عشرة سنة يجب أن يقتلوا. أما النساء والأطفال فيشحنون إلى جزر المركيز أوغيرها، وبتعبير آخر، يجب أن نبيد كل من يرفض الزحف كالكلاب عند أرجلنا"(99).
إن أحفاد يبليسي وكافينياك وكانروبار ومونطانياك وبيجوقد استنطقوا التاريخ وتعلموا من دروسه كيف يتعاملون مع الإنسان العربي في الجزائر؛ فالجنرال ديفال القائد الأعلى للقوات المسلحة في الجزائر والجنرال فايس (Weiss) قائد القوات الجوية والبحرية في ذلك الأسبوع الثاني من شهر مايو 1945 قد أصدرا تعليماتهما لتشغيل الأفران المحرقة في نواحي قالمة ولكي تقنبل الدواوير والمداشر حتى في رؤوس الجبال وتطلق أيادي الكولون والأجناد تعبث كيفما شاءت بحياة الجزائريين ومصائرهم.
ففي هذا السياق كتب الضابط بارجوري (Bergeret) في مذكراته "لقد كانت قنبلتنا للمداشر المحيطة بخراطة لاتتوقف أثناء الليل وأثناء النهار، ولدفن جثث المسلمين، فإن الأجناد كانوا يأتون بالأسرى الذين، بعد الانتهاء من مهمتهم، توجه إليهم المدافع الرشاشة"(100).
أما "بريد الجزائر" (le courier algerien)، فإنه أورد على أعمدته مايلي "منذ سنة 1842 والمارشال سانتارنو، وحتى في أحلك أيام تاريخها، فإن الجزائر لم تعرف أبداً قمعاً أكثر وحشية ضد شعب أعزل" فعلى الطرقات وعبر الدروب وفي الحقول والوديان والكهوف، لاترى سوى جثث مبتورة تلتهمها الكلاب الجائعة: جثث نتنة تحوم عليها الكواسر.. وفي أماكن متعددة أطلال لقرى مدكوكة"(101).
لقد اختلف المؤرخون وشهود العيان حول تقدير الخسائر البشرية. فالقنصل الأمريكي بالجزائر يرى أن عدد القتلى يتراوح مابين أربعين وخمسين ألف، بينما يحدد الجزائريون قتلاهم بخمسة وأربعين ألف وهو الرقم الذي تبنته الجامعة العربية في ذلك الوقت. أما السلطات العسكرية الفرنسية فتجعل عدد القتلى بتراوح مابين ستة وثمانية آلاف يضاف إليهم نفس العدد من الأسرى (102). وإذا كانت سائر الكتابات قد سجلت أرقاماً متباينة من القتلى والجرحى والأسرى، وتحدثت طويلاً عن المحاكمات التي أسفرت عن كثير من الإعدامات والأشغال المؤبدة والنفي خارج الوطن والحرمان من الحقوق المدنية، فإن السكوت كان عاماً ومطلقاً بالنسبة للخسائر وللأضرار المعنوية. ولقد كان من المفروض أن يتعرض المؤرخون وغيرهم ممن عالجوا حركة مايو الثورية إلى كل تلك المداشر والقرى التي نسفت عن آخرها وإلى كل تلك الحيوانات الأليفة والدواجن التي لم يكن يخلو منها بيت ريفي، وإلى كل تلك الغابات التي تلقت آلاف الأطنان من القنابل التي تساقطت عليها من الجو ومن البحر، كما أنهم لم يتعرضوا لآلاف المصابين نفسياً وعقلياً نتيجة عملية القمع والتعذيب وبسبب المطاردات والملاحقات.
إن الإدارة الأمريكية، في ذلك الحين، قد نشرت على أعمدة الصحافة أن الطيران الفرنسي نفذ في ظرف أسبوعين 4500 غارة جوية لتدمير 44 مشتى حسب الإحصاء الاستعماري نفسه فإذا كانت كل مشتى تأوي فقط 500 ساكن، فإن عدد القتلى بواسطة القصف الجوي لن يكون أقل من 22.500 أما عن البحر، ست عشرة سفينة قامت، لمدة أسبوعين كذلك، بقصف الأرياف المجاورة لموانئ بجاية وجيجل والقل وسكيكدة وعنابة، وليس من السهل تقدير الخسائر البشرية والمادية التي ترتبت عن ذلك القصف.
إن الدارس المحقق يرفض التسليم بعدد القتلى المتداول اليوم والذي تستبعده المصادر الرسمية الفرنسية التي تجد دعماً لها في منشورات الحزبين الشيوعي والاشتراكي الفرنسي بالإضافة إلى كتابات الشيوعيين الجزائريين. إن استنطاق مختلف التقارير المعاصرة والكتابات المنشورة على أعمدة الصحافة أو المرسلة في طي الكتمان إلى قيادات الجيش الفرنسي أو إلى سائر الجهات الحكومية الفرنسية، وكذلك التمعن في شهادات المعاصرين وفي القصائد الشعرية والأغاني والأهازيج التي خلدت ماوقع في ذلك الشهر المبارك، كل ذلك يقود إلى تصديق ماجاء في تصريح الدكتور ابن جلول أمام نواب المجلس الوطني التأسيسي الفرنسي بتاريخ 28/2/1946 من أن عدد القتلى المسلمين بلغ في ذلك الشهر ثمانين ألفاً(104).
ولقد كان السيد فرحات عباس في مقدمة المحللين لما وقع في شهر مايو 1945، ساعده على الارتقاء إلى تلك المكانة ماكان يتمتع به من أفق واسع واطلاع كبير على المعطيات الحقيقية بالإضافة إلى تلك العزلة الطويلة التي فرضت عليه ابتداء من الثامن من مايو 1945 إلى السادس عشر من مارس 1946. يقول الأمين العام السابق لحركة أحباب البيان والحرية في نداء وجهه إلى الشبيبة الجزائرية والفرنسية: "لقد كانت مغامرة سطيف وقالمة الفظيعة موجهة ضدنا وضد أحباب البيان والحرية، ضد طموحات شعبنا الشرعية.. ضد الديمقراطية الفتية في الجزائر. شرع في تنفيذها بينما كان الوئام يسود العلاقات القائمة بين حركتنا وسائر التنظيمات الديمقراطية. وكان الغرض هو عزلنا وإثارة أوربي الجزائر والشعب الفرنسي ذاته ضد إصلاحاتنا وكان المقصود (أيضاً) هو القضاء علينا وتنظيم الانتخابات بدوننا وتحضير الرجوع إلى الوراء... إلى عهد الاستعمار.
المطلق... إنها جريمة شنعاء ارتكبتها الإدارة، وبشر بها كثير من المغرضين، خاصة منهم لاستراد كربونال (Lestrade Carbonnel) عامل الولاية الذباح الوصولي الذي صرح يوم 20/4/1945 قائلاً: "إن عمليات كبيرة ستحدث ضد حزب سياسي يقع حله فيما بعد". فللقضاء علينا، ذهبوا إلى حد ارتكاب الجريمة. وضد شعب أعزل، سلحوا وجمعوا في شكل مليشيات عصابات من الأوغاد والرجعيين. إن لاستراد كربونال -درناند الجزائر-(105) وكذلك عملية أشياري (Achiary) وغيرها ممن زرعوا في أريافنا رعباً هتليرياً بشعاً عليهم، اليوم، أن يدفعوا مقابل الجرائم التي ارتكبوها.. إن ملف الثامن من مايو لم يغلق بعد".
تراجع القيادة الثورية وموقف التشكيلات السياسية:
إن رأي عباس، في هذا الموضوع، هو عين الصواب. وليس ملف الثامن من مايو، وحده، هو الذي لم يغلق ولكن الملف الإجمالي لكامل الحركة الثورية كله لم يزل مفتوحاً، إلى غاية هذا اليوم، وهو ينتظر اهتمام المؤرخين الوطنيين ورعاية المؤسسات الرسمية في بلادنا لأن جهد الأفراد وحده غير كاف للفصل في كثير من القضايا بكيفية تضمن الوفاء لأرواح شهداء وضحايا القمع الاستعماري في الجزائر. وعندما نقول: إن جهد الأفراد وحده لايكفي، فإننا لانصدر حكماً انطلاقاً من فراغ، ولكننا نعتمد في منطوق حكمنا على أحداث وقعت بالفعل وهي كثيرة وإن كنا نكتفي، هنا، بالإشارة إلى اثنين منها فقط على سبيل المثال.
1-في شهر مايو 1985 ألقيت محاضرة أمام طلبة المدرسة العليا للتجارة بدعوة من مديرها العام صديقي الدكتور سيد علي بوكرامي. ونظراً للمكان والزمان وجدتني مساقاً للتركيز على مسألتي الديون الجزائرية المترتبة على حكومة فرنسا قبل الاحتلال، والتعويض عن جرائم الحرب التي ارتكبتها الإدارة والجيش الاستعماريين في بلادنا خلال الفترة الممتدة من سنة 1830 إلى سنة 1962، وبعد تحليل الوثائق الرسمية الموجودة بدور المحفوظات، والتوقف طويلاً عند شهادات المعاصرين لعمليات الإبادة التي تعرضت لها جماهير الشعب الجزائري، خلصت إلى توجيه نداء إلى السلطات الجزائرية المعنية كي تنشر أمام محكمة العدل الدولية دعوى من أجل الحكم على حكومة فرنسا بأن تدفع للشعب الجزائري جميع مستحقاته التي قدرتها في ذلك الوقت بمبلغ 132 ألف مليار فرنك فرنسي.
ونشرت أسبوعية الجزائر الأحداث، يومها، ملخصاً عن المحاضرة ترتب عليه احتجاج من السفارة الفرنسية تسبب لي في مجموعة من المشاكل ليس هذا مكان سردها.
2-ومن غريب الأمور أن السلطات الفرنسية مازالت، إلى يومنا هذا، تلاحق مجرمي الحرب من الألمان ومن الفرنسيين، وعندما تعثر عليهم في أي مكان من الدنيا، فإنها تلجأ إلى جميع الوسائل والحيل من أجل استقدامهم ومحاكمتهم في جو إعلامي وطني وعالمي رغم مرور أكثر من خمسين سنة على الأفعال المرتكبة ورغم تقدم المتهمين في السن ولجوئهم إلى الاغتراب والتستر بأسماء مستعارة أمثال كلوز باربي ويول توفي وغيرهما.
وعلى غرار السلطات الفرنسية، فإن الكيان الصهيوني لم يتوقف، منذ أن وضعت الحرب الامبريالية الثانية أوزارها، عن مطاردة المشتبه في أنهم شاركوا من قريب أو من بعيد في تعذيب اليهود واضطهادهم، كما أنه يغتنم جميع الفرص لإشعار السلطات الألمانية بالذنب وجعلها لاتتوقف عن تقديم المبالغ الباهظة والمساعدات المختلفة تعويضاً عن الأضرار التي قد يكون الجيش الألماني قد ألحقها بأبسط يهودي في أقصى مكان من أنحاء العالم.
وعندما يتعلق الأمر بالجرائم المرتبكة ضد الإنسانية في الجزائر، فإن المسؤول الأول عن وقوعها لايتردد في الحديث عنها بكل استخفاف ولايوجد من الجزائريين من يتجرأ حتى على توجيه التهمة إليه. لقد كان الجنرال دي غول يتابع عن كثب عمليات التقتيل الجماعي التي تعرضت لها الجماهير الشعبية في الشرق الجزائري، وعلى الرغم من ذلك، فإنه كتب إلى الوالي العام بتاريخ 12/5/1945 يأمره باتخاذ "جميع الإجراءات الضرورية لقمع كل الأعمال المناهضة لفرنسا والتي تقوم بها أقلية من المشاغبين"(107). وعندما نشرت مذكراته سنة سبعين وتسعمائة وألف جاء فيها بالحرف الواحد: "وفي نواحي القسنطينية وبالتزامن مع اضطرابات شهر مايو الثورية، ظهرت بداية ثورية قضى عليها في المهد الوالي العام شاتينيو"(108).
وعلى أي حال، فإن شدة القمع واتساع عمليات الإبادة بكيفية يصعب على العقل تصويرها قد أجبرا قيادة حزب الشعب الجزائري(109) على البقاء في اجتماع متواصل تدرس التقارير المرفوعة إليها من سائر أنحاء الشرق الجزائري الذي كان يعيش حالة الحرب الطاحنة، ومن باقي جهات الوطن التي نقلت إليها الأوامر الخاصة بإشعال فتيل الثورة ليلة الرابع والعشرين من شهر مايو كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. وفي يوم 18/5/1945 خلصت القيادة المذكورة إلى أن الاستعدادات اللازمة للكفاح المسلح غير كافية، وأن شروط الانتصار على العدو غير متوفرة، وبالتالي فإن الاستمرار في تعميم الثورة سوف لن يزيد إلا في مضاعفة التقتيل والقمع بجميع أنواعه، ومن ثمة اتخذ القرار بالإجماع على تسيير رسل تحمل لكافة القيادات المحلية في مختلف أنحاء الوطن أوامر الكف عن القتال حيث تدور المعارك وعدم البدء فيه حيث لم تنشب المعارك بعد.
ومن المتفق عليه، اليوم، أن الأوامر المضادة قد وصلت في وقتها إلى جميع القيادات المحلية لكن بعض المسؤولين(110) رفضوا تطبيقها ليس عصياناً أو تقصيراً ولكن لأن التحضيرات في مناطقهم أوشكت على الانتهاء، ولأن حماس المناضلين والمواطنين لم يعد ممكناً معه التراجع والعودة إلى الوراء. هكذا، شهد صباح الرابع والعشرين مايو 1945 عمليات فدائية استهدفت أعمدة الهاتف والكهرباء وبعض مراكز الشرطة والدرك الوطني والسكة الحديدية في عدد من جهات الوطن، غير أن ذلك ظل مقتصراً على مناطق محدودة ولم يدم سوى أيام معدودة(111) تفرقت بعدها جحافل المناضلين وتمكن بعضهم من اللجوء إلى الجبال في نواحي الأوراس والقبائل والنونشريس، في حين وقع في الأسر بعضهم الآخر وعدد من الإطارات القيادية.
أما الإدارة الاستعمارية، فإنها لم تتوقف عند حد، ولم يؤثر في مسؤوليها على اختلاف مشاربهم، مابلغه القمع من وحشية؛ بل إن قادة الميليشيا وضباط الأمن والجيش كانوا يتنافسون حول من يتألق أكثر من غيره في ممارسة أنواع التعذيب والإهانات والاعتداء على الحرمات وفي التمثيل بقتلى المسلمين. وأصبحت "مودة" أن يجمع المسؤولون الأوربيون آلاف الجزائريات والجزائيين في الساحات العمومية ثم يأمرونهم بالسجود للعلم الفرنسي بعد أن يكونوا أرغموهم على ترديد عبارات بذيئة مثل: "نحن كلاب.. وفرحات عباس كلب"(112).
إن السلطات الاستعمارية لم تراع حتى أكثر الجزائريين موالاة لها، ولم ينج من القمع الشديد حتى أكبر عملائها أمثال ذلك الباشاغا الذي صرح لمراسل بريد الجزائر قائلاً: "إنني، ماحييت، لن أنسى تلك الاغتصابات والحرائق وتلك المدافع والمدافع الرشاشة والجيوش المدججة بالسلاح والاعتقالات والإعدامات الجماعية"(113). ومما لاشك فيه أن القمع الأعمى هو الذي جعل الطلقاء من مسيري حركة أحباب البيان والحركة يقدمون، رغم حل الحركة رسمياً يوم 14/5/1945، على توقيع نشرة بتاريخ 18/5/1945 يدينون فيها، باسم المكتب المركزي، "كل الذين جاؤوا، من داخل الحركة أو من خارجها، تشويه النوايا الحسنة وفعل وضع لتحقيق أغراض سلمية وجمهورية"(114). لقد كانوا يعتقدون أن مثل ذلك الموقف يكفي لإقناع الإدارة الاستعمارية بعدم مسؤوليتهم عما يجري؛ ولو فكروا قليلاً ورجعوا أسبوعاً واحداً إلى الوراء لفضلوا الصمت لأنهم كانوا سيتأكدون من أن المسؤول الأول عن الجريمة إنما هم أنفسهم الذين وجهت إليهم النشرة وهم ذات الأشخاص الذين كانوا قد استدعوهم بواسطة عامل ولاية الجزائر، يوم 9/5/1945 وحملوهم مسؤولية ماقد يحدث في العاصمة. وكما أن النداء الذي وجهه المكتب المركزي إلى الجزائريين قصد "إدانة العناصر الذين يزرعون الرعب ويرتكبون الأعمال الإجرامية ويلبسون الجزائر ثوب الحداد"(115)، لم يؤخذ في الاعتبار من أي طرف كان، فإن النشرة قد ظلت على ورق ولم يستفد منها سوى العقيد شون(116) (Schoen) في تقريره إلى وزارة الداخلية.
كان يرى الوالي العام، السيد شاتينيو، أن عدم الإكتراث بالمواقف الجديدة الصادرة عن القياديين القدامى لأحباب البيان كان خطأ فادحاً لأنه، إذا أرضى كبار الكولون، فإنه ضيع فرصة ثمنية على الإدارة الاستعمارية التي كان يمكن، بواسطتهم أن تطبق مجموعة من الإصلاحات، بالنسبة للوالي العام، كفيلة بأن "يجعل السكان الأهالي يدخلون بصدق إلى المجموعة الفرنسية. أما حرمانهم من ذلك، فإنه سيدفعهم إلى الانزواء على النفس في انتظار فرصة سانحة لمحاربة التخلص من سادتهم الفرنسيين"(117).
ولم يكن موقف الجنرال ديفال، قائد عمليات القمع والإبادة، مختلفاً عن موقف السيد شاتينيو، بل كان فقط، أكثر دقة عندما ذكر في تقريره: "إن وقع سيتكرر بأكثر فظاعة وبكيفية لن تكون قابلة للمعالجة"(118).
وسوف يظل موقف الحزب الشيوعي الفرنسي أكثر مواقف التشكيلات السياسية وضوحاً لسببين رئيسيين هما:
أ-اشتراكة الفعلي في ارتكاب الجريمة بواسطة إطاراته السامية الذين كانوا يشغلون مجموعة من مناصب الحل والربط في الحكومة الفرنسية المؤقتة. وفي مقدمة تلك الإطارات لابد من التركيز على السيد تيون المشار إليه أعلاه.
ب-أيديولوجيته التي ترفض الاعتراف بوجود الشعب الجزائري ككيان مستقل أو قابل للاستقلال عن الشعب الفرنسي، بل أن السيد موريس توريز، الأمين العام، الذي قضى كل سنوات الحرب في موسكو عاد إلى باريس في نهاية عام 1944 وهو أكثر تمسكاً برأيه القائل إن الأزمة الجزائرية في طور التكون وإن عدد عناصرها المكونة عشرون كما سبق الحديث عن ذلك في مستهل هذه الدراسة.
فمنذ اللحظات الأولى، بادر الحزب الشيوعي الفرنسي إلى المطالبة "بتسليط أشد العقوبات على منظمي التمرد وأعوانهم ممن قادوا المسيرات"(119)كما أنه لم يتردد في اتهام قادة الحركة الوطنية بالعمالة للنازية ولغلاة الكولون لأنهم "خدعوا جماهير المسلمين بسعيهم إلى إحداث القطيعة بين السكان الجزائريين وشعب فرنسا"(120).
وركب الحزب الشيوعي الجزائري موجة رائده الحزب الشيوعي الفرنسي فراح يكيل الاتهامات لإطارات حزب الشعب الجزائري محملاً إياهم مسؤولية إراقة الدماء ومدعياً أنهم يعملون في ركاب النازية ويطبقون تعليمات هتلر "التي لاتخدم سوى مصالح الاقطاعيين الذين ينادون بالانفصال عن فرنسا"(121).
وإذا كان السيد عمار أوزقان، الذي كان أميناً وطنياً للحزب في ذلك الوقت قد كتب في Liberte يصف قادة حزب الشعب الجزائري بالمجرمين عملاء الفاشية والمغامرين الذين أسقطوا قناع المسلمين والوطنيين المزيفين(122)، "فإن السيد كاباليرو (Caballero) وهو أمين وطني آخر لم يجد مانعاً من اتهام المطالبين باسترجاع الاستقلال الوطني بالعمالة للامبريالية عن وعي أوبكيفية غير واعية"(123).
من هذا المنطلق، فإن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري تنكر على حركة مايو 1945 طابعها الثوري وتحصرها، فقط، في إطار التظاهر من أجل الخبز، وعليه فهي ترى أن الجرائم المرتكبة من طرف أمثال أشياري نائب عامل العمالة بقالمة إنما هي دفاع عن النفس وحماية لأمن السكان، وتقر أن الميليشيا ومصالح الشرطة والأجناد على اختلاف وحداتهم لم يتجاوزوا حدود ماكان مطلوباً منهم. وحتى بعد مرور الزمن، فإن الشيوعيين ظلوا متمسكين. بموقفهم الخاطئ والقائل: "إن حزبنا كذب وجود ثورية عربية: لاوجود لثورة عربية، ولكنها مؤامرة فاشية، ولقد أشار الحزب يومها، إلى مايجب فعله ليعم الأمن في الجزائر: تزويد السكان المسلمين بالغذاء وتشديد العقاب على المقاتلين الهتليريين الذين ساهموا في أحداث الثامن من مايو، واعتقال المسؤولين الحقيقيين الذين كانوا، بالأمس يزودون "رومل" وطرد الموظفين السامين من مناصبهم"(124).
وعلى الرغم من هذه المواقف المتفرقة، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد تأثر إلى حد بعيد بكل ماجرى في إطار حركة مايو الثورية، وتأكد من خلال التضحيات التي أقدمت عليها جماهير الشعب الجزائري، أن تحليلاته خاطئة بالنسبة لواقع الجزائر ومستقبلها، ولذلك، بادرت قيادته إلى اتخاذ عدد من التدابير الرامية إلى تقليص الهوة الفاصلة بين أيديولوجيتها والأيديولوجية الوطنية..
وتعود بدايات هذا التوجه الجديد إلى مستهل شهر يوليو 1945، عندما أصبحت أدبيات الحزب تقتصر على إدانة القادة الوطنيين وتطالب بضرورة العفو عن "الجحافل المغرر بها من الجزائريين"، ثم تطورت تلك الأدبيات مع حلول شهر أغسطس(آب) الذي شاهد، في يومه الثاني عشر، صدور بيان عن اللجنة المركزية تضمن على وجه الخصوص المطالبة بإطلاق سراح ضحايا القمع الأعمى وإعادة النظر في الأحكام الصادرة عن المحاكم الاستثنائية وبإلغاء المندوبيات المالية واستبدالها بمجلس جزائري(125).
لكن الإشارة إلى ذلك التطور الذي يمكن اعتباره إيجابياً بالمقارنة مع المواقف الشيوعية السابقة لاتعني، أبداً، أن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري قد ابتعدت، كلية، عن المحاور الأساسية التي تبنى عليها توجهات الحزب الرئيسية، بل أن بيان شهر أغسطس المذكور نفسه قد استلهم في جل عناصره فكرة "الأمة الجزائرية التي في طور التكوين" وتوقف، طويلاً، عند ضرورة اتحاد الأوربيين والمسلمين واليهود، لمواصلة السير الحثيث في الطريق المؤدى إلى تشكيل مجموعة وطنية جزائرية تكون قادرة على أن تعيش حياتها الخاصة"(126). لا يهم أن تكون تلك "المجموعة الوطنية" مكونة من الكولون المتوسطين والصغار (العنصر الأوربي) والفلاحين والخماسين (العنصر الإسلامي) والموظفين والتجار (العنصر اليهودي) مادام الهدف ليس هو استرجاع السيادة المغتصبة وإقامة الجمهورية الجزائرية المستقلة، وإنما هو "دعم التحالف المثمر مع الشعب الفرنسي في كفاحه من أجل إقامة جمهورية حقيقية"(127).


 الهوامش
1-نحن نفضل هذه التسمية على "الحرب العالمية الثانية"، "لأن الدول الامبريالية هي التي أشعلت فتيلها لأسباب توسعية في أساسها أو لتصفية حسابات بينها. أما بقية العالم المستعمر (بفتح الميم) بطريقة أو بأخرى، فإنه يحمل أعباءها مرغماً، ولذلك من اللامعقول أن نظل تابعين لمؤرخي الاستعمار فيما وضعوه من مصطلحات ومفاهيم تقوم بأدوار حاسمة في تعليل التاريخ.
2-تعني بذلك خاصة السيد الحاج مصالي الذي كان مجبراً على الإقامة بقصر الشلالة (ريفيل سابقاً) والشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي كان بنفس الصفة في قرية أفلوفي الجنوب الغربي من البلاد.
3-المقصود بهؤلاء هم إطارات حزب الشعب الجزائري وهم كثر.
4-نذكر على وجه الخصوص السيد فرحات عباس.
5-تم تحرير هذا البيان يوم 10/2/1943 وسلم مباشرة إلى ممثلي الحلفاء في الجزائر العاصمة ثم نقل بطريقة خاصة يوم 31/3/1943 إلى السيدة بايروتون (Peyrouthon) الحاكم العام الذي استنكر بعض أجزائه وطلب ملحقاً تصحيحياً فسلم إلى خلفه الجنرال كاترو (catroux) يوم 11/6/1946.
6-في هذا المجال ينبغي الرجوع خاصة إلى القانون الصادر بتاريخ 24/4/1833، والأمرية المؤرخة بيوم 22/7/1834 والمرسوم الموقع بتاريخ 23/8/1898 وكذلك قانون فيفري سنة 1919 والأمرية الصادرة بتاريخ 15/12/1945.
7-جورج كاترو، من مواليد ليموج سنة 1877، كان حاكماً عاماً للهند الصينية سنة 1940، انضم إلى الجنرال ديغول فعينه سنة 1941 مندوباً سامياً على سوريا ثم خلفاً للسيد بيروتن في جوان 1943. وعندما وضعت الحرب أوزارها عين سفيراً لفرنسا لدى الاتحاد السوفياتي، عينه في مولي وزيراً مكلفاً بالجزائر سنة 1956 لكن المعمرين رفضوه فلم يلتحق.
8-هو أوغستين بارك والد جاك بارك، وقد أدى دوراً في تجذير الاستعمار ببلادنا.
9-كانت المجموعة مشكلة من: الدكتور عبد النور طمزالي، الدكتور ابن جلول، الدكتور لخضاري، والسادة: عبد السلام طالب، خيار غراب، خليل طمزالي، شنتوف عده، أحمد فرنسي، روني فضيل، حسان باشترزي، عباسة وابن علي شريف.
10-يزعم الجنرال ديغول في "مذكراته عن الحرب" أنه بينما كان يلقي خطابه كان الدكتور ابن جلول ومعه عدد من المسلمين يبكون من الفرح.
11-لكن كلوه كالووجان روبرت هنري في "نصوص الحركة الوطنية الجزائرية 1912-1945" ص:171 يشيران إلى أن القرار مؤرخ بيوم 19/12/1943.
12-تكونت اللجنة من اثني عشر عضواً نصفهم من المسلمين وهم: شيخ العربي بوعزيز بن قانة، الشيخ الطيب العقبي، قاضي عبد القادر، الدكتور ابن جلول، الدكتور عبد النور طمزالي، روني فضي.
13-مرسوم اقترحه وزير العدل الفرنسي أدولف كريميو (Adolphe Cremieux)، وصدر في شهر أكتوبر سنة 1870 لتمكين يهود الجزائر من الجنسية الفرنسية. ألغي سنة 1940 بعد انهزام فرنسا.
14-commission chargee d‘etablir un programme de reformes politiquesociales et economiques en faveur des musulmans francais s‘Algerie Alger imprimerie officelle, 1944 Tome 2 page 66 et suivants.
15-نفس المصدر.
16-نفس المصدر.
17- M GAZEF, a la recherche d‘une nouvelle politique coloniale en 194 paris, 1972, page 271 et suivants.
18-كان ذلك أمام المجلس الاستشاري، وكان ممثل الحزب الشيوعي هو السيد أندريمارسي (Andre Mercier)، انظر جريدة لييرتي (liberte) الصادرة بتاريخ 20/1/194
19- Akrouf (Daoud) aux origines su FL.N. les amis du manfiest, et de liberte, Alger, 1967, page 105.
20-يذكر السيد فرحات عباس بهذه المناسبة أن الحاج مصالي، بعد أن أعطاه موافقته، حذره قائلاً: "أن فرنسا لن تعطيك شيئاً. إنها لاتخضع إلا للقوة، ولاتسلم إلا ماينتزع منها انتزاعاً". انظر: Lanuit coloniale ص152-21 جاءت هيكلة "أحباب البيان والحرية" على النحو التالي:
المكتب المركزي أو المكتب السياسي
المؤتمر
اللجنة المركزية
اتحادية عمالة قسنطينية اتحادية عمالة الجزائر اتحادية عمالة وهران
الفروع
21-
22-قرأت في أرشيف السيد فرحات عباس التقرير المقدم للمؤتمر المنعقد بالجزائر أيام 2-3-و4 مارس 1945. أن عدد المنخرطين بلغ نصف مليون موزعين على 163 فرعاً أكثر من نصفها في عمالة قسنطينية.
23-تشكل مكتب الجمعية في ذلك الوقت من أمثال عبد الرحمن كيوان ومراد بن أونيش ومحمد ساطور وبسرعة كبيرة أنشأت الجمعية بمساعدة الحزب، فروعاً لها في سائر كبريات مدن الجزائر.
24-تكون مكتب الرابطة من مناضلين في مقدمتهم ابن يوسف بن خدة وشوقي مصطفاي وعمر بن مبخوت.
25-كانت الطباعة تتم في بيت المناضل لزرق في Fontaine Franiche تحت المسؤولية السياسية للمناضل محمد طالب الذي كان عضواً بالمكتب السياسي لحزب الشعب الجزائري المحلول. أما الأقلام فكانت كثيرة ومن أبرزها: حسين عسله، مفدي زكريا، محمد الأمين دباغين، محمود عبدون...
26-انظر الجزائر الأحداث الصادرة بتاريخ 4-9 مايو 1969.
27-انظر نص المذكرة مترجماً إلى الفرنسية في
Claude collot-Jean Robert Henry Le
28- mouvenent nationl Algerien, Textes 1912-1954, OPU Alger SD P191 et suivants.
دامت الجمهورية الثالثة في فرنسا من يوم 4/9/1870 إلى يوم 10/7/1940 كان أول رئيس فيها هو أدولف تيار (Adolphe Thiers) الذي حكم من يوم 30/8/1871 ليوم 24/5/1873، أما آخر رئيس فيها فكان ألبار لويران (Albert Lebrun) الذي حكم يوم 15/4/1939 إلى يوم 10/7/1940.
29-انظر نص اللائحة في كولو المصدر السابق، ص187.
30- المصدر نفسه، ص203.
31-انظر نص البيان في نفس المصدر، ص:188 ومابعدها.
32-انظر جريدة لبيرتي (Liberte) في عددها الصادر بتاريخ 14/9/1943
33- انظر نص التقرير العام الذي قدمه السيد عمار أوزقان إلى الإطارات المشاركة في الندوة المركزية للحزب الشيوعي المنعقدة بقاعة الماجستيك (الأطلس حالياً) يومي 23و 24/9/1944.
34-انظر جريدة لومانيتي Lhumanite في عددها الصادر بتاريخ 25/10/1935
35- المصدر نفسه .
36-بغول (يوسف)، "بيان الشعب الجزائري. مساهمته في الحركة الوطنية "المجلة الجزائرية للعلوم القانونية والاقتصادية والسياسية، ج11، الصادر في شهر ديمسمبر 1974 ص215 ومابعدها.
37-لقد استغل الشيوعيون نفوذ الحزب الشيوعي الفرنسي، في ذلك الحين، ليلتمسوا تسليط القمع البوليسي على الإطارات القيادية لحزب الشعب الجزائري، كما جاء ذلك في تقرير السيد عمار أوزقان إلى الندوة المركزية التي عقدها الحزب الشيوعي بالجزائر العاصمة يوم 23/9/1944.
38-كان السيد فرحات عباس هو المدير المسؤول، أما رئاسة التحرير فقد أسندت إلى السيد عبد العزيز كسوس الذي كان يتمتع بتكوين سياسي كبير وتجربة نقابية واسعة بالإضافة إلى قلم طبع وأفكار واضحة.
39-هناك من يدرك أن السحب، في نهاية الفصل الأول من سنة 1945، بلغ 130.000 عدد، لكننا نستبعد ذلك لأن الأمية المتفشية في ذلك الوقت لم تكن تسمح بوجود مثل هذا العدد من القراء لجريدة واحدة.
40-انظر نشرة اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني الصادرة بتاريخ 1/10/1944.
41-رئيس هذه اللجنة هو محمد طالب، عضو اللجنة المديرة للحزب، أما أعضاؤها فكثر وتتفق معظم الروايات على الأسماء التالية: عبد الرحمن ياسين، موسى بوالكروا، رشيد وأعماره، مسعود بوقدوم، علي زاوي، عمر حمزة، عمار مسعودي وأحمد فايته.
42-انخرط في صفوف نجم شمال إفريقيا سنة 1933، وعين عضواً باللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري منذ تأسيسه لكنه استقال في بداية سنة 1939 استجابة لطلب الحاج مصالي الذي كان قد قرر فصل أعضاء كل المجموعة "حفاظاً على الحزب "خاصة بعد أن علمت السلطات الاستعمارية بوجود لجنة شمال أفريقيا للنشاط الثوري". عاد إلى العمل الحزبي مباشرة بعد اندلاع الحرب الامبريالية الأولى. يعود الفضل إليه في إصدار (L'caction Algerienne) سنة 1944 توفي يوم 15/2/1952.
43-تجدر الإشارة إلى أن الرجلين اللذين كانا عضوي اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري قد توليا تسيير البرامج التي كانت "الإذاعة الدولية" Radio Mondial تبثها في اتجاه شمال أفريقيا. وبفعل تلك البرامج أعلن الأجناد المسلمون، المتمركزون بالحراش، عن تمردهم يوم 25/1/1941.
44-كان الحاج مصالي سجيناً عندما اندلعت الحرب الامبريالية الثانية، وقد أطلق سراحه يوم 27/8/1939 ثم أعيد إلى السجن صحبة سبعة وعشرين إطاراً قيادياً يوم 4/10/1939. وفي يوم 8/6/1940، ألقى القبض على ثلاثين إطاراً آخر.
45-نذكر من بين هؤلاء الشباب الذين فرضوا أنفسهم على ساحة النضال: "محمد طالب، حسين عسله، عبد الحكيم بن الشيخ الحسين، محمود عبدون، محمد شرشالي، عبد الحميد سيد علي، عبد المالك تمام وعلي حليت.
46-من مواليد شرشال سنة 1917، التحق بصفوف حزب الشعب الجزائري سنة 1939، بعد حله وقد استطاع بحكم ثقافته ونشاطه أن يصبح الرئيس الفعلي له في غياب الحاج مصالي ورفاقه من المؤسسين. عرضت عليه قيادة الثورة قبل اندلاعها بأيام قلائل لكنه رفض العرض وألقي عليه القبض يوم 5/11/1954 وبعد إطلاق سراحه استدعته جبهة التحرير الوطني ليكون مسؤولاً على مندوبيتها في الخارج عضواً للمجلس الوطني للثورة الجزائرية ثم عضو لجنة التسويق والتنفيذ سنة 1957 وعندما تأسست الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أسندت له وزارة الخارجية في سنة 1963 فتح عيادة طبية بمدينة العلمة واعتزل كل نشاط سياسي.
47-كانت الكتابات المذكورة تجسد المطالبة بإطلاق سراح الحاج مصالي وتحرير الجزائر ودعوة الجماهير الشعبية إلى الالتفاف حول حزب الشعب الجزائري. وفي إطار حملات التوعية والتبرية كان الشباب يحاربون الخمر والقمار ويدعون إلى تعمير المساجد والنوادي والمدارس.
48-من أبرز قادتها، في ذلك الوقت، محمد بلوزداد، سعيد عمراني، مراد ديدوش، عبد الرحمن سماعي وعبد الرحمن طالب.
49-من بين قادة هذا التنظيم تجدر الإشارة إلى محمد طالب، عبد الرحمن ياسين، حموبوتليليس والشاذلي المكي.
50-انظر الحديث الذي أجراه الدكتور محمد شفيق مصيلح مع كل من السيدين سعيد عمراني وعبد الحميد سيد علي والمنشور موجزاً في: Ideologie politeque et mouvement national en Algere, p15.
51-لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، انظر كتابنا جبهة التحرير الوطني الجزائرية (1954-1964) المسار والفكر، ص:47 ومابعدها.
52-بغول، ص:152.
53-ليبرتي (Liberte) في عددها الصادر بتاريخ 7/6/1945 تؤكد على أن ماوقع في عام 1945 إنما هو "مؤامرة فاشية حبكها الخونة من كل جنس ودين أي حزب الشعب الجزائري، حزب الشعب الفرنسي، الموظفون السامون في حكومة فيشي الذين ظلوا في مناصبهم بمساعدة الإقطاعيين".
54-انعقدت ندوة سان فرانسيسكو ابتداء من يوم 24 أبريل، فوضعت ميثاق الأمم المتحدة لكنها لم تنظر في القضية الجزائرية.
55-هؤلاء المندوبون هم Vallet: من وادي العثمانية، Lavie من قالمة، Fournier من خراطة، Mayer من أولاد رحمون، Deyron من سوق أهراس و Cusin من عزابة.
56-SARRASIN (P.E) la crise Algerinne, Paris 1949, p: 203
57-عباس، (فرحات)، حزب الجزائر وثورتها- ليل الاستعمار نقله إلى العربية: أبو بكر رحال، ص185.
58- المصدر نفسه..
59-في نهاية المقابلة أخبر الحاج مصالي أن المناضل: بناي واعلي هو المكلف بتهريبه فأعطى موافقته وشرع في الاستعداد لذلك، لكن السلطات الاستعمارية داهمته وأفشلت العملية.
60- PAILLAT (claude), vingt ans qui dechirerent la france, t1, Le Guepier, Paris 1967, P.54.
61-انظر تقرير السيد كازان أمين عام الولاية العامة المؤرخ بيوم 17/5/1945 والموجود في محفوظات أكس بروفانس تحت رقم 9465، وكذلك السيد Paillat المصدر السابق.
62-محاضرة السيد الشاذلي مكي في النفق الجامعي بالعاصمة يوم 8/5/1969. ولقد أكد المحاضر أنه كان شخصياً ضمن الوفد الذي كان يضم إلى جانبه كلاً من حسين عسله والحاج شرشالي.
63- PAILLAT (Claude), Lechiquier d’Aler, Avantage a vichy, t1, p.337.
يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:46 am

64-يبدو من خلال الوثائق المعتمد عليها من طرف الكاتب أن مرفي في الحقيقة، لم يقم سوى بتأكيد الشرطين اللذين وضعهما الجنرال جيرو مقابل تعاون فرنسا مع الأمريكان.
65-انظر لائحة المكتب المركزي في Egalité الصادرة بتاريخ 10/4/1945.
66-حديث أجريته في بيت الشيخ الحسين بن الميلي يوم 1/5/1981 مع كل من السادة: محمد الأمين دباغين وأحمد بوده ومسعود بوقموم وكلهم مسؤولون قياديون في حزب الشعب الجزائري.
67-حسب اللقاء الذي أجريناه مع المناضل سويلح الهواري الذي كان من القادة البارزين في ذلك الوقت، والذي أكد لنا أن مظاهرة وهران لم تكن أقل قيمة من مظاهرة العاصمة.
68-بعض الكتاب أو المؤرخين الذين عالجوا الموضوع لايذكرون محطة بلكور، لكن ذلك خطأ، لأن معظم المؤطرين وفي مقدمتهم محمد بن الوزداد كانوا من هناك، وقد عمل هذا الأخير على أن ينطلق عن بلكور موكبان حتى تنشغل الشرطة الاستعمارية بالأول الذي قصد ساحة أول مايو الحالية ويتمكن الثاني من التوجه بسهولة إلى ساحة البريد المركزي
69-نورد هذه العمليات من الحديث الذي أجريناه مع السيد أحمد بوده بتاريخ 8/12/1985.
69-يذكر السيد أحمد بوده أن الشهداء في ذلك المكان كانوا أربعة مضيفاً. أحمد بوعلام اللّه وعبد القادر قاضي.
70-من بين القياديين الذين ألقى علهيم القبض تجدر الإشارة إلى: أحمد مزغنه وحسين عو محمد هني وعبد الرحمن صفير.
71-كان المنشور مؤرخاً بيوم 3/5/1945 ومما جاء فيه "إن الاستفزاز صادر عن حزب الشعب الجزائري الذي يأتمر بأوامر هتلر من برلين. نفس هتلر الذي يذبح ويعذب الجنود الأشاوس العاملين في صفوف الجيش الفرنسي وذلك دون تمييز بين المسلمين والأوروبيين... حزب الشعب الجزائري، إذ ينشر في العمالات الثلاث شعارات استغلال الجزائر والجيش الجزائري وإذ أقدم على تنظيم هذه الاضطرابات إنما ذلك على أنه الحزب الذي يطبق التعليمات التي يبثها الهتليريون بواسطة الإذاعة النازية.
72-Bulletin mensuel
73-74 انظر نص المنشور في مركز دراسات الحرب العالمية الثانية بباريس، ملف تيبار. dinformation, Prefecture dAlger, mai 1945”
75-لقد كانت قيادة حزب الشعب الجزائري تدرك أن السلطات الاستعمارية لن تسمح لها بالمشاركة في الاحتفالات نظراً لكون الحزب ينشط في السرية فقط ولأن مواقفه متشددة ومطالبه مرفوضة مسبقاً. أما المؤسسات المقصودة فهي: البرلمان الوطني، والجيش الشعبي على وجه الخصوص.
76-”Bulletin mensuel dinformation” Prefecture dAlger, mai 1945.
77-لقد قال الحاكم العام إلى السيد فرحات عباس فيما بعد: "إنني سلمتكما إلى الجيش لحمايتكما من انتقام الكولون" انظر:
78- Benyoucef, Benkhedda, Les origines du ler november 1954, Edition Dahleb Alger 1989, P101. نذكر على سبيل المثال: سطيف سكيدة وبسكرة.
79-انظر خاصة: عياد ثابت في:
in RASJPE, n:4, 1972 pp “Le 08 mai 1945: Jaquerie ou revendicatiagraire” 1007-1016 وكذلك محفوظ قداش في:LE 08 mai 1945, Paris Ed du centenaire 1975.
80-ابن يوسف بن خده، نفس المصدر، ص100.
81-نفس المصدر.
82-في إطار إجراءات الترهيب، أقدمت السلطات الاستعمارية على اعتقال أعداد كبيرة من المناضلين بتهمة المساس بأمن الدولة من خلال توزيع البيانات والمنشورات بدون ترخيص. وفي نفس الإطار، أيضاً، ألقي القبض على مجموعة من صف الضباط الجزائريين بتهمة المشاركة في الاعداد للتمرد.
83-بايا (كلوه)، نفس المصدر، ص52.
84-جاء في جريدة الحرية (Liberte) الصادرة بتاريخ 21/2/1946 أن الحركة الجمهورية الشعبية الفرنسية قد احتجت على عمليات الإبادة التي تعرض لها الجزائريون في شهر مايو 1945، وذكرت في لوائحها أن "كاربونال بدأ يعد فرق الميليشيا ستة أشهر قبل الثامن من مايو 1945".
85-عباس (فرحات)، ليل الاستعمار الطويل، ص154.
86-نفس المصدر.
87- ”Rapport Tubert” in reve Algerienne des Sciences juridiques economiques et politiques (rasjep), volune 9 n4 december 1974, P288-289.
88-بغول (يوسف)، "بيان الشعب الجزائري" نفس المصدر، المجلد 11، ديسمبر 1974، ص262 ومابعدها.
89-مع العلم أن موريس توريز (Maurice Thorez) الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي كان نائباً لرئيس الحكومة في ذلك الوقت.
90-ابتدأت المسيرة على الساعة الخامسة بعد الظهر، أما فرق الجيش فإنها وصلت إلى عين المكان على الساعة السادسة. ففي ظرف ساعة فقد أعطيت الأوامر واستشيرت القيادات وتم الاستعداد ووقع الخروج من الثكنة.
91-عباس (فرحات) نفس المصدر، ص154، كذلك Tixier Adrien في كتابه
Un Programme, des reformes pour l’Algerie, Paris,1947, P.6.
92-Yousfi (mhamed), l'Algrie en marche, t1, Alger 1985, P59. وكذلك شهادة السيد إبراهيم حشاني التي استثنيناها منه يوم 25/4/1979 عندما كنا نعد دكتوراه الدولة حول "جبهة التحرير الوطني الجزائرية": المسار والفكر.
93-تيكسي، نفس المصدر.
94-نعني بذلك خاصة الطابور المغربي والوحدات المكونة في أغلبها من السينغاليين. وفي هذا الإطار لابد من التذكير بما أورده السيد أحمد بوده من أن الطابور المغربي المكون من 200 جندي والمعسكر بنواحي مدينة الأربعاء كان قد وعد بالانضمام كاملاً إلى القوات الوطنية عندما تنفجر الثورة "لقاء أجريناه مع السيد بوده في بيت الشيخ الحسين بن لميليوم 8/12/1985.
95-انظر ملف قازان: التقرير رقم 12/4 الصادر بتاريخ 11/5/1945 عن قائد مجموعة الدرك الوطني ببني عزيز.
96-Bernard (jh.pil), Les deux villes de tenes et de Boumaza, Alger 1864, P.166.
97-نفس المصدر.
98-مستعمرة فرنسية تقع شرقي أوستراليا. استولت عليها فرنسا في القرن 18.
99-بيرار، نفس المصدر.
100-يايا، ص35.
101-البريد الجزائري (le courrier algerien) الصادر بتاريخ 26/5/1945.
102-انظر تقرير الجنرال تيبار، ص22.
103-ذي ستارز آند ستربز (the stars and stripes) العدد الصادر بتاريخ 31/5/1945.
104-أورد الزميل علي تابليت، خطأ، في مجلة الذاكرة، عددها الثاني بتاريخ مايو 1995، ص:68 أن المجاهد الاسبوعية هي التي قدرت الضحايا بعدد ثمانين ألف، وذلك في عددها الصادر بتاريخ 8 مايو 1985.
105-دارناند جوزيف (Dernand Joseph) سياسي فرنسي من مواليد 1897 وضع تحت تصرف القوات الألمانية، إبان احتلال فرنسا، فأسس المليشيات المناهضة للمقاومة سنة1943 وحينما تم تحرير فرنسا نفذ فيه حكم الإعداد في يوم النصر.
106-مقتطف من المنشور الذي وزعه السيد فرحات عباس بمناسبة فاتح مايو 1946. انظر النص الكامل في كولو، ص:219. وذلك في بريد الجزائري الصادر بتاريخ أول مايو 1964، وفي صارزان: الأزمة الجزائرية، ص:208، ومابعدها.
107-كلود يايا، المأزق (le guepier) ج1، ص:56.
108-مذكرات الأمل، ج1، ص:58.
109-كانت القيادة مكونة من: الدكتور محمد الأمين دباغين، محمد طالب، أحمد بزغنة، محمود عبدون والحاج شرشالي.
110-مثل زروالي محمد في منطقة القبائل وأحمد بن مهل في ناحية الجنوب.
111-ظلت المعارك تدور رحاها إلى غاية منتصف شهر جوان سنة 1945.
112-بريد الجزائري، العدد الصادر بتاريخ 2/4/1946.
113-بريد الجزائري، العدد الصادر بتاريخ 26/5/1946.
114-ابن عامل عمالة الجزائر قد استدعى، في الواقع، كلاً من السادة: الشيخ البشير الإبراهيمي، الشيخ العربي التبسي، عبد العزيز كسوس، أحمد بومنجل، قدور ساطور، عبد القادر ميموني ومحمد خير الدين، لكن النص الذي لم يكن طويلاً، إنما كان من صياغة أحمد بومنجل وعبد العزيز كسوس.
115-انظر نص النداء في النشرية الإخبارية الشهرية الصادرة بتاريخ مايو 1945، عن عمالة الجزائر.
116-كان شون هو المسؤول عن التجسس على الجزائريين والمكلف بخرق صفوف الحركة الوطنية.
117-انظر تقرير الوالي العام في يايا، ص:78.
118-نفس المصدر.
119-لومانيتي، عددها الصادر بتاريخ 12/5/1945.
120-LHUMANITE، عددها الصادر بتاريخ 16/5/1945.
121-انظر ليبرتي وألجي ريبيبلكان في عدديهما الصادرين بتاريخ 12/5/1945.
122-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 16/5/1945.
123-جاء ذلك في خطاب ألقاه بمناسبة انعقاد المؤتمر في شهر جوان 1945، وقد قال بالحرف الواحد: "إن الذين يطالبون باستقلال الجزائر إنما هم، بوعي أو بغير وعي، عملاء امبريالية أخرى ونحن لانريد استبدال حصاننا الأعور بحصان أعمى".
124-PCA, histoire de huit annees de combat, 1937-1946, Alger 1946, P.128.
125-انظر كولووهنري (Collot et Hinry)، ص: 210.
126-127- نفس المصدر.
تطور التشكيلات السياسية الجزائرية
في الفترة مابين 1946و1954

يرى معظم المؤرخين وجميع الذين كتبوا في تاريخ الجزائر المعاصر، حتى اليوم، أن حركة مايو 1945 هي التي أنضجت فكرة الكفاح المسلح في أواسط الحركة المصالية وشكلت القاعدة الأساس لانطلاق ثورة نوفمبر 1954. إن هذا الرأي- المنقول والمتناقل- بعيد كل البعد عن أن يكون هو الصواب، بل أن إخضاعه للمقاييس العلمية التي تتحكم عادة في البحوث الجادة، سوف يبين بكل سهولة أن فيه إجحافاً كبيراً لجهد الرواد من المناضلين الذين آمنوا مبكرين، بفكرة الكفاح المسلح كأفضل وسيلة لاسترجاع الاستقلال الوطني، وبذلوا كل مافي وسعهم من أجل تجسيدها على أرض الواقع.
فالقرن التاسع عشر، في ثلثيه الأخيرين، قد شاهد مقاومة شعبية مسلحة في أماكن متعددة من البلاد وفي فترات زمنية مختلفة، وإذا كنا، هنا، في غير حاجة إلى تعداد تلك المقاومة، فإننا، بالمقابل، نعتقد مفيداً الإشارة إلى أنها كانت تندلع، دائماً، تحت إشراف وبقيادة الطلائع المثقفة، الأمر الذي جعل الإدارة الاستعمارية تبذل كل ما في وسعها من وسائل القمع والإبادة من أجل القضاء على مصادر الثقافة الوطنية التي كانت تتولى نشر الوعي في أوساط الجماهير، وتؤمن للإنسان الجزائري مناعة تحميه من إصابات الاعتداءات العقائدية والفكرية التي كانت جزءاً مهماً من مخطط الغزو الاستعماري.
لقد كان الجيش الفرنسي، كلما خرج منتصراً من معركة، وكلما تمكن من إخماد مقاومة، يوجه آلته التدميرية إلى المدرسة الجزائرية بجميع أنواعها وإلى المسجد الجامع خاصة، بعد أن يتولى قادته نهب المكتبات وإتلاف ماتعذر حمله من نفائس المخطوطات والكتب، وفي ذات الوقت، تشن حملة واسعة النطاق قصد التنكيل بالأحياء من المثقفين الذين كثيراً مايرغمون على الهجرة إلى البلاد العربية الإسلامية أويساقون إلى سجون فرنسا في سائر مستعمراتها النائية إلى جانب كل ذلك، تؤمم الأوقاف، في جميع المستويات ثم توزع الغنائم على الغزاة وعلى من تميز بالعمالة من أعوانهم.
ومما لاريب فيه تلك الأعمال التخريبية التي كانت تبدو، في الظاهر، موجهة ضد أعداد معلومة من الأفراد أو ضد أشياء تكاد تكون غير ملموسة، إنما هي في الواقع أخطر من العمل العسكري الذي كان يأتي على الأخضر واليابس بالإضافة إلى مايتسبب فيه من قتلى ومعطوبين وأرامل وأيتام. وتكمن تلك الخطورة في القضاء على المصادر الثقافية وإلغاء المثقفين بشتى الوسائل إنما تظهر نتائجه في الأمد البعيد وهي تتمثل في حرمان البلاد من الإنتاج الفكري الأصيل الذي يكون في أساس تكوين المواطن الصالح الذي لابد منه لبناء المجتمع القادر على بناء الدولة القوية وحمايتها.
هكذا، تمكن التخطيط الاستعماري، بالتدريج وطيلة عشرات السنين، من تغييب المثقف الجزائري وتهميشه، وبالموازاة مع ذلك راح يصنع مصادر جديدة لثقافة غربية لاعلاقة لها بواقع المجتمع، وهي الثقافة التي شرع في توظيفها ابتداء من مطلع القرن العشرين قصد تكوين من سوف يطلق عليهم تسمية النخبة التي ستؤدي دوراً أساسياً في محاولة ترسيخ قواعد الاستعمار وإعداد الأرضية الملائمة لنشر منظومة الأفكار التي أوصلت البلاد إلى ماهي عليه اليوم.
فالفكر والثقافة الاستعماريان قد استطاعا التغلب على الأصالة في الجزائر، وبفضلهما تخلصت الإدارة الفرنسية من بقايا الحراس أمثال الدكتور محمد بن العريبي الشرشالي، وتمكنت، من غرس المفاهيم والمصطلحات التي سوف تكون في أساس تكوين الإنسان الجزائري القابل للأمر الواقع والمستعد للتكيف معه بدون عقدة. وشيئاً فشيئاً ظهر على الساحة السياسية خاصة عدد من الأقطاب الذين لم يترددوا، نتيجة جهلهم، في التنكر لتاريخهم، متحمسين لتاريخ الآخرين وعاملين بجد على الذوبان في صفوف الشعب الفرنسي الذي لم يكن مستعداً لذلك، ولامرتاحاً حتى لمجرد السماح لهم بممارسة بعض الحريات التي قد تجعل منهم أناساً قد يطمحون إلى المطالبة بالمواطنة ومايتبع ذلك من حقوق في المساواة بجميع أنواعها.
وإذا كان هذا النهج الاستعماري قد حقق كثيراً من النتائج التي خططت لها فرنسا قصد التوصل إلى استئصال الشعب الجزائري، فإنه لم يتمكن من القضاء، نهائياً، على المقاومات الأساسية للشخصية الوطنية التي ظلّت رغم كل الإصابات، ثابتة في جزئها الشكلي على الأقل، وقادرة على تأجيج روح المقاومة لدى عدد لايستهان به من الإطارات الطلائعية الذين استطاعوا التموقع في المجالين السياسي والثقافي ثم راحوا يعملون بشتى الوسائل على استنهاض الهمم ونشر الوعي في أوساط الجماهير الشعبية الواسعة.
ومما لاشك فيه أن أولئك الطلائعيين قد نجحوا في جل مساعيهم، واستطاعوا، رغم العنف والإرهاب الاستعماريين، أن يحافظوا على تقاليد النضال بسائر أنواعه وأن يضمنوا تواصل حلقات المقاومة المسلحة التي يزعم تلاميذ المدرسة الفرنسية للتاريخ أنها انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر، واضعين في طي النسيان دماء الشهداء الذين سقطوا في الأوراس والهقار سنة 1916 وفي الأوراس والشمال القسنطيني سنتي 1934 و 1935.
على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق نؤكد أن فكرة الكفاح المسلح في الجزائر ليست وليدة مابعد الحرب الامبريالية الثانية بل وجدت منذ اللحظات الأولى للعدوان الفرنسي وظلت طوال الفترة الاستعمارية هي الوسيلة المفضلة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة؛ ولم تكن حركة مايو الثورية إلا واحدة من حلقات المسلسل الطويل الذي يروي للعالم جهاد شعب لم يتوقف عن دفع قوافل الشهداء إلى أن استرجع استقلاله سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف.
وعندما يتوقف الدارس عند تلك الحلقات يجد أن كل واحدة منها متميزة عن الأخرى لكنها تلتقي جميعها حول الوسيلة والهدف؛ وكلما مرت حلقة استفادت التالية من إيجابياتها وسلبياتها. وظل الأمر كذلك إلى أن كان نوفمبر عام أربعة وخمسين وتستعمائة وألف. ويعنينا في هذا الفصل، أن نمسح الفترة الممتدة من شهر مارس سنة ست وأربعين وتسعمائة وألف إلى شهر نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف. وسوف نركز على تاريخ سائر التشكيلات السياسية وتطورها في جميع الميادين.

الفصــل الــرابع


الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري


في إطار العفو الشامل، الذي قررته الإدارة الاستعمارية، تم الإفراج عن السيد فرحات عباس يوم 16/3/1946 وقد كانت الفترة التي قضاها بالسجن والتي دامت واحداً وأربعين أسبوعاً كافية ليعيد النظر في تجربة حركة أحباب البيان والحرية وليتوقف، ملياً، عند مقررات مؤتمره الأول والوحيد.
وإذا كان الاعتقال التعسفي قد ساهم في حد الانطلاقة الثورية لدى ذلك الزعيم الذي ارتبط اسمه ببيان الشعب الجزائري، فإنه، بالمقابل، قد رسخ قناعته بضرورة بعث الجمهورية الجزائرية المستقلة استقلالاً داخلياً في إطار الاتحاد الفرنسي. وبمجرد خروجه من السجن راح يكثف الاتصالات بالإطارات القريبة منه سياسياً يطرح أمامهم أفكاره الجديدة ويسترشدهم من أجل ضبط الخطوط العريضة لكيفية إنشاء حزب جديد ووضع برنامجه السياسي الذي يجب أن يكون قادراً على تعبئة جزء كبير من الطاقات الحية في أوساط المجموعتين الفرنسية والإسلامية على حد سواء. ولكي يعطي لنشاطه إطاراً قانونياً، رحل إلى فرنسا يطلب رأي ذائع الصيت Achille Mestre مدرس الحقوق بكليتي تولوز وباريس (1) حول موقف دستور الجمهورية الرابعة من إمكانية تحويل ولايات الجزائر إلى دولة تحتفظ فيها فرنسا بشؤون السيادة.
وعلى الرغم من قناعات الأستاذ أشيل اليمينية، فإنه اعترف، بعد فحص دقيق لنصوص الدستور الجديد، بعدم مخالفة الفكرة لروح النص. وكان ذلك أيضاً هو رأي السيد Charlier، أستاذ القانون العام بجامعة الجزائر(2).
هكذا، إذن، أخذ السيد فرحات عباس جميع الاحتياطات السياسية والفنية قبل أن يقوم بصياغة ذلك النداء الذي وجهه إلى الشبان المسلمين والفرنسيين بمناسبة عيد الطبقة الشغيلة في فاتح مايو سنة 1946 أي بعد خروجه من السجن بستة أسابيع فقط.
لقد كان النداء، في مقدمته، تدليلاً على براءة عباس وسعدان مما وقع في شهر مايو 1945 حيث أن الرجلين لم يطلعا على حقيقة ماحدث في شهر سبتمبر بعد أن قضيا كل ذلك الوقت في عزلة مطلقة. وتوسعا في المقدمة، قدم صاحب النداء لمحة سريعة وموجزة عن حياته السياسية التي يقول حولها: "إنه خصصها لتجسيد روح التعاون الفرنسي الإسلامي ولنشر الثقافة العصرية باعتبارها القاعدة الأساسية لذلك؛ ثم يؤكد عدم تمييزه بين المسلمين واليهود والمسيحيين لأن عقيدته السياسية كانت تأمره بذلك وتدعوه إلى النضال المتواصل في سبيل الوحدة ضمن الديمقراطية والأخوة في إطار العدالة.
إن هذه العقيدة السياسية نفسها التي ظلت تقود خطاه منذ ثلاثينات هذا القرن. ويرى أنه استطاع، بفضل صدقه في العمل وإخلاصه للمبادئ والمثل العليا، أن يحقق الكثير في مجال تقريب وجهات النظر وميادين الترقية الاجتماعية وتهدئة الخواطر وتوحيد معظم ذوي الإرادة الخيرة في البلاد، لكن الإدارة الاستعمارية بتآمرها مع الرجعية والامبريالية حالت دون تواصل المسعى واتخذت من مايو 1945 وسيلة لتوسيع الهوة بين المجموعتين الإسلامية والفرنسية، وذريعة للقضاء على حركة أحباب البيان والحرية التي أجمع قضاة التحقيق على أنها بالإضافة إلى كونها لم تنظم أية مظاهرة، قد اكتفت بالدعوة إلى الهدوء والانضباط في إطار الشرعية الجمهورية"(3).
ولئن كانت سياسة التوحيد قد انهارت ومعها جهود المصالحة الوطنية، ووقع حل حركة أحباب البيان والحرية، فإن روح البيان، يقول عباس، لم تمت وبفضلها اتضحت الرؤية وأصبحنا قادرين على التمييز بين ما كان عليه من حالة القبول الإمعي المعمي ومايجب أن نرقى إليه وصولاً إلى الوطن الجزائري الذي تتوفر فيه شروط المساواة والحرية للجميع(4).
والوصول إلى الوطن الجزائري يستلزم سياسة ترتكز على برنامج جعل في مقدمته: لا للاندماج، لا لسادة جدد ولا للانفصال، وعلى الرغم من أن هذه اللاءات لا تتضمن الشحنة الثورية اللازمة لاسترجاع الاستقلال الوطني، إلا أن تبنيها، في ذلك الوقت، من طرف السيد فرحات عباس كان يعتبر انتصاراً كبيراً بالنسبة للحركة الوطنية خاصة وأن حزب الشعب الجزائري كان عند تأسيسه، قد رفع نفس الشعار من أجل استمالة من كانوا يسمون بالمعتدلين، علماً بأن ذلك اعتبر في وقته، انحرافاً وقاد إلى استقالة السيد عمار عيمش الذي كان مساعداً للسيد الحاج مصالي(5). أما تبني السيد عباس لذات الشعار، فإن المقصود منه لم يكن سوى مراعاة الرأي العام الفرنسي، كان مناهضاً لفكرة الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لتقويض أركان الاستعمار.
ومن جهة أخرى تضمن البرنامج المذكور مجموعة من المحاور ارتأى عباس أنها ضرورية لتشييد الجزائر "على أسس واقعية وتاريخية تكون كفيلة بأن تعبد لها طريق الديمقراطية العالمية"(6). ومن أهم تلك المحاور مايلي:
1-المساواة المطلقة: ويكون ذلك بواسطة القضاء على الاختلافات العرقية وعلى الأحقاد التي تنخر في جسم المجتمع، وعلى واقع التحقير الذي كان مسلطاً على الجزائريين. والمقصود من واقع التحقير تلك القوانين والمراسيم والإجراءات العسفية التي كانت تحمل أسماء متعددة لكنها ترمي في مجملها إلى تهميش الشعب الجزائري وإبقائه في حالة التبعية الدائمة.
2-التربية التي تستهدف الإنسان من أجل تكوين مواطن حر يكون متشبعاً بالواجب الاجتماعي ومدركاً لمهمته الحضارية. وفي هذا المجال يكون التركيز على تعميم الفكرة القائلة: "إن أبناء الوطن الواحد لايكونون بالضرورة على دين واحد"(7).
3-العلم والتكنولوجيا اللذان لايمكن، بدونهما، أن ترقى الجزائر إلى مصاف الأمم المتقدمة، لأجل ذلك، فإن أبوابهما يجب أن تفتح واسعة لجميع أبناء الجزائريين بدون أي تمييز عرقي أو ديني كما ينبغي أن يعاد للغة العربية اعتبارها كلغة وطنية ورسمية في البلاد.
ويرى السيد فرحات عباس أن تجسيد برنامجه السياسي على أرض الواقع ممكن تحقيقه بدون عوائق تذكر شريطة أن يكون منطلق النشاط هو بيان الشعب الجزائري وأن توظف التجارب التي خاضتها حركة أحباب البيان والحرية.
ولقد كان السيد فرحات عباس، قبل نشر النداء وتوزيعه، في سائر أنحاء البلاد قد تمكن من أن يجمع حوله كوكبة من الإطارات المؤمنة بأفكاره والمستعدة للنضال في سبيلها(Cool، واتفق معهم على بعث حزب جديد أسماه "الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري" وقدم قانونه الأساسي إلى المصالح المختصة في النصف الثاني من شهر أبريل قصد الاعتماد والحصول على الترخيص القانوني. ومباشرة بعد الاعتماد قررت قيادة الحزب المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية التي تحدد إجراؤها يوم 2/6/1946 لتعيين المجلس التأسيسي الثاني الذي خصص فيه للجزائريين ثلاثة عشر مقعداً.
في نفس تلك الفترة، كان حزب الشعب الجزائري الذي ينشط في السرية التامة، قد أصدر أوامره إلى القواعد المناضلة كي تتحرك في اتجاه مقاطعة الانتخابات(9).
حول هذه الفترة من تاريخ الحركة الوطنية نشرت بعض المعلومات المتناقضة في أساسها لكنها وجدت مكانها في كتابات المعاصرين الفرنسيين والجزائريين على حد سواء. فالسيد محفوظ قداش ينقل على سبيل المثال أن تأسيس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري إنما جاء نتيجة تخطيط الإدارة الاستعمارية التي "أعدت عشية العفو الشامل عملية واسعة لتقسيم حركة أحباب البيان والحرية إلى كتلتين متعارضتين الأمر الذي جعل حزب الشعب الجزائري يكلف فرقة خاصة يرأسها السيد حسين عسله(10) من أجل خرق مصالح الولاية العامة والتصدي لمناورة الإدارة الفرنسية. غير أن هذه الفرقة لم تتمكن من تغيير وجهة نظر عباس ورفاقه"(11).
فمثل هذا الادعاء باطل في أساسه ولايمكن إخضاعه لأي معيار علمي خاصة في الصيغة التي ورد بها، ذلك أن حركة أحباب البيان والحرية قد وقع حلها رسمياً بموجب قرار حكومي يحمل تاريخ 14/5/1945 وإلى جانب قرار الحل حجبت Egalite وتم حجز سائر أملاك الحركة وسحب الاعتماد من "مدينة الأطفال" التي كانت قد أنشئت لتسوية مشاكل الطفولة المشردة والمتسكعة في شوارع المدن الكبرى خاصة، بعد كل هذا، كيف يمكن الحديث عن تآمر الإدارة الاستعمارية لتقسيم قيادة حركة ليس لها وجود رسمي ولا فعلي لأن المنتخبين ومن كانوا يسمون بالإطارات المعتدلة قد انسحبوا، تلقائياً، على إثر ما اصطلحنا على تسميته بحركة مايو الثورية.
ومهما يكن من أمر، فإن عباس ورفاقه قد حصلوا على اعتماد الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وتحت عنوانه وضعوا قوائم المرشحين لانتخابات المجلس التأسيسي الثاني في التاريخ المشار إليه أعلاه.
عن مشروع الدستور الجزائري:
لقد تعود المؤرخون، عند الكتابة عن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، أن يقولوا عن السيد فرحات عباس وأتباعه أنهم يمثلون التيار البورجوازي الإصلاحي في الجزائر(21).
ونحن نعتقد في ذلك خلطاً وتمويهاً يتطلبان وقفة جدية فاحصة؛ ذلك أن البورجوازية بمفهومها التاريخي، لم تكن موجودة في الوسط الجزائري بجميع ميولاته السياسية والثقافية، لأن الحديث عنها لايكون إلا في إطار المجتمع الفرنسي الذي يعيش الجزائريون على هامشه في أحسن الحالات.
وعلى فرض أن جل الأعضاء القياديين وجزءاً كبيراً من المناضلين يمارسون مهناً حرة أوهم من المتعلمين الذين يشتغلون خاصة بسلك التدريس، فإن ذلك لايعني أنهم اندمجوا في شرائح المجتمع الفرنسي الذي ظل، في أغلبيته الساحقة، ينظر إليهم نظرته إلى سائر أبناء المستعمرات؛ ولو كانوا بورجوازيين بالفعل، لوجدوا مكانتهم في صفوف الطبقة البورجوازية الفرنسية التي كانت أسسها ثابتة في أوساط المجتمع الفرنسي(13).
إن المتتبع لمختلف المراحل التي مر بها الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري خلال عشر سنوات من الوجود الفعلي يكتشف بكل سهولة، أن أعضاءه لم يكونوا سوى جزء لايتجزأ من أولئك الذين كانوا يسمون بالأهالي الذين تتحكم فيهم فقط إرادة الكولون والحاكم العام؛ ولأنهم أدركوا ذلك، وعز عليهم أن تتواصل حالة الاضطهاد والتهميش والتبعية، فإنهم سلكوا طريق النضال في سبيل التصدي للهيمنة الاستعمارية ومحاربة النظام الاجتماعي وقوانين العسف والاستبداد المفروضة على الشعب الجزائري بأكمله ومن أجل إقامة جمهورية جزائرية متحدة مع فرنسا بمحض إرادتها، لها ألوانها الوطنية وتسيرها حكومة مستقلة.
وهذا الطريق المعبر عنه بكل وضوح خاصة في مشروع الدستور الذي قدم للمجلس التأسيسي الثاني بتاريخ 9/8/1946 لم يتم الوصول إليه هكذا صدفة، بل تطلب الأمر أكثر من عشر سنوات قضاها السيد فرحات عباس في خبرة سائر توجهات الحركة الوطنية وفي محاولة إيجاد ثغرة تمكنه من الوصول إلى إقناع السلطات الاستعمارية بضرورة الاهتمام بمصائر أبناء الشعب الجزائري الذين أثقلت كواهلهم إجراءات الاستغلال والتهميش. وعندما يجرأ الدارس، اليوم، على العودة إلى تلك الفترة والتأمل بموضوعية في مختلف القناعات التي مر بها زعيم الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإنه يلحظ أهمية الجهد المبذول ويعترف بأن الطرح الجديد الذي اهتدى إليه عباس وأتباعه إنما هو انتصار كبير بالنسبة للحركة الوطنية وذلك رغم كل ماتضمنه من هنات ومواطن ضعف ورغم مايبدو للمحلل، اليوم، من أنه كان من دون مستوى التضحيات التي قدمها الشعب الجزائري من خلال سلسلة المقاومات التي لم تتوقف أبداً.
وكان دخول الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري معركة الانتخابات التشريعية قراراً وجد معارضة لاجدال فيها من طرف حزب الشعب الجزائري ومناضليه الذين رفعوا شعار: من انتخب كفر، ثم راحوا ينعتون كل من خالفهم الرأي بالغدر والخيانة؛ وسوف يشكل ذلك عقبة كأداة في طريق السيد الحاج مصالي عندما يخرج من السجن ويقرر لأسباب متعددة، المشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي التي كان قد تحدد إجراؤها بتاريخ 10/11/1946.
وإذا كان تأثير حزب الشعب الجزائري قد بلغ أقصى مايمكن أن يبلغه تأثير حزب محظور وملاحق، إذ امتنع عن التصويت حوالي نصف عدد الناخبين من المجموعة الثانية، فإن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد فاز بحصة الأسد بالأصوات المعبر عنها إذ نال أحد عشر مقعداً من جملة ثلاثة عشر كانت هي نصيب الشعب الجزائري بأكمله. ومن ثمة نستطيع القول: إن هاتين التشكيلتين السياسيتين تمثلان، بالفعل، الرأي العام الجزائري حتى ولو أن الإحصائيات تدل على أن الحركة المصالية هي الأكثر تجذراً في أوساط الشعب وأن أعداداً كبيرة من مناضليها لم يلتزموا بأوامر قياداتهم وصوتوا إلى جانب مرشحي الاتحاد.
وسواء كان الاختلاف أو الاتفاق بين تلك التشكيلتين الوطنيتين، فإن السيد فرحات عباس ورفاقه النواب قد أحدثوا المفاجأة الكبرى بمشروع الدستور الآنف الذكر(14) خاصة وأن الرأي العام الفرنسي قد تعود على سماع "المعتدلين الجزائريين" يدعون إلى تحقيق المساواة وبعض الحقوق الاجتماعية والسياسية.
فالمادة الأولى من مشروع القانون تنص على أن فرنسا تعترف بالجمهورية الجزائرية وحكومتها وألوانها الوطنية، وذلك على الرغم من أن المادة الثانية تجعل السياسة الخارجية والدفاع مشتركين مع فرنسا. أما المادتان الثالثة والرابعة فتنصان على أن للجمهورية الجزائرية كامل السيادة على ترابها الوطني وأن هذه السيادة يمارسها النواب الذين تنتخبهم الأمة الجزائرية بواسطة الاقتراع العام والذين يشكلون البرلمان الجزائري.
إن مجرد تقديم مثل هذه الوثيقة إلى مكتب المجلس التأسيسي الفرنسي يعتبر انتصاراً ثانياً بالنسبة للحركة الوطنية الجزائرية. وتعد انتصاراً كذلك، استماتة منتخبي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في الدفاع عن مشروعهم الذي استبعد، في النهاية، لفائدة مايسمى بالقانون الأساسي الذي تمت المصادقة عليه من طرف البرلمان الفرنسي يوم 20/9/1947 والذي سنعود إليه فيما بعد.
-الاتحاد والعمل الميداني:
إن هذه الوقفة الخاطفة مع مشروع الدستور الجزائري لم تكن لتنسينا الحديث عن بدايات الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي شرع منذ تأسيسه ينشط على ثلاث جبهات متكاملة هي على التوالي:
1-جبهة التنظيم الحزبي حيث شرعت القيادة مباشرة إثر الحصول على الاعتماد، في تنصيب الخلايا والقسمات والاتحادات مستثمرة رصيد حركة أحباب البيان والحرية ومستغلة حالة السرية التي كان يمر بها حزب الشعب الجزائري. وفي يوم 13 أكتوبر سنة 1946 عقد الاتحاد مؤتمراً تحضيرياً(15) قيم فيه سير الانتخابات ونتائجها ثم حدد استراتيجية المستقبل على ضوء الأفكار الأساسية الواردة في مشروع الدستور، وعين لجنة مديرة مكونة من السادة: عباس، فرانسيس، طالب، بويجر، وابن خداش.
2-الجبهة الأيديولوجية قصد ضبط منظومة الأفكار التي كانت تشكل مشروع المجتمع الجزائري كما كان يتصوره قادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وفي مقدمتهم السيد فرحات عباس.
لقد استفاد السيد فرحات عباس من تجربته النضالية الخاصة واقتنع، بعد لأي، أن فكرة دمج الشعب الجزائري في الشعب الفرنسي غير قابلة للتنفيذ لأنها لم تأخذ في الاعتبار واقع الشعبين ولأن الكولون يرفضونها دفاعاً عن مصالحهم الخاصة، ويحاربها الوطنيون الجزائريون لأنها تتنافى مع مقومات الأمة وثوابتها. واستفاد، أيضاً، من تجربة العلماء والمصاليين في مجالي الفكر والنضال، واستطاع، بذكاء فائق، أن يحوصل ناتج التجربتين مركزاً على محاور أساسية هي:
أ-تحرير الجزائر من النظام القديم للسيطرة الاستعمارية أي كان نوعها، مع احترام مبدأ الجنسيات، وبتعبير آخر، بناء مستقبل البلاد على أسس الواقع والتاريخ(16).
ب-إقامة جمهورية جزائرية مستقلة استقلالاً ذاتياً ومتوحدة مع الجمهورية الفرنسية المتجددة، والمناهضة للاستعمار وللامبريالية. وكان يرى السيد فرحات عباس أن ذلك يأتي نتيجة منطقية لتطور التاريخ إذ يقول: "لقد استعمرت الجزائر وهذه حقيقة وفي أوساطنا زرع الاستعمار مليون أوروبي مسيحي وهذه حقيقة ثانية. وتعايش المسلمون والمسيحيون مدة أكثر من قرن وهي حقيقة ثالثة وكل هذه المعطيات هي التي أسست الجمهورية الجزائرية التي فرضت وتفرض نفسها على جميع الملاحظين"(17).
ج-الدولة الجزائرية يجب أن تكون متعددة المجموعات لأن السيد فرحات عباس لايرى لزاماً على جميع أبناء الوطن الواحد أن يكونوا على دين واحد، وأن الجزائري المسيحي أو اليهودي يجب أن يكون أخاً للجزائري المسلم بعيداً عن كل عمليات الاستغلال والإقصاء والاستعباد (18).
د-التعليم الإجباري والمجاني بالنسبة لجميع أطفال الجزائر، والنضال من أجل ترقية اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية والرسمية ولأنها بالنسبة للإسلام "مثل الكنيسة بالنسبة للمسيحية فالمسجد، يقول السيد فرحات عباس، لايعني شيئاً عندنا ولكن تلاوة القرآن هي كل شيء"(19) لأجل ذلك، يرى الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري أن الاهتمام باللغة العربية أساسي لأنه يشكل قاعدة الإيمان.
هـ-تخليص الإسلام من الواقع الذي آل إليه بفعل اعتداءات الإدارة الاستعمارية عليه، وهو واقع يصفه السيد Lechatelier مدير مجلة العالم الإسلامي بقوله: "لقد أوجدنا، في الجزائر، إسلاماً وحيداً من نوعه: الأوقاف منعدمة والمساجد خاضعة للإدارة بواسطة أئمة مأجورين، والقضاة موظفون والحج بإذن والقانون عبارة عن نتاج هجين لالتقاء الشريعة الإسلامية بالعرف الفرنسي"(20).
و-إلغاء الملكية الإقطاعية والتركيز على إصلاح زراعي واسع لفائدة الخماسين المعدمين من سكان الريف ومما لاريب فيه أن هذه الفكرة مقتبسة مباشرة من البرنامج السياسي الذي كان نجم شمال أفريقيا قد صادق عليه سنة 1933، هذا في الظاهر لكن الواقع غير ذلك لأن نصوص الاتحاد الرسمية تؤكد بما لايدع أي مجال للشك أن "الحكومة الجزائرية تضمن الملكية العقارية الإسلامية والفرنسية على حد سواء، ولايمكن أن يلجأ إلى التأميم إلا إذا كان للصالح العام في إطار القانون وبعد تعويض عادل"(21).
1-الجمهورية الجزائرية علمانية، وعلى هذا الأساس فإن موقفها حيادي من جميع الأديان، وهي إذ تضمن حرية العبادة لكل مواطنيها، فإنها تخضع النظر في منازعاتهم إلى المحاكم المدنية التي تطبق القانون الفرنسي. إن هذه النقطة تتناقض مع موقف الاتحاد من الإسلام لكننا نعتقد أنها مستمدة من الرغبة في الالتزام بما جاء في النقطة الثالثة.
2-نبذ العنف كوسيلة لتقويض أركان الاستعمار، وحمل فرنسا على تلبية مطلب الشعب الجزائري كما هو مسطور في نصوص الاتحاد، والاكتفاء، فقط، بالنضال السياسي في إطار ما يسمح به القانون الفرنسي. في هذا الإطار كتب السيد فرحات عباس يوم أول مايو 1946: "على الرغم من جرائم الاستعمار وعلى الرغم من تجافي بعض النفوس الكريمة والتي ماتزال مكدورة، وعلى الرغم من الانتفاضات الأخيرة لنظام يحتضر، فإن الجزائر الجديدة، المتحدة بحرية مع فرنسا الجديدة، سوف ترى النور بفضل تضافر جهود الديمقراطيين الفرنسيين والمسلمين"(22).
3-جبهة النشاط السياسي وتتميز خاصة بعمل القيادة الحثيث على إعادة الربط مع الشركاء في حركة أحباب البيان والحرية من جهة، وعلى محاولة إقناع الرأي العام الفرنسي بسلامة توجه الحزب الجديد من جهة ثانية.
وإذا كانت قيادة الاتحاد لم تجد أدنى صعوبة لاستمالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خاصة بعد أن تبنت أهم مطالبها وثبتت عدداً من أهدافها في النصوص الأساسية للحزب(23)، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للعلاقة مع حزب الشعب الجزائري وسيلته الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية.
وعلى الرغم من أن السيد الحاج مصالي بادر، أثناء أول مهرجان شعبي حضره في باريس مباشرة بعد إطلاق سراحه يوم 11/8/1946 إلى الدعوة للاتحاد حول حزب الشعب الجزائري، فإنه لم يقدم أي اقتراح ملموس للسيدين سعدان وبومنجل اللذين قصداه في نفس المناسبة ملتمسين توضيح الفكرة(24). وكان إحجام السيد مصالي مدفوعاً برغبته في عدم تجاوز موقف القيادة المؤقتة التي كانت تشرف على أجهزة الحزب أثناء غيابه والتي سبق لها أن عابت على السيد فرحات عباس وجماعته عدم التزامهم بمحتوى بيان الشعب الجزائري وبروح النشرة التي صادق عليها مؤتمر مارس سنة 1945.
لكن الاتحاد لم يقف مكتوف الأيدي أمام ذلك التردد، واغتنم السيد فرحات عباس فرصة انعقاد المؤتمر التأسيسي في نفس اليوم الذي وصل فيه السيد مصالي إلى الجزائر فجعل المؤتمرين يصادقون على نشرة يدعون فيها إلى الاتحاد مع حزب الشعب الجزائري وأخرى يرحبون فيها بعودة الزعيم إلى أرض الوطن ويطالبون بتمكين حزبه من العودة إلى الحياة العلنية في إطار النضال الشرعي(25).
وكان من الممكن أن يساعد ذلك المسعى على تقريب وجهات النظر وفتح طريق التعاون من جديد بين الجناحين الرئيسيين في الحركة الوطنية الجزائرية، لكن الاستقبالات الشعبية التي لاقاها السيد الحاج مصالي حالت دون ذلك بطريقة غير مباشرة إذ جعلت الزعيم يعتقد أن حزبه هو الأقوى وأنه، والحال هذه، ليس في حاجة إلى الاتحاد مع أية قوة سياسية أخرى لربح معركة الانتخابات التشريعية التي كان قد تقرر إجراؤها بتاريخ 10/11/1946.
وعندما يعود الدارس اليوم إلى الحجج الذي تذرع بها حزب الشعب في ذلك الوقت ليفرض عرض الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإنه لا يجد لها أساساً سليماً لأن الاختلاف الإيديولوجي الذي قيل، يومها، إنه يحول دون اتحاد التشكيلتين السياسيتين لم يكن مطروحاً بفعل قبول الطرفين المشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي. ومعلوم أن مجرد المشاركة في تلك الانتخابات تعتبر اعترافاً بالسيادة الفرنسية على الجزائر. وعلى الرغم من أننا لا نريد مناقشة هذا الموقف ولانرغب في التوقف عند الذرائع التي يستظهر بها كل جانب لتبرير إقدامه على المشاركة في الانتخابات، فإننا لا نرى بداً من التأكيد على أن رفض مصالي عرض عباس لم يكن بدافع إيديولوجي.
ولم يكتفِ الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري بتسجيل ذلك الرفض، بل إنه قرر الامتناع عن المشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي ليس لتوجه إيديولوجي ولكن، فقط، ليترك المجال فسيحاً أمام الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وحتى يتجنب الصراع بين قوتين سياسيتين هدفهما الأساسي هو تحرير الشعب الجزائري. في هذا الصدد كتبت "Egalité" تحت عنوان: "لن يكون هناك تنافس بين مصالي وعباس". إن مصالي ورفاقه قد أبدوا رغبتهم في خوض المعركة دون الاشتراك مع أي حزب سياسي آخر. وقد رأينا أنه ليس من حقنا الاعتراض على هذه التجربة أو الإنقاص منها خاصة وأنها شرعية تماماً ومليئة بالعبر للجميع".(26).
أما فيما يتعلق بمحاولة إقناع الرأي العام الفرنسي بسلامة توجه الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإن السيد فرحات عباس قد جند لها وسيلتين كانتا، يومها، في منتهى الأهمية وهما: الصحافة ومنبر كل من المجلس التأسيسي ومجلس الجمهورية. ولقد كانت المهمة شاقة وتحتاج إلى كثير من المهارة السياسية والثقافية الواسعة والإيمان الراسخ بالقضية العادلة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن ممثلي الاتحاد لم يهنوا واستطاعوا، في مناسبات عديدة، أن يقوموا بأكثر مما كان ينتظر منهم.
فعلى مستوى الصحافة، وظفت أعمدة اللسان المركزي للحزب من أجل التعريف بمشروع الدستور الجزائري والدفاع عنه والعمل على تعميمه، فكرة وهدفاً، في أوساط الجماهير الشعبية ولدى الرأي العام الفرنسي بجميع مكوناته، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الأعضاء القياديين كانوا يلجأون إلى علاقاتهم الشخصية قصد النفاذ إلى ميادين الإعلام الفرنسي.
وفيما يخص منبر المجلس التأسيسي، فإن الصراع كان مريراً بسبب نشاط غلاة الكولون الذين تمكنوا، بفضل إمكانياتهم المادية، من تعبئة جميع الأوساط السياسية الفرنسية كي تغلق جميع الأبواب في وجه نواب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وأن إطلالة سريعة على فحوى المداولات المنشورة على أعمدة الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية خلال السداسي الأخير من سنة 1946 والسداسي الأول من عام 1947، تكفي وحدها للتدليل على ماكان يلقاه عباس ورفاقه من معاناة للتعبير عن آرائهم المجسدة لفكرة الجمهورية الجزائرية المستقلة. فعلى سبيل المثال، فقط، نذكر أن الدكتور سعدان، في جلسة المجلس التأسيسي الثاني المنعقدة بتاريخ 22/08/1946، قد حاول الحديث مطولاً عن الظاهرة الوطنية في الجزائر لكنه منع من ذلك بواسطة المقاطعات ووسائل الإزعاج المختلفة. وفي اليوم الموالي تدخل رئيس الجمهورية المؤقتة السيد جورج بيدو (27) Georges Bidault وختم مداخلته قائلاً: "إن فرنسا ستبقى في الجزائر، لأنها فرنسا ولأنها إنسانية"(28).
وبعد انتخابات المجلس الوطني الفرنسي وما تخللها من عمليات التزييف والتحليل في تفسير القوانين ابتكرت الإدارة الاستعمارية أسلوباً جديداً في التعامل مع الحركة الوطنية التي أصبحت، بالفعل، تحظى بتأييد أغلبية الشعب الجزائري، وقد تميز ذلك الأسلوب بقرار اتخذته وزارة الداخلية يلغي انتخاب أعضاء مجلس الجمهورية بواسطة الاقتراع العام، ويسند تلك المهمة الخطيرة إلى المستشارين في البلديات كاملة الصلاحيات ورؤساء الجماعات في البلديات المختلطة الذين كانوا قد انتخبوا في شهري يوليو وأغسطس(تموز/يوليو/آب/)، سنة 1945(29).
وبما أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية كانت تعرف أن أولئك المنتخبين موالون، في أغلبهم للإدارة الاستعمارية، فإنها فضلت عدم تقديم مرشحين عنها للمجلس الجمهوري، الأمر الذي فسح المجال للسيد فرحات عباس فبادر إلى دخول المعركة وخرج منها منتصراً حيث انتزع حزبه أربعة مقاعد من جملة السبعة المخصصة للمجموعة الثانية.(30).
ومن الجدير بالذكر أن ممثلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري لدى مجلس الجمهورية هم الذين تولوا إثراء مشروع الدستور الذي كان قد عرض على المجلس التأسيسي الثاني بتاريخ 09/08/1946 ثم صاغوه في شكل مشروع قانون لم يحظ إلا بأصوات أصحابه.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:48 am

موقف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري
من قانون الجزائر التنظيمي:
لقد كان لتحركات ممثلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في المجلس التأسيسي الثاني وفي مجلس الجمهورية تأثير بالغ الأهمية على منتخبي المجموعة الثانية الذين استطاعوا بدورهم أن يتخلوا عن فكرة الاندماج والمساواة والمطالبة بالحقوق الاجتماعية، بل إن بعضهم مثل السيد ابن شنوف الذي صرح أمام نواب المجلس الوطني الفرنسي قائلاً: "أعترف أن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، من بين جميع الأحزاب، هو الوحيد الذي أجاد عرض الطرح الاتحادي.. وأعترف أيضاً، أن برنامجه هو الذي قدمته للمواطنين أثناء الحملة الانتخابية إذ لم يكن لمجموعتي أفضل من تبني مقترحاته مع تعديلات طفيفة. إن هذا المشروع المتعلق ببعث الجمهورية الجزائرية هو الذي سوف أدافع عنه في إطار لجنة الشؤون الداخلية وفي سائر أشغال المجلس الوطني. وبكل راحة ضمير، أعتبر أن الجزائر قادرة، ابتداءً من اليوم، على الارتقاء إلى وضع الدولة المشاركة (المتحدة مع فرنسا). فكل مؤسسات هذه الدولة قائمة ولم يبق سوى العمل على تسييرها.(31).
لكن نشاط ممثلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري لم يحرك همم المنتخبين الجزائريين فقط، بل إنه زرع الرعب في أوساط الكولون الذين راحوا يلتفون حول غلاتهم لتهديد الحكومة الفرنسية بالتمرد على قراراتها التي قد لا تكون لصالح الجزائر الفرنسية.(32).
ففي هذا الإطار، مثلاً، نشرت جريدة “Démocratie” في عددها الصادر بتاريخ 09/08/1947 مقالاً بعنوان: “Un brelan de trait M. Depreux, Chataigneàu Aldhuy” جاء فيه على الخصوص: "ليس ثمة قوة بشرية ولا غيرها باستثناء كفن الموتى تستطيع حماية هذا الثالوث الخائن من عدالة الشعب الجزائري"، أما السيد Boyer Bance المدير السابق بالولاية العامة والكولون المسيطر على أغلبية أراضي ناحية بابا علي، فإنه وجه رسالة إلى وزير الخارجية الفرنسي جاء فيها:"إذا كانت فرنسا، بالتخلي عنا، سوف تتسربل بالعار، فإننا فيما يخصنا سنكون مضطرين لمطالبة الأمم المتحدة بحقنا كشعب تخلت عنه فرنسا، ويومها سيكون عليكم أنتم وزير الشؤون الخارجية واجب تقديم الأسباب التي قد تكون دفعت فرنسا لخيانتنا".(33).
وفي نفس هذا السياق التمردي، نشر رئيس مجلس العموم لعمالة الجزائر رسالة موجهة إلى باريس وعليها توقيع ثلاثة وعشرين من رفاقه جاء فيها على الخصوص:"لوأن المجلس الوطني يزود الجزائر بقانون لا يخدم مصالح الاستعمار، فإن ممثلي الأقلية الأوربية لن يترددوا في التوجه إلى غير الميتروبول"(34). وفي رحاب المجلس الوطني الفرنسي تعرض النائب جاك شوفالي Jacques Chevalier إلى مشروع القانون الذي تقدم به ممثلوا الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وتوقف طويلاً عند إجبارية تعليم اللغة العربية حيث قال: "إن جعل تعلم اللغة العربية إجباري يعني دفع المسلمين(35) أكثر فأكثر إلى الإسلام، ويعني ذلك، نشر الإسلام وتمتين العلاقة مع الجامعة العربية وكل الذين يريدون استقلال الجزائر. وأخيراً، فإن ذلك يعني إدخال البربر تحت سلطة الإسلام عن طريق اللغة العربية"(36).
ومما لاشك فيه أن تهديدات الكولون قد أثمرت لأن الحكومة الفرنسية جندت كل طاقاتها لاستبعاد مشروع قانون الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجعل المجلس الوطني الفرنسي يهتم فقط بالمشروع المقدم من قبلها وهو عبارة عن وثيقة مستمدة في أساسها من مشروع كانت حكومة Bidault قد أعدته في شهر سبتمبر 1946 بواسطة الأستاذ Viard(37) ثم لم تقدمه للمناقشة.
لقد عرف المشروع الحكومي المذكور باسم La statut de L’algérie ونحن نعربه بعبارة: قانون الجزائر التنظيمي. أما عند غيرنا فله تسميات متعددة منها: دستور الجزائر، والقانون الأساسي أو قانون الجزائر... الخ ومهما كانت التسمية فإنه يبقى وثيقة لا يمكن القول عنها إنها جاءت بجديد للخروج من الأزمة السياسية أو لامتصاص غضب النواب الجزائريين الممثلين للمجموعتين الانتخابيتين على حد سواء، بل إن القانون جاء جامعاً وملخصاً لمحتويات المراسيم والقوانين والأمريات الاستعمارية التي فرضت على الجزائر منذ السنوات الأولى من الغزو.
وللمتمتعين في ذلك القانون الذي وقع عليه الرئيس فانسان أوريول(38)، يرى أنه يشتمل على ثمانية أبواب وستين مادة، وأنه يهدف، بالدرجة الأولى، إلى فصل من يسمون بالنخبة التي تتمتع بحق المواطنة عن الجماهير الشعبية التي ترغب سلطات الاستعمار في إبقائها في حالة التبعية الدائمة. لأجل ذلك فإنه لاقى معارضة مطلقة من جميع المنتخبين الجزائريين على اختلاف مشاربهم السياسية، وعلى الرغم من أنه لم يغير شيئاً من وضع المسلمين المزري، فإن ممثلي المجموعة الانتخابية الأوربية قد حاربوه بكل ما أوتوا من قوة، وعلى غرار النواب الوطنيين فإنهم رفضوا التصويت عليه.
إن إقرار القانون التنظيمي والمصادقة عليه في غياب ممثلي الشعب الجزائري قد أحدثا رد فعل عنيف لدى الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي أمر مستشاريه بالاستقالة من مجلس الجمهورية وقد تم ذلك بواسطة رسالة(39) تحمل تاريخ 31/08/1947 نورد نصها فيما يلي نظراً لأهميتها وعمّق ماجاء فيها من أفكار."، السيد رئيس مجلس الجمهورية، باريس". "مع كل الاحترام يشرفنا أن نحتج ضد قانون الجزائر التنظيمي الذي فرضه البرلمان الفرنسي على أغلبية السكان الجزائريين، وعلى هذا الأساس نوجه لكم استقالتنا من عضوية مجلس الجمهورية".
"وبدون الإلحاح كثيراً على المساومات التي قامت بها الأحزاب الميتروبولوليتانية في غيابنا حول هذا القانون، فإننا نلحظ عليه العيوب الثلاثة التالية:
1 - لقد صوت عليه في غياب المنتخبين المسلمين ودون أن تؤخذ في الاعتبار طموحات شعب الجزائر الشرعية. فتآمر غلاة المعمرين من جهة وتأثير رئيس حكومة سابق (40) خارج البرلمان من جهة أخرى، قد حالا دون حرية سير المؤسسات الجمهورية. لقد وقع تحالف فعلي ضد الجزائريين المسلمين، وواجبنا هو التنديد بذلك.
2 - إن إلغاء قانون الخامس أكتوبر 1946 المجدد للقانون الصادر سنة 1940 فيما يخص مرسوم Crémieux يخرق الدستور الذي تنص مادته 82 في فقرتها الثانية على أن الأحوال الشخصية، "لا يمكن بحال من الأحوال، أن تشكل سبباً لرفض الحقوق والحريات اللصيقة بصفة المواطنة الفرنسية، أو الحد منها".
والحال أن حقوقاً مكتسبة قد سحبت من المسلمين الحاصلين على الشهادة الابتدائية لسبب حالتهم الشخصية. إنه لخرق يجب التراجع عنه خاصة إذا علمنا أن عدداً كبيراً من المنتخبات والمنتخبين الأوربيين لا يقرأون ولا يكتبون.
لقد حاول السيد رئيس مجلس الوزراء أن يعطي التفسير التالي لهذا الخرق الذي تعرض له الدستور. أن هؤلاء المنتخبين المسلمين قد يكونون قد سجلوا أنفسهم في قوائم المجموعات الانتخابية الأولى فقط للمشاركة في الانتخابات التشريعية".
وإنها لمفارقة أن يرى المرء في إطار الجمهورية الفرنسية الواحدة التي لا تتجزأ تقسيماً للمنتخبين إلى مجموعتين وفقاً لجنسهم وعقائدهم الدينية. لكن وبعد وضع هذه القوائم، إذا نقل المنتخب من قائمة إلى أخرى حسب نوع الاستشارة الانتخابية، فإن ذلك يخرج من إطار القانون ليسقط في دائرة النزوات والعسف الكولونيالي.
3 - إن الحكومة وبعض البرلمانيين قد استندوا إلى وجود ممثلين عن الجزائريين المسلمين في البرلمان الفرنسي لتجريد الجمعية الجزائرية من كل سلطة تشريعية.
إن منتخبي البيان، سواء في المجلس التأسيسي الثاني أو في مجلس الجمهورية، لم يتوقفوا، أبداً، عن التأكيد على الطابع المؤقت لذلك التمثيل. لقد شاركنا ومازلنا نشارك في البرلمان الفرنسي، ليس للمساهمة في ممارسة السيادة الفرنسية ولكن للمشاركة في إنشاء وإقامة الهيئات الاتحادية يعني البرلمانات المحلية والحكومة الفدرالية ومجلس الاتحاد. ولم يخطر في بالنا أن نعتبر نهائية عهدة البرلمان الفرنسي الممنوحة للجزائريين على سبيل الأهلية. إن دورنا ليس هو أن نشرَع للميتروبول، وبالنسبة للبيان فإن كل ذلك يعتبر مبدأً مقدساً. فالجزائري يجب أن يمارس سيادته في الجزائر وفي مجلس الاتحاد.
وباستقالتنا، فإننا نذكر بذلك المبدأ كما أننا نذكر بالطابع المؤقت للتمثيل الجزائري في البرلمان الفرنسي، وهو تمثيل يجب أن ينتهي بمجرد أن تكتسب الجمعية الجزائرية سيادتها الداخلية كاملة"(40).
وقبل هذه الاستقالة، كان الدكتور سعدان قد تحدث في مجلس الجمهورية عن القانون التنظيمي فوصفه باللعب الصبياني الذي لا يمكن أن يكون إطاراً لحل معضلتي الحرية والديمقراطية اللتين يعاني منهما شعب الجزائر. وبعد أن أكد أن القانون المذكور مؤسس فقط على الكذب والغموض وهو من وضع رجال لم يتخلصوا، بعد، من التعصب الكولونيالي، والتقاليد الامبريالية التي تنمي في نفوسهم غريزة السيطرة على الآخر وتجعلهم لا يترددون في استعمال القوة والعنف للاحتفاظ بمتاع الغير، ختم يقول: "إن المأساة، في هذه القضية، تتمثل في كوننا وفرنسا لا نتكلم لغة واحدة. فالحكومة الفرنسية والمجلس الوطني يشرعان لبلدنا الذي يعتبرانه مزرعة متجاهلين أنه وطن وأننا لم نعد خدماً ولا أقناناً"(42).
وحول نفس القانون التنظيمي استقبل السيد فرحات عباس من طرف رئيس الحكومة الفرنسية السيد Paul Ramadier الذي كان يعتقد أن في استطاعته تغيير موقف زعيم الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. خاصة بعد أن أطلعته مصالح المخابرات على محتوى المكالمات الهاتفية التي كان يجريها مع الجزائريين الممثلين للإدارة الاستعمارية في البرلمان الفرنسي والتي دلت في مجملها على أنه تمكن من التأثير عليهم وجعلهم، الواحد تلو الآخر، يتخلون عن قناعاتهم الأولى ويتبنون، عملياً، فكرة النضال من أجل إقامة الجمهورية الجزائرية المتحدة بمحض إرادتها مع فرنسا.
ويذكر السيد عمار نارون أن المقابلة بين عباس ورمادي لم تطل كثيراً نظراً لتمسك كل منهما بموقفه وبسبب الكراهية التي كان رئيس الحكومة يضمرها لمؤسس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. ولقد احتفظ التاريخ، من ذلك اللقاء القصير، بحوار ممتع يدل دلالة قاطعة على ماكان للرجلين من ثقافة واسعة وقدرة فائقة على التعبير قال عباس: إن جسم الجزائر محصور في اللباس المفروض عليه. أنه في حاجة إلى التنفس. حاولوا، إذن، أن تخيطوا له لباساً عصرياً". وبدون تردد أجاب رمادي: "أجل، سيد عباس إننا سنخيط لكم لباساً جديداً لكن تفصيله سيكون دقيقاً على الطريقة الفرنسية"(43).
هكذا، إذن، ناضل ممثلوا الجزائريين على اختلاف مشاربهم ضد القانون التنظيمي لكنهم فشلوا في كل ماقاموا به من مساعي ولم يستطيعوا منع البرلمان الفرنسي من تأبيد حالة الاستبداد على الشعب الجزائري، وكان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى يأس قيادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري: غير أن السيد عباس ظل وفياً لمقولة رينان التي تؤكد: "أن العالم لا يعرف فتور الهمم، بل إنه يعيد العمل المجهض إلى مالا نهاية: فكل فشل يتركه شابا نشطا ومفعماً بالانبهارات"، والتي ضمنها بيانه الموجه إلى الشبيبة الجزائرية بمناسبة الفاتح مايو 1946(44).
لأجل ذلك فإن الاتحاد لم ير في الاستقالة من مجلس الجمهورية هزيمة كما أنّه لم يعتبر عدم التواجد في البرلمان الفرنسي خسارة، وراح ينفق طاقته في مجالات أخرى مثل الربط مع الجماهير الشعبية والاستعداد لخوض المعارك الانتخابية، والعمل على إيجاد الظروف الموضوعية الملائمة لتوحيد سائر أجنحة الحركة الوطنية وفق تصوره للمجتمع الجزائري الجديد.
العمل الميداني والمعارك الانتخابية
مباشرة بعد المصادقة على القانون التنظيمي شرعت الإدارة الفرنسية في تطبيقه على الطريقة الاستعمارية: انتخابات بلدية في أكتوبر 1947 وانتخابات الجمعية الجزائرية في أفريل 1948 دائماً في إطار المجموعتين ووفقاً لما تتطلبه الحرية والمساواة كما يفهمها غلاة الكولون. رغم ذلك، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد قررا خوض تلك المعارك كل حسب ايديولوجيته.
فالاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري رأى أن الانتخابات البلدية التي تقرر إجراؤها يومي 19 و26 أكتوبر 1947 يجب أن يكون الإعداد لها تحت شعار الترقية الاجتماعية للشعب الجزائري ومن ثمة ينبغي إقناع المنتخبين بأن اختيارهم لممثليه يعني الدعم المطلق للنضال ضد الجهل والأمية والأمراض بجميع أنواعها وللقضاء على الأكواخ والأحياء القصديرية، ومن أجل تنمية أفضل لمجالات الحياة اليومية مع التركيز على التعليم والتربية والتكوين المهني وتوفير مختلف حاجات الغذاء.
وكانت هذه الرؤية في تناقض كلي مع تلك التي جاءت بها الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، والتي رأى هذه الحركة، كانت ترى أن الحملة الانتخابية المذكورة يجب أن تتحول إلى تظاهرة سياسية وأيديولوجية يتم من خلالها. تجذير العداء للقانون التنظيمي الآنف الذكر إلى جانب تعميم فكرة اللجوء إلى جميع الوسائل من أجل استرجاع السيادة الجزائرية التي اغتصبتها الامبريالية الفرنسية والتي لم يتوقف الشعب الجزائري عن المقاومة بكل أنواعها في سبيل استعادتها.(45).
إن هذا التباين في الموقف من الانتخابات البلدية هو الذي حال دون تحقيق: "الوحدة الوطنية والديمقراطية للدفاع عن مصالح الجزائريين"، التي نادى بها الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري مدعوماً بالحزب الشيوعي الذي كان يرى أن التركيز ينبغي أن يكون فقط على المطالب ذات الصبغة البلدية.
ومما لاشك فيه أن تجاوب الجماهير الشعبية مع الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وما نتج عن ذلك من انتصار قوائمها رغم كل العوائق والتكتلات، وقد دفع عباس وجماعته للتأمل،مرةأخرى، في الواقع الاستعماري والتأكد من أن جماهير الشعب الجزائري لم تعد قادرة على تعبئتها سوى البرامج الداعية إلى التخلص النهائي من السيطرة الأجنبية.
هذه النتيجة قد توصل إليها الحزب الشيوعي الذي لم يتردد في الاعتراف بها صراحة ضمن افتتاحية Alger Républicain الصادرة في عدد يوم 24/10/1947. حيث كتب السيد Rouzé: "لقد حققت قوائم الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية نجاحاً في عدد من النواحي: فالجماهير الشعبية التي خيبت آمالها فيما كانت تطمح إليه من حرية قد عبرت عن استيائها بتلك الطريقة... وبديهي أن التفاعل مع برنامج الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية إنما يدل دلالة قاطعة على عمق التغيير الذي طرأ إيجابياً على فكرة الوعي الوطني في أوساط الجماهير الشعبية".
وعلى الرغم من تسجيل الهزيمة أمام منافسة الأول، فإن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد حاول، منذ الإعلان عن النتائج الأولى، التظاهر بروح رياضية حيث نشر على أعمدة لسانه المركزي مقالات متعددة فيها تأكيد على أن اختيار الجماهير الشعبية يعد ترسيخاً وتثبيتاً لفكرة الوطن الجزائري التي يتطلب انتصارها النهائي تضافر جهود كل الطاقات الحية في البلاد(46)..
وإذا كانت الخطوة الأولى في طريق توحيد الطاقات الوطنية قد بدرت عن الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، فإن قيادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري لم تتردد في تقديم العربون على استعدادها لتحقيق الوحدة الجدية والدائمة. أما خطوة الحركة فتمثلت في كتاب وجهه السيد الحاج مصالي في اليوم الثامن من نوفمبر إلى اللجنة المركزية للاتحاد يدعوها فيه إلى الحوار قصد إيجاد السبيل الأمثل لإخراج البلاد من دائرة السيطرة الاستعمارية، وأما عربون الاستعداد الذي قدمه الاتحاد فقد جاء في شكل نشرة صادق عليه المكتب السياسي في اليوم التاسع من نفس الشهر وضمنها عزمه كقيادة عليا على: "العمل من أجل جمهورية جزائرية ديمقراطية واجتماعية بحكومتها وبرلمانها وألوانها الوطنية”(47). كانت تلك نشرة اللائحة إيذاناً ببدء الحوار بين الطرفين، ودليلاً واضحاً على أن تقارباً إيديولوجياً كبيراً قد وقع بين التشكيلتين السياسيتين اللتين أصبحتا بالفعل قادرتين على إبرام الاتفاق من أجل توحيد العمل في سبيل تقويض أركان الاستعمار وبعث الدولة الجزائرية من جديد.
وبالفعل، فإن المحادثات بين مندوبي التشكيلتين، قد جرت في جو يسوده كثير من الوئام والتفاهم وتوجت بتصريح مشترك مذيل ببرنامج عمل من ثلاث نقاط أساسية هي:
أ - وحدة العمل من أجل التوحيد الإيديولوجي والتنظيمي للحركة في كفاحها ضد الامبريالية.
ب - إلغاء كل أنواع الاستعمار.
ج - دستور دولة جزائرية ذات سيادة مطلقة.
أما التصريح فقد تضمن اتفاق الطرفين على ضرورة استرجاع السيادة الوطنية التي اغتصبتها الامبريالية الفرنسية، وفي نفس السياق رفض الاتحاد الفرنسي الذي يتناقض في أساسه مع ميثاق الأمم المتحدة الذي يقر لجميع الشعوب حقها في تقرير مصيرها بنفسها.
من جهة أخرى فإن الطرفين قد اتفقا على تشكيل لجنة للتنسيق تتولى متابعة تطبيق برنامج العمل وتنشط، باسم التشكيلتين، من أجل توسيع الاتحاد إلى تنظيمات أخرى تكون مستعدة للمساهمة في الحركة الواسعة الرامية إلى إقامة الجمهورية الحرة الديمقراطية والاجتماعية.
إن الذي يطلع على كل هذه النتائج الإيجابية، في واقع الأمر، لا يسعه سوى الإقرار بأن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد اهتدى، عن وعي، إلى الطريق المؤدية إلى تحرير الوطن لكن ذلك لم يطل إذ أن اللجنة المركزية للاتحاد أعلنت أنها تخضع استمرار العمل الوحدوي إلى مجموعة من الشروط في مقدمتها عدم رفض التمثيل البرلماني وعدم إدانة الاتحادالفرنسي والتخلي عن دستور الدولة الجزائرية ذات السيادة المطلقة وهو ما رفضته الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وجعل السيد الحاج مصالي يصف "الجمهورية الفدرالية" التي رفع شعارها السيد فرحات عباس بالمولود الامبريالي لأنها تترك الدفاع الوطني والشؤون الخارجية بين أيدي الامبريالية الفرنسية وتسوي مليون أوربي بعشرة ملايين من الجزائريين.(48).
وفي نفس الوقت الذي كانت فيه قيادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري تدعو إلى الالتزام بالشروط المذكورة أعلاه كشرط أساسي لوحدة الصف الوطني، فإن السيد فرحات عباس كان يوظف أعمدة الجمهورية الجزائرية la République Algerinne” للتنديد بالحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية التي لم تأمر نوابها بالانسحاب من البرلمان الفرنسي، ولكتابة أشياء غير معقولة مثل: "أن سياسة الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية تشبه العنصرية التي لا تطاق والدكتاتورية الأكثر دناءة والفاشية الجديدة ذات الحظ الصاعد"(49).
المشاركة في انتخاب الجمعية الجزائرية:
هكذا، وبكل هذه السهولة، تحلل الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من وثيقة الاتفاق الذي أبرمه مع الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وراح يستعد لانتخابات الجمعية الجزائرية وفق البرنامج السابق المتأرجحة أهدافه بين السيادة المشروطة والجمهورية الجزائرية المتحدة مع فرنسا والرافضة في الحالتين للانفصال عن فرنسا وللاتحاد مع الحركة المصالية الداعية إلى تقويض أركان الاستعمار وبعث الدولة الجزائرية ذات السيادة المطلقة.
وعلى الرغم من أن الرأي العام الوطني، في الجزائر، كان ينتظر من التشكيليتين موقفاً موحداً لمواجهة الجبهة الاستعمارية التي بدت متماسكة للاحتفاظ بالجزائر فرنسية ولإبقاء شعبها المسلم في حالة التهميش التي تمنعه من ممارسة حقه في الحرية والسيادة، فإن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية قد قررا مواصلة السير منفردين، ودخول المعركة الانتخابية مشتتي الصفوف وببرامج متباينة إلى أبعد الحدود.
إن مجرد المشاركة في انتخابات الجمعية الجزائرية كان يعتبر هزيمة للحركة الوطنية لما في ذلك من قبول بالعودة إلى ماقبل حركة أحباب البيان والحرية. فالمادة الثانية من القانون التنظيمي الذي أنشئت الجمعية بموجبه تؤكد إبقاء الجزائر في شكلها السابق لسنة 1947 أي مجموعة عمالات مزودة بالشخصية المدنية والاستقلال المالي"(50)، وفي المادة الواحدة والثلاثين من نفس القانون تثبيت للمجموعتين الانتخابيتين وعودة لمقاييس مشروع فيوليت من أجل تعيين المسلمين الذين يمكنهم الارتقاء إلى المجموعة الأولى أي مجموعة المواطنين الفرنسيين.
ومن جهة أخرى، فإن التشكيلتين السياسيتين الوطنيتين، إذ تقدمان على المشاركة في انتخابات الجمعيةالجزائرية، فإنهما تتنكران لموقفهما من القانون التنظيمي الذي كانتا قد رفضتاه جملة وتفصيلاً واعتبرتاه اعتداء سافراً على سيادة الشعب الجزائري(51). بل إن مؤتمر البليدة الذي عقده الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري أيام 3-4 و5/10/1947 لم يتردد في التنديد: "بالاتحاد الفرنسي المؤسس على الإكراه والسيادة الأحادية"، وفي إدانة القانون التنظيمي المفروض على الشعب الجزائري الذي يسعى "لإقامة جمهورية جزائرية مزودة بألوانها الوطنية وبحكومة مسؤولة أمام برلمان جزائري”(52).
في هذا الجو المليء بالتناقضات وعدم الاستقرار على موقف واحد، أعد الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قوائم مرشحيه للجمعية الجزائرية التي قال عنها السيد فرحات عباس: "إنها غير مرضية ولا غير مجدية، وسوف تكون بين أيدينا أداة لتحسين وضعنا وتسليحنا لخوض معارك أخرى"(53).
لقد كانت قيادة الاتحاد، في معظمها تعتقد أن الابتعاد عن الحركة المصالية بجميع تسمياتها سيساعدها على الفوز بثقة الإدارة الاستعمارية وتفهم الحكومة الفرنسية، ومن ثمة تعطي لها فرصة إيجاد ديناميكية جديدة لصالح حل لا يخرج عن إطار الاتحاد الفرنسي لكنه يمنح الجزائر نوعاً من الاستقلال الداخلي الذي يكون محطة في طريق الاستقلال الكامل.
إن ذلك الاعتقاد لم يكن صحيحاً، لأن غلاة الكولون الذين لم يكونوا مستعدين للتعامل مع أي من أطراف الحركة الوطنية، قد تمكنوا من التغلغل بسهولة في أوساط الأغلبية الحاكمة في فرنسا، وزيادة على تجذيرهم، في تلك الأوساط، لفكرة الجزائر الفرنسية، فإنهم استطاعوا أن يكونوا ممثلين في حكومة السيد روبارت شومان Robert Schuman بواسطة واحد منهم وهو نائب قسنطينة Réné MAYER(54). الذي أدت ضغوطاته إلى استبدال السيد YVES Chataigneau بالسيد مارسيل ايدموند نيجلان Marcel édmond naegelen والياً عاماً للجزائر ابتداءً من يوم 11/02/1948.
لقد كان نيجلان اشتراكياً في مذهبه السياسي، لكنه بالنسبة للجزائر كان يمينياً متطرفاً يرى في استقلالها، "نهاية للإنجازات الفرنسية وتوقفاً لبناء المدارس والطرقات والمستشفيات والقامرات الهاتفية ولتحسين المحصولات كما أنه يعني رحيل معلمينا وأطبائنا ومهندسينا وحكامنا"(55). وحتىلا تحدث "هذه الكارثة" فإنه شرع بمجرد تنصيبه في وضع أسس مدرسة تزييف الانتخابات التي سوف تعرف باسمه، وذلك رغم كل ماقام به من جهد ليقدم نفسه كمنقذ لتعليمات كان سابقه قد ضمنها نشرية تحمل تاريخ 28/08/1947.
وتأمر بالقضاء على المشوشين الذين يتبين أن نشاطهم مضر، والحفاظ، من جهة أخرى، على هيبة السلطة بواسطة قمع مخالفات القانون والمس بالنظام العام"(56).
إن نايجلان لم يكن مخطئاً تماماً، لكنه لم يكن في مستوى ذكاء الوالي العام السابق إيف ستاتينيو الذي كاد، بفضل مرونته العجيبة، أن يقنع الجزائريين على اختلاف ميولاتهم ومستوياتهم بتعاطفه معهم في الوقت الذي توجد فيه أدلة ملموسة على محاربته للحركة الوطنية بكل الوسائل. نكتفي هنا، بالإشارة إلى تعليماته الصارمة بمنع منتخبي الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية من عقد مؤتمرهم يوم 25/01/1948، أي قبل تنحيته بأسبوعين فقط، وكذلك حملة الاعتقالات والاعتداءات على المرشحين والمقرات على حد سواء ابتداء من فاتح جانفي سنة 1948.
مثل هذه الإجراءات التعسفية هي التي لجأ إليها السيد نيجلان لمنع تشكيلات الحركة الوطنية وحتى الشيوعيين من الفوز بمقاعد المجموعة الانتخابية الثانية في الجمعية الجزائرية. وأكثر من ذلك فإنّه جند الصحافة الاستعمارية الصادرة في الجزائر للتحذير من خطر الانتخاب على مرشحي الحركة المصالية "الذين لا يمكن إلا أن يكونوا قوة معرقلة ومعادية لكل ما هو فرنسي"(57).
ولم يكتف نيجلان باضطهاد إطارات الحركة الوطنية موجهاً لهم تهمة المس بالسيادة الفرنسية والعمل على إرباك النظام العام، وإنما تجاوز ذلك إلى الأمر باعتقال المرشحين أنفسهم كما جاء في تقرير اللجنة المركزية للإعلام والتوثيق التابعة للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية؛ومن جهة أخرى صدرت الأوامر الصارمة إلى المصالح الإدارية بالبلديات كي لا توزع بطاقات الناخبين في المراكز التي شك في ميولات سكانها الوطنية.
وعندما بدأت عملية الاقتراع، تضاعفت إجراءات التزييف مثل إسناد الإشراف على مكاتب التصويت إلى الأوربيين فقط أو إلى من يعينون من طرفهم.
وفي بعض الحالات التي ذكرتها اللجنة المركزية للإعلام والتوفيق التابعة للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، فإن الإدارة الاستعمارية قد حولت عناوين المكاتب دون إخبار المواطنين، أو نقلتها إلى بيوت خاصة يغلقها أصحابها في وجه المنتخبين(58). وفي كثير من الحالات وبأمر من عامل العمالة، حجبت قوائم مرشحي الحركة الوطنية ومنع ممثلوهم من الدخول إلى المكاتب للمشاركة في الرقابة القانونية(59). وأحياناً، وربحاً للوقت، كانت الإدارة الاستعمارية تملأ الصناديق كما تشاء أو تقيم محاضر النتائج عشية الانتخاب(60)، وحيث ظهرت المقاومة أو بدت علامات الاحتجاج، فإن الولاية العامة قد لجأت إلى الجيش أو إلى سائر قوات الأمن من تقوم، كعادتها، بأعمال القمع والترهيب(61).
هكذا ورغم أن المنتخبين منحوا أصواتهم لمرشحي الحركة الوطنية، فإن الإدارة الاستعمارية العاملة تحت الإشراف المباشر للسيد نيجلان، قد ألغت الإرادة الشعبية وقررت بمفردها إعطاء تسعة مقاعد للحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وثمانية للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، بينما خصصت الباقي لعملائها الذين لم يكونوا ليفوزوا بمقعد واحد لولا إجراءات التزييف على الطريقة النايجلانية.
النضال داخل الجمعية الجزائرية:
لقد كان واضحاً منذ الإعلان عن النتائج، أن الإدارة الاستعمارية لم تكن مستعدة لتمكين الوطنيين الجزائريين من تأدية دورهم في التعبير عن إرادة منتخبيهم. وكان واضحاً، أيضاً، أن مندوبي التشكيلتين الوطنيتين لن يكتفوا، في أشغال الجمعية، بدور المتفرج السلبي. وكما كان متوقعاً، فإن الاصطدامات بدأت مع الاجتماع الأول. حدث ذلك على مرحلتين: الأولى: عندما طلب السيد فرحات عباس الكلمة ولم تعطِ له(62)، فاضطر إلى مغادرة القاعة متبوعاً بمندوبي حزبه، والثانية: بمناسبة التنصيب الرسمي لمكتب الجمعية من طرف الوالي العام السيد ناجيلان. فمندوبو الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري انسحبوا من القاعة بمجرد أن بدأ النشيد الوطني الفرنسي(63).
وأثناء تكوين اللجان، وبحكم العدد، أقصي مندوبو الحركة الوطنية، وبذلك أصبح وجودهم شبه صوري ومقتصراً على بعض الاحتجاجات التي يعبر عنها من حين لآخر خلال الجلسات العمومية والتي لا يكون لها أي تأثير إيجابي على سير المداولات. وحينما فشل الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري في تغيير الوضع وإقناع الأغلبية بضرورة إشراك الأقلية في أعمال اللجان، فإنه قرر يوم 17/03/1950 سحب مندوبيه في انتظار تراجع الإدارة الاستعمارية الذي لم يحدث إلا في شهر نوفمبر 1951 وبكيفية لا تكاد تذكر، فغلاة الكولون، الذين عز عليهم أن يقطعوا شعرة معاوية، وبعد أن قررت الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية سحب كل مندوبيها، وافقوا على تمكين الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من المشاركة كعضو أساسي في لجنتين ليس لهما أي تأثير على حياة الشعب الجزائري(64).
إن سلوكات الإدارة الاستعمارية لم تكن غريبة بل هي امتداد طبيعي للخطة التي وضعت من أجل تزييف الانتخابات، إذ لا يعقل أن يجند الوالي العام كل إمكانيات فرنسا، في الجزائر، لإقصاء ممثلي الحركة الوطنية من الجمعية الجزائرية ثم يقبل هونفسه إشراك من وصل منهم، رغم أنفه، إلى تلك الجمعية في أعمال اللجان.
صحيح أن القانون التنظيمي، في حد ذاته، والجمعية الجزائرية التي أنشئت بموجبه يتناقضان تماماً مع طموحات الشعب الجزائري المعبر عنها بواسطة كل من التشكيلتين الوطنيتين اللتين كانتا تدركان ذلك حق الإدراك، لكن القياديين، في التشكيلتين، كانوا يريدون، من خلال المشاركة في الانتخابات، التدليل على أن الجماهير الشعبية تسير وراءهم وهي تمنحهم كل الثقة لتمثيلها. لقد كانوا، بقرارهم ذلك، سذجاً، لم يأخذوا في الحسبان موقف الإدارة الاستعمارية التي لم توجد إلا لتنفيذ إرادة غلاة الكولون.
ومن ثمة، كان عليهم أن يعلموا، مسبقاً، أن الطريق إلى قصر كارنو(65) سوف تكون مسدودة أمامهم وأن المقررين، باسم الكولون، لن يمكنوهم من استعمال منبر أعد للاحتفاظ بالجزائر فرنسية.
ومن الممكن، في نظرنا، أن يكون تراجع الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري عن الخطوات التي كان قطعها في طريق توحيد الطاقة الوطنية، ناتجاً عن رغبة قيادته في تقديم تنازلات جوهرية للأوربيين الذين كانت تخيفهم فكرة الانفصال عن فرنسا وما يحيط بها من طروحات يزخر بها برنامج حزب الشعب الجزائري... فالسيد فرحات عباس إذ تخلى فجأة، عن الدعوة إلى الجمهورية الجزائرية ذات السيادة المطلقة وعاد من جديد، إلى مشروع الاتحاد الفرنسي، لم يكن يقصد سوى طمأنة الحكومة الفرنسية وإقناع الرأي العام الفرنسي بأنه مختلف في نظرته إلى مستقبل الجزائر، عن الحاج مصالي الذي يسعى بجميع الوسائل إلى بنائه خارج دائرة النفوذ الفرنسي. ومع ذلك، فإن الكولون لم يقتنعوا بأن الاتحادالديمقراطي للبيان الجزائري يمكن أن يكون صادقاً في مواقفه، ولذلك، فإنهم وضعوه في نفس خانة الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وراحوا يعملون على إقصائهما معاً.
وكان رد الفعل الكولونيالي درساً ثميناً بالنسبة للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي أيقنت قيادته أن الإدارة الاستعمارية مصممة على حرمان الشعب الجزائري من ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه وتأكدت أن التنازلات التي قدمتها لم تجدِ نفعاً وأن الحلول الوسطى غير مفيدة مع من يدينون بالتطرف. كل هذه الحقائق عرضت على أعضاء المؤتمر الذي انعقد بمدينة سطيف أيام 25/26/27/9/1948 وبعد الدراسة المستفيضة والتحاليل المعمقة، جاءت اللائحة السياسية معبرة بوضوح عن موقف القواعد المناضلة من النقاط الهامة التالية:(66).
1 - إن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري يندد بالاتحاد الفرنسي باعتباره امتداداً للامبراطورية القديمة، ويدين نظام العسف والاستبداد المفروض على الشعب الجزائري بعد ثلاث سنوات من تحرير فرنسا، ويعلن عن استعداده للنضال حتى يحقق الشعب الجزائري طموحاته الوطنية التي تجسدها الجمهورية الجزائرية الديمقراطية والاجتماعية.
2 - إن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري يؤكد من جديد أن الجزائر لا يمكن فصلها عن جارتيها المغرب وتونس اللتين يربطها بهما التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والاقتصاد.
3 - إن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري يحتج على جو الرعب والقمع الذي سبق الانتخابات ومايزال مفروضاً على البلاد إلى غاية اليوم، كما أنه يطالب بإلغاء الانتخابات المذكورة وبضمان حرية التصويت وتحرير جميع المعتقلين السياسيين.
وسوف يظل هذا الموقف ثابتاً لدى قيادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري التي راحت تبذل جهوداً معتبرة لتعبيد الطريق أمام القوى الوطنية الحية المستعدة للعمل من أجل تحرير البلاد من النير الاستعماري.
صراع الأشقاء وتدخل الحزب الشيوعي الجزائري:
لقد بدأت الجهود المذكورة تظهر في أعمال الجمعية الجزائرية حيث وجد مندوبو الحركة الوطنية أنفسهم عرضة لمناورات دنيئة تمنعهم أحياناً، من مجرد التدخل في الجلسات العمومية وتسد جميع المنافذ في وجه اقتراحاتهم. ولم يكن المندوبون الأوربيون وعملاؤهم من المسلمين يميزون، في ذلك، بين مندوبي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ومندوبي الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، بل إن الاعتداءات وإجراءات العسف لم تكن تحاشي أحداً، وكان مندوبو الكولون وعملاؤهم يقاطعون كل متحدث يحاول الخروج عن بيت الطاعة.
بالإضافة إلى الموقف الرافض لمساهمة مندوبي الحركة الوطنية في أعمال الجمعية الجزائرية، وخوفاً من أن تتحقق الوحدة الفعلية بين التشكيلتين السياسيتين، شهرت الإدارة الاستعمارية سلاحها المعهود المتمثل في إذكاء نار الفتنة وزرع بذور الانقسام في صفوف الأشقاء مستعملة أوصاف الاعتدال والتطرف ومركزة على التلميح إلى إمكانية التفاهم مع ممثلي الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري باعتبارهم متحضرين ومتشبعين بالثقافة الفرنسية وقابلين لترقية الجزائر في إطار الاتحاد الفرنسي ووفقاً للخط الديمقراطي الذي لا يلغي الجالية الأوربية من الحياة السياسية.
وكان لمسعى الإدارة الاستعمارية أثر في تدهور العلاقة بين التشكيلتين السياسيتين الوطنيتين، ثم تدخل الحزب الشيوعي الجزائري ليشجع الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري على الابتعاد عن "الثوريين المزيفين"(67)، والانضمام معه إلى لجنة العمل الثقافي التي يرأسها الأستاذ MANDOUZE.
وفي نفس الوقت الذي كانت فيه "الجمهورية الجزائرية" تجند أقلامها الجيدة للحط من قيمة الحاج مصالي ولتقزيم الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية ووصف قيادتها بالعجز السياسي وعدم القدرة على معالجة قضايا الشعب الجزائري وانتهاج الديماغوجية التي تقود إلى الهاوية، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري كان يوجه النداء تلو الآخر إلى الحكومة الفرنسية كي تضع حداً لتزييف الانتخابات ولسياسة الاستبداد التي يمارسها الوالي العام وسائر المصالح التي يشرف عليها في الجزائر(68).
وازداد الصراع المزيف بين الأشقاء حدة بمناسبة الانتخابات الجهوية التي جرت يومي 20 و27 مارس 1949. فالحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية قررت تجاوز الخلاف وعرضت على الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري تقديم قوائم مشتركة.وأمام رفض هذا الأخير أعلنت عن عدم مشاركتها، الأمر الذي جعل "الجمهورية الجزائرية"، تعنون "الامتناع انصياع"، مؤكدة أن مشاركة الاتحاد قد مكنته من أن يرفع إلى الإدارة الاستعمارية اقتراحات إيجابيةمثل:"ضرورة إلغاء البلديات المختلطة وإدانة الاندماج المبني على خرافة العمالات الثلاث، وكذلك الاتحاد الفرنسي الذي هو شكل من أشكال الامبريالية الجديدة، وتزويد الجزائر بقانون تنظيمي جديد بالإضافة إلى إلغاء انتخابات الجمعية الجزائرية"(69).
كل هذه الاقتراحات لم تجد طريقها إلى آذان ممثلي الكولون الذين حركوا ميكانزمات التزييف التي تم بموجبها إقصاء مرشحي الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري بكيفية يندى لها جبين كل عاقل.وعلى سبيل المثال نشرت "الجمهورية" النتائج المسجلة في بعض الدوائر فيها كثير من الغباء السياسي ومن التحدي الذي لا يعرف حدوداً(70)، ومن أغرب ما نشر أن ممثل الإدارة في عين تموشنت وهو السيد عبد القادر بن شيحة حصل على جميع الأصوات المعبر عنها بما في ذلك صوت منافسه من الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وأصوات أقاربه وأحبائه وأصدقائه: وفي مدينة تبسة، كذلك، حصل مرشح الإدارة السيد مشري علي كافة الأصوات المعبر عنها(71).
كانت هذه الانتخابات هي القطرة التي أفاضت الكأس والشعرة التي قصمت ظهر البعير، وكانت نتائجها سبباً كافياً لتراجع قيادة الاتحاد مواقفها السياسية وخاصة موقفها من الحركة المصالية: وساعد على تجاوز ماكان بينهما من صراع تأسيس اللجنة الجزائرية لتحضير المشاركةفي المؤتمر العالمي للسلم بتاريخ 19/04/1949. غير أن تجاوز الصراع، وحده، لم يكن كافياً للقضاء، نهائياً، على تخوف السيد فرحات عباس من تكرار تجربة "أحباب البيان والحرية".
وإذا كان الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري مدركاً لصحة النهج المتبع من طرف الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية ومقتنعاً بأن ما يجمع بين التشكيلتين أكثر بكثير مما يفرق بينهما لكنه لم يقوَ على اجتياز الخطوة الحاسمة لتحقيق الوحدة الايديولوجية لأسباب انتهازية فقط، فإنه، على العكس من ذلك، لم يجد في عروض التحالف الصادرة عن الحزب الشيوعي الجزائري مايدعو إلى التوقف عندها نظراً لما تتضمنه من تنكر للسيادة الوطنية ومن نظرة خاطئة للنضال التاريخي الذي مافتئ الشعب الجزائري يخوضه ضد الامبريالية الفرنسية منذ سنة 1830.
لقد بدأ الحزب الشيوعي يحاول ركوب قاطرة الحركة الوطنية منذ سنة 1946، يريد أن يكفر عن الجرائم التي شارك في ارتكابها خاصة في شهر مايو 1945 عندما كان الحزب الشيوعي الفرنسي شريكاً قوياً في الحكم بفرنسا، وكان وزير الحرب الفرنسي الذي أمر بقنبلة الجزائريين العزل شيوعياً، يومها وقف الحزب الشيوعي الجزائري موقفاً متطرفاً في العداء للحركة الوطنية عامة وللحركة المصالية بصفة خاصة.
لأجل ذلك، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية لم تكن مستعدة لتغفر له خطايا اقترفها متعمداً ومن منطلق ايديولوجي ولأجل ذلك، أيضاً، توجه إلى الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري معتقداً أن خلاف هذا الأخير مع الحركة المصالية يسهل التقارب معه، خاصة وأن السيد فرحات عباس صرح في مرات عديدة، أنه مستعد للعمل على تسوية القضية الجزائرية في إطار الاتحاد الفرنسي وبواسطة الجمهورية الجزائرية المتحدة مع فرنسا بمحض إرادتها.
فالحزب الشيوعي الذي كان يتابع معاناة مندوبي الحركة الوطنية أثناء أشغال الجمعية الجزائرية والذي استخلص، بعد تجربة طويلة، أن الإدارة الاستعمارية في الجزائر ترفض اشتراكه في الحكم وتتعامل معه تماماً كما تتعامل مع الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية اختار مطلع السداسي الثاني من سنة 1948 لينظم حملة إعلامية واسعة يدعو، من خلالها، إلى توحيد القوى الوطنية والديموقراطية مع الطبقات الكادحة في فرنسا قصد المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإبطال انتخابات الجمعية الجزائرية(72).
وإذا كانت الحركة المصالية، بجميع أجنحتها، لم تكلف نفسها حتى مجرد دراسة العروض الشيوعية لاقتناعها بتناقضها، في الأعماق، مع طموحات الشعب الجزائري، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد توقف، ملياً، عند أدبيات الحزب الشيوعي يفحص ويتمعن قبل أن يجزم قولاً وكتابةً أن نقاطاً أساسيةً تمنعه من الاستجابة للعروض المذكورة، ومن الممكن تعداد أهم تلك النقاط كالآتي:
1 - إن الحزب الشيوعي يتصور الجمهورية الجزائرية في إطار الاتحاد الفرنسي وعلى غرار جمهوريات الاتحاد السوفياتي(73).
2 - إن الحزب الشيوعي يرفض اللغة العربية والعروبة والإسلام(74). بالإضافة إلى وحدة شمال إفريقيا.
3 - إن الحزب الشيوعي لم يتخل عن نظريته الخاصة بالأمة الجزائرية في طور التكوين(75)، ويرى أن الجزائر لا يمكن أن تكون محايدة بل لابد من التموقع "إلى جانب الحلفاء الطبيعيين، أي الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين وخمسمائة مليون صيني والديموقراطيات الشعبية"(76).
ولم يكتف الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري بذكر نقاط الاختلاف بل إنه وظف كل إمكانياته لنقدها وإبراز مواطن الضعف فيها حتى يدرك المواطن والمناضل على حد سواء لماذا تبقى نداءات الحزب الشيوعي صرخة في واد مهجور، فالامبريالية الأمريكية، في نظر قيادة الاتحاد، لا تشكل خطراً على بلدان شمال إفريقيا... وخلاص الجزائر غير منتظر لا من الجامعة العربية ولا من روسيا السوفيتية ولا من أمريكا"(77).
ومن جهة أخرى، فإن التموقع إلى جانب الاتحاد السوفياتي يتناقض مع مصلحة الشعب الجزائري إذا أخذنا في الاعتبار الموقف الشيوعي" من تقسيم فلسطين والعمل على فصل الجزائر المسلمةعن الوطن العربي" (78).
أما فيما يخص الاتحاد الفرنسي ووحدة شمال إفريقيا واللغة العربية والأمة الجزائرية، فإن نظرة الحزب الشيوعي الجزائري إليها تختلف كلية عن الرأي الذي أبداه حولها المؤتمر الذي عقده الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري بمدينة سطيف أيام 25-26-27/09/1948 والذي تعرضنا له بإيجاز في الصفحات السابقة.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:51 am

نحو جبهة وطنية موحدة
كان لابد من تفاعل عوامل كثيرة كي تعرف الساحة السياسية، في الجزائر، انقلاباً جذرياً، بعض هذه العوامل إيجابي من حيث منطلقاته الأيديولوجية وتأثيره الحسن على مسار الحركة الوطنية ونتائجه الخيرة بالنسبة لمستقبل الشعب الجزائري، وبعضها الآخر سلبي من حيث خلفياته السياسية وأهدافه التي رغم تباينها في الظاهر، كانت متحدة فيما يخص تعارضها بطريقة أو بأخرى مع استرجاع الجزائر سيادتها واستقلالها كاملين.
العوامل الإيجابية:
أ - إن قيادة الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري التي جربت المرونة بجميع أنواعها في التعامل مع الإدارة الاستعمارية لعلها تحظى باستمالتها إلى ضرورة العمل على إنهاء النظام الاستعماري القائم في الجزائر منذ سنة 1830، قد اقتنعت بأن الكولون يسيطرون فعلاً، على الحياة السياسية في باريس خاصة فيما يتعلق بمصير الجزائر، وهم غير مستعدين للتنازل عن شيء يذكر يكون من شأنه تمكين الجزائريين من المشاركة الفعلية في تسيير شؤون البلاد، كما أنهم عازمون على استعمال جميع مالديهم من إمكانيات العنف والقمع واللجوء إلى كل أساليب التزييف لمنع الجماهير الشعبية من اختيار ممثليها الحقيقيين في جميع المجالس المنتخبة بما في ذلك الجمعية الجزائرية.
وتأكد السيد فرحات عباس، من جهة أخرى، إن الإدارة الاستعمارية لا تنظر إلى المسألة الجزائرية إلا من زاويتها التي لا ترى من خلالها غير الجزائر الفرنسية. أما كل محاولاته لاقناعها بالسير معه في طريق الاتحاد الفرنسي الذي لا يقصي أحداً، أو في سبيل إقامة جمهورية جزائرية متحدة مع فرنسا بمحض إرادتها وحيث تبقى الخارجية والدفاع من اختصاص الحكومة الفرنسية، فإنها باءت بالفشل ولم تتمكن إلا من منع التلاقي بين الأشقاء وتأخير آجال التوحيد المنتظر واللازم لتخليص الوطن من السيطرة الأجنبية.
وكان هذان الاستنتاجان كافيين ليشدد الاتحاد موقفه وليعيد النظر في برنامجه السياسي وفي علاقاته مع الحركة المصالية وحتى مع الحزب الشيوعي الذي كان السيد فرحات عباس، كغيره من مسؤولي الحركة الوطنية، ينظر إليه كتنظيم تابع للحزب الشيوعي الفرنسي ولا يتحرك إلا في إطار المخططات السوفيتية"(79).
ب - إن الحركة المصالية التي كانت تعتقد أنها تستطيع وحدها تقويض أركان الاستعمار وتمكين الشعب الجزائري من استرجاع سيادته المغتصبة والتي كان قادتها يظنون أنهم يحتكرون الوطنية الحقة ويتهمون غيرهم بالعمالة للإدارة الاستعمارية وبالعجز عن الارتقاء إلى مستوى طموحات الجماهير الشعبية في الجزائر، قد اقتنعت بأن تحرير الجزائر يتطلب تضافر جهود جميع أبنائها المخلصين.
ولقد كان في أساس هذا التحويل العقيدي عددمن الأزمات التي مرت بها الحركة(80)، وكثير من إجراءات العسف والاستبداد التي سلطتها الإدارة الكولونيالية على إطاراتها ومناضليها وهيآتها(81)، كما أن موقف الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والحزب الشيوعي، خاصة بعد مؤتمره الخامس(82). من تدابير القمع الموجه ضد المناضلين الوطنيين ومن عمليات التزييف والإحباط التي كانت الولاية العامة تتفنن في وضعها وتنفيذها، كل ذلك ساهم في إقناع السيد الحاج مصالي ورفاقه بضرورة التفتح على سائر القوى الحية في البلاد قصد الاستفادة من جميع الطاقات لإرغام الحكومة الفرنسية على تلبية رغبة الشعب الجزائري في استرجاع سيادته واستقلاله.
ج - لم تعد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تكتفي بالدعوة الدينية والعمل التربوي والنشاط التعليمي، بل إن تواتر الأحداث السياسية قد فرض على قيادتها تجاوز إطار قانونها الأساسي والدخول، علناً، إلى معركة النضال ضد الوجود الاستعماري وليتمكن الجزائريون من تقرير مصيرهم بأنفسهم.
د - إن الحزب الشيوعي الفرنسي قد فقد كل أمل في استعادة مكانته في أعلى هرم السلطة الفرنسية بسبب موقف الاتحاد السوفياتي من مخطط مرشال سنة 1947، قد أشار على الحزب الشيوعي الجزائري بإعادة النظر في مواقفه من الحركة الوطنية الجزائرية التي برهنت الانتخابات على تجذرها في أوساط الجماهير الشعبية. فعملاً بنصيحة الأخ الأكبر، وابتداءً من سنة 1949، شرعت قيادة الحزب في الانفتاح على الإطارات الجزائرية وتخلت بالتدريج على كثير من قناعاتها حتى أصبحت، في نهاية سنة 1950، تطالب، هي أيضاً، بجمهورية جزائرية مستقلة وبتكوين جبهة وطنية ديموقراطية لتحقيق تلك الغاية(83).
2 - العوامل السلبية:
أ - على الرغم من أن اسم السيد نايجلان قد أصبح، بالنسبة للجزائريين، رمزاً لتزييف الانتخابات، فإن تغييب إرادة الشعب الجزائري إنما تندرج في إطار استراتيجية إجمالية وضعتها الإدارة الكولونيالية وأشرف على تطبيقها، بنفس العزم والصرامة، كل الولاة بما فيهم السيدإيف شاتينيو الذي استطاع أن يصنع لنفسه مكانة الصديق والمتعاطف مع القضية الجزائرية.
ولقد أدركت كل الأحزاب السياسية، خاصة بعد انتخابات افريل سنة 1948، أن الكولون هم الموجهون الحقيقيون لسياسة فرنسا في الجزائر: وإن هذه السياسة لا تخدم سوى مصلحة بعض غلاتهم كما جاء ذلك في وصية الرئيس Queuille للسيد روجي ليونار(85) قبل التحاقه بمنصبه الجديد خلفاً للسيد نايجلان: "عليك أن تعرف أن قسنطينة هي روني ميار، والجزائر العاصمة هي بورجو، أما وهران فيحتمل أن تبقى في يد عامل العمالة مالم يقترح غلاة الكولون واحداً من بينهم"(86). ولكي يوضح تعليماته أكثر، أضاف بلهجة متشددة: "أما لعباس ومصالي فقل لهما: القوة هي الفصل بيننا وبينكم"(87).
فالإدارة الاستعمارية كانت تعرف جيداً أن جماهير الشعب الجزائري تساند الحركة الوطنية بجميع قواها، استخلصت ذلك من نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في شهر أكتوبر سنة 1947 والتي حققت فيها الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية فوزاً مطلقاً، وعليه فإنها أقرت التزييف وجعلت منه مؤسسة تسخرها، في جميع المستويات، لتعيين المندوبين الذين تراهم صالحين للسير في ركابها.
وعلى الرغم من أن التشكيلات السياسية الوطنية لم تبق مكتوفة الأيدي، بل لم تترك باباً إلا وطرقته للتنديد بتلك الممارسات اللامشروعة، وعلى الرغم من ارتفاع أصوات بعض المنتخبين الفرنسيين لإدانة التزييف باعتباره منافياً للأخلاق الجمهورية ومرفوضاً رفضاً باتاً في عصر المطالبة بحق الشعوب في تقرير مصيرها"(88)، فإن المسؤولين الذين تعاقبوا علىولاية الجزائر، خاصة منذ شهر فيفري، سنة 1948،(89) قد جندوا كل إمكانيات الإدارة الكولونيالية لخنق أصوات الجزائريين ومنع الحركة الوطنية من ممارسة النضال السياسي بعيداً عن التفكير في وسيلة العنف الثوري.
ب - إن تزييف الانتخابات لا يتم في أجواء الأمن والهدوء والاستقرار، بل لابد للقيام به على الطريقة الفرنسية، من إجراءات القمع والإرهاب والاعتقالات التي من شأنها شل نشاط الطاقات التي تعتمدها الحركة الوطنية في تطبيق برامجها. هكذا كانت جميع الانتخابات، على كل الأصعدة، تعرف مشادات عنيفة ومواجهات دموية في كثير من الأحيان، بين قوات الجيش والشرطة والدرك الفرنسية وبين ممثلي الأحزاب الوطنية وأنصارهم من أبناء الشعب الجزائري. وبديهي، كما جاء على أعمدة "المنار" أن القوات المتقابلة غير متكافئة ومختلفة السلاح. فالقوات التحريرية لا سلاح لها إلا التقيد بالقانون والإيمان بالإرادة الشعبية والمواثيق الدولية، والقوات الرجعية مع الإدارة سلاحها عدم المبالاة بالقانون، وهي الخصم والحكم، لا تخشى عقاباً على اعتداء، ولا تؤمن بالعدل ولا بالكرامة الإنسانية ولا بالمواثيق الدولية"(90).
ج - إن غلاة الكولون، بعد أن أحكموا سيطرتهم على الإدارة الاستعمارية، استطاعوا النفاذ، بالفعل، إلى أوساط الطبقة الحاكمة في فرنسا، وتمكنوا عن طريق الرشوة، من جعل أبرز عناصرها لا يؤمنون، مثلهم، إلا بوجود الجزائر الفرنسية، المشكلة نظرياً، من عمالات ثلاث، وماعدا العمل من أجل هذه الجزائر، فإن كل مسعى مرفوض شكلاً ومضموناً، ويجب أن يحارب بجميع الوسائل وفي مقدمتها القمع بسائر أنواعه.
من هذا المنطلق، أصبحت باريس لا تتحرك إلا في الاتجاه الذي يحدده غلاة الكولون،وصارت محاولات الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري المعتدلة غيرمجدية تماماً مثل مساعي الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية. إذن، لم يعد هناك مايجعل التشكيلتين الوطنيتين تتأخران عن تحقيق الاتحاد الذي بات مطلباً جماهيرياً كما تدل على ذلك الآراء المعبر عنها على أعمدة "المنار"(91) والصادرة عن شخصيات تنتمي إلى كل التيارات السياسية وعن غيرها من الناطقين بأسمائهم الخاصة أو بأسماء الجمعيات الخيرية والرياضية والتربوية.
كل هذه العوامل متضافرة هي التي قادت إلى تغيير الأوضاع السياسية في الجزائر وجعلت الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري يوجه نداء إلىكافة التشكيلات الوطنية يدعوها، من خلاله، إلى إقامة وحدة تعمل على تحقيق خمسة أهداف هي: (92):
- إلغاء الانتخابات التي جرت يوم 17/06/1951.
- التطبيق الفوري لقانون 1947.
- تطبيق الديمقراطية في المجالس بجميع أنواعها.
- استصدار قانون يقضي بتخصيص مبلغ 10 مليارات فرنك لبناء المدارس والطرقات في الريف الجزائري.
ووجد النداء استجابة لدى الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والحزب الشيوعي الجزائري.
وبعد تشاور ونقاش وقع الاتفاق يوم 27/07/1951 على تكوين لجنة تحضيرية(93) لتأسيس جبهة جزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها.
الأعمال بنتائجها:
ولم يمض سوى أسبوع واحد حتى أسفرت اللقاءات بين الأشقاء عن مؤتمر التأم في سينما دنيازاد(94)، بالجزائر العاصمة دعت إليه اللجنة التحضيرية المذكورة وحضره جمع غفير من الجزائريين وبعض الجزائريات يمثلون كافة أنحاء الوطن وينتمون إلى مختلف التيارات الفكرية والسياسية. ودامت أعمال المؤتمر يوماً واحداً هو اليوم الخامس من شهر أغسطس/آب وتوجت بالإعلان عن ميلاد الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها التي يشرف عليها مجلس إداري مشكل من ثلاثين عضواً(95)، ويسيرها مكتب دائم من عشرة أعضاء(96).
وبالإضافةإلى هذه الهيكلة صادق المؤتمرون على البرنامج المعد من قبل اللجنة التحضيرية وقوامه خمس نقاط مستوحاة في معظمها من مقترحات الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري المذكورة أعلاه(97).
ويرى الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري أن الهدف من تأسيس الجبهة الجزائرية هو بالدرجة الأولى إيجاد الإطار الملائم لتوحيد الجبهة الوطنية من أجل التصدي "لمظالم الشرطة ومحركيها ولإحباط المؤامرات الحمقاء التي تعرض حياة شبابنا للخطر"(98). كما أن الجبهة سوف "لن تتوقف عن العمل حتى يتحطم القمع الأعمى الذي يقهر شعبنا وحتى يتمكن الجزائريون جميعهم من التمتع بحقهم في حرية الرأي وحرية التعبير وحرية التنقل"(99).
هناك من يرى(100) أن الجبهة ولدت ميتة، لكن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري له رأي آخر على الرغم من أنه لا ينكر، في أدبياته، أنها لم تكن في المستوى اللازم لدفع عجلة التقدم في طريق القضاء على النظام الاستعماري وأنها ضمنت منذ البداية، أطرافاً متناقضة يصعب على بعضها الارتقاء إلى واقع الشعب الجزائري العربي المسلم(101).
وعندما وجه السيد فرحات عباس النداء المشار إليه أعلاه، فإنه إنما كان يبغي، في مرحلة أولى، إيجاد الأرضية التي يمكن أن تقف عليها جميع التشكيلات السياسية والهيئات الاجتماعية والثقافية إلى جانب أكبر عدد ممكن من الشخصيات المستقلة،وذلك من أجل الانتقال معاً إلى المرحلة الثانية التي يكون فيها العمل على إقامة الجمهورية الجزائرية وما يتبع من مؤسسات أصبحت مألوفة لدى المواطن الجزائري. ومما لاريب فيه أن الحركة الوطنية الجزائرية قد استطاعت، رغم كل شيء، أن توظف الجبهة إلى أبعد الحدود، وتمكنت من تسخير هياكلها لتحسيس الجماهير الشعبية بمعاناة المناضلين(102).
ولتوفير المناخ الملائم لتقريب وجهات النظر السياسية عندما يكون صعباً توحيد المنطلقات الإيديولوجية.
وبالإضافة إلى النشاط المكثف في إطار الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري الذي تخلص نهائياً من قناعاته الفكرية التي كانت تشده إلى الاتحاد الفرنسي، لم يدخر جهداً للإسهام في معركة توحيد الطاقات الحية المغاربية في جبهة قوية تعمل بجميع الوسائل على "إنهاء النظام الاستعماري وإقامة أنظمة مبنية على السيادة والديموقراطية تحرر شعوبها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتضمن لجميع السكان حقوقهم وحرياتهم"(103).
لقد شارك الاتحاد مشاركة فاعلة في الاجتماع الذي عقدته الأحزاب الوطنية المغاربية في مقر إقامة الزعيم الحاج مصالي بحي شانتي الباريسي يوم 28/01/1952 قصد التشاور حول القضية التونسية، علماً بأن الاجتماع المذكور قد توجه ببيان معبرعن المساندة المطلقة للكفاح الذي يخوضه الشعب التونسي بقيادة زعيمه الأستاذ الحبيب بورقيبة.(104).
وبعد ذلك بيومين فقط، وقع السيد فرحات عباس ميثاق الجبهة المغاربية إلى جانب رفاقه زعماء الأحزاب المعبرة عن رأي شعوب شمال إفريقيا. وبموجب التوقيع على ذلك الميثاق إثر اجتماع باريس المشار إليه أعلاه، تم تأسيس "لجنة شمال إفريقيا للاتحاد والعمل" Comitéd’union et d’action nord- africain وكذلك لجنة المتابعة التي أسندت لها مهمة الإشراف على حسن تنفيذ الميثاق(105).
وهكذا، لم يتوقف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري عن التطور والنمو السريع في الاتجاه الوطني السليم.وكلما تقدم خطوة تضاعفت الصعوبات وازدادت الإدارة الاستعمارية شراسة وحقداً على قيادته. وفي خضم التطور السياسي طفت على السطح كثير من القضايا الإيديولوجية التي ظلت تتراكم في انتظار الحلول الملائمة، وما كادت تحل سنة 1954 حتى أصبح الصراع الإيديولوجي حقيقة ملموسة في صفوف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري.
الأمر الذي سيمكن جبهة التحرير الوطني من الوصول، بسهولة، إلى أغلبية أنصاره ومناضليه كما سنرى ذلك في معالجتنا لفترة الكفاح المسلح.


 الهوامش:
1- Amar Naroun , Ferhat Abbas, ou les chemins de la souveraineté, Paris 1961, p12.
(2) المصدر نفسه:
3- Claude Collot- Jean Robert Henry , Le mouvement national Algérien - Textes, 1912-1954(2éme Edition )Alger OPU 1981, p221.

(4) المصدر نفسه، ص 222.
(5) انظر، آجرون، ص 355، لكن السيد الحاج مصالي في مذكراته، ص: 245، يؤكد أن السيد ميش كان من بين المؤسسين لحزب الشعب الجزائري.
(6) كولو، المصدر نفسه، ص 222.
(7) المصدر نفسه.
(Cool من بين هؤلاء الإطارات تجدر الإشارة إلى أن المحامين أحمد بومنجل، وقدور صاطور، والدكاترة، فرانسيس وسعدان وابن خليل وكذلك الأستاذ المبرز محداد.
(9) رفع المناضلون بتلك المناسبة شعار من انتخب كفر، ويبدو أن ذلك كان واحداً من الأسباب التي دفعت قيادة الحزب إلى تأسيس الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية عندما قرر الحاج مصالي المشاركة في انتخابات المجلس الوطني التي جرت يوم 10/11/1946.
(10) من مواليد سنة 1917 ببلدية فراع الميزان، انخرط في صفوف حزب الشعب الجزائري منذ تأسيسه كان كاتباً عمومياً وذا قدرة فائقة على تنظيم الجماهير وتعبئتها، شارك في قيادة الحزب من سنة 1943 إلى أن توفي في شهر جانفي 1948.
11- Keddache (Mahfoud). Histoire du Nationalisme Algérien Question Nationale et politique Algérinne 1919-1951. Tome II , Alger 1980, p729.
12- Mesbah (Med -Chalik) , Idéologie Politique et mouvement national en Algérie Thése Pour le doct2-06-
1981p54 et Suivantes.
(13) مع العلم بأن البورجوازية في فرنسا، كانت مهيكلة كما ينبغي وتتشكل من: البورجوازية العليا والبورجوازية الوسطى والبورجوازية الصغرى ولكل تعريفها ومميزاتها.
(14) انظر النص الكامل للمشروع في كولو، ص:247، ومابعدها.
(15) انظر المساواة في عددها الصادر بتاريخ 18/10/1996.
(16) كولو، ص 222.
(17) مصباح، ص83.
(18) نداء إلى الشباب، كولو، ص: 235.
(19) غمار نارون، ص163.
(20) نفس المصدر، ص 173.
(21) كولن، ص 259.
(22) انظر نداء السيد فرحات عباس بمناسبة الفاتح ماي 1946 وكذلك مشروع الدستور المقدم للمجلس التأسيسي الفرنسي بتاريخ 09/08/1946 ومشروع القانون المقدم للبرلمان الفرنسي بتاريخ 21/03/1947 من طرف السادة: سعدان صحراوي، مصطفاي وابن خليل.
(23) انظر جريدة "المساواة" Egalité عددها الصادر بتاريخ 10/10/1947.
(24) انظر نص اللائحتين في Egalité عددها الصادر بتاريخ 18/10/1946.
(25) Egalité عددها الصادر بتاريخ 23/10/1946.
(26) أحد رجال السياسة في فرنسا ولد سنة 1899، حصل على التبريز في التاريخ وقام بدور أساسي في حركة المقاومة الفرنسية. يعتبر من المدافعين الشرسين على بقاء الجزائر فرنسية وقد عبر عن ذلك بتشكيله حركة " الديمقراطية المسيحية" في جوان 1958.
(27) الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، مداولات جلسة يوم 23/08/1946.
(28) تذكر الإحصائيات الرسمية أن نسبة امتناع المسلمين (أي الجزائريين) عن الانتخابات، يومها، بلغ في عمالة الجزائر 83% في حين تجاوز 70% في كل من قسنطينة ووهران، رغم ذلك اعتبرت نتائج صحيحة.
(29) فاز بتلك المقاعد كل من السادة: سعدان، محداد، ابن خليل ومصطفاي، علماً بأن الانتخابات جرت يومي 24 نوفمبر و8 ديسمبر 1946.
(30) الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، مداولات سنة 1947، ص 1696.
(31) في إطار الحملة الانتخابية الخاصة بالمجلس الوطني الفرنسي وجه التجمع الجمهوري للدفاع عن الجزائر الفرنسية نداء جاء فيه:"إننا مستعدون للتضحية القصوى للاحتفاظ بالجزائر".
(32) الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، سنة 1947، ص 4219.
(33) المصدر نفسه، ص 4227.
(34) كلمة "المسلمين" تعني هنا، الجزائريين تماماً مثل كلمة "العرب".
(35) الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، سنة 1947، ص 4689.
(36) كان السيد فيار نائباً في البرلمان باسم الحركة الجمهورية الشعبية وأستاذاً للحقوق بجامعة الجزائر إضافة إلى منصبه كمدير لجريدة الجزائر Journal d’Algér
(37) من مواليد سنة 1884 توفي سنة 1966، مارس المحاماة قبل أن يتفرغ للسياسة، كان اشتراكي المذهب وقد عين وزيراً للمالية بحكومة الجبهة الشعبية سنة 1936 ثم وزيراً للعدل سنتي 37/38 ساهم في حرب التحرير الفرنسية وانتخب رئيساً للجمهورية سنة 1947.
(38) نص الرسالة بالفرنسية في: عمار نارون، ص 174، ومابعدها.
(39) المقصود هو الجنرال ديغول، الذي بذل كل مافي وسعه لإفشال فكرة الجمهورية الجزائرية.

(40) وقع الرسالة كل من السادة، محداد، مصطفاي، سعدان وابن خليل.
(41) عمار نارون، ص 170.
(42) المصدر نفسه.ص117.
(43) كولو، ص 222.
(44) انظر اللائحة السياسية التي صادق عليها المجلس الوطني للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية بتاريخ 07/09/1947.
(45) Egalité عددها الصادر بتاريخ 22/10/1947.
(46) Egalité عددها الصادر بتاريخ 14/11/1947.
(47) المغرب العربي، العدد الصادر بتاريخ 26/03/1948.
(48) الجمهورية "الجزائرية" عددها الصادر بتاريخ 01/04/1948.
(49) الزبيري (محمد العربي) الثورة الجزائرية في عامها الأول، الملحق رقم 5، ص 225 ومابعدها.
(50) الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، لائحة السياسة العامة الصادرة بتاريخ 5/10/1947، لقد جاء في هذه اللائحة: "إن المؤتمر يندد بكون الحكومة الفرنسية فرضت على الشعب الجزائري قانوناً تنظيمياً يبقي النظام الاستعماري ولا يعترف للشعب الجزائري بأية سيادة.
(51) نفس المصدر.
(52) La République Algérienne عددها الصادر بتاريخ 01/04/1948.
(53) من مواليد 1909 كان اشتراكي المذهب وقد انتخب نائباً سنة 1946، بعد أن شارك في المقاومة الفرنسية بقيت عهدته النيابية تتجدد إلى غاية عام 1958، عين وزيراً للشغل في حكومة روبارت شومان، ولم يغادر الحكومة إلا سنة 1949، في سنة 1958 انتخب على رأس رابطة حقوق الإنسان الفرنسية.
54- Naegelen (ME) , Mission en Algérie, Paris 1965, p67.
(55) المصدر نفسه، ص 130.
56- I,Echo d’Algér, 18 mars 1948.
(57) الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، اللجنة المركزية للإعلام والتوثيق، انتهاكات حرية التصويت، ص: 92.
(58) نفس المصدر، ص 64.
(59) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 9/4/1948.
(60) انتهاكات حرية التصويت، ص: 99، أما صدى الجزائر الصادر بتاريخ 05/4/1948 فإنها قد تعرضت لنفس الأحداث لكنها قدمتها في صورة مغايرة ومتناقضة في نفس الوقت مثل قولها: "في أولاد فرحة على بعد 15 كلم من صور الغزلان هجم مابين 1000-و1500 من أعضاء حزب الشعب الجزائري مكتباً للتصويت، وعندما توجهت دورية عسكرية للحفاظ على الأمن واعتراض سبيل حولي 2000 متظاهر فاعتدوا على الشاحنة وركابها، الأمر الذي جعل الحرس الجمهوري يتدخل ويطلق النار متسبباً في قتل سبعة أشخاص وعدد من الجرحى".
(61) كان السيد فرحات عباس يريد الاحتجاج على عملية الاعتقال التي تعرض لها بعض مندوبي الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية.
(62) أما مندوبو الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، فإنهم لم يغادروا القاعة وانتظروا نهاية النشيد الوطني الفرنسي ليرفعوا أصواتهم عالية بنشيد الحزب، مما أحدث كثيراً من الفوضى وجعل الوالي العام ينسحب ومعه باقي المندوبين.
(63) اللجنة الأولى خاصة بإعادة التأهيل المهني لمرضى السل وقد انتخب لها الدكتور قاضي. أما الهيأة الثانيةفهي مجلس تطوير معهد باستور وقد انتخب لعضويته الدكتور محمد فرانسيس.
(64)
(65) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 01/10/1948.
(66) عباس(فرحات) "نزع القناع عن الثوريين المزيفين" الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 10/12/1948.
(67) الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، "رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية" الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 27/05/1949.
(68) الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، "الإمتناع انصياع" الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 18/03/1949.
(69) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 25/03/1949.
(70) المصدر نفسه.
(71) الحرية Liberté ، عددها الصادر بتاريخ 17/06/1948.
(72) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 30/11/1950.
(73) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 09/06/1949.
(74) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 02/06/1949. وتجدر الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي ظل متمسكاً بنظرية موريس توريز التي نقول: "هناك أمة جزائرية يجري تكوينها بواسطة عشرين جنساً".
(75) الحرية ، عددها الصادر بتاريخ 09/06/1949.
(76) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 07/04/1950.
(77) الجمهورية الجزائرية، عددها الصادر بتاريخ 04/03/1950.

(78) آجرون، ص 613، يذكر المؤلف أن السيد فرحات عباس صرح بتاريخ 17/09/1950، أنه "لا يريد التعاون مع حزب تابع لستالين".
(79) مثل الأزمة البربرية وما اصطلح على تسميته بقضية تبسة.
(81) الجمهورية الجزائرية، مداولات يوم 21/02/1951، ص : 1063.
(82) انظر النداء الذي وجهه إلى الشعب الجزائري المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي الجزائري، يوم 29/05/1949. كولو، ص 278.
(83) ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 30/11/1950.
(84) طبيب فرنسي تحول إلى سياسي من مواليد سنة 1884 تقلد مناصب وزارية كثيرة وترأس الحكومة الفرنسية ثلاث مرات في الفترة مابين 1948-1951، وشغل مناصب نائب رئيس الحكومة من سنة 1952 إلى سنة 1954.
(85) عمار نارون، ص 124.
(86) المصدر نفسه.
(87) انظر خاصة تصريحات السيدين Raymond laquiére و Fonlupt Esperaber في آجرون، ص 614.
(88) تعيين نايجلان يوم 11/02/1948 خلفاً للسيد شاتينيو.
(89) "المنار" عددها الصادر بتاريخ 30/07/1951، "ملاحظات حول المعركة الانتخابية"، بدون توقيع.
(90) المنار، أعدادها الرابع ومابعده.
(91) يحمل النداء تاريخ 29/06/1951، وقد نشرته الجمهورية الجزائرية في عددها الصادر بنفس التاريخ.
(92) ضمت اللجنة التحضيرية الشيخ العربي التبسي والشيخ محمد خير الدين عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والدكتور أحمد فرانسيس والأستاذ قدور ساطور في الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، وأحمد مزغنة ومصطفى فروخي عن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، ويوكاباليرو وأحمد محمودي عن الحزب الشيوعي الجزائري.
(93) تقع هذه السينما في شارع عيان رمضان حالياً.
(94) حسب ما نشر على أعمدة المنار في عددها الصادر بتاريخ 15/08/1951 فإن أعضاء المجلس الإداري هم: عن العلماء: الشيخ العربي التبسي، الشيخ محمد خير الدين، السيد أحمد بوشمال، السيد جمال سفينجة والسيد طاهر حدود، وعن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، الأستاذ كيوان والسادة، أحمد مزغنة، عمر سحبوب، صالح معيزة سويح الهواري والمسيري، وعن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، الأساتذة: أحمد بومنجل، قدور ساطور، حاج سعيد الشريف، عبد الحميد بن سالم والدكتور أحمد فرانسيس والسيد أحمد مزيان، وعن الحزب الشيوعي الجزائري السادة، بول كاباليرو، أحمد محمودي، كوش يونس، أحمد بن خلاف، عبد الحميد بو الضياف والدكتور كاسي لاريبر، وعن الشخصيات المستقلة، الجنرال توبير، الأستاذ دوميرق، الأستاذ توفيق المديني، الأستاذ مندوز، الأستاذ العربي روله والسيد محمد الأبلق.
(95) أعضاء المكتب الدائم هم: الشيخان العربي التبسي ومحمد خير الدين عن العلماء، وأحمد بومنجل وقدور ساطور عن الاتحاد، وأحمد مزغنة والأستاذ كيوان عن الحركة، وكاباليرو ويونس كوش عن الحزب الشيوعي وأحمد توفيق المدني والأستاذ مندوز عن المستقلين.
(96) نشرت "المنار" النقاط الخمس كالآتي:
- إلغاء الانتخابات التشريعية المزعومة التي جرت في 17/06/1951.
- احترام حرية الانتخابات في القسم الثاني.
- احترام الحريات الأساسية: حرية الضمير والفكر والصحافة والاجتماع.
- محاربة القمع بجميع أنواعه لتحرير المعتقلين السياسيين ولإبطال التدابير الاستثنائية على الحاج مصالي.
- إنهاء تدخل الإدارة في شؤون الديانة الإسلامية.
(97) (98) بومنجل (أحمد)، "يوم مشهود في تاريخ النضال التحريري" المنار، عددها الصادر بتاريخ 15/08/1951، علماً بأن الأستاذ أحمد بو منجل كان أميناً عاماً مساعداً للاتحاد.
(99) شفيق مصباح، ص : 418.
(100) المقصود بذلك هم الشيوعيون واللائكيون لأسباب مختلفة سنتعرض لها بالتفصيل عندما نعالج المنطلقات الإيديولوجية لثورة نوفمبر 1954.
(101) المكتب الدائم للجبهة "نشاط الجبهة" المنار، عددها بتاريخ 04/01/1952.
(102) مقتطف من ميثاق الجبهة المغاربية الذي صدر بباريس يوم 02/02/1952 ووقع عليه من الجزائر كل من الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، انظر نص الميثاق كاملاً بالعدد رقم 19 من "المنار" الصادر بتاريخ 28/03/1952.
(103) تضمين البيان النقاط الأربع التالية:
- الإيقاف العاجل للضغط في جميع صوره بالبلاد التونسية.
- الإفساح عن الأستاذ الحبيب بورقيبة وجميع المعتقلين والمبعدين.

- الاعتراف للشعب التونسي بسيادته واستقلاله طبقاً لمبادئ الأمم المتحدة.
- تدخل الأمم المتحدة لتطبيق ميثاقها الذي هو عامل من عوامل السلم والطمأنينة بشمال إفريقيا.
(104) انظر نص الميثاق في المنار، عددها الصادر بتاريخ 28/03/1952.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:54 am

الفصل الخامس

حــزب الشــــعب الجــزائري

الجزائرية، وكلما كان ذلك ضرورياً، كان يشرح موقف حزبه من الواقع الاستعماري ويدعو إلى تأييد مساعيه الرامية إلى استرجاع سيادة الجزائر واستقلالها كاملين.
ونتيجة كل تلك التحركات المكثفة في تلك المدة القصيرة من الزمن، كتب بعض المؤرخين(1) أن الساسة الفرنسيين، سواء منهم الذين زاروا برازافيل أو الذين اكتفوا بمحادثات باريس، هم الذين اقنعوا زعيم حزب الشعب الجزائري بضرورة المساهمة في الحياة الانتخابية الفرنسية، لكن ذلك، بعد الدراسة المتمعنة، يبدو غير صحيح، لتناقضه مع شهادة السيد بلقاسم راجف(2) التي ذكرها الدكتور شفيق مصباح والتي تؤكد أن قرار المشاركة في الانتخابات "قد اتخذه الأعضاء القياديون الذين كانوا متواجدين في باريس"(3) ومهما يكن من أمر، فإن السلطات الفرنسية قد رخصت للسيد مصالي الدخول إلى الجزائر يوم 13/10/1946 وهونفس اليوم الذي جرى فيه الاستفتاء حول مشروع الدستور الفرنسي(4) الذي كان حزب الشعب الجزائري والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد أعلنا عن قرارهما بمقاطعته.
وفي الجزائر، وجد الحاج مصالي غلياناً كبيراً في صفوف حزب الشعب خاصة فيما يتعلق بمن يتحمل مسؤولية الأمر باشعال فتيل الثورة(5) والأمر المضاد الذي وصل بعض المناطق ولم يبلغ لبعضها الآخر. وكذلك فيما يخص الميل إلى الحياة الانتخابية الذي بدأ يتسرب بسرعة إلى الأوساط القيادية. وإلى جانب ذلك الغليان، وجد الزعيم أن مكانته عالية بين المناضلين ولدى جماهير الشعب في آن واحد. لأجل كل ذلك وافق على أن تعقد ندوة وطنية لإطارات الحزب دامت أعمالها ثلاثة أيام برهن خلالها رئيس الحزب على قدرة فائقة في التسيير والإقناع حتى إن الأغلبية الرافضة للدخول في الانتخابات قد تحولت، في آخر جلسة، إلى شبه إجماع على تقديم مرشحين لتمثيل الشعب الجزائري في البرلمان الفرنسي.
وعلى هامش الندوة الوطنية للإطارات، التقى كل من السيدين الحاج مصالي وفرحات عباس واقترح هذا الأخير أن تضع الحركتان الوطنيتان استراتيجية مشتركة لمواجهة الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها يوم 10/11/1946، غير أن زعيم حزب الشعب رفض الاقتراح بسبب التباعد الإيديولوجي بين التشكيلتين السياسيتين. ونحن نعتقد أن إثارة التباعد الإيديولوجي في ذلك الظرف بالذات لم يكن في محله لأن المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية تجعل الحزبين في مرتبة واحدة من حيث اعترافهما بسيادة فرنسا على الجزائر.
وعلى أية حال، فإن موافقة الندوة الوطنية للاطارات، على الدخول إلى معركة الانتخابات في ظل الشرعية الفرنسية لم تكن سوى تنازل بمقابل، لأن الرافضين للأسلوب الجديد الذي هو في الواقع نقيض الأسلوب الذي ظلت الحركة المصالية تتمسك به منذ نشأتها والذي هو العنف الثوري أو الكفاح المسلح، قد حصلوا على قرار الندوة بعقد مؤتمر يتولى البت النهائي في التوجهات الأساسية للحزب.
ومما لاشك فيه أن دعاة المشاركة في الانتخابات كانوا يدركون جيداً أن إرسال ممثلين عنهم إلى المجلس الوطني الفرنسي ليس هو الطريق الأسلم إلى شاطئ السيادة الوطنية. كما أنهم كانوا يعلمون أن الحياة البرلمانية عقيمة وأن "الشعب الجزائري يجب أن يعتمد على نفسه لإنجاز ثورته الوطنية"(6) ومن جهة أخرى، فإن حزب الشعب الجزائري "لا يرى في المشاركة أو في الامتناع عن الانتخاب إلا فرصة إضافية بالنسبة للشعب الجزائري كي يبرهن على دقة تنظيمه وانضباطه ونضجه السياسي".(7)
وبقدر ما كان الصراع شديداً بين دعاة المشاركة في الانتخابات ودعاة المقاطعة بجميع أنواعها، كان التفاف جميع الأطراف قوياً حول قرار الندوة وذلك طبقاً لمبدأ المركزية الديموقراطية وحفاظاً على وحدة الحزب. وليس أدل على قوة انضباط الإطارات القيادية من امتشاق السيد حسين لحول قلمه السيال لإقناع القواعد المناضلة بسلامة القرار بينما كان هو الوحيد الذي ظل متماسكاً بموقفه الرافض المناهض لفكرة المساهمة باعتبارها تراجعاً خطيراً في سياسة حزب الشعب الجزائري.
وتطبيقاً لقرار الندوة، وبتاريخ 23/10/1946، قدم السيد الحاج مصالي قوائم المرشحين، لكن الإدارة الاستعمارية رفضت ترشيحه شخصياً بالنسبة لدائرة العاصمة باعتباره من المحكوم عليهم قضائياً(Cool، كما أنها رفضت قائمتي وهران وسطيف(9). وبديهي أن في مثل هذه الإجراءات التعسفية تكذيباً صارخاً للقائلين(10) أن الدخول إلى الانتخابات كان نتيجة اتفاق بين رئيس حزب الشعب الجزائري والسلطات الرسمية في فرنسا.
وعلى الرغم من كل المضايقات والمناورات التي لجأ إليها ممثلوا الإدارة الاستعمارية، فإن مرشحي حزب الشعب الجزائري قد فازوا بنصف المقاعد التي تنافسوا عليها(11). ذلك أنهم لم يدخلوا الانتخابات إلا في خمس دوائر فازوا فيها بخمسة مقاعد مقابل خمسة لممثلي الإدارة الاستعمارية. أما في دائرتي سطيف ووهران حيث لم يسمح لهم بالمشاركة، فإن المقاعد الخمسة المتبقية قد توزعها الشيوعيون وممثلوا الإدارة(12). وللتذكير، نشير إلى أن الذين ذهبوا إلى قصر البربون باسم حزب الشعب الجزائري هم: الدكتور محمد الأمين دباغين، الدكتور جمال دردور والمهندس مسعود بوقدوم عن قسنطينة والسيدان أحمد مزغنة ومحمد خيضر عن الجزائر العاصمة.
ولما أدركت السلطات الاستعمارية أن جماهير الجزائر ملتفة حول حزب الشعب الجزائري فإن وزارة الداخلية قد أصدرت قراراً يغير طريقة انتخاب أعضاء مجلس الجمهورية، وبموجب ذلك القرار ألغيت الإدارة الشعبية وأسندت مسؤولية الاختيار إلى المنتخبين البلديين وأعضاء الجماعات ورؤسائها حيث البلديات المختلطة. ولقد لجأت وزارة الداخلية إلى هذه الطريقة لكون كل أولئك المنتخبين قد وقع اختيارهم على إثر حركة مايو الثورية عندما كان معظم القياديين الوطنيين في السجون، وكان حزب الشعب الجزائري قد دعا جميع الجزائريين إلى مقاطعة الانتخابات "من أجل المحافظة على مستقبل الوطن الجزائري وللتأكيد على التمسك بسياسة التحرير الوطني وعلى الوفاء لأرواح الشهداء وللمناضلين والزعماء المعتقلين"(13).
وأمام هذه المناورة الاستعمارية، فضل حزب الشعب الجزائري الامتناع عن المشاركة في انتخابات مجلس الجمهورية تاركاً المكان للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي استطاع أن يفوز بأربعة مقاعد من جملة السبعة المخصصة للمجموعة الانتخابية الثانية كما أشرنا إلى ذلك في غير هذا المكان.
ولم يكن قرار مقاطعة الانتخابات مفيداً للاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري فحسب، بل إنه شكل فرصة ثمينة لقيادة حزب الشعب الجزائري وظفها، إلى أقصى الحدود، من أجل تحضير وثائق المؤتمر وإعداد الترتيبات المادية والأدبية الضرورية لنجاحه. وبالفعل، فإن الفترة الممتدة إلى غاية الخامس عشر من شباط سنة 1947 قد تميزت بنشاط سياسي مكثف مكن القواعد المناضلة من التفاعل مع قياداتها في معالجة سائر القضايا المطروحة على الساحة السياسية في الجزائر، كما أنه أوجد أجواء من الحماس الذي كان لابد منه لمواجهة مثل ذلك الحدث الذي دعت إليه جميع التيارات -وكل منها- يعتقد أن نتائجه سوف تكون لصالحه وحده.
لم يكن المؤتمر تأسيسياً ولا مؤتمراً أول للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية كما يذهب إلى ذلك جل المؤرخين والمهتمين بتاريخ الحركة الوطنية، لكنه كان المؤتمر الثالث لحزب الشعب الجزائري(14) كما تدل على ذلك الكتابات المعاصرة والشهادات التي لجأنا إليها لتسليط الأضواء على تطور الحياة السياسية في الجزائر خلال الفترة ما بين 1939 و 1947(15).
هذا من ناحية الشكل، أما من حيث الموضوع، فإن المؤتمر كان أخطر مؤتمرات حزب الشعب الجزائري لأنه جاء نتيجة ضغط الإطارات القيادية الواعية التي استنكرت على السيد الحاج مصالي قرار الدخول في المعركة الانتخابية رغم ما في هذا القرار من تناقض مع أيديولوجية الحزب، مع أنه أسفر عن إثراء أيديولوجي سمح بتجاوز الأمة وتجنب الانقسام الذي كاد أن يعصف بالحزب كله.
قبل هذا المؤتمر، لم تشهد الحركة الوطنية معارضة بمثل قوة ما وقع في تلك الأشهر الأخيرة من سنة 1946. إطارات شابة مثقفة وواعية تعلن عن رفضها اتباع الزعيم وتشكل لجنة إنقاذ ويقظة توكل إليها مهمة تعبئة القواعد المناضلة ضد التوجه الجديد الذي لم يشارك أحد منهم في تحديده وإقراره.
وقبل هذا المؤتمر، أيضاً، لم يحدث أن استمع المؤتمرون إلى مسؤولين قياديين يناقشون بصراحة، لا تعرف الحدود، برنامج الحزب ويبدون آراءهم بحرية مطلقة حول واقعه ومستقبله.
وعلى الرغم من السرية التي أحاطت الاجتماعات(16)، وعلى الرغم من الجو المكهرب الذي سبق انعقاد المؤتمر، فإن هذا الأخير قد استمع إلى تقريرين في منتهى الأهمية.
أما التقرير الأول فقد قدمه السيدان حسين لحول وشوقي مصطفاي وهو يتعلق بموقف الحزب من الانتخابات. فقيادة حزب الشعب الجزائري ظلت، طيلة سنوات الحرب الإمبريالية الثانية، تدعو إلى مقاطعة كل أنواع الاقتراع، وقد كانت، في تشددها، ترفع شعار: "من انتخب كفر". وبالتدريج، انتشرت الفكرة في أوساط القواعد المناضلة التي عممتها، بدورها، في أوساط الجماهير الشعبية. ثم هاهو الزعيم، وبدون سابق إنذار، يقرر المشاركة في المعركة الانتخابية. هنا يطرح السؤال نفسه: كيف يكون إقناع المناضلين بضرورة هذه الردة؟ وكيف يمكن للمناضلين أن يقنعوا جماهير الشعب بجدوى هذا التحول السريع خاصة وأن الأوضاع السياسية لم تتغير؟ لكل هذه الأسئلة ولغيرها قدم التقرير إجابات اعتبرها السيد أحمد بودة سحرية(17) لأنها جعلت أغلبية الأعضاء يصفقون للنشاط السياسي في ظل الشرعية والقانون الاستعماريين.
وكان التقرير الثاني من تقديم السيد حسين آيت أحمد الذي ضمنه آراء وأفكار مجموعة من الشباب المثقف والمتحمس للكفاح المسلح الذي كانت قواعده قد تبلورت في تلك العشيرة الممتدة من سنة 1937 إلى سنة 1947 بفضل التجارب والخبرات المتراكمة من جراء نشاط اللجنة الخضراء ولجنة شمال إفريقيا للعمل الثوري والجيش الثامن والقوات العربية في الداخل ومنظمتي الشباب في بلكور والقصبة. ومما لا شك فيه أن ذات التقرير الذي امتاز بالدقة في التعبير وبالتركيز الإيديولوجي سوف يكون هو الهيكل الذي سيعتمده السيد آيت أحمد في إعداد تقريره الشهير إلى اللجنة المركزية المنعقد اجتماعها الموسع بزدين والبليدة في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر 1948.
على ضوء ذينك التقريرين ناقش المؤتمر واقع الحزب وأعد مخططاً مستقبلياً وظفه، منذ البداية، للفصل في موضوع النزاع القائم بين الأطراف الثلاثة على النحو التالي:
1- يتواصل نشاط حزب الشعب الجزائري رغم الحظر المضروب عليه ورغم رفض الإدارة الاستعمارية الترخيص له بالعمل في إطار الشرعية السياسية الفرنسية.
2- استجابة لإلحاح دعوة الكفاح المسلح يتم تأسيس المنظمة الخاصة أو المنظمة السرية قصد مواصلة العمل الذي قامت به مختلف التنظيمات المشار إليها أعلاه. ومن الجدير بالذكر أن هذه المنظمة بهيكلتها وأعضائها هي التي سوف تكون منطلقاً لبناء جيش التحرير الوطني بعد إشعال فتيل الثورة ليلة الفاتح من نوفمبر 1954.
3- الإبقاء على الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية كواجهة لممارسة العمل السياسي في إطار الشرعية والقانون الفرنسيين.
وإذا كان المؤتمرون قد ألحوا على أن يختار للمنظمة الخاصة أكثر المناضلين حيوية وصلابة، وعلى أن تزود بأفضل الإطارات وعياً وتكويناً، فإنهم قرروا، بالنسبة للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، أن تستفيد من المنخرطين الجدد ومن المناضلين والإطارات التي اكتشفت أمرهم المصالح الاستعمارية وأصبحوا غير قادرين على حياة السرية التي يستوجبها العمل في إطار التنظيمين السياسي والعسكري.
وانتخب المؤتمر بالإجماع السيد الحاج مصالي رئيساً للحزب وزكى السيد حسين لحول للاستمرار في منصب الأمين العام، كما أنه عين لجنة من ستة أعضاء(18) أوكل لها مهمة تعيين اللجنة المركزية والمكتب السياسي، ويذكر السيد ابن يوسف بن خدة(19) أن اللجوء إلى هذه الطريقة، إنما كان بدافع الحفاظ على أعضاء القيادة السياسية الذين يستدعي واقع الحزب أن تبقى أسماؤهم سرية بقدر الإمكان.
أما من أعضاء المكتب السياسي، فإن السيد حسين آيت أحمد(20) يذكر أن عددهم كان اثني عشر، لكن السيدين مسعود بوقادوم وابن خدة، فإنهما يعددان أربعة عشر عضواً(21).
وفيما يتعلق بتوزيع المهام، فإن كل المصادر متفقة على أن مسؤولية المنظمة الخاصة أسندت إلى السيد محمد بلوزداد والتنظيم السياسي إلى السيد أحمد بودة بينما كلف أحمد مزغنة بالحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية وتركت الشؤون الخارجية إلى الدكتور محمد الأمين دباغين.
هكذا ختم المؤتمر أشغاله بقرارات مرضية لجميع الأطراف، وراح كل طرف يسعى بكل ما لديه من إمكانيات للتدليل على أن أسلوبه هو الأنجع وطريقته هي الأمثل لاسترجاع الاستقلال الوطني. ولكي نتمكن من فهم الفترة الفاصلة بين تاريخ ذلك المؤتمر وميلاد جبهة التحرير الوطني فإننا لا نجد بداً من التعرض لجميع المراحل التي قطعها حزب الشعب الجزائري بوسيلتيه العسكرية والسياسية.
1- الواجهة السياسية أو الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية.
هناك من يطلق على هذه التشكيلة السياسية تسمية: حركة انتصار الحريات الديموقراطية(22)، وهناك من يسميها: حركة الانتصار للحريات الديموقراطية(23) ونحن نعتقد، بعد التأمل في أصل التسمية الفرنسي، أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية هي أفضل ترجمة لعبارة: Mouvement pour le triomphe des libertés démocratiques التي تضمنها الملف الإداري الذي قدمه السيد الحاج مصالي لإضفاء طابع الشرعية على نشاطه السياسي وليتمكن، باسم حزب الشعب الجزائري، من المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية الثانية التي كان قد تقرر إجراؤها يوم 10 نوفمبر سنة 1946.
وليس الاختلاف حول التسمية، وحده، هو الذي يستدعي التأمل والتفكير ملياً، بل إن المؤرخين لم يتمكنوا، حتى الآن، من الفصل نهائياً، فيما إذا كان يمكن التعامل مع تلك التشكيلة السياسية ككيان مستقل جاء بديلاً لحزب الشعب الجزائري الذي حلته الإدارة الاستعمارية، رسمياً، بتاريخ السادس والعشرين من شهر سبتمبر سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وألف(24)، أم هل يجب اعتبار الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية مجرد تسمية يلجأ إليها الحزب، فقط، لإضفاء طابع الشرعية على جزء مما يقوم به من نشاط يومي على مختلف الأصعدة وفي جميع الميادين.
وفيما يخصنا، فإننا نرجح الافتراض الثاني، ونعتقد أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية لا يمكن التأريخ لها في معزل عن حزب الشعب الجزائري الذي لم يختف مثل نجم شمال إفريقيا الذي غادر الساحة السياسية نهائياً، يوم 11 مارس سنة 1937.
فالحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، إذن، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، لم تكن سوى واجهة استعملها حزب الشعب الجزائري لتقديم مرشحية إلى الانتخابات التشريعية الفرنسية ثم أبقاها قناعاً لممارسة النشاط السياسي العلني. وعلى هذا الأساس، فإن اعتبارها حزباً قائماً بذاته يكون مغالطة تاريخية. وحتى عندما يقرن ذكرها بحزب الشعب الجزائري، فإن ذلك غير معقول لأننا، عندها نقول كذلك: حزب الشعب الجزائري/ المنظمة الخاصة (OS/PPA) تماماً مثلما نقول: MTLD/ PPA ومهما يكن من أمر، فإن المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية كانت تجربة فاشلة لأن الإدارة الاستعمارية لم تكن مستعدة لتغيير نظرتها الاستعمارية للجزائر التي أدرجتها المادة ستين من دستور 13/10/1946 ضمن العمالات الفرنسية فيما وراء البحار. وطبقاً للمادة المذكورة وضعت السلطات الرسمية مشروعاً حكومياً أول بتاريخ 24 سبتمبر 1946 يهدف إلى ضبط القوانين التي تتحكم في تنظيم الجزائر وتسيير شؤونها. لكن المشروع لم يبرح قمطرات وزارة الداخلية بسبب تغيير الحكومة التي وضعته(25) ونظراً لما أبداه غلاة الكولون من معارضة له رغم كل ما تضمنه من تجذير لفكرة الجزائر الفرنسية. وفي التاسع والعشرين من شهر ماي سنة 1947 قام وزير الداخلية بإخراج المشروع من جديد إلى حيز الوجود وسلمه إلى اللجنة الدستورية ليأخذ طريقه الطبيعي من أجل أن يكون قانون الجزائر التنظيمي.
لم يكن ذلك المشروع الحكومي خطراً على الوجود الاستعماري في الجزائر، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لاقى معارضة شديدة من طرف ممثلي الكولون الذين جندوا لمحاربته كل ما لديهم من إمكانيات. أما ممثلوا حزب الشعب الجزائري، فإنهم رفضوا مناقشته رفضاً مطلقاً لإيمانهم بأن مصير الشعب الجزائري لا يصنعه البرلمان الفرنسي، بل لابد من مجلس تأسيسي جزائري "ينتخب بواسطة الاقتراع العام من طرف كل المواطنين الجزائريين ويكون تعبيراً صادقاً عن إرادة الشعب الجزائري"(26). فمثل هذا المجلس وحده هو الذي يستطيع وضع دستور تحدد بمقتضاه منطلقات وأسس الدولة الجزائرية.
لقد كان هذا هو موقف الحركة المصالية منذ مستهل الربع الثاني من القرن العشرين، ولم يتغير، في أساسه، حتى عندما كانت قيادة نجم شمال إفريقيا أو حزب الشعب الجزائري، فيما بعد تلجأ تكتيكياً، إلى مسايرة بعض التشكيلات الوطنية في دعوتها إلى تغليب الحل السياسي في ظل الشرعية الفرنسية. وكان ذلك الموقف مستمداً من إيمان تلك الحركة بأن الاستعمار لا يفهم سوى لغة العنف وبأنه لا يعطي للمستعمرين (بفتح الميم) إلا ما يؤخذ منه بالقوة.
على الرغم من هذا الموقف الواضح المستمد من تلك القناعة الراسخة، فإن القيادة السياسية لحزب الشعب الجزائري قد وافقت، بالإجماع، على إرسال ممثليها إلى المجلس الوطني الفرنسي حتى تتمكن من إيجاد ظروف جديدة تساعدها على إعادة تنظيم الحزب بشقيه السياسي والعسكري. ولقد استغل نواب الحزب فرصة تواجدهم في البرلمان الفرنسي ليعلنوا من أعلى منبره عن إرادة الشعب الجزائري في استرجاع سيادته وبعث دولته من جديد(26).
لم يكن حزب الشعب الجزائري ينتظر من نشاطه السياسي العلني أن يبلغ حد إقناع غلاة الكولون بالتخلي عن تمسكهم بفكرة الجزائر الفرنسية. فالأوربيون كانوا يؤمنون بأن القوة وحدها هي التي أكسبتهم حق الهيمنة وحق العسف والاستبداد التي استطاع، بالتدريج، أن يهمش جماهير الشعب الجزائري ويجعلها تعيش غريبة في وطنها. ولأنهم كانوا يدركون ذلك جيداً فإنهم لم يكونوا يترددون في توظيف جميع إمكاناتهم المادية والأدبية من أجل الضغط على الأوساط السياسية الفاعلة في فرنسا حتى يسدوا كل المنافذ في وجه عناصر الحركة الوطنية الجزائرية.
هكذا، وفي الوقت الذي ظهر فيه نشاط الوطنيين الجزائريين داخل البرلمان الفرنسي وفي اتجاه التشكيلات السياسية المختلفة قصد إقناع الرأي العام الفرنسي والرأي العام العالمي بضرورة تمكين الشعب الجزائري من انتخاب مجلس تأسيسي يكون منطلقاً لتسوية القضية الجزائرية التي ظلت قائمة منذ الخامس يوليو/ تموز سنة 1930، فإن النواب الكولون قد ضاعفوا من التصريحات المشتملة على كل أنواع الترهيب والتهديد، مؤكدين"أن الأقلية الأوربية قد لا تتردد في الاستنجاد بغير الميتروبول إذا وافق المجلس الوطني على منح الجزائر قانوناً تنظيمياً يتنافى مع مصالح الكولون"(27). وفي نفس السياق صرح السيد جاك جوفالي الذي سيكون فيما بعد رئيس بلدية الجزائر العاصمة: “إن أرض الجزائر هي أرضنا، وفيها نحن بين أهلنا.. إنها أرض فرنسية ومهما كان القول أو الفعل أو القرار من أية جهة كانت، فإن الجزائريين الفرنسيين لن يغادروها"(28).
وكان حزب الشعب الجزائري يدرك، بدوره، أن ممثلي الكولون كانوا يسيطرون بالفعل على مصادر القرار في فرنسا، وعليه، وبالموازاة مع نشاطه السياسي في إطار الشرعية الفرنسية، فإنه خصص سنة 1947 لإرساء قواعد المنظمة الخاصة والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية حتى تتمكن كلاهما من تأدية الدور المحدد لهما من طرف المؤتمر.
وبينما كان الرأي العام منشغلاً بمشروع الحكومة الخاص بقانون الجزائر التنظيمي وبالمشاريع المضادة المقدمة من طرف الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري والحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الشيوعي الجزائري وبمعارضة الكولون المتزمتة لكل هذه المشاريع، كان حزب الشعب الجزائري يعمل على ترسيخ قواعده في أوساط الجماهير الشعبية، وقبل أن يصادق المجلس الوطني الفرنسي على قانون الجزائر التنظيمي استطاع أن يعقد أول مجلس وطني للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية في الفترة ما بين 4 و 7 سبتمبر 1947(29).
إن بعض المؤرخين، على غرار السيد محفوظ قداش(30)، لم يضعوا ذلك الحدث في إطاره الطبيعي، واعتقدوا أن المجلس الوطني مؤتمر تأسيسي وكتبوا: "أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية قد نظمت نفسها كحزب سياسي” معتمدين في ذلك على كون أشغال المجلس قد أسفرت عن تعيين لجنة مديرة(31) وتوجت بالمصادقة على مجموعة من اللوائح(32) تماماً مثلما يقع في المؤتمرات. إن مثل هذا التقييم غير سليم لأن المنطق لا يقبل حزباً في حزب، ولأن انتخابات اللجنة المديرة المشار إليها لم تلغ المكتب السياسي لحزب الشعب الجزائري، بل أن رئيس اللجنة السيد أحمد مزغنة ظل عضواً بالمكتب السياسي المذكور ومسؤولاً عن التنظيم السياسي العلني تماماً مثلما كان السيد محمد بن الوزداد عضواً بنفس المكتب السياسي ومسؤولاً عن المنظمة الخاصة.
وحينما يتوقف الدارس عند اللوائحالمصادق عليها، فإنه يرى، بسهولة، أنها لم تكن سوى انعكاس مبسط للخط السياسي الذي ما فتئ حزب الشعب الجزائري يدعو إلى الالتزام به وللمنطلقات الإيديولوجية التي ظل يعتمدها في وضع سائر برامجه.
فلائحة السياسية العامة ترتكز على كون الإمبريالية الفرنسية التي اعتدت على الأمة الجزائرية لم تتمكن من القضاء على هذه الأخيرة رغم نجاحها في إلغاء الدولة الجزائرية ورغم كل العسف والاستبداد المسلطين على جماهير الشعب الجزائري منذ سنة 1830. تعتمد اللائحة أيضاً، على كون الوطن الجزائري لم يستسلم أمام بطش الاستعمار وظل يقاوم بجميع الوسائل من أجل استرجاع الحرية والسيادة والكرامة. لأجل ذلك، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية مطالبة بالعمل في سبيل أهداف ثلاثة هي:
1-إلغاء السيطرة الإمبريالية واسترجاع سيادة الشعب الجزائري.
2- بعث الدولة الوطنية بكل مقتضيات السيادة ومتطلباتها، أي ممارسة السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
3-تطبيق مبادئ الديموقراطية وفقاً للشعارات التالية: الكلمة للشعب، المجلس التأسيسي الجزائري المنتخب بواسطة الاقتراع العام والمباشر بواسطة هيأة انتخابية واحدة.
وترى لائحة العلاقات مع التشكيلات السياسية الجزائرية أن الاتحاد أداة حاسمة في الكفاح ضد الإمبريالية وضمان أساسي لانتصار القضية الجزائرية. وعلى هذا الأساس، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية تلتزم بالترفع فوق كل الاعتبارات، مهما كان نوعها، في سبيل تحقيق الاتحاد الوطني حول الأرضية الأكثر عدلاً والأكثر فائدة للشعب الجزائري، أي حول العمل من أجل مجلس تأسيسي ذي سيادة كاملة.
ومن خلال اللائحة الخاصة بقانون الجزائر التنظيمي، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية تذكر بأنها كانت قد حاربته في مستوى البرلمان الفرنسي عندما أنكرت على الأخير حق التشريع للشعب الجزائري.
وبما أن السلطات الاستعمارية لم تأخذ في الاعتبار موقف كل النواب الجزائريين الذين رفضوا مجرد المشاركة في مناقشة القانون المذكور، فإن الحركة قد حددت لمناضليها مجموعة من الأهداف العاجلة في مقدمتها:
أ- تشجيع معاداة الشعب الجزائري للقانون المزعوم الذي صادق عليه المجلس الوطني الفرنسي دون استشارته.
ب- تعبئة الجماهير الشعبية الواسعة ضد سياسة القوة والطغيان التي تمارسها الإمبريالية الفرنسية.
ج- إيجاد اتحاد حقيقي في سبيل المجلس التأسيسي الجزائري.
د- اعتبار محاربة قانون الجزائر التنظيمي مظهراً أساسياً من مظاهر الكفاح في سبيل الأمة الجزائرية ومن أجل الديموقراطية.
وتجسيداً لهذه اللوائح، وجهت قيادة حزب الشعب الجزائري نداء إلى مؤتمر الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري المنعقد بمدينة البليدة في الفترة ما بين 3 و 5/10/1947 تدعو من خلاله إلى تحقيق "وحدة متينة مبنية على أسس أيديولوجية وبعيدة عن كل الاعتبارات الانتخابية وذلك من أجل تحرير الشعب الجزائري من الهيمنة الإمبريالية"(33).
وكجواب على هذا الاقتراح ضمن المؤتمر برنامج السياسة العامة فقرة خاصة بقضايا الوحدة النضالية أكد فيها "أن الاتحاد يجب أن يشمل كل الأحزاب الديموقراطية دون تمييز عرقي، وأن تحرير الشعب الجزائري من نير الاستعمار إنما يتم في إطار سياسة ديموقراطية تستهدف الرقي الاجتماعي وإصلاح الهياكل إصلاحاً جذرياً"(34).
وإذا كان هذا الجواب مشوباً بكثير من الغموض والتهرب من المسؤولية، فإن باقي اللائحة قد تضمن ما من شأنه أن يقرب بين التشكيلتين الوطنيتين. وبالفعل، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد أدان بكل صراحة الاتحاد الفرنسي والقانون التنظيمي المفروض على الجزائر، وأكد إيمانه بوحدة شمال إفريقيا وبضرورة إقامة الجمهورية الجزائرية بألوانها الوطنية وبرلمانها وحكومتها المسؤولة أمامه(35).
وعلى الرغم من كل هذا التقارب الإيديولوجي، فإن حزب الشعب الجزائري قد دخل الانتخابات البلدية منفرداً بينما حاول الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري تشكيل قوائم مشتركة بينه وبين الحزب الشيوعي الجزائري في عدد من المدن وذلك تحت شعار "في سبيل اتحاد وطني وديموقراطي ومن أجل حماية المصالح البلدية”(36).
الانتخابات وعواقبها:
على خلاف التشكيلات السياسية الأخرى، دخلت الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية معركة الانتخابات البلدية بهدف توظيفها لتعميم إيديولوجية حزب الشعب الجزائري، لأجل ذلك ضبطت شعارات واضحة وقريبة جداً من فهم سائر الفئات الاجتماعية(37) وراحت تركز، من خلال الاجتماعات والتجمعات، على ضرورة التزام المواطن الجزائري ببرنامجها السياسي إذا كان يريد استرجاع حقوقه المغتصبة والخروج من دائرة التخلف والتهميش والحرمان.
وبفضل وعي المناضلين وحماسهم، استطاع حزب الشعب الجزائري أن يحول المناسبة إلى عرس وطني كبير سادته روح الأخوة والتضامن وتجندت، من خلاله، جماهير الشعب لتقول "لا" لغير العمل من أجل استرجاع الاستقلال الوطني ولتعلن، أمام الملأ، أنها تتبنى في معظمها، مرشحي الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، وأنها بذلك، تتحدى الإدارة الاستعمارية وترفض كل البرامج التي لا تدعو إلى محاربة قانون الجزائر التنظيمي ولا تهدف، أولاً وقبل كل شيء إلى بعث الدولة الجزائرية ذات السيادة المطلقة.
وكانت نتيجة الانتخابات تعبيراً آخر عن تفاعل الجماهير الشعبية مع سياسة حزب الشعب الجزائري، فمرشحوا الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية فازوا بأغلبية المقاعد المتنافس عليها وسيطروا كلية على أكثر من مائة بلدية، ولم يتمكن ما سمي في ذلك الوقت بالتحالف الديموقراطي من الوقوف في وجه التيار الجارف الذي جعل الحزب الشيوعي يعترف على أعمدة صحافته بأن جماهير الشعب الجزائري قد اختارت قوائم الحركة في كثير من البلديات(38).
وكان من الممكن أن يكون انتصار حزب الشعب الجزائري في الانتخابات البلدية حافزاً لتحقيق الاتحاد مع الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين غير أن ذلك لم يحدث رغم جميع المحاولات والمساعي التي توقفنا عندها في دراستنا الخاصة بحزب السيد فرحات عباس. ولأن التشكيلات السياسية الوطنية لم تجد طريقها للاتحاد، فإن الإدارة الاستعمارية قد استطاعت، بكل سهولة، أن تحول انتصار الوطنيين إلى نوع من الهزيمة تمثلت في رفض منتخبي المجموعة الأولى التعامل معهم وتمكينهم من تأدية مهامهم كما هي محددة في القانون.
واستخلص غلاة الكولون الدرس من تلك الانتخابات البلدية فتأكدوا أن معظم الجزائريين يؤيدون حزب الشعب في نشاطه الهادف إلى استرجاع الاستقلال الوطني، ولكي لا تتكرر نتائج الانتخابات البلدية في مستويات أخرى، عملوا بواسطة ممثلهم في حكومة باريس(39) على استبدال الوالي العام السيد ايف شاتينيو بوزير التربية السابق السيد ايدموند نايجلان الاشتراكي المذهب والذي جئ به خصيصاً لسد جميع الطرق وبكل الوسائل في وجه كافة التشكيلات السياسية الوطنية.
ولقد استطاع الوالي العام الجديد، خلال الفترة التي قضاها في الجزائر، أن يربط اسمه بتزييف الانتخابات حتى صارت الطريقة النايجلانية مضرب الأمثال في سائر أنحاء البلاد. وكانت الانتخابات الأولى التي أشرف عليها هي تلك الخاصة بالجمعية الجزائرية التي نص على تأسيسها قانون الجزائر التنظيمي في مادته السادسة(40).
ومرة أخرى لاحت في الأفق آمال الاتحاد بين التشكيلتين السياسيتين الوطنيتين لكن ذلك الأمل سرعان ما تلاشى بسبب موقف الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية التي اشترطت أن تكون الحملة الانتخابية تحت شعار: "الأمة الجزائرية ذات السيادة المطلقة" وأن تكون حصتها من المقاعد الثلثين غير أن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد، بل لابد من الإشارة إلى رفض الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري ثنائية العمل وإلحاحه على ضرورة إشراك الحزب الشيوعي الجزائري في ما يمكن تسميته بالجبهة الديموقراطية التي تكون قادرة على التصدي للمناورات الاستعمارية التي يقوم بها "تجمع الشعب الفرنسي"(41) الذي جعل شعاراً له "الجزائر ووهران وقسنطينة عمالات فرنسية وستبقى كذلك"(42).
إن السببين المشار إليهما أعلاه لم يكونا كافيين لإجهاض عملية الاتحاد بين التشكيلتين الوطنيتين لأن اشتراط العمل تحت شعار: "الأمة الجزائرية ذات السيادة المطلقة” يلتقي في الأعماق مع الدعوة إلى تشكيل جبهة وطنية تتصدى لبرنامج تجمع الشعب الفرنسي الذي يهدف إلى الإبقاء على الجزائر الفرنسية. ولو أن قيادتي الحزبين تحاورتا جدياً في الموضوع لوجدتا طريقهما إلى ضبط إطار تتضافر فيه الجهود الرامية إلى تخليص الجزائر من السيطرة الأجنبية.
إن هذا الافتراض لا يعني أن قيام الاتحاد بين الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري كان قادراً على تغيير نتائج الانتخابات. فهذه الأخيرة خطط لها بدقة كي تكون في غير صالح التوجه الوطني الذي ترى الإدارة الاستعمارية أنه "يهدد أمن الفرنسيين في الجزائر ويقضي على سمعة فرنسا ويؤدي إلى إلغائها نهائياً من شمال إفريقيا"(43).
أما الموقف الأسلم بالنسبة للتشكيلتين الوطنيتين فكان هو المقاطعة، لأن الجمعية الجزائرية تتناقض كلية مع مشروع المجتمع الذي تدعو إليه كل واحدة منهما. ولأن الإدارة الاستعمارية كانت تدرك ذلك وتعلم أيضاً، أن انتخاب مرشحيهما سيمنع الجمعية المذكورة من أن تؤدي الدور المحدد لها في القانون التنظيمي ويسعى لتحويلها إلى مجلس تأسيسي يتنافى مع مصالح فرنسا في الجزائر، فإنها اختارت الحل الأسهل والأنجع بالنسبة إليها وهو التزييف بجميع أنواعه حتى يكون أعوانها هم الأغلبية الساحقة من بين ممثلي المجموعة الانتخابية الثانية.
وكان حزب الشعب الجزائري يعرف ذلك، ويعرف، أيضاً، أنه لا يستطيع منع الإدارة الاستعمارية من القيام بما يحلو لها، لكنه رغم كل ذلك، أصدر تعليمات واضحة إلى الإطارات والمناضلين في القاعدة يأمرهم، من خلالها، باستعمال جميع الوسائل بما في ذلك العنف بسائر أنواعه، للتعبير عن رفض تلك الإجراءات التعسفية. ومن جملة ما أمر به المناضلون في صفوف المنظمة الخاصة أن يضرموا النيران في الصناديق وفي المكاتب ذاتها عندما تقدم الإدارة الفرنسية على منع المواطنين من ممارسة حريتهم في التصويت على من يريدون.(44)
هكذا خيم على الحملة الانتخابية جو من الرعب، وعم الساحة السياسية كثير من الاضطهاد الذي لجأت إليه الإدارة الاستعمارية قصد ترهيب الوطنيين وحملهم على التخلي عن حزبهم. وقد شمل الاضطهاد جميع المجالات بدءاً من عدم الترخيص بعقد ندوة المنتخبين التي اعتزمت الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية عقدها بالعاصمة يوم 25/1/1948 وانتهاء باعتقال العديد من إطارات ومرشحي حزب الشعب الجزائري، مروراً بوقف "المغرب العربي" وتنظيم حملات التفتيش عبر مختلف أنحاء البلاد. وزيادة على كل ذلك، أعطيت التعليمات للمسؤولين، على جميع المستويات، كي يمنعوا ممثلي الحركة الوطنية من مراقبة سير الاقتراع ومن المشاركة في عملية الفرز، وأذن لهم، في حالة ظهور أدنى مقاومة، أن يستعملوا ضدهم مختلف أنواع العنف بما في ذلك الضرب والاعتقال وحتى القتل في الحالات المعقدة.
ففي هذا السياق، وضعت العدالة تهمتين يمكن إلصاقهما بكل من يراد حبسه. فهناك، أولاً، المساس بأمن الدولة وسيادتها إذا كان المتهم مناضلاً بارزاً أو إطاراً في حزب الشعب الجزائري. أما إذا كان مناضلاً بسيطاً أو من المحبين فقط فتهمته الإخلال بالنظام العام، وفي الحالتين يطبق القانون دون إعمال الظرف المخفف.
وبالرجوع إلى "الجمهورية الجزائرية" في عدديها الصادرين بتاريخ 9 و 16/4/1948.
يجد الدارس نماذج متعددة من الاعتداء على حرية الانتخاب. فأحياناً تفتح الإدارة المكاتب في بيوتات بعض الأعيان الذين يغلقون أبوابهم إلا على الأصدقاء.(45) وأحياناً أخرى تنقل المكاتب من أماكنها الرسمية دون إشعار المواطنين(46). وفي أثناء الفرز يؤتى بصناديق جديدة مملوءة بأصوات أغلبيتها الساحقة لفائدة مرشحي الإدارة. وبالإضافة إلى كل هذه الإجراءات الاستبدادية كان الأجناد وأفراد الشرطة بأنواعها والجندرمة ورجالات الإدارة يلاحقون المنتخبين ويستعملون شتى الوسائل لإرغامهم على عدم إعطاء أصواتهم لمرشحي الحركة الوطنية الذين هم "عملاء ستالين والشيوعية" (47) والذين لاهمَ لهم سوى "العمل على تحويل الجمعية الجزائرية إلى مجلس تأسيسي يرسي قواعد الدولة الجزائرية المستقلة"(48).
كل هذه الإجراءات العسفية لم تنل من عزم المناضلين على الذهاب إلى أبعد الحدود في العمل من أجل تجسيد تعليمات الحزب على أرض الواقع، كما أنها لم تمنع إراقة الدماء بل إنها ساعدت كثيراً على تعبئة الطاقات الحية في البلاد كرد فعل للتدليل على أن جماهير الشعب في الجزائر تسير وراء حركتها الوطنية وأنها مستعدة للتضحية القصوى من أجل إقامة الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية.
ومن الجدير بالذكر أن المعارك التي طبعت يوم الانتخابات والتي جرت بين أفراد القوات المسلحة الفرنسية وجحافل المواطنين في أماكن عديدة من أنحاء الوطن قد أسفرت عن استشهاد كثير من الجزائريين وجرح أعداد كبيرة منهم. ولقد عملت الصحافة الاستعمارية على تصوير بعض تلك الأحداث على طريقتها المتميزة بتناقض الأخبار وتزييف الحقائق وعلى سبيل المثال نورد نبأ ما وقع في قرية أولاد فرحة الكائنة على بعد 15 كلم من سور الغزلان نقلاً عن "ليكودلجي" في عددها الصادر بتاريخ 5/4/1948. "اجتاح مكتب الانتخاب ما بين 1000 و 1500 من مناضلي حزب الشعب الجزائري. فغادرت مجموعة من الحرس المتنقل سور الغزلان قصد استرجاع النظام والأمن، لكن حوالي 2000 متظاهراً استوقفوا شاحنتهم واعتدوا عليها وعلى ركابها مما جعل الحرس الجمهوري يطلق النار محدثاً سبعة قتلى وكثيراً من الجرحى".
وعلى الرغم من يقظة المناضلين واستبسالهم في المقاومة وفي التصدي لاعتداءات الإدارة الاستعمارية، فإن هذه الأخيرة قد سيطرت كلية على عملية الفرز وزيفت النتائج بحيث أعطت لمرشحيها واحداً وأربعين مقعداً من جملة الستين المخصصة للمجموعة الانتخابية الثانية. أما الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية فإنها لم تأخذ سوى تسعة في حين كان ينبغي أن تفوز بالأغلبية الساحقة وذلك بشهادة السيد فرحات عباس نفسه(49).
إن النتائج، في حد ذاتها، لم تكن هي المعنية بالنسبة لحزب الشعب الجزائري الذي لم يغير سياسته الرافضة للقانون التنظيمي نفسه والتي ظلت، منذ تأسيس نجم شمال إفريقيا، تهدف إلى تقويض أركان الاستعمار وبعث الدولة الجزائرية من جديد. أما ما عدا ذلك فوسائل لابد من توظيفها لتحقيق الغرض الأساسي. ومن هذا المنطلق، فإن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية تكون، رغم قلة المقاعد التي منحت لمرشحيها، قد أحرزت نجاحاً باهراً تمثل خاصة في تعبئة جماهير الشعب حول البرنامج الإجمالي لحزب الشعب الجزائري وفي تأكد القيادة السياسية لهذا الأخير من ربحها ثقة الأغلبية الساحقة من الجزائريين.
ولأن هدف الحزب السياسي لم يكن هو المشاركة في أشغال الجمعية الجزائرية التي كان يدرك جيداً أنها لن تكون سوى أداة طيعة في خدمة مصالح الكولون، فإن منتخبيه قد تلقوا تعليمات صارمة كي يبذلوا كل ما في وسعهم لتحويل جميع جلسات الجمعية المذكورة إلى مناسبات للتذكير بإرادة الشعب الجزائري في مواصلة النضال ضمن إطار الحركة الوطنية من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة وإقامة الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية ببرلمانها وحكومتها وألوانها الوطنية.
ولأجل ذلك تجدر الإشارة إلى أن المؤرخين الذين يجعلون تزييف الانتخابات من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إشعال فتيل ثورة نوفمبر 1954 مخطئون في تحليلهم، لأن الانتخابات في جميع مستوياتها إنما كانت تجري، فقط، في إطار السيادة الفرنسية التي هي إلغاء للسيادة الوطنية الجزائرية التي لم تبرح جماهير الشعب تناضل بقيادة الطلائع الواعية من أجل استرجاعها. إن هذه الحقيقة كلما تكررت ازدادت وضوحاً وتجلت الحاجة إلى تكرارها مرات ومرات.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالسبت ديسمبر 04, 2010 10:59 am

حزب الشعب الجزائري وما يسمى بالأزمة البربرية.
يذكر السيد محفوظ قداش أن "الأمة البربرية ظهرت بعد انتخابات 1948 وهي وليدة النقاش الذي دار حول عدم جدوى سياسة المشاركة في البرلمان الفرنسي".(50) إن هذا الطرح لا يختلف في شيء عن رأي السيد روبرت آجرون الذي يزعم مثل السيد قداش، أن الأزمة المذكورة تندرج في إطار الانقسامات الداخلية التي تعرض لها حزب الشعب الجزائري ابتداء من شهر أغسطس سنة 1948(51). وفي الواقع فإن الطرحين بعيدان كل البعد عن الحقيقة التي يلامسها كل من السيدين محمد حربي(52). وابن يوسف بن خدة (53) اللذين يرجعان المسألة إلى التناقض الإيديولوجي الذي تبلور، في تلك السنة، بسبب إقدام بعض العناصر المدسوسة في قيادة الحزب بفرنسا على الجهر بمعاداتها للعروبة والإسلام وعلى الدعوة الصريحة لبناء جزائر لائكية بروليتارية.
ومن بين كل الذين عالجوا هذا الموضوع، فإن السيد ابن يوسف بن خدة هو الأكثر وضوحاً في الرؤية والأقرب إلى الحقيقة حيث يرجع المسألة إلى حجمها الطبيعي مؤكداً أن السياسة الاستعمارية هي التي مهدت لتلك الأزمة قصد توظيفها من أجل تقسيم أبناء الشعب الواحد وتعميم بعض المصطلحات المساعدة على تكريس "الأمة الجزائرية في طور التكوين" وهو الشعار الذي كان قد رفعه، في الثلاثينات السيد موريس توريز، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي وتبناه، بدون مناقشة، سائر الشيوعيين الجزائريين(54). ولتوضيح فكرته، يضيف السيد ابن خدة قائلاً: "يعود ظهور النزعة البربرية في صفوف الحزب إلى سنتي 1946- 1947". وبالرجوع إلى كل هذه المعطيات والتوقف عندها ملياً، نستطيع التأكيد على أن ما يسمى بالأزمة البربرية إنما هي مؤامرة خططت لها الإدارة الاستعمارية لزرع الشقاق في أوساط حزب الشعب الجزائري قصد منعه من توظيف الدروس المستخلصة من حركة مايو الثورية التي برهنت بما لا يدع أي مجال للشك على أن الشعب الموحد وراء قيادة متنورة قادر على صنع المعجزة. وقد استفاد من مراحل تنفيذ المؤامرة كل من الشيوعيين واللائكيين الذين يهمهم ضرب الإيديولوجية الوطنية في أعماقها. الشيوعيون وجدوا فيها ضالتهم التي ركبوها للتدليل على أن الأمة الجزائرية لم توجد بعد وما العرب والقبائل إلا بعض العناصر المكونة لها وهي ملزمة بالعمل على أن تتعايش مع بقية العناصر التي من جملتها: اليهود والفرنسيون والإيطاليون والمالطيون والإسبان والأتراك، وأما اللائكيون، فإنهم استغلوا الوضع الجديد للمطالبة بتحييد الإسلام عن كل نشاط سياسي خاصة وأن معظمهم من ضحايا حركة التنصير في الجزائر.
ولقد كان السيد كريم بلقاسم(55) من المسؤولين الأوائل الذين تفطنوا للمؤامرة، وتصدوا لها بكل إمكانياتهم المادية والأدبية، يكفي أنه كان يردد في سائر الاجتماعات التي كان يترأسها عبر مختلف أنحاء ولاية تيزي وزو: إن النزعة البربرية لا يمكن إلا أن تضر مساعينا الوطنية. إنها سلاح فتاك نضعه بأنفسنا بين أيدي عدونا الاستعمار "وفي يوم من الأيام، سوف تقودنا هذه الفكرة إلى التناحر فيما بيننا نحن الذين توحدنا عقيدة واحدة"(56).
لم يكن هذا الموقف الواعي وليد الصدفة ولا من محض تفكير السيد بلقاسم كريم، بل أن إيديولوجية الحزب وسائر برامجه السياسية هي التي فرضت ذلك وهي التي لم تتوقف الإدارة الاستعمارية عن السعي للقضاء عليها بجميع الوسائل. فالعروبة والإسلام يشكلان الأرضية الصلبة التي تتركز عليها مقومات الأمة، وقد كان حزب الشعب الجزائري يتخذ منهما تعبيراً عن الذاتية الجزائرية ويأتي بهما في مقدمة مقومات الأمة التي تترابط بها أجزاؤها وتتوحد ميولات أبنائها من أجل الاستماتة في سبيل استرجاع السيادة المغتصبة والكرامة المهدورة وبعث الدولة المغيبة. كل هذا، كان المناضلون يعرفونه ويؤمنون به ويعملون لنشره في أوساط الجماهير الشعبية، وكان القياديون، أكثر من غيرهم، يجهدون النفس في سبيل ذلك ويرفضون أن يعتدى عليه من أي كان.
ولقد كانت الإدارة الاستعمارية تدرك جيداً الدور الإيجابي الذي تؤديه العروبة والإسلام في عملية التوعية والتجنيد الضرورية لتنظيم الشعب الجزائري وإعداده لخوض المعركة الحاسمة، ولأنها كانت تدرك ذلك، فإنها ومباشرة بعد حركة مايو الثورية قد لجأت إلى اختيار عدد من العناصر(57) المتشبعة بالثقافة الغربية والمتنكرة بجهلها للحضارة العربية الإسلامية، فدفعت بها إلى صفوف حزب الشعب الجزائري تفجرها من الداخل، وساعدت على إنجاز تلك المهمة مجموعة من العوامل أهمها ما يلي:
1- خيبة الأمل التي أصابت القواعد المناضلة في حزب الشعب الجزائري من جراء الأوامر المضادة التي منعت الثورة من الانتشار وفقاً للمخطط الذي وضع لها والذي تعرضنا له بالتفصيل في معالجتنا لحركة مايو الثورية.
2- ملل الإطارات القيادية الشابة والمتعلمة منها على وجه الخصوص من الرتابة، وجنوحها إلى كل ما من شأنه أن يحدث الانقلاب الجذري في مناهج التسيير الحزبي التي طغى عليها القرار الفردي بحجة الالتزام بمبدأ الانضباط واحترام السلم التصاعدي.
3- ضعف التكوين الأيديولوجي في أوساط القواعد المناضلة وذلك نتيجة اكتفاء القيادات، على جميع المستويات، باجترار بعض المبادئ والأهداف دون اللجوء، من حين لآخر، إلى عمليات الإثراء التي تأخذ في الاعتبار تطور واقع المجتمع وإمكانيات العمل من أجل تحسينه.
4- تخاذل الأنظمة العربية أمام الهجوم المنظم الذي شنه الصهاينة على فلسطين، وتلاحق الهزائم العسكرية التي عزتها الدعاية الإمبريالية إلى تخلف الإسلام وعجزه عن مواكبة العصر وتمكين المسلمين من النفاذ إلى ميادين العلم والتكنولوجيا.
وكان أكثر العناصر المدسوسة حقداً على العروبة والإسلام الطالب رشيد علي يحيى الذي لم يكن مناضلاً معروفاً، بل أن صلة الرحم هي التي جعلت عضو اللجنة المركزية واعلي بناي (58) يتدخل، من سجنه، لدى مسؤول التنظيم السيد أحمد بوده ملتمساً مساعدته على الالتحاق بصفوف فدرالية الحزب بفرنسا وهو ما وقع بالفعل.
ربما أن المساعدة كانت مصحوبة بتوصية، فإن علي يحيى قد تمكن من المشاركة في الندوة الفدرالية التي انعقدت إثر وصوله إلى فرنسا في شهر نوفمبر سنة 1948، وليس ذلك فقط، بل أن التوصية قد فتحت له كذلك باب المسؤولية فعين من بين أعضاء اللجنة المديرة وأسندت له رئاسة تحرير جريدة النجم التي سارع إلى توظيف أعمدتها لنشر النظرية الاستعمارية كما وردت في أدبيات الحزب الشيوعي. "فالجزائر ليست عربية.. وعروبتها ادعاء باطل يتنكر لوجود العناصر البربرية والتركية وغيرها.. وليس صحيحاً ما ينسب للإسلام من دور أساسي في تحديد الهوية السياسية الجزائرية.. ولأجل ذلك يجب أن تكون اللائكية هي السائدة في برنامج حزب الشعب الجزائري".(59)
والحقيقة أن منظري الاستعمار الفرنسي يلتقون مع الشيوعيين الفرنسيين والجزائريين حول مكونات الأمة الجزائرية. فالأوائل يعتبرون شمال إفريقيا مهداً للكنيسة والبربر حماة لهم وهم، أي البربر يختلفون كلية عن العرب كما جاء ذلك في "رسالة الجزائر" التي كتبها Alexis de Tocqueville(60) يوم 23/6/1837. أما جول فيري Jules Ferry(61) فقد أمر الحاكم العام بضرورة الإسراع في فتح أكبر عدد ممكن من المدارس في منطقة القبائل الكبرى لأنها "الأكثر استعداداً للاندماج نظراً لطبع السكان وعاداتهم وتقاليدهم"(62) وبتاريخ 23/8/1898، عندما أنشئت المندوبيات المالية، قررت الإدارة الاستعمارية أن يكون هناك فرعان: عربي وقبائلي للتدليل على أن ثمة جنسين متعايشان في الجزائر. وأما الشيوعيون، فإنهم ظلوا، إلى نهاية الأربعينات من هذا القرن، متشبثين بنظرية أمينهم العام السيد موريس توريز التي سبقت الإشارة إليها ولا داعي إلى التوقف عندها هنا.
من هذا المنطلق، نستطيع القول إن ما يسمى بالأزمة البربرية إنما هي تعبير، بأسلوب مغاير، عن موقف اللائكيين والشيوعيين المنادي بمحاربة العروبة والإسلام، ومما لا شك فيه أن ذلك الموقف ناتج أساساً عن تأثير الثقافة الغربية في أصحابه الذين زاد في تعصبهم جهلهم المطلق للدين الإسلامي.
إن السيد محمد حربي في معالجته لهذا الموضوع يذكر أن من العوامل التي أنتجت "الأزمة البربرية" فشل حزب الشعب الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية في وضع إيديولوجية تتلاءم مع التنوع الجزائري، وخيبة الانتظار أمام التعبئة السياسية التي عرفتها سنوات 1945/ 1949(63) فهذا الحكم غير صحيح لأنه يعتمد على واقع مزيف أوجده الاستعمار، في الأساس، لضرب دعائم المجتمع الجزائري، إذ أن التنوع الذي يتحدث عنه السيد محمد حربي ليس طبيعياً بل هو مصطنع والمقصود منه كما يعترف بذلك السيد Emil Masquray مدير مدرسة الآداب في الجزائر "وهو محاربة الإسلام عدونا الأبدي"(64) ولتجسيد التمايز في أوساط جماهير الشعب الجزائري، بادرت الإدارة الاستعمارية منذ سنة 1857 إلى ترسيم "العرف القبائلي" كمصدر للتشريع في "القبائل الكبرى" عوضاً عن القرآن والسنة(65). مع العلم بأن مصطلحات "القبائل" و"القبائلي" و"القبائل الصغرى" و"القبائل الكبرى" كلها لم تكن معروفة قبل سنة 1830 حيث كان المجتمع في أغلبيته الساحقة قبلياً.
فإذا كان هذا التنوع مصطنعاً وهو في أساسه من اختراع منظري الاستعمار الذين استهدفوا توظيفه لمنع الطاقات الوطنية الحية في الجزائر من أن تسلك طريق الوحدة النضالية في سبيل استرجاع الاستقلال المغتصب، فكيف يطلب من حزب الشعب الجزائري أن يكيف أيديولوجيته معه؟ ولو فعل، فإنه، إذن، يكون قد وقع في فخ الإدارة الكولونيالية.
أما عن خيبة الانتظار التي جعل منها السيد محمد حربي العامل الثاني الذي أنتج "الأزمة البربرية" فإنها لم تكن خاصة بمناضلي منطقة دون أخرى، وإذا كانت فيما يسمى بمنطقة القبائل، قد أنتجت "الأزمة البربرية"، فماذا تكون قد أنتجت في المناطق الأخرى من البلاد؟ وبالإضافة إلى ذلك، فإن المدة المذكورة لم تكن فترة انتظار، بل كانت، على العكس، كلها إعداد واستعداد كما ذكرنا ذلك في الجزء المتعلق بالمنظمة الخاصة. وإذا كان لابد من تحديد فترة للانتظار الممل، فإنها تكون تلك الممتدة من سنة 1949 إلى غاية اندلاع ثورة نوفمبر سنة 1954. صحيح أن حزب الشعب الجزائري، مثل سائر التشكيلات السياسية في العالم، قد عرف، في بعض مراحل حياته صراعات داخلية حول موضوعات مختلفة، لكن ما يسمى بالأزمة البربرية لم يكن واحداً من تلك الصراعات التي هي ضرورية لتحقيق النمو والتطور، بل أن أدلة كثيرة تبرهن على أن التخطيط لها كان من خارج الصفوف وهو يهدف، بالدرجة الأولى، إلى خلق المشاكل المصطنعة التي تكون قادرة على عرقلة المسار النضالي الذي يتوقف نجاحه على وحدة التوجه ووحدة الهدف. وإذا كنا لا نستطيع، هنا، سرد جميع الأدلة، فإننا نرى ضرورياً التوقف عند ما يلي:
1- إن الذين تصدوا للمؤامرة بشتى الوسائل كلهم من أبناء ما يسمى بمنطقة القبائل الذين لا يستطيع المزايدة عليهم أحد. فالسيد بلقاسم راجف، الذي قام بالدور الحاسم في تلك المواجهة، كان يحظى باحترام كبير في أوساط المغتربين الذين كان رشيد علي يحيى وجماعته يعتقدون أنهم يشكلون قاعدة متينة لحركتهم، لأجل ذلك فإن العملية سرعان ما خبت نيرانها ولم ينجح المتآمرون في إرساء قواعد ما أسموه يومها بحزب الشعب القبائلي(66).
2- إن إطارات حزب الشعب الذين وجدوا أنفسهم، لسبب أو لآخر، متورطين في العملية قد سارعوا إلى التراجع معبرين، على أعمدة الصحافة وبواسطة المنشورات، عن إدانتهم للمتطرفين ومؤكدين "إن حزب الشعب القبائلي لا وجود له ولا يمكن أن يرى النور لسبب واضح وهو عدم وجود غير شعب جزائري واحد"(67).
3- إن المؤامرة لم تتجاوز ما يسمى بمنطقة القبائل وفي، فرنسا، ظلت محصورة في أوساط المغتربين منها دون أن تتمكن من الانتشار في صفوف المغتربين الآخرين وخاصة منهم القادمين من المناطق التي بقيت محافظة على الطابع البربري الأصيل مثل الأوراس النمامشة والهقار ووادي ميزاب. ولو كانت هناك قضية بربرية، كما يزعمون، لكانت المناطق المذكورة هي المهد لها والمنطلق.
4- إن الذين أخبروا قيادة الحزب بما تدبره العناصر المتآمرة كلهم من أبناء ما يسمى بمنطقة القبائل، ولم يفعلوا ذلك إلا لتشبعهم بإيديولوجية الحركة المصالية التي لم تتوقف، أبداً، عن اعتبار العروبة والإسلام مقوماً حيوياً للشعب الجزائري. يكفي هنا، الإشارة إلى اندهاش السيد بلقاسم راجف عندما بلغه نبأ المؤامرة وقوله لمسؤول التنظيم السيد أحمد بوده: "إنني أرفض أن أتصور مجموعة من مناضلي حزب الشعب الجزائري يثمنون التمايز العرقي ويدعون إلى تشتيت جماهير الشعب"(68).
وبمجرد انتشار نبأ تمرد فدرالية الحزب في باريس وظهور نزعة تساند ذلك داخل العاصمة خاصة، قررت القيادة إرسال السيدين شوقي مصطفاي والصادق سعيدي إلى فرنسا من أجل اجتثاث المرض. وكان اختيار الرجلين مقصوداً لانتمائهما معاً إلى ما يسمى بمنطقة القبائل. وقد كان الأول نائباً ثانياً لرئيس الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، بينما كان الثاني عضواً بالمكتب السياسي المنتخب على إثر مؤتمر فيفري سنة 1947.
وعلى الرغم من كل تلك المواصفات، فإن مبعوثي المكتب السياسي لم ينجحا في مهمتهما، الأمر الذي جعل الحاج مصالي يلجأ إلى السيد بلقاسم راجف الذي وظف كل الوسائل بما في ذلك العنف واستطاع أن يسترجع فدرالية الحزب في فرنسا على إثر مجلس اتحادي عقد في شهر أفريل سنة 1949 واختتم أشغاله بطرد المنشقين وبالمصادقة على لائحة تؤكد "التمسك بأيديولوجية حزب الشعب الجزائري وبالحاج مصالي"(69).
وإذا كانت مهمة القضاء على حركة التمرد صعبة في فرنسا حيث تطلب ذلك استعمال العنف واللجوء إلى شتى وسائل الإقناع، فإن الأمر، في داخل البلاد، قد اقتصر على فصل العناصر المتورطة في العملية التي لم تتأثر بها "سوى قسمة عين الحمام من جملة القسمات الثلاث عشرة التي تشتمل عليها بلاد زواوة"(70).
ومن خلال شهادات الأحياء من المسؤولين وبالرجوع إلى ما هو متوفر لدينا من وثائق، نستطيع القول إن الحاج مصالي قد وظف ما يسمى بالأزمة البربرية ليتخلص من منافسه الأول الدكتور محمد الأمين دباغين وعدد من أنصاره الفاعلين.
وإذا كان صحيحاً أن حزب الشعب الجزائري قد تغلب بسهولة على محاولة التفجير التي أرادتها له الإدارة الاستعمارية، وإذا كان صحيحاً، أيضاً، أن الحاج مصالي قد حقق، بتلك المناسبة، انتصاراً شخصياً فإن صفوف الحزب قد أصيبت في أعماقها وخسرت، في ظرف قصير جداً، عدداً هائلاً من المناضلين الأكفاء الذين ينتمون، فعلاً، إلى ما يسمى بمنطقة القبائل لكنهم لم يكونوا، في ذلك الوقت، يحملون الفكرة البربرية المناهضة للعروبة والإسلام. وفي نظرنا، فإن السيد حسين آيت أحمد كان أكبر المتضررين شخصياً ووطنياً، لأنه أقصي عن مسؤولية المنظمة الخاصة قبل أن ينجز برنامجه الثوري الذي كان يطمح أن ينتهي به إلى إشعال فتيل الثورة، هذا من جهة، ولأنه، من جهة ثانية، تعرض إلى تقزيم عسفي مازال يلاحقه إلى يومنا هذا.
لقد كان في استطاعة قيادة حزب الشعب الجزائري أن تتعامل مع الموضوع بأسلوب مغاير يمكن من اكتشاف المتسللين إلى الصفوف بغرض والمنحرفين عن الخط الإيديولوجي لسبب أو لآخر ومعاقبة كل منهم العقاب الذي يستحقه. وفي المقابل، كان ينبغي أن يفتح الحوار مع المناضلين الذين كانوا قد أبدوا كل الاستعداد للتعاون مع المكتب السياسي من أجل تصفية الأجواء ويأتي السيد حسين آيت أحمد في مقدمة أولئك المناضلين. ولأن قيادة الحزب لم تفعل ذلك، فإنها، رغم ما حققته من نتائج آنية، قد ساهمت في حرمان الحركة الوطنية، من طاقات ثورية برهنت على نجاعتها في الميدان، ودفعت، من حيث لا تدري، بكثير من الإطارات في أحضان الحزب الشيوعي الجزائري الذي فتح لهم ذراعيه ورقاهم إلى كثير من مناصب الحل والربط في صفوفه.(71).
الحزب وسائر الفئات الاجتماعية:
كانت الحركة المصالية، في أساسها، تركز كل آمالها على فئة العمال والمعدمين من أبناء الشعب الجزائري، ثم جاءت حركة مايو الثورية فعززت قناعة قيادة حزب الشعب الجزائري بضرورة تنظيم كل الفئات الاجتماعية حتى تجعل منها امتداداً طبيعياً للتنظيم السياسي، ولكي يسهل تجنيدها وتأطيرها عند الحاجة.
هكذا ومباشرة بعد مؤتمر شباط سنة 1947، شرع حزب الشعب الجزائري في إنشاء هيآت نقابية للحرفيين أسماها الاتحاديات مستفيداً، في ذلك، من التجارب السابقة التي حاول، من خلالها، تأسيس نقابة وطنية على غرار الاتحاد العام للعمال التونسيين والتي كانت في كل مرة، تصطدم بمعارضة النقابات الفرنسية التي كانت تعتبر الجزائر جزءاً لا يتجزأ من فرنسا. وبسرعة فائقة ظهرت إلى الوجود، وفي نفس الوقت تقريباً، اتحاد الخبازين واتحاد الخضارين واتحاد التجار الصغار واتحاد أصحاب المطاعم واتحاد الحلاقين وغيرها. وقد كانت كلها تسير من طرف مناضلين محنكين. وفي داخل الاتحاد العام للعمال نفسه زرع الحزب خلايا قوية أسند إليها مهمة تكوين المناضلين النقابيين. وقد برزت أسماء كثيرة قامت بأدوار ريادية في مجال التنظيم النقابي خاصة بعد إشعال فتيل ثورة نوفمبر سنة 1954(72).
وفي شهر حزيران (يوليو) سنة 1947، أسس الحزب جمعية النساء المسلمات الجزائريات بتنشيط ورئاسة السيدة مامية شنتوف(73) وعضوية كل من نفسية حمود(74) وسليمة بلحاف (75) ومليكة مفتي (76) وباية نوار(77) بالإضافة إلى السيدتين شرشالي وبومعزة(78). وعلى الرغم من أن هذا التنظيم النسوي لم يتجاوز نشاطه دائرة الجزائر العاصمة، فإن أهم عضواته قد تميزن بنفس نضالي طويل وبرهن على قدرة فائقة في تعبئة أعداد كبيرة من النساء وتوعيتهن بمتطلبات الكفاح التحريري. وبعد استرجاع الاستقلال الوطني كانت نفس السيدات شنتوب وحمود وبلحاف على رأس الاتحاد العام للنساء الجزائريات وذلك بعد أن قامت كل منهن بدورها في إطار جبهة وجيش التحرير الوطني.
وفيما يتعلق بالطلبة، فإن حزب الشعب الجزائري الذي كان قد تغلغل في أوساط جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بواسطة المناضل الطالب محمد يزيد(79) سنة 1944، وأنشأ، بواسطة خلاياه النشطة بالجزائر، عدداً من جمعيات التلاميذ في كثير من ثانويات الوطن(80)، فإنه التفت بحزم وعزم إلى جامع الزيتونة واستطاع، في شهر نوفمبر سنة 1947، أن يفوز بقيادة جمعية الطلبة الجزائريين التي كانت قد تأسست سنة 1934، وظلت حتى تلك السنة تنشط تحت إشراف ورعاية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وفي نفس سنة 1947، تمكن حزب الشعب الجزائري من السيطرة على منظمة الكشافة الإسلامية الجزائرية التي كانت قد تأسست بمناسبة مرور قرن على احتلال الجزائر، وظلت تنشط في إطار قريب جداً من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. أما في تلك السنة، فإن الجمعية العامة التي انعقدت بسيدي فرج في شهر سبتمبر، قد انتخبت قيادة جديدة كلها من مناضلي أو محبي الحركة المصالية(81).
وإلى جانب هذه المنظمات الوطنية، فإن حزب الشعب الجزائري قد بذل جهوداً كبيرة لتأسيس جمعيات رياضية(82) ومراكز ثقافية ومجموعة من المدارس الحرة على غرار مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
كل هذا النشاط التنظيمي قد مكن حزب الشعب الجزائري من الانتشار بقوة في أوساط سائر فئات المجتمع، مما دفع الإدارة الاستعمارية إلى تزييف الانتخابات على جميع مستوياتها وبالتالي من استعمال كل الوسائل لسد طريق السلطة في وجه كافة التشكيلات السياسية الوطنية، ولقد أدركت قيادة الحزب هذه الحقيقة وتيقنت القواعد الحزبية من أن مسلك ما يسمى بالشرعية السياسية لا يمكن أن يقود إلى تسوية القضية الجزائرية التي هي قضية استعمارية ليس لها حل غير الكفاح المسلح، لأجل ذلك فإن أنصار هذا الأخير قد عادوا، بقوة، للمطالبة بالتراجع عن السياسة التي أقرها مؤتمر فبراير سنة 1947.
اجتماع زدين والبليدة ونتائجه:
هكذا تعود المؤرخون والمهتمون بالحركة الوطنية الجزائرية أن يسمو الدورة الموسعة التي عقدتها اللجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري في نهاية شهر ديسمبر سنة 1948. وكما يستنتج بسهولة من التسمية، فإن المجتمعين قد بدأوا أشغالهم بزدين(83) حيث مزرعة السيد جيلالي عبد القادر بلحاج(84) المفتش العام للمنظمة الخاصة، وأنهوها بمدينة البليدة.
كانت الدورة من أهم اللقاءات التي جمعت قيادة حزب الشعب الجزائري فمن خلال أشغالها تبين أن النشاط السياسي في إطار الشرعية الفرنسية ضرب من الأوهام، ولم يعد أمام الحزب سوى التركيز على تدعيم وتطوير المنظمة الخاصة التي تستطيع وحدها تقديم الحل الجذري للقضية الجزائرية والمتمثل حسب السيد حسين آيت أحمد في "تعميم فكرة الكفاح المسلح والعمل على إقناع جماهير الشعب بأن الأراضي المغتصبة بحد السلاح لن تسترجع إلا بالسلاح" (85).
وعليه، أكد نفس المسؤول "أنه ينبغي الدخول، فوراً، في حرب عصابات تخوضها الطلائع التي تم تكوينها عسكرياً وجماهير الشعب التي وقعت تعبئتها سياسياً وتم تأطيرها على أحسن وجه"(86).
وعلى الرغم من أن التقرير المطول والمركز الذي قدمه مسؤول المنظمة الخاصة لم يحظ بإجماع المشاركين في الدورة، فإن اللائحة الختامية التي صادقت عليها اللجنة المركزية قد أكدت ضرورة تزويد المنظمة الخاصة بكل الإطارات والمناضلين الذين تتوفر فيهم الشروط السياسية والعسكرية لخوض معركة التحرير التي "سوف تكون صعبة وطويلة" كما جاء في ختام التقرير المذكور. ولقد اعتبر السيد علي محساس اللائحة الختامية للجنة المركزية "تعبيراً واضحاً عن فشل تجربة النشاط السياسي في إطار الشرعية الفرنسية"(87).
ودائماً في إطار هذا المسعى الثوري اقترح عضو اللجنة المركزية السيد عمار ولد حمودة(88) على الدورة أن تعطي السلطة المطلقة للدكتور محمد الأمين دباغين لتسيير سياسة الحزب الخارجية لكن أعضاء المكتب السياسي رفضوا ذلك وفضلوا الحل الذي جاء به الرئيس مصالي والقاضي بتعيين السيد حسين لحول أمينا عاماً. ورأى الدكتور دباغين في ذلك التعيين إدانة مقنعة للمشاريع التي كان يلوح بها من أجل تقويم الحزب وتطويره في جميع الميادين. لكن مسؤول التنظيم السري، السيد أحمد بودة في ذلك الوقت، يعطي تفسيراً مغايراً ويؤكد أنه كان أول من عارض منح الثقة المطلقة للدكتور رغم ما كان بينهما من صداقة متينة وتفاهم كبير حول أمهات القضايا. أما في تلك الأثناء، "فإن الوضع كان خطيراً وكان ينبغي الاهتمام، أولاً، بتصفية ما يسمى بالأزمة البربرية التي كان أبرز عناصرها من أقرب المقربين للدكتور وفي مقدمتهم يأتي السادة عمار ولد حمودة وواعلي بناي وعمر أو صديق الذين كانوا من أكثر أعضاء اللجنة المركزية نشاطاً وحيوية والذين كانت الإدارة الاستعمارية تعتقد أنهم قادرون على تحقيق الانفصال وتشكيل حزب الشعب البربري الذي استطعنا أن نقضي عليه في المهد نظراً لما فيه من خطورة على وحدة الشعب الجزائرية"(89).
فالدكتور محمد الأمين دباغين لم يدرك أن أعضاء المكتب السياسي إنما عارضوا اقتراح ولد حمودة لحمايته من أن يتحول إلى أداة مفجرة للحزب من الداخل، ولذلك فإنه غادر الاجتماع واعتزل النشاط السياسي ورفض الاستجابة لكل المحاولات التي قام بها رفاقه على اختلاف ميولاتهم، من أجل حمله على العودة إلى ممارسة مهامه. ولما لم تنجح كل المساعي، فإن اللجنة المركزية قد اتخذت، بالإجماع في جلسة يوم 10/8/1949 قراراً بطرده من الصفوف(90).
وعلى الرغم من ذلك الحادث المؤلم الذي كان نتيجة سوء تفاهم، فإن دورة اللجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري المنعقدة بزدين قد كانت إيجابية بالنسبة للتوجه الثوري وفسحت المجال للمنظمة الخاصة بتوظيف سائر إمكانيات الحزب من أجل الإعداد والاستعداد لمرحلة الكفاح المسلح، وقد كان قرارها ذلك بسبب ما لاحظه المشاركون من عدم جدوى الاستمرار في طريق ما يسمى بالشرعية السياسية.
غير أن الإقرار بأولوية المنظمة الخاصة لم يمنع حزب الشعب الجزائري من مواصلة هيكلة صفوف الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية طبقاً لمقررات مؤتمر شباط سنة 1947، ونشر التكوين السياسي والأيديولوجي في أوساط المناضلين المكلفين بتنفيذ البرامج المختلفة. ففي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الحزب تخلى نهائياً عن بعض التسميات مثل الفدرالية والجهة والقطاع والفرع التي حلت محلها على التوالي: الولاية والدائرة والقسمة والخلية. وفي المستوى الوطني، استحدث اللجان المختصة وحدد أعضاء اللجنة المركزية ما بين ثلاثين وأربعين وأعضاء المكتب السياسي ما بين ثمانية واثني عشر بالإضافة إلى الرئيس والأمين العام، وعندما نريد الاختصار نقول أن تنظيم الحزب ابتداء من سنة 1948 قد أصبح مطابقاً للرسم التالي، وهو الشكل الذي سوف يلازمه إلى غاية اندلاع الثورة في أول نوفمبر سنة 1954(91).
ولم تقتصر التغييرات على الهيكل، بل أن عملية انتقاء المناضلين وإعدادهم هي الأخرى قد سجلت تحسناً ملحوظاً. وإذا كانت خلايا المحبين لا تخضع لأي نوع من أنواع الانضباط ولا يفرض على أعضائها دفع الاشتراك أو القيام بأدوار أساسية في أوساط الجماهير الشعبية، فإن خلايا المنخرطين تكون محاطة بكثير من العناية المتمثلة في رقابة اجتماعاتها التي تعقد بانتظام والتي توظف لخبرة أعضائها باستمرار وبكيفية تشبه الامتحانات المتواصلة. وعندما يرى المناضلون المسؤولون عن التكوين والمراقبة أن المنخرط أصبح أهلاً للتمتع بصفة المناضل، فإنهم يستدعونه لتأدية القسم الذي يقرأه أو يردد عباراته ويده اليمنى على المصحف(92). بعد ذلك تحدد له الخلية التي يناضل في إطارها.
أ- التوجهات السياسية ووسائل العمل:
على الرغم من كل ما قيل وكتب حول حزب الشعب الجزائري، فإن توجهاته السياسية والأيديولوجية لم تحد عن مشروع المجتمع الذي ورد بإيجاز في الوثيقة التي صادقت عليها بالإجماع قيادة نجم شمال إفريقيا وتلاها، نيابة عنها، السيد الحاج مصالي أمام المشاركين في مؤتمر بروكسل سنة 1927.
"فالإمبريالية الفرنسية قد استعملت السلاح للقضاء على الدولة الجزائرية ومن أجل السيطرة على الثروات الطبيعية وعلى الأرض بواسطة النهب والاغتصاب. ونتيجة ذلك، فإن السكان الذين كانوا في أوضاع مزدهرة قد تحولوا إلى عبيد جياع معدمين.. وباسم الحضارة المزعومة، انتهكت العادات والتقاليد وتم القضاء على طموحات جماهير الشعب التي صار مصيرها المحتوم معاناة الاستغلال البشع والخضوع للاستبداد السياسي الرجعي الذي يحرمها كل حق في الحرية بجميع أنواعها ويمنعها من المشاركة في النشاط السياسي والتشريعي. "من هذا المنطلق، فإن نضالات الشعب الجزائري موجهة إلى تحقيق الأهداف الرئيسية التالية:
- استرجاع الاستقلال الوطني.


- سحب قوات الاحتلال الفرنسية وتكوين جيش وطني.
- استرجاع الملكيات الزراعية الكبرى التي استولى عليها الإقطاعيون من عملاء الإمبريالية والكولون والشركات الرأسمالية الخاصة، وتسليم كل تلك الأراضي إلى الفلاحين الذين اغتصبت منهم.
- احترام الملكيات الصغيرة والمتوسطة.
- استرجاع الدولة الجزائرية للأراضي والغابات التي استولت عليها الدولة الفرنسية.(93).
من هذا المنطلق، فإن الدكتور محمد الأمين دباغين قد صرح من أعلى منبر البرلمان الفرنسي يوم 10/9/1947، قائلاً: "لقد كلفنا الشعب الجزائري، نحن المنتخبين الوطنيين، بأن نعلن للشعب الفرنسي وللعالم أجمع أن الجزائر لا تعترف بالأمر الواقع الذي أحدثه احتلال سنة 1830، وأن أي حل لن يكون مقبولاً ما لم يشتمل على الضمان المطلق لاسترجاع السيادة الوطنية".(94) وفي نفس السياق وبنفس المكان صرح السيد مسعود بوقادوم "أن الحل الوحيد المنطقي والإنساني إنما يكمن في السماح للشعب الجزائري بأن يعبر بحرية عن رأيه ويختار النظام الذي يحلوله، وذلك بواسطة مجلس تأسيسي منتخب".(95)
لكن ثبات التوجهات الإيديولوجية لا يعني أن خط الحزب السياسي ظل مستقيماً بدون انحراف خلال فترات النضال، بل أن قيادة الحزب قد اضطرت، مرات عديدة، لتغيير مواقفها، سواء لضرورة التكيف مع الواقع أو من أجل تقديم تنازلات لأطراف وطنية أخرى أبدت استعدادها للتقارب أو لتحقيق الوحدة النضالية الرامية إلى تقويض أركان الاستعمار في الجزائر.
هكذا، كان الحزب قد اضطر، سنة 1937، إلى رفع شعار "لا اندماج ولا انفصال ولكن دعوة إلى التحرر والتطور" وذلك رغم أن برنامج نجم شمال إفريقيا كان، منذ البداية، دعوة إلى النضال من أجل استرجاع الاستقلال الوطني الكامل والانفصال المطلق عن فرنسا، وفي سنة 1946 تخلت قيادة الحزب عن قناعتها بضرورة مقاطعة الانتخابات ودفعت قواعدها إلى قبول النشاط في إطار ما يسمى بالشرعية الجمهورية.
وسواء كان الحزب في حالة الاضطرار التي يأتي معها التغيير التكتيكي والانحراف أو في حالة الاستقامة التي يتجلى فيها التشبث بالمبادئ والالتزام بالعمل من أجل تحقيق الأهداف المسطورة في النصوص الأساسية، فإن اللجوء إلى الكفاح المسلح قد ظل الملجأ الأفضل لاسترجاع السيادة المغتصبة. وفي جميع الحالات، كانت القيادة العليا تعمل، بوسائل مختلفة، للإعداد والاستعداد.

ب- الواجهة العسكرية أو المنظمة الخاصة
إن المنظمة السرية، كما يسميها بعضهم، لم تظهر إلى الوجود صدفة بل إن جذورها تضرب في أعمق من المؤتمر الثالث لحزب الشعب الجزائري، تغذت من مقررات المؤتمر الثاني ومن الوثيقة التي صادقت عليها بالإجماع قيادة نجم شمال إفريقيا بالإجماع سنة 1927 والتي أشرنا إليها آنفاً. ولقد تعرضنا بإيجاز إلى مراحل إعداد الكفاح المسلح في معالجتنا لفترة الحرب الإمبريالية الثانية.
وعلى إثر أشغال المؤتمر الثالث لحزب الشعب الجزائري، أسندت رئاسة المنظمة الخاصة إلى عضو المكتب السياسي السيد محمد بن الوزداد الذي لم يكن عمره، يومها، قد تجاوز ثلاثة وعشرين عاماً. كان حاصلاً على شهادة البكالوريا وهي شهادة عليا بالنسبة للجزائريين في ذلك الوقت، ويشهد له قادة الحزب ومناضلوه بالذكاء الخارق وبالشجاعة الهادئة والقدرة الفائقة على التنظيم السري وهي صفات كانت قد مكنته، وهو في مستهل الشباب، من أن يكون أحد الإطارات القيادية البارزة التي أعدت لمحاولات الثورة في شهر مايو سنة 1945.
ولئن كانت الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية قد وجدت صعوبات كثيرة في أعمال الهيكلة والتعبئة، فإن المنظمة الخاصة قد تمكنت، في ظرف عام واحد، من تجنيد حوالي ألفي مناضل(96) كلهم من الشباب المؤمن بالعنف الثوري والمخلص لوطنه إخلاصاً لا تشوبه شائبة، ثم زودتهم بتعليم عسكري في إطار حرب العصابات ودربتهم على استعمال الأسلحة الكائنة في سائر المخابئ والمتفجرات بمختلف أنواعها وبعبارة أخرى نستطيع القول "أنها أعدت جيشاً كاملاً ووفرت له جميع الشروط الضرورية للدخول في المعركة. وكان من الممكن أن تندلع الثورة سنة تسع وأربعين لو لم يقعد مرض السل الخبيث محمد بن الوزداد ولو لم تقع ما يسمى بالأزمة البربرية التي ما كانت لتظهر لو لم يكن محمد طريح الفراش في مصحة بوبيني بباريس.
لقد وهب ابن الوزداد حياته كلها للوطن وعاش في سبيل إنجاح العمل الثوري. كان موظفاً بارزاً(97)، عندما انخرط في النظام السري لحزب الشعب الجزائري ثم ترك كل شيء ليصبح واحداً من المحركات الأساسية لحركة مايو الثورية وليتولى، بعدها، مسؤولية إعادة تنظيم الحزب في كامل الشرق الجزائري. وعندما تقرر إنشاء المنظمة الخاصة، أشرف بنفسه على إعداد هيكلتها وتشكيل قيادة أركانها بالتعاون مع بعض أعضاء المكتب السياسي أمثال الدكتور محمد الأمين دباغين الذي نصحه بتجنيد السيد أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد الذي اقترح السيد جيلالي بإلحاح.
ومن الوهلة الأولى، استطاع ابن الوزداد أن يضفي على المنظمة الخاصة طابع السرية والجدية والانضباط، وزودها بقانون داخلي ضمنه جميع الضوابط التي تتحكم في مقومات جيش قوي ومقتدر، بعد ذلك وزع المهام بحيث جاءت قيادة الأركان على النحو التالي:

بالإضافة إلى هذا الرسم، تجدر الإشارة إلى أن كل منطقة تشتمل على عدد من النواحي والناحية مقسمة إلى مجموعة من الفرق، والفرقة إلى عدد من الفروع والفرع إلى عدد من الأفواج وكل فوج مقسم إلى ثلاث مجموعات وتتكون المجموعة من ثلاثة مناضلين وقائدهم والفوج من ثلاث مجموعات وقائدهم.
ويتكون الفرع من ثلاثة أفواج وقائدهم والفرقة من ثلاثة فروع وقائدهم أي من واحد وعشرين ومائة مناضل(98). هذا، وقد عرفت قيادة الأركان ثلاثة تعديلات أساسية بفعل تغيير القائد حيث استمر محمد بن الوزداد إلى غاية مايو سنة 1948 عندما اشتد به المرض ووجه إلى فرنسا للتشافي بمصحة هناك. وبقي خليفته، السيد حسين آيت أحمد، على رأس المنظمة إلى غاية سبتمبر سنة 1949 أما السيد بن بلة، فإنه ظل قائداً للأركان إلى أن ألقي عليه القبض في شهر مارس سنة 1950(99).
ولكي يصبح المناضل عضواً بالمنظمة الخاصة يجب أن ينجح في اجتياز مجموعة من الامتحانات تتعلق بخبرة تكوينه السياسي وشجاعته ومدى استعداده للتضحية في سبيل الله وبسلوكه اليومي وعلاقاته الاجتماعية، وبعد أن يظهر تفوقاً في تلك الامتحانات، يستدعي لتأدية اليمين وتبدأ معه عملية التكوين الميداني مع التركيز على الجانب العسكري.
إن السيد محمد حربي يركز على كون قيادة حزب الشعب الجزائري لم تزود المنظمة الخاصة بالإمكانيات المالية الكافية، ويذكر بهذا الصدد أن ميزانية التسيير حددت في ذلك الوقت المالية بمئة ألف فرنك شهرياً وظلت كذلك إلى غاية شهر ديسمبر سنة 1948".(100) وسار في هذا الاتجاه كل من كتب في الموضوع للتدليل على أن وجود المنظمة الخاصة، سنة 1947، لم يكن سوى صوري. لكن النتائج الملموسة التي تميزت بها تلك السنة تفند كل هذه المزاعم، وتدل، بالعكس، على أن السيد محمد بن الوزداد، زيادة على هيكلة التنظيم وتزويده بالنصوص الأساسية، قد جلب للمنظمة كميات كبيرة، نسبياً، من الأسلحة والذخيرة بجميع أنواعها. وكانت الدفعة الأولى المكونة من ثلاثمائة قطعة سلاح اشتريت من ليبيا قد وصلت إلى وادي سوف بمبلغ إجمالي قيمته مليونا فرنك أي ما يعادل عشرين مرة الميزانية الشهرية التي ذكرها السيد محمد حربي. فميزانية التسيير، إذن، لا علاقة لها بميزانية التجهيز التي يمكن اتخاذها معياراً للتدليل على إمكانيات المنظمة الخاصة المالية. وبديهي أن طابع السرية يحول دون الاطلاع على حقيقة تلك الميزانية.
ومهما يكن من أمر، بالرجوع إلى ما كتبه المعاصرون والمسؤولون في أعلى هرم المنظمة الخاصة، فإن جل الأسلحة التي استعملت ليلة أول نوفمبر 1954 قد اشتريت سواء من ليبيا أو من الجزائر سنة 1947 وكذلك الشأن بالنسبة للتجهيزات الأولية التي كانت منطلقاً لصناعة المتفجرات.
وعندما تولى السيد حسين آيت أحمد قيادة المنظمة لم يغير شيئاً مما وقع الاتفاق عليه، بل اكتفى بتطويره وإثرائه دون أن يحدث أي انقلاب في مجال التركيبة البشرية. وانطلاقاً مما هو موجود أعد تقريره المطول الذي قدمه في زدين والذي سبقت الإشارة إليه. وبالموازاة مع تحضير التقرير الذي كان موجهاً فقط لأعضاء القيادة السياسية، ودائماً بالتعاون مع مساعديه في قيادة الأركان، وتتمة للتربص الذي أشرف عليه محمد بن الوزداد نفسه، فإن آيت أحمد قد أنجز نشرة خاصة بالتدريب العسكري تشتمل على اثني عشر درساً في كيفية استعمال الأسلحة وخوض حرب العصابات وإعداد الكمائن إلى غير ذلك من فنون الحرب التي يحتاج إليها المناضل في مرحلة الكفاح المسلح. وأعدت قيادة الأركان، كذلك نشرة محدودة التوزيع للتكوين السياسي والإيديولوجي.
وفي عهد السيد آيت أحمد، حرصت قيادة الأركان على ألا يكون التدريب نظرياً فحسب، بل ضبطت مجموعة من العمليات التي تكلف بإنجازها عدد من عناصر المنظمة الخاصة. ومما لا شك فيه أن أهم تلك العمليات هي: الهجوم على بريد وهران(101) والقضاء على أفراد من ميليشيا الباشاغا آيت علي(102)، وإسناد الثائرين في جبال جرجرة وايدوغ والأوراس(103)، ونسف تمثال الأمير عبد القادر في كاشرو(104).
كل هذه العمليات نجحت بدرجات متفاوتة، واتخذت منها قيادة الأركان تجارب يمكن توظيف نتائجها في التخطيط لعمليات المستقبل، لكن ما يسمى بالأزمة البربرية أثرت، سلبياً، على مسار المنظمة الخاصة إذ حرمتها من خدمة عدد من إطاراتها القيادية الذين يأتي السيد حسين آيت أحمد في مقدمتهم.
وإذا كانت تحركات المنظمة الخاصة إلى غاية انتهاء سنة 1949 تنم، في معظمها، على أن الاستعداد للثورة التحريرية تجري على أحسن ما يرام، ولم تتسبب للحزب في مشاكل تذكر، فإن عملية تبسة التي أمرت بها قيادة الأركان ليلة التاسع عشر مارس سنة 1950 قصد إلقاء القبض على المناضل عبد القادر خياري المدعو "رحيم"(105) للتحقيق معه في التهمة الموجهة إليه والقائلة إنه عميل لمصالح الأمن الاستعمارية قد أدت إلى اكتشاف التنظيم السري ومكنت الشرطة الفرنسية من القبض على حوالي خمسمائة من أعضاء المنظمة الخاصة(106) بما في ذلك قائد الأركان السيد أحمد بن بلة وبعض مساعديه أمثال جيلالي بلحاج وجيلالي رقيمي وحموبوتليليس وأحمد محساس وأمحمد يوسفي.
إن ما يسمى بالأزمة البربرية هي التي، بطريقة أو بأخرى، أضعفت المنظمة الخاصة وحولتها، بالتدريج، من تنظيم صلب اقترب جداً من الكمال الذي يمكنه من إشعال فتيل الثورة إلى كيان هش ينخر السوس أصوله؛ وعلى هذا الأساس نستطيع القول إن الإدارة الاستعمارية التي خططت لتشتيت وحدة الشعب الجزائري قد نجحت إلى أبعد الحدود، إذ لم تكتفِ بتوجيه ضربات قاضية لصفوف حزب الشعب الجزائري ولكنها تمكنت من تحقيق ما هو أخطر، أي زرع بذور الكراهية والحقد بين أبناء شعب واحد ليس له سوى وحدته للخروج من دائرة التخلف وليحتل المكانة اللائقة به في مصاف الشعوب الحرة والمتقدمة.
هكذا، إذن، عاشت المنظمة الخاصة ثلاث سنوات كاملة استطاعت قيادة الأركان في العامين الأول والثاني أن ترسي قواعد آلة حربية قوية قادرة على نقل النضال الوطني إلى مرحلة العنف الثوري، لكن ذلك لم يحدث ليس لأن الظروف الخارجية لم تكن مواتية كما جاء في كتاب السيد ابن يوسف بن خدة(107) الذي لم يأخذ في الاعتبار أوضاع فرنسا التي لم تكن، هي أيضاً، في نفس القوة التي أصبحت عليها سنة 1954، وإنما لأن الإدارة الاستعمارية تمكنت، بشتى الوسائل، من خرق القيادة السياسية لحزب الشعب الجزائري ودس بعض العناصر المترددة فيها، ولأنها، من جهة أخرى، أحكمت التخطيط لما يسمى بالأزمة البربرية التي كان تفجيرها إيذاناً بالشروع في تفجير الحزب.
التصدي لمحاولات التفجير:
بعد فشل عملية تبسة، تمكنت الإدارة الاستعمارية من العثور على الأدلة والبراهين المادية التي تثبت وجود تنظيم عسكري تابع لحزب الشعب الجزائري، وبواسطة شتى أنواع التعذيب التي تعرض لها المعتقلون الأوائل توصلت مصالح البوليس، بالتدريج وفي ظرف شهرين فقط، إلى نتائج فاقت كل التوقعات وقادت، بالفعل، إلى شل المنظمة الخاصة واعتقال المئات من إطارتها ومن مناضليها كما أشرنا إلى ذلك.
ولمواجهة كل تلك المستجدات وحماية صفوف الحزب من أن تنتقل إليها حملة الاعتقالات قرر المكتب السياسي التحرك على جبهتين. فمن جهة نظم حملة إعلامية لاتهام السلطات الاستعمارية بأنها تحيك خيوط مؤامرة دنيئة من أجل التنكيل بمناضلي الحركة الوطنية، وتدعيماً لصحافة الحزب، وقع تجنيد سائر منتخبي الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية الذين وظفوا كل المنابر الرسمية للتنديد بالاعتقالات وبعمليات التعذيب. إن هذه الجبهة قد حققت انتصاراً ملموساً إذ تمكنت من أن تعبئ عدداً من الصحف والشخصيات الأوربية التقدمية بالإضافة إلى التشكيلات السياسية الجزائرية التي شاركت بفعالية في التصدي للإجراءات البوليسية التي اتخذتها الإدارةالاستعمارية(108).
أما الجبهة الثانية التي تحرك عليها المكتب السياسي فتتعلق بالعمل في اتجاه المعتقلين قصد إقناعهم بالتراجع عن تصريحاتهم الأولى وعدم الاعتراف بوجود المنظمة الخاصة. ولقد وجد الحزب صعوبة كبيرة في تمرير هذه الأوامر، لأن عدداً من إطارات المنظمة الخاصة كانوا يرون فيها محاولة من القيادة السياسية للتخلص منهم حتى يخلو لها الجو فتركن إلى الراحة في إطار لعبة المشاركة في الانتخابات. وفي شهر مايو قرر المكتب السياسي حل المنظمة الخاصة على أن يعاد تشكيلها بعد أن تهدأ الأوضاع.
وفي خضم تلك النشاطات السياسية المكثفة تبلور تفسير جديد للأسباب التي قادت إلى تفكيك المنظمة الخاصة بتلك السرعة وتلك السهولة. صاحب هذا التفسير هو السيد حسين لحول الذي نبه قيادة الأركان موجهاً أصابع الاتهام إلى جيلالي بالحاج عبد القادر الذي ألقي عليه القبض في مستهل شهر مارس ثم أطلق سراحه، وأكد لها ضرورة الاحتياط مما يكون قد أدلى به لصالح البوليس الفرنسي. إن مثل هذه المعلومة تخفف من مسؤولية المجموعة التي أنجزت عملية تبسة، لأن جيلالي بالحاج كان مسؤولاً وطنياً والمعلومات التي بحوزته تشمل كافة أنحاء الوطن، ونحن نعرف أن الاعتقالات مست سائر أنحاء البلاد، وأن السيد جيلالي، بعد خروجه من السجن، اعتزل النشاط السياسي، وفي أثناء الثورة تحول إلى عميل للاستعمار وأسس جيشاً لمحاربة جبهة التحرير الوطني لكن الولاية الرابعة استطاعت أن تخرق صفوفه وأن تؤلب عليه أنصاره الذين تمكنوا منه وقتلوه في نواحي الشلف سنة 1958.
على الرغم من الانتصارات التي حققها المكتب السياسي على الجبهتين المشار إليهما أعلاه، فإن حزب الشعب الجزائري قد تعرض لكثير من الهزات التي أربكت صفوفه وأضعفت مكانته بسبب اكتشاف المنظمة الخاصة، وكانت أكثر الهزات تأثيراً على مسار الحزب ومستقبله مايلي:
أ - الامتثال للقضاء الاستعماري: فاكتشاف المنظمة الخاصة وما تبع ذلك من اعتقالات وتعذيب قاد بالضرورة إلى حصول قوات البوليس الفرنسي على معلومات ضافية بشأن العمليات التي أنجزت خلال الأشهر السابقة، ومن جملة ما أكدته تلك المعلومات مشاركة النائب البرلماني السيد محمد خيضر في عملية بريد وهران وهو ما جعل الإدارة الاستعمارية تطالب بتجريده من الحصانة البرلمانية. وبينما كانت الإجراءات في حيز التنفيذ وقع خلاف داخل القيادة السياسية لحزب الشعب الجزائري حول معقولية أو لا معقولية الاستجابة للاستدعاء الذي يوجهه القضاء الاستعماري لكادر قيادي. أما المكتب السياسي فلم يكن يرى مانعاً من أن يمثل السيد محمد خيضر أمام القضاء إذا رفعت عنه الحصانة البرلمانية. لكن السيد الحاج مصالي عارض الرأي لما فيه من اعتراف بالسيادة الفرنسية ودعا إلى دورة طارئة للجنة المركزية في سبتمبر 1950 فوافقته بالأغلبية الساحقة. غير أن المكتب السياسي ومباشرة بعد اجتماع اللجنة المركزية، تجاوز قرار القيادة العليا وطلب من السيد محمد خيضر البحث عن الأعذار والحجج، الأمر الذي أثار غضب بعض أعضاء اللجنة المركزية الذين أستأذنوا رئيس الحزب وتولوا تسفير المعني إلى القاهرة حيث سيتولى تمثيل حزب الشعب الجزائري في المشرق العربي.
ب - سراب التحالف الانتخابي:
لقد كان اكتشاف المنظمة الخاصة وما تبع ذلك من اعتقالات سبباً كافياً ليعود دعاة الشرعية في قيادة حزب الشعب الجزائري إلى المطالبة بضرورة التخلي عن كل أنواع العنف. ويعتبر مثل هذه الموقف تنكرا صارخاً لبرنامج الحزب ودعوة صريحة لممارسة سياسة الإصلاح على حساب التوجه الثوري الذي بدأ مع تأسيس نجم شمال إفريقيا، وكان الحاج مصالي بالمرصاد لأصحاب تلك الفكرة واستطاع أن يجر معه أغلبية أعضاء اللجنة المركزية، لكن الصراع ظل قائماً واتخذ منعرجاً خطيراً مع بداية سنة 1951، خاصة عندما تحركت في هذا الاتجاه بالذات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري. فهاتان التشكيلتان الوطنيتان قد تدخلتا بقوة لإقناع الثوريين من قيادة حزب الشعب الجزائري على مراجعة سياستهم قصد المشاركة في تكوين تحالف انتخابي(109).
ولتحقيق التحالف المذكور اشترط ممثلو التشكيلتين المذكورتين على الحاج مصالي "أن يضع حداً لثوريته كي يتحول إلى رجل سياسي"(110). وأن تلتزم الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية بإدانة كل عمل ثوري وإرهابي وقع أو قد يقع والتخلي عن أي مسعى في اتجاه الأمم المتحدة والجامعة العربية وبقطع جميع العلاقات مع حزبي الدستور الجديد والاستقلال بالإضافة إلى الإعلان عن حل حزب الشعب الجزائري.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالأحد ديسمبر 05, 2010 12:19 am

إن هذه الشروط التي رفضها الحاج مصالي بلا تردد وبدون أدنى مناقشة، قد وجدت قبولاً وتأييداً لدى مجموعة من أعضاء اللجنة المركزية(111).يقودها عضو المكتب السياسي السيد: شوقي مصطفاي الذي يذكر السيد أحمد بودة أن رئيس الحزب استدعاه وذكره بمقررات المؤتمر ثم قال له: "إن رفاقنا يحاكمون لقيامهم بأعمال ثورية، ألاتدرك أننا ندينهم ونتخلى عنهم بالاستجابة لشروط جماعتك."(112). وأمام هذا الموقف الصارم قرر مصطفاي ومن معه الخروج من الحزب، وكان ذلك إيذاناً ببدء الصراع في داخل اللجنة المركزية على أساس إيديولوجي وبمرور الوقت وبالتدريج سيصبح واحداً من الأسباب التي تقود الحزب إلى الانفجار. أما النتيجة المباشرة فكانت حل اللجنة المركزية وتعيين مجموعة من الإطارات القيادية ترعى نشاط الحزب وتعد تشكيلة اللجنة المركزية الجديدة (113) التي نصبت في شهر أغسطس آب سنة 1951.
وبعد التجديد، ظن الحاج مصالي أنه حيد خصوم التوجه الثوري واطمأن على مصير الحزب فتوجه إلى فرنسا يتفقد القواعد النضالية ويجدد الاتصال بالمهاجرين الجزائريين، ومن هناك أخذ طريق المشرق العربي بحثاً عن المساعدات المالية التي تمكن من التعجيل بإشعال فتيل الثورة. وعكس ما يدعيه السيد محمد حربي (114)، فإن زيارة البلدان العربية قد حققت عدداً من النتائج الإيجابية جعلت رئيس الحزب يستدعي السيد حسين آيت أحمد بمجرد عودته إلى باريس ويطلب منه إعداد مخطط لإعادة تنظيم المنظمة الخاصة، وفي نفس الوقت، ودائماً من باريس، اتصل بالسيد ابن يوسف بن خدة وأمره بانتقاء مجموعة من المناضلين قصد إرسالهم إلى القاهرة يتكونون عسكرياً(115)، لقد كان من المفروض أن يزور الحاج مصالي كل الأقطار المستقلة في الوطن العربي لكن الدورة السادسة للأمم المتحدة التي انعقدت في Chantilly من يوم 06 نوفمبر 1951 إلى يوم 10 فبراير/ شباط فرضت عليه العودة إلى فرنسا ليتمكن من التعريف بالقضية الجزائرية في أوساط الوفود المشاركة في تلك الدورة. لم يكن زعيم حزب الشعب الجزائري يدرك أن غيابه كل تلك المدة قد ترك الفراغ لمناهضي العنف الثوري، يجذرون أفكارهم لدى قسم واسع من أعضاء اللجنة المركزية الذين أصبحوا، بالفعل،يميلون إلى تحقيق التحالف مع التشكيلات الوطنية الأخرى في إطار النشاط السياسي كما تريده قوانين الجمهورية الفرنسية.
هكذا، وفي غياب الحاج مصالي، تأسست الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها(116) بهدف النضال في سبيل حماية الحريات الديموقراطية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإلغاء الإجراءات الاستبدادية بجميع أنواعها. تكونت هذه الجبهة من الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والحزب الشيوعي الجزائري والحركة من أجل انتصارالحريات الديموقراطية. وكان من الممكن أن تقوم هذه الهيأة بدور أساسي في تحقيق تحالف فعلي بين كل أطراف الحركة الوطنية، لكن الأهداف التي ضبطتها لنفسها كانت كلها نظرية مشوبة بكثير من الغموض، كان ذلك، في نظرنا، طبيعياً لأن المنطلقات الإيديولوجية كانت متباعدة وأحياناً متناقضة خاصة بالنسبة لطرفي النقيض: الحزب الشيوعي وحزب الشعب الجزائري ممثلاً في الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية.
وعندما عاد الحاج مصالي إلى أرض الوطن، اجتمعت اللجنة المركزية للحزب في منتصف شهر مارس سنة 1952 ولدى تقييمها للنتائج التي حققتها الجبهة الجزائرية وافقت، بأغلبية ساحقة، على أن التحالف الذي لا يهدف إلى استرجاع السيادة الوطنية لا مآل له سوى الفشل وحددت أيام (12-13) ولا (14 يوليو/تموز 1952)، لانعقاد المؤتمر الرابع لحزب الشعب الجزائري من أجل تقييم المراحل المقطوعة وإثراء برنامج الحزب على ضوء المتغيرات الجديدة ووضع الاستراتيجية الضرورية والملائمة لإنجاز المرحلة الجديدة.
إن السيد ابن يوسف بن خدة الذي كان أميناً عاماً للحزب رأى أن الحاج مصالي، "بدلاً من مشاركة اللجان المختصة التي عينتها اللجنة المركزية لإعداد مشاريع النصوص التي تقدم للمؤتمر، وعوضاً عن الاهتمام بالمشاكل التي يعاني منها الحزب في المجالين المادي والبشري، فإنه قرر القيام بجولة عبر مختلف أنحاء البلاد رغم كل ماكان يمكنه أن ينجر عن ذلك من إجراءات العسف الإدارية. لكن الحاج مصالي الذي كان يدرك ما للاتصال المباشر بالجماهير الشعبية من بالغ التأثير على التعبئة والتجنيد، فإنه تجاوز رغبة أعضاء المكتب السياسي وشرع منذ الخامس عشر /أفريل/ نيسان سنة 1952 في زيارة الشرق الجزائري محدثاً بذلك وضعاً نضالياً جديداً جعل عامل عمالة قسنطينة يتخذ قراراً بطرده بعد أسبوع واحد فقط من بدء الجولة، ولم يبق في بوزريعة طويلاً حتى أخذ طريق الغرب الجزائري عبر الصومعة والبليدة وقصر الشلالة ومليانة والشلف التي وصلها يوم 14 مايو سنة 1952 وعلى الرغم من أنه في كل محطة كان يحرض الجماهير على الاستعداد لخوض معركة التحرير، فإن الإدارة الاستعمارية قد اختارت المحطة الأخيرة لاختطافه ونفيه إلى فرنسا حيث وضع في الإقامة الجبرية بمدينة نيورت Niort وقد كانت مدينة الشلف هي آخر بقعة في الجزائر تدوسها أقدامه لأنه سيظل منفياً وممنوعاً من العودة إلى أهله وذويه إلى أن وافته المنية سنة 1974.
المؤتمر الرابع وبوادر الانقسام:
لقد أدى نفي الحاج مصالي إلى تأجيل تاريخ انعقاد المؤتمر، وبعد كثير من الأخذ والرد ومشاورات بين أعضاء المكتب السياسي ورئيس الحزب وقع الاتفاق على أيام 4-5 و6 أفريل سنة 1953، وسبق ذلك مؤتمرات جهوية في كل من العاصمة وقسنطينة ووهران وتيزي وزوأشرف عليها السيدان حسين لحول وعبد الحميد سيدعلي. أما أشغال المؤتمر الرابع فقد جرت بمقر الحزب في رقم 2 شارع عمار القامة (شارتر سابقاً) وشارك فيها حوالي مائة مندوب يمثلون القواعد الحزبية والمنتخبين وسائر المنظمات الجماهيرية.
يذكر السيد ابن يوسف بن خدة (117)، أن المناقشات اتسمت بحرية مطلقة وكانت، في كثير من الأحيان، قاسية على المكتب السياسي الذي تعرض لهجومات متعددة من أجل أعضاء اللجنة المركزية ومن رئيس الحزب ذاته وفي الجلسة الاختتامية صادق المؤتمرون على لائحةعامة(118) أكدت على أن الحزب تعرض، منذ سنة 1947، لتأثير عوامل داخلية وخارجية تسببت في ظهور نواقص يتحتم التصدي لها خاصة في الميادين التالية:
1 - في المجال الإيديولوجي حيث لابدمن بلورة التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية انطلاقاً من المبادئ الآتية:

أ - الديموقراطية التي تجعل الشعب مصدراً للسيادة وشعارها بالشعب وللشعب.
ب- النظام الجمهوري.
ج - الازدهار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية بواسطة إعادة تنظيم الفلاحة والإصلاح الزراعي وإنشاء صناعة تأخذ في الاعتبار إمكانيات الجزائر الحقيقية وضرورة تأميم وسائل الإنتاج الكبرى والتنسيق والتكامل بين اقتصاديات بلدان المغرب العربي.
د - رفع مستوى المعيشة بواسطة الازدهار الاقتصادي والتوزيع العادل للدخل الوطني وحرية العمل النقابي.
هـ - إجبارية التعليم وترقيته مع محاربة الأمية وجعل الثقافة الوطنية ملتحمة بالثقافة العربية الإسلامية.
2 - في المجال العقائدي حيث ينبغي تحديد الوطنية والثورية الجزائريتين وضبط وسائل الكفاح ومناهج العمل مع التركيز على بلورة الطابع الدفاعي والتحريري والديموقراطي للوطنية الجزائرية وعلى توضيح مبادئ العمل الثوري التي هي واقعية وليست يسارية.
3- في المجال الاستراتيجي والتكتيكي حيث يوجد تحديد الأولويات والتحالفات في التعامل مع جميع القضايا.
4 - في المجال السياسي حيث لابد من تزويد الحزب بالوسائل المادية والبشرية التي تمكنه من تأدية دور فعال في الميدانين الداخلي والخارجي. أما خارجياً فيجب الالتزام بالحياد اليقظ وتمتين العلاقات الودية مع البلدان العربية والآسيوية وكذلك استئناف العمل في سبيل وحدة شمال إفريقيا. وأما داخلياً. فإن الحزب مطالب بالالتحام بالجماهير الشعبية قصد إشراكها في العمل النضالي وبالسهر أكثر على تربية المناضلين ورفع مستواهم الثقافي بالإضافة إلى انتهاج سياسة حكيمة للكادر. رفعت كل مقررات المؤتمر إلى رئيس الحزب من طرف أعضاء اللجنة (119) التي انتخبها المؤتمر لتتولى تشكيل اللجنة المركزية كما هو المعتاد.
ويذكر السيد ابن يوسف بن خدة أن اللجنة المركزية تشكلت في مستهل شهر مايو 1953، ثم ظلت تنتظر اقتراح الرئيس بترشيح الأمين العام الجديد إلى غاية يوم 04/07/1953 (120) حيث كلف السيد مولاي مرباح بنقله وتضمن إمكانية الاختيار بين كل من لحول وابن خدة ومزغنة. وبما أن السيد حسين لحول عبر عن تنازله حتى يبقى منسجماً مع قرار استقالته، فإن التنافس قد وقع بين السيدين مزغنة وابن خدة الذي لم ينتخب إلا في الدور الثاني.
ومباشرة بعد الانتخاب كون الأمين العام الجديد قيادة جماعية اعترف، بعد أربعين سنة، أنه أخطأ خطأً فادحاً عندما لم يضمنها مولاي مرباح وأحمد مزغنة اللذين كانا يحظيان بثقة الرئيس المطلقة(121)، هذا التصرف الذي لم يكن مقصوداً منه سوى ضمان الفعالية للحزب هو الذي كان السبب المباشر في تفجير الأزمة بين الحاج مصالي وقيادة اللجنة المركزية. فالسيد مصالي رأى في ذلك الإجراء محاولة لعزله خاصة وأن لجنة الترشيحات كانت قبل ذلك، قد استبعدت من عضوية اللجنة المركزية كلاً من السادة: فيلالي، محفوظي، وعبد اللي الذين تبنى هو شخصياً ترشيحهم؛ هذا بالإضافةإلىأنه لاحظ في برنامج العمل المقدم إليه من طرف السيد ابن خدة مجموعة من المشاريع التي كانت اللجان المركزية المختلفة قد رفضتها بإيعاز منه مثل المؤتمر الوطني الجزائري وسياسة التعاون بين المجموعتين الأولى والثانية على المستوى البلدي (122) لأجل ذلك كله تجاوز الأمانة العامة والمكتب السياسي وطلب من اللجنة المركزية السلطة المطلقة قصد تقويم الحزب وإصلاح ماقد تسرب إليه من الفساد؛ لكن اللجنة المركزية رفضت الاستجابة لرغبة الزعيم وبذلك دفعته إلى إعلان الحرب عليها متهماً بعض أعضائها أمثال السيد عبد الرحمن كيوان بالعمالة لجاك شوفالي الذي كان يقود جوق الإدارة الاستعمارية.
لقد قررت اللجنة المركزية رفض السلطة المطلقة لرئيسها في شهر سبتمبر سنة 1953، وبعد ذلك بشهرين فقط، كان الحاج مصالي قد جند لصالحه كافة قسمات فدرالية فرنسا ثم كلف رجاله المخلصين وفي مقدمتهم مبارك فيلالي لتعميم مواقفه على القواعد الحزبية في داخل الوطن. وبمناسبة الذكرى السابع عشرة لتأسيس حزب الشعب الجزائري وجه نداء مباشراً إلى المناضلين يدعوهم، من خلاله، إلى التمرد على "الباشاوات" وقد فعل ذلك بعد أن قام في شهر يناير/كانون الثاني سنة 1954 بسحب ثقته من الأمين العام ومن المكتب السياسي بأكمله، وبعد أن أسس "لجنة الإنقاذ العمومية"، وأمر كل قسمات الحزب بأن تجمد الأموال وتقطع علاقاتها مع المكتب السياسي وبأن تتعامل فقط مع مولاي مرباح وأحمد مزغنة اللذين يمثلانه شخصياً.
من هذا المنطلق، وخوفاً من أن تؤدي الأزمة إلى القضاء النهائي على حزب الشعب الجزائري وما يجسده من آمال وطموحات شرعية، قام عدد من الإطارات بتأسيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل. وقع ذلك في مدرسة الرشاد في النصف الثاني من شهر مارس(124)، وتعهد المؤسسون على أن يبذلوا قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ على القوى الحية في صفوف الحزب وتوفير الشروط الملائمة لعقد مؤتمر وطني يضع حداً للخلاف ويعيد القطار إلى السكة.
كانت اللجنة الثورية للوحدة والعمل مشكلة من أعضاء من اللجنة المركزية مثل حسين لحول وسيد علي عبد الحميد ومصطفى بن بولعيد وبشير دخلي ومن مسؤولين سابقين في المنظمة الخاصة مثل محمد بوضياف ومراد ديدوش ورابح بيطاط ومحمد العربي بن مهيدي. وبدأت نشاطها في اتجاه القواعد النضالية مستعملة جريدة "Le patriote" لشرح وجهة نظرها ولتعميم الفكرة التي تنوي تحقيقها؛ وعندما ارتفعت أصوات المصاليين متهمة المولود الجديد بالتحيز للجنة المركزية، انفصل أعضاء المنظمة الخاصة وراحوا يحضرون لإشعال فتيل ثورة أول نوفمبر، وكانت بداية التحضير بتأسيس ما قد اصطلح على تسميته بجماعة الاثنين والعشرين.


  الهوامش:
(1) أنظر خاصة:
Kaddach (Mahfoud), Histoire du Nationalisme Algérien , Question Nationale et politique Algérienne 1919-1951 TII P. 756
- Harbi (Mohamed ), Le FLN Mirage et réalité, Paris, jeune Afrique 1980,p.34.
(2) انخرط في صفوف نجم شمال إفريقيا سنة 1933، عضو اللجنة المديرة ثم عضو المكتب السياسي واللجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري 1937-1954.
(3) Mesban (Med Chafik ), Idéologie politique et Mouvement National en Algérie 1936-1956, Alger 1981.p.166.
(4) نفس المصدر، ص 165، علماً بأن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد افتتح مؤتمره الأول بذلك التاريخ أيضاً.
(5) المقصود هنا هي ثورة مايو 1945 التي تقرر إشعال فتيلها ليلة الرابع والعشرين من مايو ثم أعطي أمر مضاد بسبب وحشيةالقمع الذي سلطته السلطات الاستعماريةعلى سكان الشرق الجزائري خلال الأسبوعين الأول والثاني من ذات شهر.
(6)مع الإشارة إلى أن العدد صدر في يوليو Oct 194 “La nation Algérienne
(7) نفس المصدر.
(Cool القائمة التي ترأسها السيد الحاج مصالي كان شعارها "من أجل تحرير الشعب الجزائري"، ولما رفضتها الإدارة الاستعمارية لهذا السبب ولغيره، اقترح السيد إبراهيم معيزة أن يستبدل بالحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية وعندها ترأس القائمة كل من محمد خيضر وأحمدمزغنة وعلى الرغم من أن الرجلين سجنا عدة مرات قبل ذلك التاريخ، فإن القائمة لم ترفض.
(9) كانت قائمة وهران برئاسة السيد حسين لحول وعضوية السيدين محمد معشاوي والهواري سويج أما قائمة سطيف فكان على رأسها السيد عبد الله فيلالي. وماتجدر ملاحظته هنا، هو أن حزب الشعب الجزائري كان قد قضى على الروح الجهوية ليس بالنسبة للمناضلين فقط ولكن حتى في أوساط الجماهير الشعبية. دليلنا على صحة ما نقول عمل الإطارات وترشحهم في غير مسقط رأسهم.
(10) مصباح، ص :166.
(11) دخل حزب الشعب الجزائري معركة الانتخابات في دائرتين من قسنطينة كان التنافس فيهما على خمسة مقاعد، نال ثلاثة منها. وفي دائرة العاصمة، حاز مقعدين بينما فاز ممثلو الإدارة بثلاثة.
(12) في دائرة سطيف انتخب الشريف جماد عن الشيوعيين وابن علي الشريف عن الإدارة وفي دائرة وهران انتخب المكي بن رزوق والعربي غلام اللّه عن الإدارة، ومحمد مختاري عن الحزب الشيوعي بينما لم يسمح لحزب الشعب الجزائري بتقديم مرشحيه في الدائرتين بحجة عدم قابليتهم للانتخاب حيث سبق أن سجنوا لأسباب سياسية.
(13) منشور حزب الشعب الجزائري المحفوظ بأرشيف مركز الدراسات العليا حول إفريقيا وآسيا في باريس بفرنسا (انظر ملف توبير).
(14) على عكس مايزعم غيرنا من أن ذلك كان هوالمؤتمر الأول للحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية فالمؤتمر الأول والتأسيسي انعقد في نفس الوقت يوم 11/03/1937 ثم انعقد المؤتمر الثاني يوم 24 يوليو سنة 1938 وهو المؤتمر الذي قرر إنشاء اللجنة الخضراء التي أشرفت على تأسيس لجنة شمال إفريقيا للعمل الثوري.
(15) تلك هي فترة الحظر الذي ظل مفروضاً على حزب الشعب الجزائري. أما الشهادات التي اعتمدناها فهي على التوالي:
أ - لقاء مطول أجريناه مع السيد أحمد بودة بتاريخ 14/07/1982.
ب - ثلاثة لقاءات مع السيد مسعود بوقادوم أيام 6-7-8 و9 فيفري سنة 1982 عندما كنا نعد كتابنا: الثورة الجزائرية في عامها الأول.
ج - لقاء مع السيد حسين لحول بيوم 18/04/1984.
(16) بدأ المؤتمرون أشغالهم في بوزريعة بمنزل المناضل مهدي عماري وفي اليوم الثاني انتقلوا إلى حي بلكور (بلوزداد حالياً) حيث اختتموا أشغال مؤتمرهم في مصنع للمشروبات الغازية تابع للمناضل مولود أم العين.
(17) لقاؤنا مع السيد أحمد بوده بتاريخ 14/07/1982.
(18) يقول السيد مسعود بوقادوم أن تعيين اللجنة جاء بعد أن رفض المؤتمرون إسناد المهمة لرئيس الحزب وحده وتتكون هذه اللجنة من السادة: الحاج مصالي، الأمين دباغين، حسين لحول، مسعود بوقادوم، عبد الله فيلالي وأحمد بوده (لقاؤنا مع السيد بوقادوم بتاريخ 18/04/1995).
19- Benkhedda (Benyoucef), Les Origines du Ler Novembre 1954, Alger 1989. p128.
20- Ait Ahmed (Hocine) , Mémoires d’un combattant, l’esprit d’indépendance, Paris 1983, p99.
(21) ابن خدة، المصدر السابق، ص 129 وبوقادوم (لقاؤنا المشار إليه آنفاً). أما أعضاء المكتب السياسي المتفق عليهم فهم على التوالي: الحاج مصالي، حسين لحول، محمد الأمين دباغين، أحمد بوده، محمد بلوزداد، حسين آيت محمد، أمحمد بن سهل، مبارك فيلالي، شوقي مصطفاوي، مسعود بوقادوم محمد خيضر وأحمد مزغنة.
(22) حزب جبهة التحرير الوطني، الطريق إلى نوفمبر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر بدون تاريخ ص 31، وما بعدها وكذلك الدكتور محمد العربي الزبيري، الثورة الجزائرية في عامها الأول، دار البعث قسنطينة 1984، ص 78 ومابعدها...
(23) المنار، جريدة سياسية ثقافية، دينية حرة،من عددها الأول الصادر بتاريخ 29/03/1951 إلى عددها 51 الصادر بتاريخ فاتح جانفي سنة1954.
(24) لقد وقع خطأ مطبعي في كتابنا: الثورة الجزائرية في عامها الأول إذ جاء في الصفحة 75 أن تاريخ الحل كان يوم 26/07/1939.
(25) وضعت هذا المشروع حكومة السيد جورج بيدو التي دامت من شهر جوان إلى شهر نوفمبر 1946.
(26) حديثنا مع الدكتور محمد الأمين دباغين (28 أكتوبر 1967).
(27) انظر مداولات المجلس الوطني الفرنسي بتاريخ 20/08/1947.
(28) نفس المصدر.
(29) علماً أن المجلس الوطني الفرنسي صادق على قانون الجزائر التنظيمي بتاريخ (20/09/1947)، أي بعد انعقاد المجلس الوطني بأسبوعين أما نتائج الانتخاب فكانت كالآتي: 325 ضد 86 وامتناع النواب الشيوعيين الذين كان عددهم 163 وكذلك الجزائريين الذين كان عددهم 17.
30- Kaddach (Mahfoud), Histoire du Nationalisme Algérien, Question Nationale et politique Algerienne 1919-1951 T II Agler 1980 p 781.
(31) تشكيل اللجنة المديرة كما نشرتها جريدة المغرب العربي في عددها الصادر بتاريخ 15/09/1947 هي كالآتي: أحمد مزغنة، رئيساً- أحمد غرسي، نائبا أول- الصادق سعيدي، نائبا ثان للرئيس، حسين لحول ، أميناً عاماً - محمد خيضر وخليفة بن عمار، نائبين للأمين العام ، عيسى العبد اللي ، أميناً للمال، محمد مستول، نائباً لأمين المال- الأعضاء الشاذلي بن عثمان، مسعود بوقدوم، جمال دردور، محمد الأمين دباغين، سويح الهواري.
(32) انظر كل اللوائح في كولو، ص 262، ومابعدها.
(33) انظر نص الرسالة في عدد المغرب العربي الصادر بتاريخ 13/10/1947.
34 - UDMA, Résolution de Politique générale volée par le congrés “Egalité” du 10-10-1947.
(35) نفس المصدر.
(36) الجزائر الجمهورية، عددها الصادر بتاريخ 16/10/11947.
(37) أهم هذه الشعارات هي: "مع أوضد النظام الاستعماري" - "مع الأمة الجزائرية أو ضدها"- "مع قانون الجزائر التنظيمي أو ضده- "مع المجلس التأسيسي الجزائري أو ضده".
(38) الحرية، عددها الصادر بتاريخ 23/10/1947.
(39) هونائب قسنطينة السيد روني مايير الذي أشرنا إليه في دراستنا عن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري.
(40) انظر نص القانون مترجماً في كتابنا: الثورة الجزائرية في عامها الأول، الملحق
رقم 5.
(41)أسسه الجنرال ديغول سنة 1947 للقضاء على نظام الأحزاب ولتدعيم السلطة التنفيذية في فرنسا.
(42) "الجمهورية الجزائرية" عددها الصادر بتاريخ 12/03/1948؟
43 - Naegelen (Marcel Edmond), Mission en Algérie , Paris, 1965,p34.
(44) حديثنا مع السيد مسعود بوقادوم في بيت السيد محمد الصالح بوسلامة بتاريخ 22/04/1994.
(45) الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، اللجنة المركزية للإعلام والتوثيق "انتهاكات حرية الانتخاب"، ص: 99.
(46) نفس المصدر.
47 - Echo d’ Algér , du 5 avril 1948.
48 - Echo d’ Algér , du 22/23 mars 1948.
(49) لقاؤنا مع السيد فرحات عباس في بيته بتاريخ 28/04/1982.
(50) محفوظ قداش، ص: 804.
(51) آخرون، ص 589.
52 - Harbi (Med) Aux origines du FLN le populisme révolutionnaire en Algérie , Paris 1975,, p35.
53 - Benkhedda (Benyoucet) , Les Origines du lex novemgre 1954 Edition Dahab , Alger 1989, p 169.
(54) نفس المصدر

(55) كان السيد كريم، في ذلك الوقت، قد عين حديثاً للإشراف على ولاية الحزب التي تشمل كافة المنطقة.
56 - Hamdan (Amar ) Krim Belkacem, Le Lion des Djebels, Alger1993, p103.
(57) كان المسمى رشيد علي يحيى هو الأكثر تمثيلاً لتلك العناصر. فقد كان من أسرة متجنسة وكان تكوينه فرنسياً بحتاً. وعلى الرغم من أنه لم يكن مناضلاً، فإن واعلي بناي عضو اللجنة المركزية وأحد مسؤولي المنظمة الخاصة بمنطقة القبائل، قد كتب من سجنة إلىمسؤول التنظيم أحمد بوده يوصيه بإرساله إلى فرنسا حيث شارك في أشغال مجلس فيدراليتها المنعقد في نوفمبر 1948 واستطاع أن يكون به عضواً بارزاً.
(58) مصباح ، ص : 179.
59 - L’Etoile Algérienne 20 Fevrier 1949.
(60) كاتب وسياسي فرنسي (1809-1859)، زار أمريكا سنتي (1831-1959)، وألف عن "الديموقراطية في أمريكا"- وفي سنة 1956 كتب "العهد القديم والثورة" عين وزيراً للخارجية سنة 1949.
(61) عاش مابين (1832 و1893 درس الحقوق ثم مارس المحاماة واشتغل بالسياسة. عين رئيساً لبلدية باريس يوم 16/11/1870 وفي سنة 1880 عين رئيساً للحكومة وبالموازاة احتفظ بوزارة التعليم العمومي التي وظفها إلى أقصى الحدود في سبيل ترقية الشعب الفرنسي وإرساء قواعد الاستعمار كان في أساس قوانين ذات أهمية بالغة مثل قانون حرية الاجتماع (يونيو 1881)، حرية الصحافة (يوليو 1881)، مجانية التعليم وإجباريته ثم لائكيته (1881-1882).
(62) شفيق مصباح، ص 184.
63 - Harbi (Med) L’algérie et son destion croyant ou citoyens. Paris 1992.
[ 74.
(64) شفيق مصباح، 184.
65 - Ageron (Charls Robert ). La France at - elle eu une politique kaby le “in Revue Historique, n454. 1960, p . 326.
(66) علىغرار ذلك كان المتآمرون يهدفون إلى تأسيس حزبين آخرين هما: حزب الشعب الشاوي PPC وحزب الشعب الميزابي PPM ، لكن يقظة المناضلين حالت دون تنفيذ هذا المشروع الذي يدل دلالة قاطعة على أن التآمر خارجي وهو يهدف إلى تقسيم الجزائر قصد إبقائها تحت نير الاستعمار مهما كان شكله.
(67) شفيق مصباح، ص 188.
(68) نفس المصدر.
(69) المغرب العربي، عددها الصادر بتاريخ 02/05/1949.
(70) بن العقون (عبد الرحمن)، الكفاح القومي والسياسي من خلال مذكرات معاصر، الفترة الثالثة 1947-1945، الجزائر 1986، ص 112.
(71) من أبرز هؤلاء نذكر على سبيل المثال الدكتور صادق هجرسي الذي سيشغل منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري، وعبد الحميد بن زين الذي ظل، مدة طويلة، أميناً وطنياً ومديراً لمنشورات الحزب وعمر أو صديق وآخرون.
(72) نذكر خاصة الشهيد عيسان إيدير المؤسس الفعلي للاتحاد العام للعمال الجزائريين، ورابح جرمان الذي سير المركزية النقابية سنوات طويلة بعد استرجاع استقلال الوطني وبوعلام بوروية ونور الدين اسكندر...
(73-78) كلهن واصلن النشاط في إطار جبهة التحرير الوطني. وبعد استرجاع الاستقلال الوطني ساهمن بفعالية في تنشيط الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات الذي ترأسته الدكتورة نفيسة حمود إلىغاية التاسع عشر جوان سنة 1965.
(79)عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري سنة 1950. داهمته الثورة وهو في القاهرة فانضم إلى جبهة التحرير الوطني وأصبح ممثلاً لها في نيويورك، ومع تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية يوم 19/09/1958 عين وزيراً للأخبار وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى غاية استرجاع الاستقلال الوطني. انتخب نائباً بالمجلس الوطني (1962-1965) بعدها عين سفيراً في بيروت ثم سفير الجامعة العربية في باريس عضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني منذ سنة 1979.
(80) نذكر على سبيل المثال ثانوية بيجو التي تميز فيها عبد الرحمن كيوان ومحمد ساطور، وثانوية ابن عكنون التي أعطت للحزب على العيش وحسين آيت أحمد وعمر أو صديق، والمدرسة الفرنسية اسلامية التي تميز فيها كل من بوزيان ومحفوظي وفروخي وابن سهل وآخرون.
(81) انتخبت الجمعية العامة السيد محمود بوزوزو رئيساً، وعمر لاغا نائباً له في حين انتخب محفوظ قداش أميناً عاماً وحمدان بن عبد الوهاب أميناً للمال.
(82) على سبيل المثال: مولودية الجزائر،والاتحاد الرياضي الإسلامي وشباب بلكور في العاصمة ومولودية قسطنينة ومولودية وهران الخ...
(83) بلدية روينة في وادي الشلف، وبها تقع مزرعة والد جيلالي بلحاج المفتش العام المكلف بالتدريب العسكري وبقسم المفرقعات في المنظمة الخاصة.
(84) ألقي عليه القبض في مستهل شهر مارس سنة 1950 فضعف تحت تأثير العذاب، واعترف بمسؤولياته داخل المنظمة الخاصة، ويذكر السيد حسين لحول أنه تحول منذ ذلك الحين إلى عميل للإدارة الاستعمارية.
(85) انظر تقرير السيد حسين آيت أحمد إلى الدورة المذكورة وقد نشر السيد محمد حربي مقتطفات منه في "جبهة التحرير الوطني: الواقع والسراب"، ص : 50، ومابعدها.
(86) المصدر نفسه.
87 - Mahsas (Ahmed), Le mouvement révolutionnaire Algérien de la premiére guerre.
mondiale à 1954. Paris 1979, p 275
(88) التحق بصفوف حزب الشعب سنة 1942 وأصبح عضواً باللجنة المركزية على إثر مؤتمر فيفري 1947، التحق بصفوف جبهة التحرير الوطني لكن قيادة الثورة أعدمته لمواقفه مما يسمى بالأزمة البربرية.
(89) لقاؤنا مع السيد أحمد بودة في بيته بتاريخ 24/04/1983.
(90) انظر جريدة "حزب الشعب الجزائري L’Algérie Libre" في عددها الرابع الصادر يوم 1/12/1946 على خلاف السيد محمد حربي الذي أورد في كتابه Aux origines du FLN، ص 38 أن الدكتور محمد الأمين دباغين تم فصله يوم 02/12/1949.
(91) لقد وضعنا هذا الرسم اعتماداً على لقاءاتنا المتكررة مع الأعضاء القيادين أمثال أحمد بودة ومسعود بوقادوم ود/محمد الأمين دباغين وحسين بن الميلي وحسين لحول، وبالرجوع كذلك، إلى المصادر التي استقينا منها بعض المعطيات.
(92) نص القسم كما تلاه على السيد أحمد بودة وهو:"أقسم بالله العلي العظيم أن أعمل بكل ما أملك في هذه الدنيا لتحرير الجزائر، وأن أضحي بالنفس في سبيل الحزب وأن لا أخون أسراره".
(93) انظر نص الوثيقة في كولو، ص: 33.
(94) مصباح، ص:128.
(95) المصدر نفسه.
(96) يذكر السيد محمد بوضياف أن هذا العدد يتراوح مابين 1000- و1500، انظر "الجريدة" في عددها 15 الصادر في نوفمبر/ديسمبر 1974، أما السيد أحمد بودة فيقول أن محمد بن الوزداد أكد له أن صفوف المنظمة الخاصة كانت في سنة 1948 تضم مابين 1500و1750 مناضلاً (لقاؤنا مع بودة يوم 23/04/1984).
(97) حتى في المستشفى لم يتوقف محمد بن الوزداد عن مواصلة النشاط، وقد توفي في شهر جانفي سنة 1952 عن عمر لم يتجاوز 28 سنة.
(98) لقد شكلنا هذا الرسم وجمعنا معلوماته من مختلف اللقاءات التي أجريناها مع مسؤولي الحركة الوطنية ومن كتابات السادة: أحمد محساس، امحمد يوسفي، ابن يوسف بن خدة، محمد حربي، ومحفوظ قداش.
(99) هناك تناقض ورد في أطروحة السيد محفوظ قداش حول المدة التي بقيها حسين آيت أحمد قائداً للأركان. ففي الصفحة 777 يذكر أن بن الوزداد قاد المنظمة الخاصة إلى غاية عام 1948 وفي الصفحة 974 يشير إلى أن آيت أحمد تولى قيادة المنظمة ابتداء من سنة 1974 وهذا غير صحيح.
(100) حربي، جبهة التحرير الوطني، ص 42.
(101) وقعت صباح يوم 05/04/1949 وشارك في تنفيذها كل من سويداني بوجمعة وأحمد بوشعيب ومحمد علي خيفر وعمر حداد وجلول بختى نميش، وتولى نقل الأموال المغنومة إلى العاصمة السيد محمد خيضر مكلفاً من طرف الأمين العام السيد حسين لحول.
(102) بعد أن حقق حزب الشعب الجزائري انتصارات ظاهرة في الانتخابات البلدية التي جرت في أكتوبر 1947، قررت الإدارة الاستعمارية تنظيم أعمال القمع ضد إطاراته ومناضليه، وقد وظفت لهذا الغرض، في منطقة القبائل الباشاغا آيت علي الذي جند مجموعة من المرتزقة المسلحين يقودهم المدعو أو قارة وكان دوار الريش بنواحي البويرة هو أول الأماكن المستهدفة ولما كثرت شكاوي المناضلين أصدر المكتب السياسي.أوامره إلى المنظمة الخاصة التي قضت على اثني عشر من المرتزقة في عملية واحدة، ثم لاحقت مسؤولهم وأعدمته في قصباء العاصمة.
(103) عندما كثر الثائرون في مختلف مناطق البلاد، كلف الحزب المنظمة الخاصة بالإشراف عليهم، فتولى العملية مصطفى بن بولعيد في الأوراس وأحمد بن بلة في الغرب الجزائري.
(104) سارت العملية كما ينبغي بقيادة محمد مروك، لكن التمثال لم ينسف بسبب فساد الفتيل الذي أتى عليه البلل.
(105) للقيام بهذه العملية، عينت قيادة الأركان مجموعة من المناضلين يقودها مراد ديدوش وتتكون من عمار بن مصطفى بن عودة، محمد بن زعيم وعبد الباقي بكوش.
(106) "الجزائر الحرة"، العدد الصادر يوم 15 ماي 1950.
(107) جذور أول نوفمبر 1954، ص 150، ومابعدها.
(108) انظر على سبيل المثال: (Alger Républicain) في أعداده الصادرة في شهر أفريل سنة 1950 وكذلك محاضر مداولات مجلس العموم لعمالة قسنطينة في دورة أفريل 1950 وكذلك البيانات الصادرة عن اللجنة الجزائرية لاتحاد المسيحيين التقدميين.
(109) لمواجهة الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها بتاريخ 17/06/1951.
(110) محمد حربي، 84.
(111) لقاءنا مع السيد أحمد بودة.
(112) من بين أولئك الأعضاء، عبد الرزاق شنتوف، سعيد عمراني والحاج شرشالي.
(113) جاءت التشكيلة الجديدة خالية من السادة مصطفاوي ومن تبعه. وبينما يذكر السيد ابن خدة أن عدد أعضائها 27، فإن السيد محمد حربي يعدد 25، فقط، وذلك بالإضافة إلىتناقض في القائمتين انظر حربي ص 406، وابن خدة ص 332.
(114) حربي، ص 87.
(115) نفس المصدر، لكن ابن خدة في كتابه، ص 197، يذكر أنه هو الذي سافر إلى باريس للقائه، ولا يقول شيئاً عن التعليمات.
(116) تأسست رسمياً يوم 05/08/1951.
(117) ابن خدة، ص : 221.

(118) انظر نص اللائحة في وثائق المؤتمر.
(119) هؤلاء الأعضاء هم السادة: حسين لحول وابن يوسف بن خدة ومولاي مرباح وأحمد مزغنة أما رئيس اللجنة المنتخب فهو السيد الحاج مصالي نفسه.
(120) ابن خدة،ص: 225.
(121) نفس المصدر، ص : 226.
(122) صاحب هذه السياسة هو المحامي عبد الرحمن كيوان الذي اختاره السيد ابن يوسف بن خدة ليكون واحداً من مساعديه المقربين.
(123) أي في أواخر شهر ديسمبر سنة 1953.
(124) يوم 23 مارس 1954 حسب جميع الروايات.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالأحد ديسمبر 05, 2010 12:21 am

الفصل السادس


جمعية العلماء المسلمين

على الرغم من أن إطارات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قداستفادوا جميعهم من قرار العفو الشامل الذي أصدرته الحكومة الفرنسية يوم 16 مارس سنة 1946، فإن الإدارة الاستعمارية لم تطلق سراح البصائر إلى سنة 1947(1) ومع ظهور العدد الأول، بدأ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ينشر البرنامج الإجمالي للحركة وذلك بعد أن مهد له بتقييم إضافي للمراحل المقطوعة قبيل الحرب الامبريالية الثانية وبعيدها.
إن أول أهداف الجمعية بلا منازع إنما هو تعليم اللغة العربية "التي لها على الأمة حقان أكيدان كل منهما يقتضي وجوب تعلمها فكيف إذا اجتمعا، حتى من حيث أنها لغة دينها وحق من حيث أنها لغة جنسها"(2). لأجل ذلك فإن جمعية العلماء تسعى، بشتى الوسائل، لحمل الإدارة الاستعمارية على إلغاء القرارات العسفية التي ظلت تعرقل التعليم العربي واستبدالها بقانون "يكون للأمة رأي فيه"(3)، ويساعد على إيجاد الظروف الملائمة لنشر اللغة العربية بكل حرية قصد ترقية المجتمع الجزائري.
وبما أن الإعلام وسيلة أساسية لتثقيف المواطن وتكوين الرأي العام، فإن الجمعية قد جعلت من أهدافها، أيضاً الاستماتة في النضال من أجل إلغاء مرسوم شوطان(3) الذي يجعل اللغة العربية أجنبية في الجزائر،وتباعاً، فإنه يعامل الصحافة الصادرة بها كصحافة غير وطنية تخضع للمضايقات وللرقابة المشددة.
وكتدعيم للمدرسة وترويج لما تنشره الجريدة، اختارت جمعية العلماء الجزائريين إقامة النوادي عبر مختلف أنحاء الوطن، ولتسيير تلك المؤسسات التربوية والترفيهية قررت إدارة الجمعية أن يتولى المشرفون على النادي بيع المشروبات الحلال بأسعار معقولة، لكن الإدارة الاستعمارية حاربت ذلك الإجراء وأصدرت من القرارات مايمنع بيع أي مشروب في النوادي، الأمر الذي جعل الجمعية تدرج ضمن مساعيها الأساسية المطالبة بإلغاء قرار المنع ويجعل تسيير النوادي والإشراف عليها من اختصاص لجانها فقط.
ونظراً لمكانة المساجد وأوقافها بالنسبة للدين الإسلامي، ولأن الاستعمار الفرنسي قام، منذ بداية الاحتلال، بالتركيز على اغتصابها والاستحواذ على معظمها، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد جعلت من أهدافها المطالبة بإرجاع المساجد المحولة إلى كنائس أو متاحف وبتحرير الأوقاف من السيطرة الأجنبية وتمكينها من تأدية الدور الاجتماعي والثقافي الذي وجدت من أجله، ففي هذا الإطار ارتأت الجمعية التركيز على النضال في سبيل تطبيق القانون(4) القاضي بفصل الدين عن الحكومة وبالموازاة مع إعادة تأهيل المسجد والأوقاف، يقوم رجالات الجمعية بتطهير الدين من كل ما علق به من شوائب وبمحاربة التشويه والبدع وسائر أنواع الانحراف التي تفننت الإدارة الاستعمارية في تجذيرها على أرض الواقع الجزائري، كما أنها تعمل على تحرير القضاء وإعادة ربطه بالشريعة الإسلامية.
وإذا كانت هذه الأهداف لاتخرج في مجموعها، عن إطار القانون الأساسي الذي تشكلت، بموجبه، جمعيةالعلماء المسلمين الجزائريين يوم 05/05/1931، فإن النشاط السياسي كمحور أساسي في برنامج عمل الجمعية يعتبر تجديداً يدعم الحركة الوطنية وتستنكره الإدارة الاستعمارية، ففي هذا السياق يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:"أن وراء السياسة شيئاً اسمه الكياسة، وهي خلق ضروري للسياسي، وأن السياسي الذي يحترم نفسه يحترم غيره مهما خالفه في الرأي، ومهما كان الخلاف جوهرياً، فإذا لزم النقد، فلا يكون الباعث عليه الحقد، وليكن موجهاً إلى الآراء بالتمحيص لا إلى الأشخاص بالتنقيص" (5).
إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ترى من واجبها السياسي أن تتصدى للإندماج في جميع مظاهره وتحارب العنصرية التي يغذيها الاستعمار ويستعملها سلاحاً حاداً لقطع أوصال الشعب الجزائري الواحد، وتقف ضد أمرية السابع مارس 1944، لما تنطوي عليه من دسائس ولأنها وسيلة إلى الاندماج وبالإضافةإلىذلك، فإن الجمعية تعمل، ضمن برنامجها السياسي، على تحرير المساجد والأوقاف ورجال الدين والقضاء الإسلامي والحج والصيام، وهي، لذلك مستعدة للجهاد بكل مافي وسعها من إمكانيات.
وبمجرد أن تم انتخاب الجمعية الجزائرية واستقبلت في رحابها ستين نائباً جزائرياً مسلماً إلى جانب الستين من الفرنسيين المسيحيين واليهود، وجهت جمعيةالعلماء المسلمين الجزائريين نداء إلى المسلمين ليطلبوا من الحكومة الفرنسيةأحد أمرين: إما أن تدخل الدين المسيحي بكنائسه وأمواله ورجاله،والدين اليهودي ببيعه وأحباره وأوقافه تحت سلطتها بحيث لا يجري شيء إلا بأمرها وعلى ما يرضيها وإما أن تعامل الإسلام كما تعامل الدينين المذكورين خاصة وأن المسلمين ومعابدهم أكثر عدداً، ومن الواجب أن يكونوا هم القاعدة في المعاملة والأصل في وضع الأحكام"(6).
وللتصدي إلى هذا المسعى، وخوفاً من أن يجد السند اللازم لدى كل المنتخبين المسلمين، جندت الإدارة الاستعمارية عدداً ممن يسمون برجال الدين(7) وفي مقدمتهم المفتي الحنفي(Cool فأعدوا تقريراً موجهاً إلى الجمعية الجزائرية يلتمسون فيه عدم الاهتمام بمطالب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ويزعمون أن تسعة ملايين من المسلمين لا يستطيعون المشاركة في انتخاب الجمعيات الدينية التي قد تتولى، بدورها، انتخاب المجلس الإسلامي الأعلى طبقاً للاقتراح الوارد في مذكرة الجمعية المؤرخة في الرابع من شهر أغسطس سنة 1944 والتي عالجناها بإسهاب في حديثنا عن فترة الحرب.
ويقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي نشر مقتطفات من التقرير المذكور إن هذا الأخير من وضع أساطين الإدارة الكولونيالية وهوعبارة عن قطعة فنية من التزوير لأنه يحمل تاريخ 21/03/1948 وهو موجه إلى أعضاء الجمعية الجزائرية المنتخبة يوم 04/04/1948.
أما عن كون انتخاب الجمعيات الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى عملية من شأنها أن تجر السياسة إلى المسجد، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ردت عليها قائلة: "أن تسلط الإدارة الفرنسية على مساجدنا وأوقافنا -وهي لائكية- هوعين السياسة، وإسناد الوظائف الدينية إلى من تختاره وترتضيه هو رأس السياسة ووضع هذا التقرير باسم العاصمي هو ذنب السياسة، ولولا السياسة ماكان للمفتي الحنفي وجود"(9).
وفي سنة 1949، وجهت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كتاباً مفتوحاً(10) إلى رئيس الجمهورية الفرنسية(11) جاء فيه على الخصوص:
1- أن الجزائر وطن تسعةأعشار من فيه رقيق زراعي وخدم صناعي مفروض عليه الحرمان من كل حق، وعشره العاشر سادة مفروضة لهم التمتع بكل حق، وبين الفريقين فريق انفصل عن الأول ولم يصل إلى الثاني وهو الذي ترونه.
2- إن الدين الإسلامي مملوك للإدارة، تحتكر التصرف في مساجده ورجاله وأوقافه وقضائه.
3- التعليم في هذا الوطن المسلم معطل بتعطيل المساجد، ومئات الآلاف من شباب المسلمين تتشوق إليه، والتعليم العربي في هذا الوطن العربي جريمة يعاقب مرتكبها بما يعاقب به المجرم من تغريم وتغريب وسجن، ومدارسه تعاني من التضييق والتعطيل ألواناً متجددة، ورجاله عرضة في كل حين للمحاكمات في المحاكم الجمهورية التي تتسم بوسمتكم.
4- إن الشعب الجزائري قد أصبح -من طول ما جرب ومارس- لا يؤمن إلا بأركان حياته الأربعة: ذاتيته الجزائرية، وجنسيته ولغته العربيتين، ودينه الإسلامي، لا يستنزل عنها برقي الخطب والمواعيد، ولا يبغي عنها حولاً، ولا بها بديلاً.
5- إن الشعب الجزائري مريض يتطلع للشفاء وجاهل متوثب إلى العلم وبائس متشوق للنعيم، ومنهوك من الظلم مستشرف إلى العدالة، ومستعبد ينشد الحرية، ومهضوم الحق يطلب حقه في الحياة وديموقراطي الفطرة والدين يحن إلى الديموقراطية الطبيعية ولكنه ليس كما يقال عنه: جائع يطلب الخبز فإن وجده سكت.
6- لا يسيغ منطق ولا عقل كيف تكون الوحدة بين سيد وبين مسود، وكيف تتصور بين حاكم مزهو بعصبية جنسية تظاهرها عصبية دينية وبين محكوم؟ وكيف تتفق في وطن ساكنوه صنفان وقوانينه صنفان؟ وكيف تتم في بلد كنيسته حرة وبيعته حرة ومسجده مستعبد؟
إن المتمعن في محتوى هذه الوثيقة يدرك، بكل سهولة، أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تعد تكتفي بالبرنامج المسطور في قانونها الأساسي، بل إن تجربتها الطويلةفي مجالات التربية والتعليم والإصلاح الديني قد جعلتها تدخل عالم السياسة لعلمها بأن الإصلاح لا يستقيم إلا إذا كانت السلطة وراءه، ولا سلطة إلا لمن كان في الحكم، لأجل ذلك، نراها تتعمد توضيح مجموعة من المفاهيم التي يأتي في مقدمتها العدل الذي هو أساس الملك والحق في الحياة الذي نعبر عنه اليوم بحقوق الإنسان، والديموقراطية التي تتنافى مع الممارسات الاستعمارية وتعريف الشيوعيين الجزائريين لها.(12).
وإذ تدعو إلى التمسك بهذه المفاهيم بعد توضيحها وإلى التركيز على ما أسمته بالأركان الأربعة لحياة الشعب الجزائري،فإنها لم تتردد في الجهر بمعاداتها للاتحاد الفرنسي الذي يتناقض مع العقل والمنطق إذ لا يمكن للمظلوم المستبد به أن يتحد مع ظالمه والمستبد به. ومما لا ريب فيه أن مناهضة فكرة الاتحاد الفرنسي تعتبر موقفاً سياسياً داعماً لموقف حزب الشعب الجزائري الذي يرى أن الحل الوحيد للمشكل الجزائري إنما يكمن في استرجاع الاستقلال الوطني كاملاً غير منقوص، فذلك وحده هو الذي يعيد الاعتبار للإنسان الجزائري ويعيد الحرية للمسجد ويعتق الأوقاف التي تضمن حرية الفكر وازدهار الثقافة.
وخصص الشيخ محمد البشير الإبراهيمي سنة 1950 كلها لتعميم ايديولوجية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يمكن تلخيص منطلقاتها في العمل على تحرير المجتمع الجزائري من آثار الغزو الاستعماري الذي جند أربع وسائل لتقويض أركان الدولة الجزائرية التي كانت قائمة قبل اتفاقية الخامس من يوليو سنة 1830.
تتمثل الوسيلة الأولى التي عمد إليها الاستعمار لإلغاء الدولة الجزائرية وحذفها من رقعة الخلافة الإسلامية في الجندي الذي يعبر عن القوة العسكرية التي تعتبر "أخف الأسلحة فتكاً وأقصرها مدى".(12). أما الوسيلة الثانية فهي الطبيب الاستعماري الذي جيء به إلى الجزائر"، ليداوي علة بعلل،ويقتل جرثومة يخلق جراثيم ويجرب معلوماته في أبناء الجزائر كما يجربها في الأرانب".(13). ويمثل المعلم الاستعماري الوسيلة الثالثة التي اعتمدتها فرنسا "لتفسد على أبناء المسلمين عقولهم، وتستنزلهم عن لغتهم وآدابهم وتشوه لهم تاريخهم وتقلّل سلفهم في أعينهم وتزهدهم في دينهم"(14) ثم تأتي الوسيلة الرابعة ممثلة في الراهب "يفتن المسلمين عن عقائدهم ويشككهم بتثليثه في توحيدهم".(15).
"إن الاستعمار القائم على الجندي والمعلم والطبيب والراهب هيكل حيواني يمشي على أربع... وأن الاستعمار قد قضى بواسطة هؤلاء الأربعة علىعشرة ملايين من البشر، فرمى مواهبهم بالتعطيل، وعقولهم بالخمود، وأذهانهم بالركود،وأفكارهم بالعقم"(16) .
ولكي تتصدى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للنتائج المتوخاة من استعمال كل هذه الوسائل، فإنها جندت جميع إمكانياتها المادية والبشرية لتمنع الاستعمار الفرنسي من تكوين الإنسان الجزائري الذي يكون مقطوع الأسباب من جميع المسلمين ومن تكوين سلك للرهابنة يمتهنون لتوظيف الدين من أجل تأبيد الاستعمار.وفي هذا الصدد كتب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في افتتاحية البصائر الصادرة في عددها الخامس بعد المائة: "واضيعتاه!...وواذلاه!...أفي الوقت الذي تتشوق فيه الأمم المتحدة كلها إلى نيل حقوقها السياسية،وحريتها وحقها في الحكم الذاتي والتصرف المطلق، وفي الوقت الذي يتفق فيه مجلس الأمم المتحدة على تحرير سبعين مليوناً من جزر الهند الشرقية من الاستعمار الهولندي، وعلى تحرير القطر الليبي... في هذه الظروف التي أصبح فيها طعم الاستعمار المادي الحلو اللذيذ مراً كريهاً حتى في حلوق غلاة الاستعمار، يبقى الدين الإسلامي بمعابده وأوقافه ورجاله مستعمراً مستعبداً في الجزائر وحدها".
هكذا، أصبح نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ملموساً في مجلسين السياسة والإصلاح بشقيه التربوي والديني، ولقد جندت، لذلك، كل مالديها من إمكانيات بدءاً بأعمدة الصحافة وانتهاءً بالمسجد والنادي والمدرسة مروراً بالمناسبات الاجتماعية والأعياد الدينية والوطنية. وعلى الرغم من كل ذلك، فإنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها المنشودة لأن الإدارة الاستعمارية قد تفطنت لما يمثله دور العلماء في توعية الأمة وإعدادها للمعركة الفاصلة، فراحت تسعى، بشتى الوسائل، لسد كل المنافذ في وجه المربين والدعاة.
وحيث أيقنت جمعيةالعلماء المسلمين الجزائريين أن العمل الفردي مهما علا شأنه لا يجدي نفعاً مع تعنت الإدارة الاستعمارية واستماتتها في تهميش الشعب الجزائري وحرمانه من كل وسائل الرقي والتقدم، فإنها لجأت إلى الدعوة لاتحاد سائر الطاقات الحية في البلاد، وبسرعة كبيرة، وجدت الدعوة المذكورة طريقها إلى كل التشكيلات السياسية التي كانت تعاني، بدورها، من عسف الإدارة الاستعمارية وتبحث عن طريقة ناجعة للدفاع عن حق الشعب الجزائري في المشاركة بحرية في تسيير شؤونه بنفسه.
الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها:
في نهاية شهر يوليو/تموز سنة 1951 نشرت جريدة المنار بلاغاً صادراً عن "العلماء والاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري والحزب الشيوعي الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية".(17). مفاده أن التشكيلات المذكورة قد أنشأت لجنة تحضيرية لتكوين جبهة جزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها وذلك بهدف الوصول إلى النتائج التالية:
أ - إلغاء الانتخابات التشريعية التي جرت في 17/06/1951 والتي تولت الإدارة الاستعمارية خلالها تعيين أشخاص لا يمثلون جماهير الشعب الجزائري.
ب - احترام حرية التصويت في المجموعة الانتخابية الثانية.
ج - احترام الحريات الأساسية أي: حرية الضمير، حرية الفكر، حرية الصحافة وحرية الاجتماع.
د - محاربة القمع بجميع أنواعه والعمل على تحرير المعتقلين السياسيين وإلغاء الإجراءات العسفية المتخذة ضد الحاج مصالي.
هـ- إنهاء تدخل الإدارة الفرنسية في شؤون الدين الإسلامي.
لقد تأسست الجبهة، رسمياً، يوم 05/08/1951. تم الإعلان عن ذلك في قاعة سينما دنيازاد بالعاصمة. بتلك المناسبة ألقى رئيسها الشيخ العربي التبسي خطاباً جاء فيه على الخصوص: "هذه جبهة لا تسأل أحداً إن كان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، إنما تسأله هل هو مناضل في سبيل الحق، مكافح في سبيل الحرية... ولو كانت لنا حكومة إسلامية بقطر الجزائر لما وجدت بيننا فروق ولما وقع التباين بين أحمد وموريس ولا بين فاطمة وماري". (18) وبديهي أن الدارس يستشف من خلال هذه الجمل السبب الرئيسي الذي جعل ظهور الجبهة يبدو للرأي العام وكأنه مفاجئ. فالمؤسسون للجبهة كلهم معنيون بالأهداف الخمسة المذكورة أعلاه. وبالتالي فإن استجابتهم لنداء التأسيس لم تتطلب أي جهد ولم تفرض على أحد التنازل عن أي شيء، بل إن الجميع قد وقع، بدرجات متفاوتة، ضحية استبداد الإدارة الاستعمارية وتزييف الانتخابات على جميع المستويات.
وبعد أسبوعين من تاريخ التأسيس، دعت رئاسة الجبهة إلى مهرجان شعبي انعقد في الملعب البلدي بحسين داي يوم 19/08/1951 وحضره آلاف الجزائريين.(19). وبتلك المناسبة ركز الشيخ العربي التبسي وهو يخاطب الجماهير الشعبية، على ضرورة فصل الدين عن الحكومة واستنكر على الإدارة الاستعمارية معاملتها الشاذة للإسلام والمسلمين. ومما جاء في خطابه: "أيها الملأ الكريم! مضى قرن وبعض قرن والحكومة معتدية على الديموقراطية في شخص الديانة الإسلامية، ساخرة بأصولها، عابثة بمقدساتها، مستخفة بأصولها وفروعها"(20).
وفي إطار نشاط الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها، ساهمت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تعبئة جماهير الشعب حول مطلب تقرير المصير، وشاركت في كثير من المهام التي لها علاقة مباشرة بحماية حقوق المواطنين ومصالحهم، ويأتي في مقدمة تلك المهام العمل الجماعي الذي أنجزه وفد الجبهة الذي انتقل إلى ناحية أريس من أجل التحقيق في أعمال العنف والإرهاب التي تعرض لها سكان القرى المكونة للناحيةبسبب معارضتهم لمحاولات التزييف التي قامت بها الإدارة الاستعمارية بمناسبة انتخابات 17/06/1951. (21).
وفي يوم 30/09/1951 عقدت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مؤتمرها الثاني بعد انتهاء الحرب الامبريالية الثانية، وقد كان التقرير الأدبي الذي قدمه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مشتملاً على ثلاثة محاور هي: المشروعات والمواقف والنصائح، أما البيان الختامي فقد ألقاه الشيخ العربي التبسي وجاء فيه على الخصوص:"إن جمعية العلماء لجميع الجزائريين المسلمين الذين تجمعهم لغة واحدة وعقائد واحدة. وهي تتمتع بعطف جميع الديموقراطيين لأنها تعترف بالديموقراطية وحقوق الإنسان. إذ الإسلام يقر العدالة الاجتماعية.. إننا مستعدون للمشاركة في النهضات السياسية، لأن السياسة تدخلت في الدين ولأننا نشاهد أن موقف فرنسا مع الإسلام في الجزائر موقف شاذ"(22).
لم تغير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين موقفها الأساسي، بل ظلت متمسكة بدورها في التربية والتعليم وفي الإصلاح الديني، واستطاعت، بعد الحرب الامبريالية الثانية، أن توسع نشاطها إلى التراب الفرنسي نفسه حيث يعيش مايقرب من ربع مليون جزائري، وحيث حوالي عشرين ألف طفل في أمس الحاجة إلى الارتباط بدينهم ولغتهم.وكما أنها جندت جماهير الشعب لبناء المدارس الحرة ولبعث معهد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس وفتح العديد من النوادي في مختلف أنحاء الوطن، فإنها استطاعت أن تنشر نفس الفكرة في أوساط المغتربين الجزائريين في فرنسا، لكن الإدارة الاستعمارية كانت لها بالمرصادومنعتها من تجسيد برنامجها على أرض الواقع خاصة فيما يتعلق بتمكينها، قانونياً، من شراء المحلات أو كرائها للتدريس أو للوعظ والإرشاد.
وفي المجال السياسي، انتقل الشيخ البشير الإبراهيمي إلى باريس في مستهل شهر ديسمبر 1951 للمشاركة مع قادة التشكيلات الوطنية في الاتصال بالوفود العربية والإسلامية التي تحضر أعمال هيئة الأمم المتحدة (23) ولقد كان لوجود رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تأثير بالغ الأهمية في تحسيس كثير من الشخصيات العربية والإسلامية كما أنه اغتنم فرصة تواجده بالعاصمة الفرنسية ليكثف الاتصالات مع أبناء الجالية الجزائرية. وكان لوفد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نشاط حثيث في المساعي الرامية إلى إقامة حفلة كبيرة احتفاء بالوفود العربية والإسلامية في يوم 08/12/1951. ولقد كان في الحسبان أن يحضر هذه الحفلة مايربو على خمسين ألف جزائري"(24). لكن الحكومة الفرنسية قررت منع الحفل وأمرت بإلقاء القبض على ما يزيد عن ستة آلاف من الجزائريين، وهو الأمر الذي جعل الشيخ العربي التبسي - بصفته رئيساً للجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها - يرسل برقية استنكار إلى "رئيس الوزارة الفرنسية" جاء فيها خاصة: "إن الجبهة تستنكر بشدة منع الحكومة الفرنسية للحفلة... وتحتج ضد القرار الجائر الذي يمس من كرامة الدبلوماسيين العرب والمسلمين وتبدي عواطفها نحو هذه الوفود التي أثبتت تضامنها مع الشعب الجزائري"(25).
عودة إلى فصل الدين عن الحكومة:
أمام إلحاح جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ورغبة من الحاكم العام في إضفاء طابع الشرعية على سيطرة الإدارة الاستعمارية على الدين الإسلامي، بواسطة من وصفهم أوغستين بارك مدير الشؤون الأهلية" موظفين دينيين يسيطر عليهم الجهل المركب والطمع وعدم التهذيب ولا حد لرغباتهم في أن يحمدوا بما لم يفعلوا... فعدم الكفاءة والمبالغة في الخضوع والانقياد هي الشهادات الوحيدة التي يمكن لهم أن يعتزوا بها"(26)، أحيلت مسألة فصل الدين عن الحكومة أمام الجمعية الجزائرية في تشكيلتها الجديدة التي أسفرت عنها انتخابات 1/06/1951.
ولقد توجهت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلىأعضاء الجمعية الجزائرية تحذرهم من أن يكونوا وسيلة في يد الحاكمية العامة التي تريد أن يكون رفض الفصل صادراً عن المنتخبين المسلمين أنفسهم. وعلى الرغم من أن الشيخ البشير الإبراهيمي لم يكن يعترف لأولئك المنتخبين بحقهم في تمثيل الشعب الجزائري بسبب ماكانت تمتاز به الانتخابات من تزييف وتزوير، فإن النداء الموجه إليهم قد كان صريحاً وواضحاً، جاء في ختامه"إن أقواماً قبلكم وصلوا إلى ما وصلتم إليه، وارتقوا على أكتاف الأمة إلى كراسي النيابة ولكنهم خانوا العهد وأضاعوا الحقوق، فسجل عليهم التاريخ خزي الأبد. فحذار، حذار أن تكونوا مثلهم(27).
ولتذكيرهم بالطريقة التي وصلوا بها إلى ما وصلوا إليه، جاء في النداء: "إن من المناظر التي تثير العبر وتسيل العبرات في هذه الانتخابات أنكم كنتم ترون كما يرى الناس صندوقين للانتخاب في قرية واحدة أو شارع واحد يدخل الأوربي إلى أحدهما منشرح الصدر، باسم الثغر، حرّ التصرف مطلق الإدارة والاختيار، فيعطي ورقته لمن يشاء، معتقداً أنه أدّى شهادة خالصة للحق لم يراع فيها إلا مصلحة جنسه ورضى ضميره...ويدخل العربي إلى الآخر خائفاً وجلا منزعجاً، مسلوب الإرادة والحرية، لا يرى حوله إلا إرهاباً وسلاحاً وألسنة تتوعد، وأيديا تتهدد وأعينا ترمي بالشرر، فيعطي ورقته لمن يراد منه لا لمن يريد.. إن من يرى هذا المنظر لا يعجب إذا رأى بعد ذلك أن الفائزين في الصندوق الأول نواب وإن اختلفوا في المبادئ، وأن الفائزين في الصندوق الثاني نوائب وإن سموا أنفسهم مستقلين"(28).
لكن الأعضاء المسلمين في الجمعية الجزائرية لم يكونوا مؤهلين للنظر في المسألة بغير المنظار الذي يريده الاستعمار، وبالإضافة إلى ذلك، فإن وجود الجمعية الجزائرية نفسه يتناقض مع فصل الدين عن الحكومة لأنه مؤسس على ضرورة تأبيد الواقع الاستعماري. لأجل ذلك، وعلى الرغم من نداء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومن المقالات المنشورة على أعمدة المنار بأقلام مختلفة المشارب السياسية والمنطلقات الإيديولوجية، والداعية جميعها إلى وجوب تحرير الدين الإسلامي وتمكينه من استرجاع أوقافه ومساجده، فإن لجنة الديانة قد لجأت إلى المماطلة زاعمة على لسان رئيسها أن "التريث فيه مصلحة للقضية".(29).
ومرت الدورة العادية ودار لقمان على حالها. وكتب الشيخ العربي التبسي بصفته النائب الأول لرئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على أعمدة المنار في عددها الثالث عشر الصادر بتاريخ 12/12/1952، لو كان هؤلاء السادة من علماء الفقه الإسلامي لأسمعونا حكم الله في تأخير هذه المسألة وفي العبادات المعطلة انتظاراً لهذا الفصل، ولأسمعونا، أيضاً، حكم الله في الصلوات التي تؤدى في هذه المساجد قبل الفصل... إن هذا التأخير اعتداء صريح متعمد على الشريعة الإسلامية وعلى معابدها".
وإلى جانب كل هذا النشاط السياسي، فإن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لم تتوقف عن أعمالها التربوية، بل ماكاد يطلق سراح الشيخ محمد البشير الإبراهيمي على إثر العفو الشامل، بتاريخ 16/03/1946،حتى عادت المدارس التي كانت معطلة بقرار حكومي ونشطت النوادي وعمرت المساجد ومن جديد بعثت جريدة البصائر التي كان تعطيلها مع بداية الحرب بأمر من الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه.
وفي ظرف خمس سنوات فقط ارتفع عدد المدارس الابتدائية إلى حوالي أربعمائة يجلس على مقاعدها مايزيد عن مائة ألف تلميذ وتلميذة وهوعدد قياسي بالنسبة لإمكانيات الجمعية ونظراً لمضايقات الإدارة الاستعمارية.
وفي سنة 1952 كلفت جمعيةالعلماء المسلمين الجزائريين رئيسها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي السفر إلى المشرق يلتمس من الحكومات العربية منحا لبعثات الطلبة الجزائريين وإعانات مالية لتمكين الجمعية من مضاعفة نشاطها خاصة في مجالي التعليم والإصلاح الديني. وفي هذا السياق تجدر الإشارةإلىأن الشيخ الإبراهيمي نفسه قد تحدث عن هذه المهمة أمام أعضاء ندوة الأصفياء(30) ولخصها على النحو التالي:
أ - تمكين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من إضافة مائة وخمسين مدرسة ابتدائية على الأقل كل خمس سنوات حتى يصل العدد إلى ألف كاملة.
ب - بناء ثلاثة معاهد ثانوية للذكور واثنان للبنات كل خمس سنوات حتى تغطي الحاجة إلى استقبال خريجي المدارس الابتدائية.
ج - معهدان كبيران على الأقل للمعلمين وواحد للمعلمات حتى تسد حاجة المدارس الابتدائية جميعها.
قضية الاتحاد في الجزائر.
وفي مستهل سنة 1953 عندما نظمت جريدة المنار استفتاءً واسعاً حول مسألة الاتحاد ولماذا لم يتحقق بين كافة القوى الوطنية في الجزائر رغم إيمان الجميع بضرورته من أجل جبهة واحدة ترمي إلى غاية واحدة بوسائل مختلفة، قامت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من خلال أعضائها البارزين، بدور أساسي في تغذية العملية وتوفير أسباب نجاحها.
أما الشيخ العربي التبسي فقد اغتنم تلك الفرصة ليقول: "إن الحالة بالجزائر لا تبرر تعدد الأحزاب فبقاء الأحزاب فيها إطالة لعمر الاستعمار. والاتحاد الشعبي هو الذي يستطيع أن يغير الحال في البلاد..."(31) وأما الشيخ أحمد رضا حوحو فإنه سار في نفس الاتجاه، لكنه يضفي على الاقتراح طابع العلمية والمنهجية الصحيحة إذ يخلص، بعد تحليل مطول إلى أن الاتحاد الحقيقي هو الذي يبني على أساس شعبي متين تتقدمه دعاية واسعة يعتبر الاستفتاء فاتحتها، بعد ذلك يعقد مؤتمر شعبي يعيد الأحزاب إلى جادة الصواب الذي يعبّر عنه قائلاً:"لقد أنشئت المبادئ لخدمة الأحزاب، وأنشئت الأحزاب لخدمة الوطن. لكن القضية انعكست عندنا. فالأحزاب أسست لخدمة مبادئها، والوطن يستغل لخدمة هذه الأحزاب. لقد أردنا أن تكون هذه الأحزاب وسائل فأصبحت غايات، وأردناها خادمة فأصبحت مخدومة. فضيق المبادئ الحزبية في ضيق النفوس كونت، كلها، أكبر العراقيل في سبيل الاتحاد"(32).
وبينما كانت عملية الاستفتاء حول الاتحاد ووسائل تحقيقه في الجزائر تشغل بال أعداد كبيرة من المثقفين والمناضلين، عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعاً خاصاً استمعت فيه إلى تقارير مندوبي المغرب الأقصى وتونس والجزائر عن الأحوال في كل قطر من الأقطار الثلاثة، وبتلك المناسبة طلب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من الجامعة العربية أن: "تعنى عناية خاصة بالقضية الجزائرية وتساعد الشعب الجزائري على الحصول على حقه في تقرير مصيره بنفسه".(33)





 الهوامش:
1- مباشرة بعد العفو الشامل، استرخصت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لبعث البصائر من جديد وعلى الرغم من استجابة الإدارة الاستعمارية بسرعة إلا أن العدد الأول لم يصدر سوى سنة 1947 وذلك بسبب رفض الجهات المختصة تمكين إدارة الجريدة من الورق اللازم للطباعة، وبديهي إن ذلك نوع من العرقلة.
2- الإبراهيمي (محمد البشير) "الحقائق العريانة" البصائر، العدد 1.
3-
4- المقصود هو قانون عام 1905 الذي جدد سنة 1907 والذي طبق على الدينين المسيحي واليهودي دون الإسلام الذي ظل تحت سيطرة الإدارة الاستعمارية.
5- البصائر، عددها الرابع سنة 1947.
6- البصائر، عددها 57 الصادر سنة 1948.
7- أن الإسلام لا يعترف بالرهبانية لكن التقرير يركز على كون العهد التركي كان ينظم رجال الدين في سلك مستقل، وهذا غير صحيح ويمكن للدارس أن يراجع التاريخ.

8- كان في ذلك الوقت هو الشيخ محمدالعاصمي.
9- البصائر عددها 58 الصادر سنة 1948.
10- انظر نص الرسالة المفتوحة على أعمدة البصائر في عدد 81 الصادر سنة 1949.
11- يرى الشيوعيون الجزائريون في أدبياتهم التي ظلت سائدة إلى غاية سنة 1948 أن الشعب الجزائري لا يريد شيئاً آخر غير الخبز، فإذا وجده دخل الصف وانصاع للإدارة الاستعمارية.
12- 15 - الإبراهيمي (محمد البشير) البصائر العدد 103 الصادر سنة 1950.
16- نفس المصدر.
17- المنار، العدد 6، الصادر بتاريخ 30/07/1951 . أما الموقعون على البلاغ فهم: الشيخ العربي التبسي والشيخ محمد خير الدين عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الدكتور أحمد فرانسيس والأستاذ قدور ساطور عن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري، أحمد مزغنة ومصطفى فروخي عن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، أحمد محمودي وبول كاباليرو عن الحزب الشيوعي الجزائري.
18- نفس المصدر، العدد 7 الصادر بتاريخ 15/08/1951.
19- نفس المصدر، العدد 8 الصادر بتاريخ 31/08/1951.
20- نفس المصدر.
21- انظر تقرير الجبهة في الموضوع بجريدة المنار، عددها التاسع الصادر بتاريخ 05/10/1951.
22- نفس المصدر.
23- البلدان العربية والإسلامية المشاركة في تلك الدورة هي: المملكة العربية السعودية - العراق- مصر- اليمن- سوريا- لبنان- إيران- تركيا- باكستان وأندونيسيا.
24- المنار، العدد 15 الصادر بتاريخ 21/12/1951.
25- نفس المصدر.
26- بارك (أوغستين) "العلماء والمرابطون" البحر الأبيض المتوسط، ج11- جوليت/أوت1951.
27- الإبراهيمي، (محمد البشير)، عيون البصائر، دار المعارف، القاهرة 1963، ص 192.
28- نفس المصدر، ص 188.
29- التبسي (الشيخ العربي) "قضية لا قاضي لها" المنار، العدد 13 الصادر بتاريخ 12/12/1952.
30- هي جمعية كونها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بمجرد وصوله إلى القاهرة سنة 1952 وتضم في صفوفها مجموعة من قادة الفكر والسياسة والأدب والدعوة الإسلامية وقد كانت تعقد اجتماعاتها مساء كل يوم خميس في بيت واحد من أعضائها.
31- المنار، السنة الثانية، العدد الصادر بتاريخ 6/2/1953.
32- نفس المصدر.
33- المنارة، السنة الثالثة، العدد 40- الصادر بتاريخ 10/04/1953.


يتبع باقي الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالأحد ديسمبر 05, 2010 12:25 am

الفصل السابع

موقف الشيوعيين من الحركة الوطنية
الجزائرية وثورة نوفمبر 1954

في البداية، كان الحزب الشيوعي الفرنسي يضم في صفوفه كل الشيوعيين العاملين عبر مختلف أنحاء "الإمبراطورية" التي كانت مجزاة إلى اتحاديات أو فدراليات. وكانت أهم الفدراليات في الجزائر تلك التي يوجد مقرها بمدينة بلعباس الكائنة جنوب مدينة وهران على بعد حوالي أربعمائة كلم من العاصمة.
ومن غرائب الصدف أن "سيدي بلعباس" هي في نفس الوقت مقر اللفيف الأجنبي الذي كان يضم جيشاً من المتطوعين الأجانب تأسس سنة 1831 لخدمة فرنسا وهو مكون أساساً من المشاة والمظليين ولم يغادر المدينة إلا عندما غادر الجزائر نهائياً سنة 1962.
لقد كان الشيوعيون الجزائريون يسمون مدينة سيدي بلعباس: "مكة الحمراء"، وحينما قامت الأممية يوم 20/5/1922 بتوجيه نداء لتحرير الجزائر وتونس من أجل تقويض أركان الإمبريالية الفرنسية وضربها في الأعماق"، فإن اتحادية بلعباس قد نشرت لائحة صادقت عليها بالإجماع تعتبر فيها النداء" جنوناً خطيراً" وتدعو من خلالها إلى معارضة استقلال الجزائر لأن "سيادة آكلي لحوم البشر غير مرغوب فيها".
وعلى الرغم من أن الكومنترن، على لسان تروتسكي، لم يتردد في إدانة اللائحة المذكورة ووصف الشيوعيين في بلعباس بتجار الرقيق، فإن قيادة هؤلاء قد ظلت متمسكة بآرائها القائلة "بأن تحرير البروليتاريا في شمال افريقيا لا يمكن أن يتم إلا بالثورة في الوطن الأم". ولم يكن موقف قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي أفضل من ذلك، فهي ترى، على غرار الإدارة الاستعمارية، أن الجزائريين الأصليين (الأهالي كما كانوا يسمونهم) عاجزون عن تسيير شؤونهم بأنفسهم وغير أهل للاستقلال.
ولم يحدث التغيير في استراتيجية الحزب الشيوعي الفرنسي إلا سنة 1935 وذلك من خلال الدورية التي وقع عليها السيد Jean Chaintron المدعو بارتيل (Barthel(1)) والتي تعرضت بصراحة للجبهة الفرنسية اليهودية ضد "الشعب العربي" ودعت إلى تكوين جبهة مضادة تفتح صفوفها لمن كان يطلق عليهم تسمية "الإصلاحيون الوطنيون" (يعني التيار الوطني بتشكيلتيه المعروفتين).
فالدعوة إلى تكوين جبهة مضادة بالكيفية المشار إليها أعلاه قد أحدثت خلافاً كبيراً في أوساط المثقفين الذين كانوا يعبرون عن التيارات السياسية السائدة في قيادة الحزب الشيوعي الجزائري الذي أسندت له مهمة "تعريب القواعد المناضلة" أي فتح باب الانخراط أمام العرب وهي التسمية التي كانت تطلق على الجزائريين الأصليين(2) ونتيجة لذلك أيضاً، نشر السيد نشمان ليست Nechman List كتاباً تحت عنوان "القضية الجزائرية"(3) يدعو من خلال صفحاته القليلة إلى "أنجاز الثورة الزراعية المناهضة للامبريالية والكفيلة وحدها بإعطاء الجزائر استقلالها وبتمكينها من تنمية قواها الإنتاجية التي كبلها الاستعمار".
ففي تلك الأجواء التي تميزت بكثير من التردد حول الموقف الذي ينبغي اتخاذه حيال الجزائر المستعمرة وشعبها المضطهد، برزت أسماء مجموعة من القياديين الشيوعيين الذين يأتي في مقدمتهم السادة عمار أوزقان وابن علي بوقرط وقدور بلقاسم الذين نزلوا إلى ميادين العمل النضالي متشبعين بالأيديولوجية الشيوعية ومركزين على تحقيق هدفين أساسيين هما:
السعي لإنجاح الجبهة الشعبية في إنجاز اصلاحاتها وخاصة منها مشروع بلوم فيوليت، والإسهام بفعالية في عقد المؤتمر الإسلامي وتمكينه من تحقيق أغراضه.
أما مشروع بلوم فيوليت(4) فنوع من التنويم المغناطيسي الذي قدمته الإدارة الاستعمارية في شكل إصلاح سياسي يرمي إلى ترقية شريحة محدودة من المجتمع المسلم في الجزائر، لكنه، في الحقيقة، لم يكن سوى وثيقة تعطي حق الانتخاب فقط للجزائريين الذين يتوفر فيهم واحد من تسعة شروط(5) لا يمكن العثور عليها في أكثر من خمسة وعشرين ألف جزائري. وعلى الرغم من ذلك، ومن أن المشروع حظي بقبول أغلب التيارات السياسية بما في ذلك الشيوعيين الجزائريين والمنتخبين والعلماء المسلمين الجزائريين، فإن الكولون قد رفضوه رفضاً مطلقاً وتمكنوا في النهاية من تجميده وإفشاله.
وأما المؤتمر الإسلامي فلا علاقة له بالمؤسسات الإسلامية كما قد يتبادر إلى الذهن، بل سمي كذلك لأنه دعي إلى الانعقاد للنظر في شؤون المسلمين أي سكان الجزائر الأصليين لأن مصطلح "الجزائريين" كان في ذلك الوقت مقصوراً على الأوربيين والمتجنسين بالجنسية الفرنسية. وفي مفهوم الإدارة الاستعمارية، فإن الشعب الجزائري قد ولد فقط سنة 1889 عندما صدر القانون الذي يعطي الجنسية الفرنسية آلياً، لكل من يولد في الجزائر من أبوين أوربيين.
ولقد انعقد المؤتمر في نفس الشهر والسنة اللذين تولى فيهما السيد بلوم رئاسة الحكومة الفرنسية، أي في الشهر السادس من عام 1936، وكانت أهم مطالبه إلحاق الجزائر بفرنسا وبالتالي إلغاء القوانين الاستثنائية والولاية العامة والمندوبيات المالية والمجموعات الانتخابية المزدوجة وذلك بالإضافة إلى تمكين كل الجزائريين من حق الانتخاب والترشح لجميع المناصب ومن التمثيل البرلماني كل ذلك مع الاحتفاظ بالأحوال الشخصية والاستفادة من قانون فصل الدين عن الدولة وحرية التعبير وتعليم اللغة العربية.
وعلى إثر انتهاء أشغال المؤتمر رحل إلى باريس وفد رفيع المستوى من أجل تسليم لائحة المطالب المسطورة إلى الحكومة الفرنسية لكن وزير الدفاع السيد دالادي في ذلك الوقت قابل أعضاء الوفد بكثير من الاستخفاف ودعاهم لزيارة بعض مستودعات الأسلحة الثقيلة وعلى إثر ذلك قال لهم: "إن لفرنسا كل هذه المدافع وغيرها، وهي عازمة على استعمالها للدفاع عن نفسها في الجزائر" وكان لهذا التهديد أثره البالغ في نفس الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس فكتب بعد عودته مقالاً بعنوان: "مدافع ربي أقوى من مدافع فرنسا".
ومن الجدير بالذكر أن نجم شمال افريقيا كانت هي التشكيلة السياسية الوحيدة التي رفضت المشاركة في المؤتمر الإسلامي، وأكثر من ذلك، فإنها جندت كل وسائلها الإعلامية لمحاربته وللتنديد بمطالبه التي وصفها السيد الحاج مصالي في ذلك الوقت بالاستعمارية والإمبريالية وهو ما جعل قادة الحزب الشيوعي الجزائري يتهمونه بالفاشية والتطرف خاصة عندما ألقى خطابه أثناء المهرجان الشعبي الذي انعقد يوم 2/8/1936 بالملعب البلدي في العاصمة لتمكين أعضاء الوفد العائد من فرنسا من تقديم عرض حال عن مهمته لأبناء الشعب الجزائري. ففي ذلك الخطاب دعا زعيم الحركة الوطنية الجزائرية إلى اعتبار مطالب المؤتمر عملاً مناقضاً للطبيعة وأكد على أن أرض الجزائر ليست للبيع وأن محاولة إلحاقها بفرنسا أمر مستحيل لن يكتب له النجاح لأن التربة ما زالت مبللة بدماء قوافل الشهداء.
كان لخطاب الحاج مصالي وقع كبير في نفوس الحاضرين واستطاعت أفكاره الرئيسية أن تشق طريقها بقوة في ثلاث اتجاهات هي:
ا-قيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تفطنت إلى أن الإلحاق لا يختلف عن الإدماج، وأن الحكومة الفرنسية لن توافق على ذلك لأسباب عرقية ووطنية وحتى لو وافقت، فإن الشعب الجزائري لا يمكن أن يكون فرنسياً. وللتعبير عن هذا الموقف الجديد كتب الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس قصيده المشهور الذي تحول بسرعة فائقة إلى نشيد وطني تردده سائر الشرائح الاجتماعية الرافضة للاستعمار، وللتذكير نورد الأبيات التالية:
شعب الجزائر مسلم
وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله
أو قال مات فقد كذب

أو رام إدماجا له
رام المحال من الطلب

ب-المثقفون الوطنيون الذين كان محمد الذيب في مقدمتهم والذين راحوا يوظفون تلك الأفكار في كتاباتهم النثرية والشعرية.
ج-الحزب الشيوعي الجزائري الذي اعتبرت قيادته الخطاب كله استفزازاً وتحريضاً على الانفصال الذي هو عمل فاشي ولا يخدم، من نظرها، سوى مصالح الإمبرياليين". وبالإضافة إلى ذلك، فإن السيد قدور بلقاسم الأمين الوطني للحزب كان يصرح في مناسبات عديدة: إن دعاة الانفصال أقلية وهم لا يمثلون سوى أنفسهم أو سادتهم كبار الكولون. أما المسلمون (يعني الجزائريين) فإنهم لا يريدون تطليق فرنسا خاصة بعد أن حققوا مبتغاهم واليوم، أكثر من أي وقت مضى، فإن وحدة الشعب في الجزائر وفي فرنسا ضرورية وستبقى كذلك(6).
هكذا، ابتعد الحزب الشيوعي الجزائري عن توصيات الأممية التي كانت ترى أن تحرير الجزائر وتونس من شأنه أن يضرب الإمبريالية الفرنسية في الأعماق، ولن يتوقف الكفاح من أجل تحرير الجزائر إلا بعد انتصار العبيد”(7). وألغى من أدبياته "استقلال الجزائر" و"البرلمان الجزائري" وحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه"، ليتمسك فقط بضرورة العمل على "اتحاد الشعب الجزائري مع شقيقه الأكبر الشعب الفرنسي"، وليبذل كل ما في وسعه لإنجاح برنامج حكومة الجبهة الشعبية من جهة ولتعميم مطالب المؤتمر الإسلامي من جهة ثانية. وقد جاء كل ذلك مجسداً في الشعار التالي "ليس أمامنا سوى طريق واحد يضمن الاتحاد في إطار المؤتمر الإسلامي الشعبي والتحالف مع الجبهة الشعبية، أي مع الشعب في فرنسا".
في هذا السياق، وتطبيقاً لهذه السياسة، شرع قادة الحزب الشيوعي الجزائري في شن حملة واسعة النطاق ضد نجم شمال افريقيا ولم يهدأ لهم بال حتى أقدمت حكومة الجبهة الشعبية على حلها في شهر يناير 1937 بتهمة "الدعوة إلى الانفصال والعمل على مناهضة فرنسا". وعندما استبدل النجم بحزب الشعب الجزائري يوم 11/3/1937، فإن الحملة العدائية قد وجهت ضد هذا الأخير الذي قالت عنه جريدة La Lutte Sociale إنه يخدم الفاشية العالمية بدعوته إلى استقلال الجزائر".
ويفسر السيد الحاج مصالي عداء الشيوعيين بخيبة "الأمل التي أصابتهم نتيجة فشل مشروع بلوم /فيوليت وهو الأمر الذي أفقد حزبهم ثقة العمال الجزائريين وساعد، في نفس الوقت على انتشار مبادئ حزب البعث الجزائري والتفاف جماهير الشعب حول أكثرها وضوحاً وهو العمل على استرجاع الاستقلال الوطني"(Cool لكن الحقيقة تكمن في كون الحزب الشيوعي الجزائري كان، فقط، مجرد بوق للحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يرفض عن قناعة كل عمل من شأنه أن يؤدي إلى انفصال الجزائر عما كان يسمى بالوطن الأم، وبعبارة أخرى، فإن وطنية الحزب الشيوعي الفرنسي لم تكن تسمح بتجسيد الفكر اللينيني فيما يتعلق بمستقبل الجزائر المستعمرة.
لقد كان الشيوعيون الجزائريون، على غرار الشيوعيين الفرنسيين، يؤمنون بأن موسكو هي الشمس التي تسطع على عالم المستضعفين، لكنهم كانوا، في نفس الوقت، يرفضون عروبة الجزائر وإسلامها ويناهضون حزب الشعب الجزائري لأنهم لا يعترفون بوجود شعب واحد في الجزائر، ولأن برنامجهم السياسي يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق الاندماج كحل جذري لقضية الاستعمار في الجزائر.
وحتى في هذا التفكير الغريب، فإن الشيوعيين الجزائريين لم يكونوا سوى أمعيين ومعمعيين لأن السيد موريس توريز الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي هو الذي جاء بفكرة الأمة الجزائرية في طور التكوين، وهو الذي قرر أن في الجزائر شعوباً متعددة وأجناساً مختلفة عدد منها: "البربر" والقرطاجنيين والرومان والعرب والأتراك واليهود واليونانيين والمالطين والألبانيين والإيطاليين والفرنسيين "ثم أكد أن العدد يصل إلى عشرين وأن "الجميع هم أبناء الثورة الكبرى التي لا تميز بين الأجناس والأديان والتي جعلت الجمهورية الفرنسية واحدة لا تتجزأ"(9).
بهذه النظرة الجديدة للجزائر وبكل ما تتطلبه من مناهضة للحركة الوطنية التي تهدف إلى بعث الدولة الجزائرية بعد استرجاع سيادتها، استقبل الشيوعيون الحرب الإمبريالية الثانية. فالجزائر، حسب الحزب الشيوعي الجزائري، ليست هي الجزائر التي اعتادت عليها فرنسا سنة 1831.
****
اندلعت الحرب الإمبريالية الثانية إذن، بعد أن تراجع حكم الجبهة الشعبية وفشل مشروع بلوم/ فيوليت وبعد أن اندثر المؤتمر الإسلامي. وبينما كان موقف الحركة الوطنية الجزائرية من الأطراف المتحاربة واضحاً إذ أن الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس صرح وكتب على أعمدة الصحافة أن "لا ناقة لنا ولا جمل في هذه الحرب، وعلى الجزائريين أن لا يشاركوا فيها بأية طريقة كانت"، ووجه حزب الشعب الجزائري تعليماته إلى المناضلين والإطارات يدعوهم إلى رفض التجنيد في صفوف الجيش الفرنسي والهروب منها في حالة التواجد فيها، فإن الحزب الشيوعي الجزائري، رغم حله قانونياً وعودته للنشاط تحت اسم "جبهة الحرية" قد تخلى عن كل القيم النضالية وراح يدعو إلى تعبئة جميع الإمكانيات المادية والبشرية من أجل "تحرير فرنسا التي سقطت تحت ضربات النازية القاضية".
ولقد دخل الشيوعيون الجزائريون فترة الحرب الإمبريالية الثانية مهزومين بسبب قرار الحل الذي ترتب عنه إلقاء القبض على عدد كبير من قادتهم الذين يأتي في مقدمتهم السيد قدور بلقاسم الانف الذكر، ومقسمين نتيجة استقالة بعض القادة الأساسيين أمثال ابن علي بوخرط(10) وانسحاب أعداد غفيرة من المناضلين الذين رأوا أن سياسة الحزب الشيوعي الجزائري لا تتماشى مع مصالح الشعب الجزائري، فهي تقف ضد توجهات حزب الشعب الجزائري الرامية إلى استرجاع الاستقلال الوطني وتخدم الإدارة الاستعمارية ممثلة في الجبهة الشعبية التي لم تقدم أي شيء إيجابي للجزائر.
وعلى غرار معظم التشكيلات السياسية الفرنسية انضمت "جبهة الحرية" إلى المقاومة ضد حكومة فيشي "حتى لا تكون الجزائر مستعمرة نازية وفي سبيل الدفاع عن الفلاحين والشباب الجزائريين". وفي الحقيقة، فإن الشيوعيين الجزائريين أو من تبقى منهم مهيكلاً في التنظيم الجديد قد تخلوا، نهائياً، عن المبادئ اللينينية الماركسية ولبسوا عباءة الوطنية الضيقة التي تفرض عليهم الدفاع عن الإمبريالية والاستعمارية بحجة الدفاع عن حرية الشعب الفرنسي.
ولأن الحركة الوطنية الجزائرية بفرعيها دعت أفراد الشعب الجزائري إلى عدم المساهمة في الحرب إلا إذا تعهدت فرنسا في مقابل ذلك بالتخلي عن الاستعمار وتمكين الجزائر من ممارسة حقها في تقرير مصيرها، فإن الحركة الشيوعية قد اتهمتها بالخيانة وبالعمل في ركاب الفاشية والنازية. واعتقد الشيوعيون أن في استطاعتهم النفاذ إلى أوساط الجماهير الشعبية فرفعوا شعار الأخوة والعدل والمساواة زاعمين أن مشروع بلوم فيولات يحمل كل ذلك في طياته ومذكرين بأن المؤتمر الإسلامي كان قد وافق عليه وسعى لتجسيده على أرض الواقع.
لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري عاجزاً عن التفاعل مع قضايا الجماهير الشعبية وغير قادر على الارتقاء إلى مستوى الصراع الحضاري الذي لم يتوقف في الجزائر، منذ سنة 1830، لأجل ذلك، فإنه كان يرتكز في أدبياته، على أن مشكل الجزائريين لا يتعدى مسألتي الخبز والشغل، فإذا تمكنت الإدارة الفرنسية من أن توفر لهم ذلك من أن تكفيهم شر الاستبداد الذي يمارسه غلاه الكولون، فإنها ستضمن الهدوء والاستقرار من جهة وتجعلهم يقدمون، بمحض إرادتهم، على المشاركة الفعلية في التصدي للنازية من جهة ثانية.
وحينما توحدت تيارات الحركة الوطنية حول "بيان الشعب الجزائري" الذي سلم للسلطات الفرنسية ولممثلي الحلفاء في الجزائر، والذي كان يدعو إلى الاعتراف بالمواطنة والجنسية الجزائريتين وإلى التعهد بتمكين الشعب الجزائري من تقرير مصيره بنفسه وبعث دولته المستقلة بعد استرجاع سيادته المغتصبة، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد اعتبر ذلك خيانة وجعل سياسته تتمحور حول المطالبة بتحسين الأجور وتطبيق المساواة فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية من جهة، وحول ما يسمى بالإصلاحات التي بشر بها مشروع بلوم فيوليت وتبنتها أمرية الجنرال ديغول من جهة ثانية(11).
من هذا المنطلق، فإن الحزب الشيوعي الجزائري لم يكن سوى تابع للحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان، منذ اندلاع الحرب الإمبريالية الثانية، شريكاً قوياً في حركة المقاومة التي تزعمها الجنرال ديغول، وبتلك الصفة لبس عباءة الوطنية الضيقة التي تسعى إلى استرجاع السيادة الفرنسية وهو أمر طبيعي، وإلى الحفاظ على حدود الإمبراطورية الاستعمارية الشاسعة وهو موقف يتناقض تماماً مع الماركسية اللينية ومع أهداف الأممية الشيوعية التي كانت، يومها، ترفع شعار حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
فالشيوعيون الفرنسيون والجزائريون، على حد سواء، كانوا، إذن، مجندين، فقط، لخدمة المصلحة الفرنسية غير آبهين بمصير الشعب الجزائري الذي لم يخف عنه ذلك، هو أيضاً، فراحت طاقاته الحية تلتف حول حركة "أحباب البيان والحرية" التي ترأسها السيد فرحات عباس، في ذلك الوقت، والتي جاءت كرد فعل على أمرية الجنرال ديغول وشاركت فيها، فعلياً، كل تيارات الحركة الوطنية.
لقد أنشئت الحركة المذكورة يوم 14/3/1944 من أجل الدفاع عن "بيان الشعب الجزائري" وللمطالبة "بحق جميع الجزائريين في ممارسة الحرية وللمساهمة في تكوين إنسانية جديدة تكون فيها كل الشعوب حرة وموحدة طبقاً لما أوصى به مؤتمر رابطة حقوق الإنسان المنعقد سنة 1931"(12) ولمزيد من الوضوح، جاء في المادة الرابعة من القانون الأساسي للحركة أن هذه الأخيرة تسعى بجميع الوسائل لتعميم فكرة الأمة الجزائرية ولتتأسس، في الجزائر، جمهورية مستقلة متحدة مع الجمهورية الفرنسية المتجددة والمناهضة للاستعمار وللإمبريالية"(13).
ولم يكن الحزب الشيوعي الجزائري مستعداً لتبني فكرة الجمهورية الجزائرية المستقلة، ولا ليقبل بغير التطور في إطار الإمبراطورية الفرنسية حلاً للمشكل الجزائري الذي هو مجرد مطالبة بالخبز وبالحقوق المادية، أما الحديث عن استرجاع الاستقلال فهو عين الديماغوجية لأن الجزائر لا يمكن أن تكون إلا تابعة لقوة خارجية(14). لأجل ذلك، فإنه رفض عرض السيد فرحات عباس فيما يخص الانضمام إلى "حركة أحباب البيان والحرية" معبراً عن إدانته لها باعتبارها "وكر للمغامرين والوطنيين المزيفين"(15).
ولم يكتف الشيوعيون الجزائريون بعدم الانضمام إلى حركة "أحباب البيان والحرية" بل إنهم سارعوا إلى تأسيس حركة مضادة أسموها: "أحباب الديموقراطية"، ضبطوا لها مجموعة من الأهداف تأتي في مقدمتها محاربة الانفصاليين وتعبئة المسلمين الجزائريين في سبيل تحرير فرنسا"(16).
وقد ذهب السيد عمار أوزقان إلى أبعد من ذلك عندما قال عن أقطاب الحركة الوطنية: "إنهم تخلوا عن حمار النازية ليركبوا باخرة الميثاق الأطلسي"(17). وفي مناقشات الندوة المركزية التي نظمها الحزب الشيوعي الجزائري يوم 23/09/1944 صرح نفس السيد أوزقان: "إن مصلحة الجزائر لا تكمن في الانفصال عن فرنسا الجديدة، لأن الاستقلال مستحيل وهو لا يخدم سوى إمبرياليات أجنبية أخرى". وفي ذات الندوة أكد الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري أنه يرفض بشدة شعارات "الانفصال عن فرنسا" و"الجزائر العربية" لكن "أحباب الديموقراطية" كانت محاولة يائسة لم تجد طريقها إلى جماهير الشعب الجزائري الذي كان مسلماً في أعماقه ويرفض كل أنواع الإلحاد، لأجل ذلك، فإن الأمين العام للحزب الشيوعي السيد عمار أوزقان قد أمر بمحاربة "عصابات الأوباش والأشرار - عملاء الفاشية- الذين يتذرعون بالدين لمكافحة المشروبات الكحولية"(18).
كل هذه المواقف التي لا علاقة لها بالواقع الجزائري والتي لا تخدم مصلحة الجماهير الشعبية هي التي جعلت الجزائريين في معظمهم ينظرون إلى الحزب الشيوعي الجزائري نظرتهم إلى كل تنظيم أجنبي ويرفضون اعتباره واحدة من التشكيلات الوطنية. وكان الشيوعيون بالنسبة للرأي العام الإسلامي (أي الجزائري) أقرب إلى المواطنة والجنسية الفرنسيتين وأكثر التحاماً مع الشيوعيين الفرنسيين الذين تخلوا، نهائياً، عن مبادئ الأممية الشيوعية، وتعاليمها لصالح النضال الوطني الضيق في إطار المقاومة الفرنسية التي كانت تهدف إلى استرجاع الإمبراطورية الاستعمارية والحفاظ عليها بجميع الوسائل.
وعندما وضعت الحرب الإمبريالية الثانية أوزارها وحقق الحلفاء تفوقهم على ألمانيا وأعادوا لفرنسا حريتها وسيادتها، استطاع الشيوعيون الفرنسيون أن يشاركوا، فعلياً، في تسيير الحكومة الوطنية التي أقامها الجنرال ديغول.
واعتبر الشيوعيون الجزائريون ذلك انتصاراً وراحوا يتعاملون مع الإدارة الاستعمارية التي كانت قد رفعت إلى ممثلي الحلفاء "أن الشعب في الجزائر يرفض الانفصال عن فرنسا، وأن تشكيلات الحركة الوطنية لا تمثل سوى نفسها وأنها تعمل في ركاب قوات أجنبية همها إضعاف فرنسا وإرباكها داخلياً حتى لا تتمكن من إعادة البناء بجميع أنواعه".
وللتدليل على خطأ هذه المزاعم وعلى النفاذ المحكم في أوساط الجماهير الشعبية ولتبرهن على أنها الناطق الشرعي باسم الشعب الجزائري الذي صار، في معظمه، يصبو إلى استرجاع سيادته المغتصبة وإقامة الجمهورية الجزائرية بجميع مؤسساتها، فإن الحركة الوطنية قد قررت القيام بنشاط واسع النطاق وحددت، لذلك، فاتح مايو سنة 1945.
ونظراً لما كان لحزب الشعب الجزائري من مكانة فاعلة بين التشكيلات المكونة لتلك الحركة، فإن قيادته هي التي تولت الإعداد المادي والبشري لتنظيم مظاهرات شعبية توظفها للمشاركة في احتفالات الطبقة الشغيلة من جهة ولتختبر مدى قدرتها على تعبئة الجماهير وتجنيدها، ولتعلم إلى أي حد تستطيع هذه الأخيرة أن تسير وراءها بكل الثقة التي لابد منها لنجاح المشاريع الحيوية من جهة ثانية.
على هذا الأساس سهرت قيادة الحزب السرية على أن تكون المظاهرات المشار إليها مغايرة تماماً، شكلاً ومضموناً، للمظاهرات التي تعودت النقابات تنظيمها بتلك المناسبة. أما من حيث الشكل، فإنها قررت أن تجعل منها نموذجاً للعمل المتقن وللجدية والانضباط اللذين ينمان عن وعي المشاركين بخطورة الموقف وقدرتهم الفائقة على تطبيق التعليمات، وأما فيما يخص المضمون، فإنها، رغم احترامها للمطالب العادية التي ينادى بها العمال في مثل تلك التجمعات، قد قررت أن يرفع المتظاهرون شعارات وطنية فيها مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم زعيم الشعب الجزائري السيد الحاج مصالي، وبحق الجزائر في تقرير مصيرها بنفسها وفي استرجاع سيادتها وإقامة المؤسسات الوطنية المستقلة.
ويتفق كل الذين كتبوا حول الموضوع، أن قرارات اللجنة المديرة لحزب الشعب الجزائري قد اتبعت ونفذت بدقة شديدة، لكن القمع الاستعماري كان وحشياً في جميع قرى البلاد ومدنها. وبينما تمثل رد فعل الإدارة الاستعمارية في إجراءات العسف والقتل والاعتقال العشوائي، ولجأت مجموعة من الإطارات القيادية في حزب الشعب إلى الجبال تحتمي بقممها ووديانها وشعابها، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد اغتنم تلك الفرصة لتوزيع منشور مطول يتهم فيه التظاهرات الوطنية "بأنها لوثت انتصارات الطبقة الشغيلة بدماء الأبرياء في الوقت الذي كان يجب أن تتحد فيه جهود المحرومين من أجل تحقيق انتصارات جديدة"(18).
هكذا، كان فاتح مايو 1945 محطة أولى استعملتها فصائل الحركة الوطنية الجزائرية لتبرهن للرأي العام في فرنسا وفي العالم على أنها تحظى بثقة الجماهير الشعبية، وأمام رد الفعل الاستعماري المعزز بموقف الشيوعيين الجزائريين، قرر حزب الشعب الجزائري المحظور توظيف محطة ثانية -تتمثل في مناسبة الثامن من مايو - بقصد لفت انتباه الحلفاء عامة وحكومة الجنرال ديغول بصفة خاصة، إلى الواقع الجديد الذي آل إليه الشعب الجزائري وهو واقع الاستعداد المطلق لتحمل مسؤولياته كاملة في تسيير شؤونه بنفسه.
ولقد كانت السلطات الاستعمارية تعرف أنها أمام حركة سياسية نوعية استطاعت أن تنفذ بسرعة وبحكمة إلى جميع الأوساط الشعبية، وتمكنت من نشر الوعي اللازم لجر الجماهير الواسعة إلى العمل الثوري بكل أنواعه ومن إقناعها بضرورة الإقدام على التضحية القصوى في سبيل استرجاع الاستقلال الوطني الكامل، لأجل ذلك فإنها لم تبق مكتوفة الأيدي بل لجأت إلى كل ما لديها من إمكانيات مادية وبشرية قصد التخطيط لقمع منظم وإبادة جماعية بقي التاريخ يحفظ أنها أودت بحياة حوالي ثمانين ألف جزائري وتسببت في هدم وتخريب ما يزيد عن مائة من القرى والمداشر، بالإضافة إلى كل ما خلفته من أيتام وأرامل وآفات اجتماعية متعددة وبالإضافة، أيضاً، إلى تشغيل الأفران المحرقة خاصة في نواحي مدينة قالمة.
وعلى الرغم من كل ما نشر حول الموضوع، حتى الآن، فإن نتائج القمع الرهيب لم تضبط بدقة وبصفة نهائية، لكن الذي لا يعتريه أدنى شك هو أنها تأتي في مقدمة جرائم الحرب المرتكبة ضد الإنسانية قبل غيرها من الجرائم التي تحظى اليوم، بعناية المؤرخين ورعاية الدول العظمى والمنظمات الدولية وخاصة منها منظمة الأمم المتحدة.
ومن الجدير بالذكر أن الحزب الشيوعي الفرنسي، بصفته شريكاً فعلياً وقوياً في حكومة الجنرال ديغول، يومها، يتحمل أكبر جزء من المسؤولية. والغريب أن قيادته لا تنكر ذلك، بل إن محفوظاتها الرسمية تؤكد أنها كانت، منذ اللحظات الأولى، قد طالبت "بتسليط أشد العقوبات على منظمي التمرد وأعوانهم ممن قادوا المظاهرات"(19).
وركب الحزب الشيوعي الجزائري موجة رائدة، فراح يكيل الاتهامات لاطارات حزب الشعب الجزائري محملاً إياهم مسؤولية إراقة الدماء، ومدعياً أنهم يعملون في ركاب النازية ويطبقون تعليمات هتلر "التي لا تخدم سوى مصالح الاقطاعيين الذين ينادون بالانفصال عن فرنسا"(20).
وإذا كان السيد عمار أوزقان الذي كان أميناً وطنياً للحزب، في ذلك الوقت، قد كتب في ليبرتي يصف قادة حزب الشعب الجزائريين "بالمجرمين عملاء الفاشية والمغامرين الذين أسقطوا قناع المسلمين والوطنيين المزيفين" فإن السيد كاباليرو وهو أمين وطني آخر، لم يجد مانعاً من اتهام المطالبين باسترجاع الاستقلال الوطني "بالعمالة للامبريالية عن وعي أو بكيفية غير واعية"(21).
من هذا المنطلق، فإن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري كانت تنكر على حركة مايو 1954 طابعها الثوري وتحصرها، فقط، في إطار التظاهر من أجل الخبز، ولأجل ذلك فهي ترى أن الجرائم المرتكبة من طرف الإدارة الاستعمارية نوعاً من الدفاع عن السيادة الوطنية، وتقر أن أفراد الميليشيا ومصالح الشرطة والأجناد على اختلاف وحداتهم لم يتجاوزوا حدود ما كان مطلوباً منهم. وحتى بعد مرور الزمن، فإن الشيوعيين قد ظلوا متمسكين بموقفهم الخاطئ والقائل "لا وجود لثورة عربية، بل هي مؤامرة فاشية.. ولقد أشار الحزب، يومها، إلى ما يجب فعله ليعم الأمن في الجزائر أي: تزويد السكان المسلمين بالغذاء وتشديد العقاب على القتالين الهتليريين الذين ساهموا في أحداث الثامن مايو، واعتقال المسؤولين الحقيقيين الذين كانوا بالأمس يزودون "رومل" بما يحتاج إليه"(22).
****
ظل الحزب الشيوعي الجزائري، هكذا، في غيه بعيداً كل البعد عن الحقيقة، ومجانباً للواقع الجزائري يلهث فقط وراء نظريات الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان بدوره، تابعاً كلية للحزب الشيوعي السوفياتي. وعلى هذا الأساس يقول أمينه العام السيد العربي بوهالي: "كان الشيوعيون، في الجزائر، يعيشون في عزلة عن الحركة النضالية بل وفي تناقض معها"(23). لكن نهاية الحرب الامبريالية وما نتج عنها من تطورات على الساحة الدولية جعلت فرنسا تميل إلى العالم الرأسمالي على حساب المعسكر الاشتراكي وتباعاً خرج الشيوعيون من السلطة خاصة بعد انسحاب الجنرال ديغول. كل ذلك مضافاً إلى نتائج حركة مايو الثورية التي أثبتت تجذر الحركة الوطنية في الجزائر، وإقدام أغلبية الشعب الجزائري على انضوائه تحت لوائها، أدى بقيادة الحزب الشيوعي الجزائري إلى إعادة النظر في سائر المواقف الشيوعية وإلى تقييم المراحل المقطوعة منذ بداية الثلاثينات، وهو العمل الذي جاء مجسداً في نداء يحمل تاريخ 21/7/1946.
وأهم ما ورد في ذلك النداء "أن الحزب الشيوعي الجزائري هو الحزب الوحيد الممثل للأمة الجزائرية التي هي في طور التكوين"(24). وعلى هذا الأساس فهو يرى أن الحل الأوحد والأكثر ديموقراطية بالنسبة للقضية الجزائرية إنما يتمثل في تحويل الجزائر إلى "شريك لفرنسا في إطار الاتحاد الفرنسي".
وعلى الرغم من الأسلوب الجديد في المعالجة، فإن الحزب الشيوعي لم يغير موقفه من الحركة الوطنية الجزائرية قيد أنملة. فهو لم يتخل عن فكرة ولم يكن قد نسي بعد، الدور الإجرامي الذي قام به الشيوعيون في عمليات الإبادة التي مارستها حكومة الجنرال ديغول خلال شهر مايو سنة 1954 وأكثر من ذلك، فإن الوطنيين كانوا يدركون أن الحزب الشيوعي الجزائري مجرد دودة زائدة في جسم الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان بدوره -كما يعلم الجميع- تابعاً في كل قراراته الأساسية للحزب الشيوعي السوفياتي وحتى لو كان الحزب الشيوعي الجزائري مستقلاً في نشاطه وينطلق في كل ما يقوم به، من مرجعية فكرية خاصة به، فإن مواقفه المعبر عنها في ذلك الوقت وسلوكاته السياسية المختلفة كانت تمنع التشكيلات الوطنية الجزائرية من الاتحاد معه في إطار مشروع بعيد المدى يكون الهدف منه تحرير الجزائر وذلك لعدة أسباب أهمها:
1-إن الحزب الشيوعي الجزائري، عندما أعاد النظر في مواقفه السياسية، صار يرفع شعار الجمهورية الجزائرية ويدعو للنضال من أجل تحقيق استقلالها، ويندرج ذلك في إطار أيديولوجيته التي تنطلق من كون الجزائر أمة في طور التكوين. والذي يتكون من جديد إنما يسعى فقط للحصول على الاستقلال. لكن حزب الشعب الجزائري الذي ينطلق في نضاله من الواقع الوطني، يدرك أن الاستعمار الفرنسي هو الذي غيب الدولة الجزائرية التي كانت قائمة بجميع مؤسساتها، وعليه فهو يعمل بكل الوسائل من أجل "استرجاع الاستقلال الوطني وبعث الدولة الجزائرية المعتدى عليها سنة 1830"(31)، مؤكداً في جميع المناسبات أن "إلغاء الدولة الجزائرية بالقوة لم يترتب عنه بالضرورة إلغاء الأمة الجزائرية"(32) وهو الأمر الذي جعل الطلائع الجزائرية تعبئ جميع الإمكانيات وتلجأ إلى جميع الوسائل في سبيل "بعث الحياة الوطنية الحرة الكريمة واسترجاع السيادة المغتصبة"(33). هذه اللغة لا يفهمها الشيوعيون الذين يقولون مع موريس توريز "هناك أمة جزائرية تتشكل باختلاط عشرين جنساً"(34).
2-إن الحزب الشيوعي يرفض اللغة العربية والعروبة والإسلام فبالنسبة إليه لا يمكن للغة الضاد أن تكون هي اللغة الوطنية لأن مليون أوربي يجهلها أو يتجاهلها ولأنها لغة القرآن. أما العروبة والإسلام فإنهما صنوان للتخلف والرجعية. لكن الحركة الوطنية، على لسان السيد الحاج مصالي، تناضل لتحرير الشعب الجزائري المسلم "الذي له لغته ودينه وماضيه المجيد ومفكروه وأبطاله وعاداته وتقاليده.. والإسلام على غرار الحركة الوطنية، ديمقراطي وهما في غنى عن الدروس التي يلقيها السيد بوخرط"(35).
3-إن الحزب الشيوعي الجزائري يدعو، في جميع الحالات إلى إلحاق الجزائر بالاتحاد الفرنسي الذي يشكل "الحل الواقعي الوحيد"(36) لكن الحركة الوطنية وخاصة منها حزب الشعب الجزائري ترى أن الحل الواقعي الوحيد هو الانفصال عن فرنسا وتمكين الجزائر من استرجاع سيادتها واستقلالها كاملين، ومن جهة أخرى، فإن حزب الشعب الجزائري يرى أن "الاتحاد الفرنسي" نوع من الامبريالية الجديدة التي تهدف في النهاية، إلى منع الشعوب المستعمرة من ممارسة حقها في تقرير مصيرها.
4-إن الحزب الشيوعي الجزائري منحاز إلى الاتحاد السوفياتي وملحقاته لأن "الجيش الأحمر أهل لكل ثقة وسطالين هو رمز الأمل في العودة إلى أكثر ما يمكن من الحرية والعدالة والمساواة"(36) لكن الحركة الوطنية إذ ترفض الامبريالية الفرنسية وتحاربها، فإنها لا ترى أي أمل في الانضواء تحت لواء الامبريالية السوفياتية التي تستعمر شعوباً إسلامية كثيرة والتي لا يختلف موقفها عن موقف الامبرياليات الغربية فيما يتعلق بالقضايا الأساسية التي تهم الوطن العربي وخاصة منها القضية الفلسطينية.
5-إن الحزب الشيوعي الجزائري، على غرار الاتحاد السوفياتي والأممية الشيوعية، قد اعترف بالكيان الصهيوني على أرض فلسطين المغتصبة من أصحابها بتواطئ جميع الدول العظمى. أما سائر تشكيلات الحركة الوطنية، في الجزائر، فإنها تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها الأساسية، ورغم الواقع الاستعماري فإنها كانت، منذ البداية، تعبئ الجماهير الشعبية للمساهمة، بقدر الإمكان في تحرير البقاع المقدسة.
6-إن الحزب الشيوعي الجزائري يرفض فكرة المغرب العربي الموحد لأنها تتناقض مع قناعاته الخاصة بالجزائر "أمة في طور التكوين"، لكن الحركة الوطنية، بجميع تشكيلاتها، ترى أن الجزائر لا يمكن فصلها عن الحركة الوطنية، بجميع تشكيلاتها، ترى أن الجزائر لا يمكن فصلها عن المغرب العربي "الموحد جغرافياً وتاريخياً ودينياً ولغوياً واقتصادياً وثقافياً" كما جاء ذلك في لائحة السياسة العامة التي صادق عليها مؤتمر الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري المنعقد في مدينة البليدة ما بين 3 و5 أكتوبر 1947.
****
رغم كل هذا التباين في المواقف الأساسية، ورغم الأسر الأيديولوجي الذي كان يعيشه، ورغم كل ما كان قد قام به من عمل ضد تشكيلات الحركة الوطنية وخاصة منها حزب الشعب الجزائري، فإن الحزب الشيوعي الجزائري، الذي فتح أبواب قيادته الوطنية لعدد من الشباب الجزائري المسلم المتعلم، قد اختار أسلوباً جديداً في العمل السياسي وضبط مجموعة من الشعارات التي تدل في ظاهرها على أنه فهم الدرس وعاد إلى الرشد يسعى لربح ثقة جماهير الشعب الجزائري ولإقناع أطراف الحركة الوطنية الجزائرية بأنه تخلى عن قناعاته القديمة وأصبح يؤمن بالكيان الجزائري المستقل عن فرنسا.
أول هذه الشعارات جاء مجسداً في نداء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي نشرته جريدة ليبرتي في عددها الصادر بتاريخ فاتح جانفي سنة 1948 والذي تضمن دعوة الأحزاب الوطنية للتكتل في "جبهة وطنية ديموقراطية جزائرية تعمل في سبيل الحرية والأرض والسلام قصد السير بالجزائر إلى أن تصبح جمهورية ديموقراطية لها دستورها وبرلمانها وحكوماتها". لكن الجزائر التي يعنيها الشيوعيون هي "ذلك البلد الذي يسكنه ويناضل فيه العرب والقبائل والأوربيون واليهود ومن ثمة فهي ليست عربية أكثر منها بربرية وتركية وفرنسية"(37).
فالجمهورية الديموقراطية الجزائرية التي يهدف الحزب الشيوعي الجزائري لإقامتها منحازة للاتحاد السوفياتي باعتباره القوة العظمى المناهضة للامبريالية ومندمجة في الاتحاد الفرنسي بزعامة فرنسا "الديمقراطية والمناهضة للاستعمار" وبعبارة أدق، فإن الجزائر التي يعنيها الشيوعيون إنما هي تلك التي تأوي الأمة الجديدة التي كان قد بشر بميلادها السيد موريس توريز سنة 1939 أما الحركة الوطنية الجزائرية فهي ترفض الانحياز لأية واحدة من الكتلتين وترى "أن الخطر الامبريالي الأمريكي اقتصادي، ومن ثمة فهو لا يهدد سوى البلدان المصنعة التي لا تعد بلدان شمال افريقيا من جملتها".
الشعار الثاني الذي رفعه الحزب الشيوعي معتقداً أنه يستطيع تعبئة الجماهير الشعبية يتعلق بالسلام. فالشيوعيون الذين شاركوا إلى جانب تشكيلات الحركة الوطنية في المؤتمر العالمي للسلم يرون أن التحرير الوطني لا يمكن فصله عن النضال من أجل السلام في العالم، لكنهم، في نفس الوقت، لا يتصورون تحرير الجزائر خارج الاتحاد الفرنسي "وبدون مساعدة حليف الجزائر الحقيقي الذي هو شعب فرنسا"(38) وحتى يكون لهذا الشعار وزن في نظر الجزائريين أضاف إليه الحزب الشيوعي الجزائري مسألتي تحرير المعتقلين السياسيين وحرية التعبير للجميع.
لكن تشكيلات الحركة الوطنية الجزائرية كانت تدرك جيداً حقيقة الحزب الشيوعي، لذلك فإنها لم تنخدع له ولم تأخذ في الاعتبار كتاباته المتناقضة، وإذا كان حزب الشعب الجزائري لم يكلف نفسه عبء دراسة العروض الشيوعية لاقتناعه بعدم تطابقها مع طموحات الشعب الجزائري، فإن الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري قد توقف، ملياً، عندها، يفحص ويتمعن قبل أن يجزم قولا وكتابة أن نقاطاً أساسية تمنعه من الاستجابة لها.
ولم يكتف الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري بذكر نقاط الاختلاف، بل إنه وظف كل إمكانياته لنقدها وإبراز مواطن الضعف فيها حتى يدرك المواطن والمناضل على حد سواء لماذا تبقى نداءات الحزب الشيوعي صيحة في واد مهجور.
انطلاقاً من كل هذه المعطيات يمكن القول: إن الحزب الشيوعي الجزائري قد توصل، في ذلك العقد الرابع من القرن العشرين، إلى بلورة رؤيته للجزائر وهي تلكم الرؤية التي ما زال محتفظاً بها إلى غاية هذا اليوم رغم كل التغيرات التي طرأت على اسمه، ورغم كل المراحل التي قطعتها الجزائر بدونه أحياناً وضده بجميع الوسائل أحياناً أخرى. وبكل إيجاز فإن الجزائر، حسب هذه الرؤية، ليست عربية، وعروبتها إدعاء باطل يتنكر لوجود العناصر الأخرى التي ساهمت في تكوين الأمة.. وليس صحيحاً ما ينسب للإسلام من دور أساسي في تحديد الهوية الوطنية وتوحيد الشعب بالإضافة إلى أنه دين الرجعية والتخلف كما أن اللغة التي جاء بها يجب أن تبقى مهمشة لصالح اللغة الفرنسية، لأجل ذلك، يجب أن تكون اللائكية هي السائدة وأن تركب حصاني الديموقراطية والتعددية الزائفتين لمغالبة الحركة الوطنية ومنعها، بكل الوسائل بما في ذلك العنف- من تجسيد مشروع المجتمع الذي استطاعت أن تبلوره في العقد الثاني من هذا القرن وظلت ترعاه وتعمل على تطويره إلى أن أصابه الزلزال في شهر أكتوبر سنة 1988 ثم توقف نهائياً بموجب ما يسمى بدستور فبراير سنة 1989.
والحقيقة، فإن الزلزال المشار إليه لم يكن سوى نتيجة منطقية لتضافر جهود منظري الاستعمار الفرنسي والشيوعيين الجزائريين الذين كانوا يلتقون حول "مكونات الأمة الجزائرية" فالأوائل يعتبرون شمال افريقيا مهداً للكنيسة والبربر حماة لها وهم، أي البربر، يختلفون كلية عن العرب كما جاء ذلك في "رسالة الجزائر" التي كتبها الكيس دوتوكفيل وأما الشيوعيون، فإنهم ظلوا، إلى نهاية الأربعينات من هذا القرن، متشبثين بنظرية أمينهم العام السيد موريس توريز التي سبقت الإشارة إليها ولا داعي للتوقف عندها هنا.
ومن هذا المنظور، فإن ما يسمى اليوم بالأزمة الأمازيغية أو الأمة البربرية كما سميت في نهاية الأربعينات، ليست سوى تعبير، بأسلوب مغاير عن موقف اللائكيين والشيوعيين المنادي بمحاربة العروبة والإسلام. ومما لا شك فيه أن ذلك الموقف ناتج، أساساً، عن تأثير الثقافة الغربية في أصحابه الذين زاد في تعصبهم جهلهم المطلق للدين الإسلامي.
إن السيد محمد حربي، في معالجته لهذا الموضوع، يذكر إن من العوامل التي أنتجت الأزمة البربرية في الجزائر "فشل حزب الشعب الجزائري والحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية في وضع أيديولوجية تتلاءم مع التنوع الجزائري، وكذلك خيبة الانتظار أمام التعبئة السياسية التي عرفتها سنوات، 1949/1954 (39) فهذا الحكم غير صحيح لأنه يعتمد على واقع مزيف أوجده الاستعمار، في الأساس، لضرب دعائم المجتمع الجزائري، إذ أن التنوع الذي يتحدث عنه ليس طبيعياً بل هو مصطنع والمقصود منه "هو محاربة الإسلام عدونا الأبدي" كما يعترف بذلك المدير السابق لمدرسة الآداب في الجزائر السيد إميل ماسيكري. لم يأبه الحزب الشيوعي برفض التشكيلات الوطنية لعروضه، وبعد مرور الفترة الفاصلة بين دورتي لجنته المركزية وبالضبط يوم 12/11/1950 جدد محاولاته لإقناع أطراف الحركة الوطنية بضرورة الانضمام إليه "حول ميثاق وحدة وعمل يرمي إلى تحقيق الاستقلال الوطني بالإضافة إلى الدفاع عن حرية التعبير والنضال في سبيل إطلاق سراح المساجين واسترجاع الأجناد الجزائريين العاملين في فيتنام"(40) لكن الشيوعيين لم يكونوا صادقين في هذه المرة أيضاً، إذ سرعان ما أدخلوا تعديلات خطيرة على الميثاق المذكور وراحوا يعطون تفسيراً خاصاً بهم للاستقلال الوطني المقصود والذي هو فقط "إلغاء الاستبداد والظلم والقضاء على اللامساواة في جمهورية مفتوحة للجميع في إطار الاتحاد الفرنسي، إذ أن الاستقلال لا يعني بالضرورة الانفصال ولنا قدوة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي"(41).
ومرة أخرى تقطنت التشكيلات الوطنية للفخ المنصوب لها فرفضت العمل في إطار الميثاق الذي لم يكن سوى وثيقة شكلية غير ملزمة للحزب الشيوعي الذي لم يستطع التخلص من قناعاته القديمة المتجددة والتي تنطلق أساساً من أدبيات السيد موريس توريز.
****
في الفترة ما بين 1947-1950 بينما كان الحزب الشيوعي يضبط الخطوط العريضة لمشروع المجتمع الذي يطمح إلى إقامته في الجزائر، ويقدم العروض تلو العروض لاستقطاب أطراف الحركة الوطنية الجزائرية واقناعها بضرورة العمل معه لبناء الجزائر كما يتصورها، كان حزب الشعب الجزائري يستعد، ميدانياً، للكفاح المسلح الذي كان يرى أنه اللغة الوحيدة التي يفهمها الاستعمار والوسيلة الأكثر نجاعة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة وبعث الدولة الجزائرية المغيبة منذ سنة 1830.
لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري، في تلك الفترة، يعتقد أن شروط بعث الأمة الجزائرية اكتملت وأصبح ممكناً أن يستقل الشعب الجزائري ذلك الاستقلال الذي أشرنا إليه، آنفاً، والذي لا يفهمه غير الشيوعيين لأنه يستلزم عدم الانفصال عن الشعب الفرنسي الذي يجب أن تتضافر جهود الجميع لتتمكن طبقته العاملة من قيادة الانقلاب الجذري الذي يحول الامبراطورية الفرنسية الاستعمارية إلى اتحاد فرنسي يضم جمهوريات مختلفة الأجناس والأعراق على غرار الاتحاد السوفياتي.
أما حزب الشعب الجزائري فيرى "إن الامبريالية الفرنسية اغتصبت، بواسطة عدوان غاشم، سيادة الأمة الجزائرية التي لم يؤد إلغاء الدولة وسياسة الالحاق والإدماج إلى ضياعها النهائي، ويؤكد أن الوطن الجزائري لم يتوقف لحظة واحدة عن العمل بجميع الوسائل من أجل استرجاع حريته وكرامته"(42). وعلى هذا الأساس يوضح حزب الشعب الجزائري أن الهدف الأساسي الذي يرمي إليه يتمثل قبل كل شيء في: "إلغاء السيطرة الامبريالية وتمكين الشعب الجزائري من استرجاع سيادته وبعث دولته الوطنية بكل صلاحياتها ومؤسساتها"(43).
ولم يكن توجه حزب الشعب الجزائري ليخفى على قيادة الحزب الشيوعي التي كانت تدرك أن جماهير الشعب ملتفة حول البرامج السياسية التي تعمل أطراف الحركة الوطنية على إنجازها، كما أنها كانت تدرك أن الحزب الشيوعي الجزائري ليس له مكانة في إطار الحركة الوطنية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ تتغذى منه وتستلهم دروسه وعظاته. ولأنها كانت تدرك ذلك وتعلم أن ثمة ثوابت لا تتخلى عنها جماهير الشعب وهي بمثابة العوامل الجامعة والمعبئة للطاقات الوطنية الحية، ويأتي الإسلام واللغة العربية في مقدمة تلك الثوابت. لأجل ذلك، وعلى الرغم من عدم إيمان الشيوعيين بجدوى اللغة العربية والدين الإسلامي في الجزائر، فإن الحزب الشيوعي الجزائري قد غير مواقفه، تكتيكياً في الفترة المشار إليها أعلاه، وراح يدرج ضمن لوائحه السياسية وعروضه الوحدوية "المطالبة بترسيم اللغة العربية وجعل تعليمها إجبارياً في جميع مراحل الدراسة، وفصل الإسلام عن الدولة مع إرجاع ممتلكاته وأوقافه إلى الجمعيات الإسلامية"(44).
استطاع حزب الشعب الجزائري في الفترة ما بين 1947-1950 أن يكون تنظيماً عسكرياً أسماه المنظمة الخاصة. وقد تمكن المسؤلون عليه من اقتناء كميات معتبرة من الأسلحة بعضها تم شراؤه من مخلفات الحرب الامبريالية الثانية وبعضه استورد من ليبيا عن طريق التهريب. وقبل أن تعطى المنظمة الخاصة الإشارة الخضراء للدخول في مرحلة الكفاح المسلح من أجل استرجاع الاستقلال الوطني اكتشف أمرها لأسباب ليس هذا مكان الحديث عنها وتمكنت السلطات الاستعمارية من خرق صفوفها وملاحقة عناصرها حتى إن معظم القيادات والإطارات الأساسية قد اعتقلت قبل نهاية الفصل الأول من سنة 1950 التي صارت تسمى في أوساط المناضلين سنة المؤامرة.

يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
Admin
Admin



المساهمات : 206
تاريخ التسجيل : 22/11/2010

تاريخ الجزائر المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ الجزائر المعاصر   تاريخ الجزائر المعاصر Emptyالأحد ديسمبر 05, 2010 12:29 am

أمام كثرة الاعتقالات وإجراءات القمع الأعمى قامت الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية بتأسيس لجنة وطنية للدفاع عن عائلات الضحايا وحمايتهم. وفي ظرف قصير تكونت، في مختلف أنحاء البلاد، لجان فرعية تابعة لها وأعربت أطراف الحركة الوطنية عن استنكارها للعسف الذي كانت تمارسه الإدارة الاستعمارية، وركب الحزب الشيوعي موجة النشاط الوطني وعبرت قيادته عن وقوفها إلى جانب لجان المساندة وجددت الدعوة إلى توحيد الطاقات الحية في إطار "جبهة وطنية ديموقراطية جزائرية" تدافع عن الحرية والأرض والسلام.
كان ذلك الموقف من الحزب الشيوعي خطوة اعتبرها حزب الشعب الجزائري إيجابية وراح يدفع إلى تعزيزها بخطوات أخرى، وكانت انتخابات يوليو سنة 1951 مضرب المثل من حيث التزييف حتى إن بعض مرشحي الإدارة الاستعمارية قد حصلوا على جميع أصوات الناخبين بما في ذلك أصوات منافسيهم، واغتنم الشعب الجزائري تلك الفرصة ليجعل قيادة الحزب الشيوعي الجزائري تقوم بالدعوة إلى تأسيس جبهة جزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها.
وفي نظر الشيوعيين فإن الحرية لا تتعدى مجالي الانتخابات والتعبير. لكن حزب الشعب الجزائري كان في حاجة إلى مساندة الحزب الشيوعي الفرنسي للدفاع عن المعتقلين السياسيين ولحماية المضطهدين والمتمردين، وعليه فإنه أبدى استعداده للمساهمة في الجبهة المذكورة ولم يتردد في إظهار ابتهاجه بالمبادرة الشيوعية التي نشرت على أعمدة ليبرتي في عددها الصادر بتاريخ 12/7/1951.
وبعد عشرة أيام من ذلك التاريخ تأسست لجنة تحضيرية ضمت ممثلي الأحزاب الثلاثة وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالإضافة إلى بعض الشخصيات المستقلة، واشتغلت اسبوعين كاملين عقدت على إثرهما جمعية عامة حضرها حوالي ألف مندوب وانبثقت عنها لجنة مديرة وأمانة دائمة كلفت بصياغة مذكرة شاملة حول أهداف الجبهة ترسل على جناح السرعة إلى سائر المنظمات الدولية.
ومما لا شك فيه أن مجرد تأسيس الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها كان يعد انتصاراً بالنسبة للحزب الشيوعي الجزائري الذي وجد نفسه، لأول مرة، جالساً مع ممثلي الحركة الوطنية الجزائرية.
ولم يكن برنامج الجبهة الذي صادقت عليه الجمعية العامة بتاريخ 50/8/1954 سوى تذكير بما كان يجب القيام به من أجل التصدي للعسف الاستعماري ولحمل الإدارة على إلغاء انتخابات شهر يوليو التي بلغت قمة الغش والتزييف، وعلى التعهد بعدم التدخل في عمليات الاقتراع على جميع المستويات. على هذا الأساس قررت الجمعية العامة تأسيس لجان محلية لتحسيس الرأي العام الجزائري بخطورة الموقف وتجنيده وراء قيادة الجبهة، ولابلاغ الرأي العام العالمي ممارسات القمع والإرهاب التي تلجأ إليها السلطات الفرنسية في الجزائر كلما أحست بأن الحركة الوطنية باتت تشكل نوعاً من الخطر على مصالحها الاستعمارية.
أما في الأساس، فإن الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية وحمايتها لم تأت بما من شأنه أن يدفع الشعب الجزائري في طريق استرجاع الاستقلال الوطني وذلك لسبب بسيط هو أن الشركاء لم يكونوا ينطلقون من أرضية واحدة ولا متشبعين بفكر واحد، كما أنهم، والحال هذه، لم يكونوا يعطون المفاهيم والمصطلحات نفس المعنى ولا للأهداف المعلن عنها نفس المغزى ونفس التفسير.
فأطراف الحركة الوطنية، رغم اختلاف وجهات النظر، ينطلقون من عمق حضاري واحد يؤمنون بأنه قادر على تمكينهم من تعبئة الطاقات الحية في البلاد وتوعيتها بضرورة النضال في سبيل استرجاع المغتصبات وبناء المستقبل على أسس تختلف كل الاختلاف عن واقع فرنسا سواء كانت استعمارية أم لا، أما الحزب الشيوعي الفرنسي، فإنه كان يتنكر للعمق الحضاري المشار إليه وكان يرفض انتساب الشعب الجزائري للعروبة، ويرى أن مستقبل الجزائر لا يكون إلا في إطار الاتحاد الفرنسي الذي لا بد أن يدخل، بدوره فلك الاتحاد السوفياتي الذي يسعى لحماية الطبقة الشغيلة وفرض دكتاتورية البروليتارية في العالم.
وبينما كان الحزب الشيوعي الجزائري يرفع شعار الديموقراطية معتقداً بالإمكان وإقامة الجمهورية الجزائرية الديموقراطية في إطار الانتساب لفرنسا المتحررة من الاستعمار والامبريالية والتابعة في سياستها الخارجية إلى الاتحاد السوفياتي، ويرى أن مفهوم الديموقراطية لا يتعدى الاعتراف بتعايش الأجناس في الجزائر وبرفض الإسلام كدين للدولة "لأنه يمنع الجزائريات والجزائريين من تناول المشروبات الكحولية كيفما يشاؤون وفي أي مكان يريدون"، فإن أطراف الحركة الوطنية جميعها متمسكة بالإسلام وتدعو إلى اتخاذ جميع الإجراءات لإحترام تعاليمه وتطبيقها، وهي تذكر، في جميع المناسبات، بأن الدين المحمدي يرعى سائر الحريات ويرفع الانسان إلى أعلى الدرجات ويشتمل في نصوصه الأساسية على ضرورة تطبيق العدالة الاجتماعية وتحرير العقل وإشراك الناس في تسيير شؤونهم بأنفسهم على أساس الشورى والطاعة والانضباط والحوار واحترام الآخر. وفيما يخص الديموقراطية فإن أطراف الوطنية تخضع ممارستها إلى توفر مجموعة من الشروط أهمها استرجاع السيادة والاستقلال كاملين إذ لا يعقل أن يكون ديموقراطياً من كان يعيش في ظل الآخرين وعالة عليهم أو مستغلاً من طرفهم.
ولأن الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية وحمايتها لم تبن على وحدة فكرية أو تقارب أيديولوجي فإنها لم تصمد لأول هزة أصابتها بعد شهرين من ميلادها فقط، ذلك أن قيادة الجبهة قررت عدم المشاركة في انتخابات أكتوبر الجهوية احتجاجاً على قرار السلطات المعنية بصحة انتخابات يوليو سنة 1951 التي أجمعت الأحزاب، بالأدلة الملموسة، على أنها مزيفة. لكن الحزب الشيوعي الفرنسي رأى من الأليق بالنسبة للحزب الشيوعي الجزائري أن يدخل المعركة الانتخابية فأمره بذلك ودفعه إلى تقديم مرشحيه في الوقت القانوني وهو ما فعل ضارباً عرض الحائط قرار الجبهة الذي شارك في اتخاذه، وبهذا التصرف تسبب في هدم البناء الذي طالما دعا لإقامته وقدم الدليل على أنه لم يكن حزباً وطنياً بل تشكيلة سياسية تابعة للحزب الشيوعي الفرنسي. والغريب في الأمر أن مشاركته في الانتخاب كانت خيبة أمل إذ لم يحصل منها سوى على مقعد واحد على مستوى الجزائر بأكملها.
هكذا، إذن، خرج الحزب الشيوعي الجزائري من الصف الوطني الذي لم يبق فيه سوى حوالي شهرين ولم يكن خروجه خسارة بالنسبة لأطراف الحركة الوطنية الذين قرروا مواصلة توظيف الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية وحمايتها كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
وعندما نفذت أوامر الحزب الشيوعي الفرنسي، فإن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري كانت تعتقد أنها ترضى العنصر الأوروبي في الهياكل القاعدية وتخفف من سخط المجموعة الانتخابية الأولي التي صارت تتهمها بالتواطئ مع المتطرفين ودعاة الانفصال عن فرنسا، لكن الواقع أثبت أن ذلك لم يتحقق لها بينما خسرت ثقة أغلبية العنصر العربي الذي راح يبحث عن مكان له في صفوف التشكيلات الوطنية، وتسببت، مع مر الأيام، في تجذر العداء بين العنصرين حتى إن المسؤولين عن التنظيم أصبحوا يوصون بضرورة فصل خلايا المسلمين عن خلايا الأوربيين ويستعملون لغة مزدوجة في تنشيط الحياة السياسية وهو الأمر الذي سيقود بالتدريج، إلى انسحاب الأغلبية الساحقة من المناضلين والإطارات الجزائريين.
وحينما اندلعت ثورة نوفمبر سنة 1954، كان الحزب الشيوعي الجزائري قد بلغ منتهى ضعفه لكنه ظل متمسكاً بقناعاته القديمة التي ألبسها ثوباً جديداً قصد تمريرها بسهولة في أوساط الجماهير الشعبية وقصد مخادعة التاريخ.
واليوم، فإن إطارات الحزب الشيوعي الجزائري يعملون جاهدين على تبرير موقف حزبهم المتخاذل من نضال الحركة الوطنية الجزائرية ومن ثورة نوفمبر 1954، فيلجؤون إلى اللوائح التي صادقت عليها اللجنة المركزية في مختلف دوراتها منذ نهاية عام 1949 ويبرزون بالحرف الغليظ العروض التي كانت تقدم من أجل إقامة الجبهة الوطنية الديموقراطية والمواقف الداعية إلى النضال في سبيل الاستقلال والتحرير الوطنيين.
وبالفعل، فإن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري كانت في كل دوراتها وحتى نهاية عام 1951 تطالب "بمجلس وحكومة جزائريين لتسيير شؤون الجزائريين"(45) وتدعو إلى "أن ينتخب المجلس الجزائري بكيفية ديموقراطية وأن يكون التمثيل فيه نسبياً. أما الحكومة فتنتخب من طرف المجلس وهي مسؤولة أمامه"(46).
وفي تقريره إلى المؤتمر السادس أيام 21-22- 23 فبراير 1952 (47)، ركز الأمين العام للحزب السيد العربي بوهالي على "ضرورة توحيد العمل في أرض الوطن من أجل جزائر حرة مستقلة. معنى ذلك أن الحزب الشيوعي مازال مثل ما كان في السابق يرفض نشاط لجنة تحرير المغرب العربي ويرفض انتساب الجزائر للعروبة والإسلام.
وبتعبير آخر، إن الحزب الشيوعي الجزائري لا يعترف بالجزائر التي تعمل الحركة الوطنية على استرجاع سيادتها واستقلالها وعليه، فإن أطراف الحركة الوطنية، التي كانت تدرك ذلك، لم تكن ترغب في الوحدة معه وكانت تعتبره حزباً أجنبياً.
ولم يكن الحزب الشيوعي الجزائري يرفض عروبة الجزائر وإسلامها فقط، بل إنه كان، أيضاً، يرفض وحدة المغرب العربي، أي أنه كان يرفض كل ما من شأنه أن يبعث الجزائر المعتدى عليها سنة 1830 ويحول دون الاندماج في الاتحاد الفرنسي والارتباط بالاتحاد السوفياتي.
وكانت أطراف الحركة الوطنية المتمسكة بعروبتها وإسلامها، تندد بالموقف الشيوعي تجاه القضية الفلسطينية التي تعتبرها قضية كل الشعب الجزائري، وبما أن الاتحاد السوفياتي -وصي الأحزاب الشيوعية في العالم- كان ضالعاً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين وشعبها، فإن الوطنيين الجزائريين كانوا يعتبرون كل الشيوعيين أعداء للأمة العربية الإسلامية.
وكما أن إطارات الحزب الشيوعي اليوم، يعملون على توظيف مفاهيم الاستقلال والحرية والتحرير بعد إفراغها من محتواها الحقيقي كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإنهم يحاولون توظيف القمع الوحشي الذي تمارسه الإدارة الاستعمارية. وعلى سبيل المثال، فإن الأمين العام السيد العربي بوهالي، في تقريره إلى المؤتمر السادس، يتعرض إلى الاعتقالات العشوائية التي كانت، منذ مارس 1950، تستهدف إطارات ومناضلي حزب الشعب الجزائري فيقول "لم ينج الشيوعيون من الاعتقال. وأن عشرين من بين أعضاء اللجنة المركزية الخمسين قد كان لهم شرف المثول أمام المحاكم الاستعمارية، ومن بينهم: مجدوب بن رحو الذي قاد إضراب العمال الفلاحين في سبتمبر 1951 ومصطفى سعدون الذي كان ينشط ضد الحرب في فيتنام الخ.."(48) وفي الواقع، لا مجال للمقارنة بين من يعتقل لمشاركته في تنظيم يعد للكفاح المسلح قصد استرجاع الاستقلال الوطني وبين من يلقي عليه القبض بسبب نشاطه النقابي الذي هو في جوهره اعتراف بالأمر الواقع الاستعماري.
إن مؤرخي الحزب الشيوعي، اليوم، يكتفون بالعودة إلى ما كان ينشر باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري في الفترة ما بين 1949 و1952 ويركزون على المفهوم اللغوي دون إرجاع الوثيقة إلى إطارها التاريخي ودون إخضاعها للمعايير والمقاييس الحقيقية.
فالقارئ الذي يعرض عليه أن الحزب الشيوعي الجزائري أصدر يوم 1/11/1953 نداء موجهاً إلى سائر التشكيلات الوطنية الجزائرية من أجل "تشكيل جبهة وطنية ديموقراطية"(49) لا يفهم لماذا بقي ذلك النداء بدون جواب. لكنه عندما يرجع بالتحليل إلى الوثيقة المذكورة يعرف الأسباب التي منعت الوطنيين الجزائريين من أخذه مأخذ الجد ناهيك عن الاستجابة له. ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:
1-إن النداء يتحدث عن جمهورية ديموقراطية جزائرية متعددة الأجناس وكأن الدولة الجزائرية لم تكن موجودة قبل سنة 1830 وبينما يرى حزب الشعب الجزائري أن بعث الدولة الجزائرية لن يكون حقيقة إلا بواسطة الكفاح المسلح لأن الاستعمار لا يفهم لغة أخرى، فإن الحزب الشيوعي يرفض العنف الثوري ويؤكد أن توحيد الجزائريين يكفي لحمل السلطات الاستعمارية على تمكينهم من انتخاب مجلس يمثل الشعب ويكون مؤهلاً للتفاوض مع ممثلي فرنسا حول مستقبل الجزائر وحول العلاقات المستقبلية بين البلدين.
فالطرح الشيوعي، إذن، يعتبر أسلوباً جديداً في النضال متناقضاً تماماً مع أسلوب حزب الشعب الجزائري الذي لم يتوقف، منذ سنة 1938 خاصة، عن الإعداد العسكري ليسترجع بالقوة ما أخذ بالقوة.
2-إن النداء يركز على ضرورة إدراج نشاط الجبهة الوطنية الديموقراطية المقترح تأسيسها في إطار النضال العالمي المناهض للإمبريالية الأمريكية والذي "يقوده الأخ الأكبر الذي أجتث جذور الامبريالية في كامل الاتحاد السوفياتي" لكن الحركة الوطنية الجزائرية ترى أنها غير معنية بمحاربة الامبريالية الأمريكية والجزائر مستعبدة من طرف الامبريالية الفرنسية، ومن جهة ثانية فهي لا تفرق بين كل الامبريالية التي يعتبر الاتحاد السوفياتي واحدة منها لأنه يستعمر شعوباً اسلامية قهرها بالقوة وأخضعها لسيطرته المطلقة.
3-إن النداء، بقدر ما يؤكد ضرورة الاعتماد على مساعدة الحزب الشيوعي الفرنسي والاتحاد السوفياتي ويلح على مساندة كفاح الشعب الفيتنامي وحركات السلم في العالم، فإنه لا يتعرض للقضية الفلسطينية ولا للثورة المصرية كما أنه لا يندد بتواطئ الاتحاد السوفياتي مع الامبرياليات الأخرى الذي قاد إلى تقسيم فلسطين وإلى تجذير الهيمنة الغربية على مختلف أجزاء الوطن العربي.
4-إن النداء يتعرض إلى النظام الاستعماري بصفته نظاماً يستغل الجماهير الشعبية ويبني الثروات الطائلة على حساب الشغيلين والبطالين، لأجل ذلك فإنه يركز على ضرورة التحرير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي معتبراً أن وحدة الطبقة العاملة هي اسمنت الوحدة الوطنية، وأن الهدف الأسمى من النضال يتمثل في التمكن من تطيبق الاشتراكية وتوزيع الأرض على من يفلحها، أما أطراف الحركة الوطنية، فإنها ترى أن النظام الاستعماري كيان غريب فرض على الجزائر بعد الاعتداء عليها سنة 1830، وعليه فإن الحل الوحيد هو تقويض أركانه بجميع الوسائل وذلك من أجل بعث الدولة الجزائرية "التي تناهض الامبريالية بجميع أنواعها وتقف إلى جانب الشعوب في كفاحها من أجل تقرير مصيرها بنفسها وتعمل جاهدة في سبيل توحيد المغرب العربي الذي هو جزء لا يتجزأ من العالم العربي الإسلامي"(50) أما في المجال الاقتصادي، فإن الجزائر المستقلة تطبق إصلاحاً زراعياً شاملاً وتقدم كل التسهيلات للفلاحين الصغار، كما أنها تؤمن البنوك والمناجم وسائر الثروات الطبيعية التي يجب أن توزع بالعدل على سائر أفراد الشعب.
إن النداء يشير إلى الجبهة الجزائرية من أجل الدفاع عن الحرية واحترامها ويعتبرها مرحلة هامة وتنظيماً استطاع أن يؤدي دوراً إيجابياً" لكن أطراف الحركة الوطنية يرون أن ذلك التنظيم مُنع من القيام برسالته التي وجد من أجلها بسبب خيانة الحزب الشيوعي الجزائري الذي فضل الاستجابة لأوامر الحزب الشيوعي الفرنسي على الالتزام بقرار القيادة الموحدة، وزيادة على ذلك، فإن النداء يركز، فقط، على مجموعة من المطالب الآنية مثل العفو الشامل، واحترام الحريات الديموقراطية ومساندة المطالب الاقتصادية والاجتماعية وإخراج الجزائر من الحلف الأطلسي ورفض استعمال الجزائريين في الحروب الامبريالية، أما فيما يتعلق بالسيادة الوطنية فيكتفي بالإشارة إلى "إمكانية التفاهم كذلك حول أهداف أسمى مشتركة وخاصة منها ما يتعلق بالآفاق المستقبلية حول جمهورية ديموقراطية جزائرية”(51).
6-إن أطراف الحركة الوطنية قد فقدوا كل أمل في أن يصبح الحزب الشيوعي الجزائري وطنياً، تأكدوا من ذلك نتيجة مواقفه العدوانية في مايو 1954 وبسبب مشاركته في قمع الجزائريين واعتبار نضالهم في سبيل استرجاع السيادة الوطنية عملاً إجرامياً يستحقون عليه أشد العقوبات، وحتى عندما أتيحت له فرصة الدخول في الصف في صيف 1951، فإنه سرعان ما تراجع وشق عصى الطاعة متسبباً، بذاك، في فشل الجبهة الجزائرية من أجل الدفاع عن الحرية واحترامها كما أشرنا إلى ذلك آنفاً.
7-إن نداء الحزب الشيوعي الجزائري لم يأت نتيجة نضج أو وعي المناضلين الاطارات بل إنه كان محاولة للتدليل على أن ثمة تقارباً مع حزب الشعب الجزائري الذي كانت لجنته المركزية قد قررت، في دورة سبتمبر 1953، توجيه نداء إلى كل الطاقات الحية في البلاد من أجل تشكيل "المؤتمر الوطني الجزائري" بقصد تمكين كل الجزائريين من انتخاب مجلسهم الوطني وبعث دولتهم المستقلة، علماً بأن القرار المذكور إنما اتخذ لإيجاد أفضل السبل الكفيلة بتحضير الكفاح المسلح.
هكذا، فالاختلاف مع الشيوعيين جوهري وهو مبني على تناقض في المنطلق وفي الهدف الأسمى، وتباعاً لذلك لا يمكن أن يكون التحالف معهم إلا مرحلياً وحول الأغراض البسيطة العاجلة. وبالنسبة لحزب الشعب الجزائري -في جميع أشكاله- فإن نقاط التلاقي تكاد تكون معدومة مع الحزب الشيوعي الجزائري نظراً لرؤية كل منهما للماضي والحاضر والمستقبل وبسبب تباعد البرامج السياسية ومناهج العمل المتبعة لتجسيدها على أرض الواقع.
لكن قيادة الحزب الشيوعي الجزائري، في دورتها المنعقدة يوم 1/4/1954 ترى "أن الحوار وخاصة العمل ممكنان لأنه لا يوجد تناقض بين "المؤتمر الوطني" الذي تدعو إليه الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، "والجبهة الوطنية الديموقراطية الجزائرية" وهذا في الحقيقة، محض ادعاء لا يصمد حتى أمام القراءة الأولي لمقدمة الوثيقتين المعدتين من طرف التشكيليتين السياسيتين.
فالشيوعيون أوردوا في ديباجتهم أن "الجزائريين في أغلبهم يتساءلون عن مستقبلهم وهم يريدون العيش أحراراً وسعداء ويطمحون إلى التخلص من النظام الاستعماري البشع" ولتحقيق مثل ذلك الطموح، فإنهم يستلهمون تجاربهم المستخلصة "مما أبدوه من بطولات في نضالهم ضد الممارسات الكولونيالية في جميع مجالات الحياة اليومية وذلك في الفترة من 1 إلى 23/5/1952".
أما الوطنيون، فإن وثيقتهم قد جاءت، منذ أسطرها الأولى، واضحة إذ بينت أنها تعتمد أربعة مبادئ أساسية هي: الجزائر أمة ومن ثمة فإن النضال يجب أن ينصب على استرجاع سيادتها.
-ضرورة إفادة الجزائر من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وفقاً لميثاق الأمم المتحدة الذي وقعت عليها فرنسا ذاتها.
-انتخاب مجلس وطني بواسطة الاقتراع العام والمباشر.
-الدولة الجزائرية تكون جمهورية ديموقراطية اجتماعية غير منحازه
ومن الجدير بالذكر، أن الفترة الزمنية التي جعل منها الحزب الشيوعي مرجعاً نضالياً قد تميزت بمجموعة من الاضرابات التي نظمها وقادها مناضلوه في عدد من المؤسسات الاقتصادية وفي الموانئ. ومن غريب الأمور أن نفس هذه الفترة هي التي تبلورت فيها الحركة الثورية سنة 1945 وقد تميزت بقمع استعماري رهيب ذهب ضحيته حوالي ثمانين ألف جزائري وشاركت فيه القوات الجوية والبحرية والبرية بجميع أنواعها وكان يومها الجنرال ديغول هو رئيس الحكومة الفرنسية بينما كانت وزارة الحرب مسندة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وفي تلك الفترة، أيضاً، كان الحزب الشيوعي الجزائري قد وزع منشوراً يندد، من خلاله، بالحركة الثورية ويتهم الوطنيين بالفاشية لأنهم تجرؤوا على المطالبة باسترجاع الاستقلال والانفصال عن فرنسا.
إن الحزب الشيوعي الجزائري لا يريد أن ينظر إلى تلك الحقيقة التاريخية كما أنه يغض الطرف عن مساهمته الفعلية في جرائم الحرب المرتكبة ضد الشعب الجزائري في مايو 1954 ويتناسى أنه كان من الآمرين بتشغيل الأفران المحرقة في نواحي مدينة قالمة. ودون أن يقدم مبرراً لأفعاله تلك، يأتي فيدعي أحقية المشاركة في النضال الوطني من أجل تقويض أركان الاستعمار الذي كان قبل سنوات ثمان قد دافع عنه بالحديد والنار ضد العزل والأبرياء.
إن الحزب الشيوعي الجزائري يتجاوز كل ذلك ويروح يبحث عن عدم الاستجابة إلى ندائه في أسباب يحاول ايهام القراء بأنها هي الصحيحة فيقول: "إن أهمها هو ما تعانيه الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية من صراع بين المركزيين والمصاليين"(52) ثم هناك ما اقتطفته جريدة ليبرتي في عددها الصادر بتاريخ 23/9/1954 من مقال نشر على أعمدة "الأمة الجزائرية" في عددها الصادر بتاريخ 10 سبتمبر من نفس السنة ومفاده "أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية قد حاولت الاتحاد مع أحزاب أخرى لكنها لم تنجح لأنها كانت تريد من الآخرين أن يتبنوا برنامجها"(53).
إن هذا التعليل غير صحيح غير أن السيد حفيظ خطيب (54) قد لجأ إليه للتدليل على حسن نية الحزب الشيوعي الجزائري في كل ما كان يقوم به من المساعي لتحقيق الوحدة الوطنية في الجزائر. ونقول إن التعليل غير صحيح لأن الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية لم تكن وحدها، بل هناك الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والشخصيات الوطنية المستقلة وكلها لم تكن مصابة بالصراع الداخلي "بين المركزيين والمصاليين" ورغم ذلك فإنها رفضت الاستجابة للنداء. فالسبب الحقيقي إذن يكمن في كون منطلقات الحزب الشيوعي الجزائري وأهدافه متناقضة تماماً مع أهداف أطراف الحركة الوطنية الجزائرية ومنطلقاتها الأيديولوجية. أما عن المقال المنشور على أعمدة "الأمة الجزائرية" والمستظهر به، فإنه كان خاصاً بالاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وبجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذين كانوا شركاء في "حركة أحباب البيان والحرية" التي حاربها الحزب الشيوعي بوحي من الإدارة الاستعمارية عندما أسس لمناهضتها "أحباب الديموقراطية".
إن الحزب الشيوعي الجزائري قد أسس، منذ البداية، لضرب الحركة الوطنية الجزائرية وتحييدها عن خطها الثوري ولإفساد مرجعيتها الفكرية والحضارية، وسيظل تاريخ الجزائر المعاصر يذكر له الدور الإجرامي الذي أداه فيما اصطلح على تسميته بمذابح مايو 1954 وما نسميه نحن بحركة مايو الثورية، ونفس العمل الذي قام به قبل اندلاع ثورة نوفمبر 1954 سوف يظل مستمراً لكن بشكل آخر، وإذا كانت جبهة التحرير الوطني قد تصدت له بنجاح نسبي أثناء فترة الكفاح المسلح، فإن آثاره السلبية ما تزال قائمة إلى أيامنا هذه وهو ما سوف نبينه بالحجة والدليل في دراستنا المقبلة.





 الهوامش

1-اعتبرت هذه الدورية مؤامرة ضد أمن الدولة الفرنسية وقد ألقي القبض على السيد بارتيل وقضت عليه المحكمة بالحبس النافذة لمدة عام.
2-الجزائريون في نظر الإدارة الاستعمارية ومعظم المؤرخين الفرنسيين إنما هم الأوربيون على اختلاف أجناسهم، أما الجزائريون الأصليون فكانوا يسمون "العرب" أو "المسلمين"
3-طبع الكتاب تحت اسم مستعار هو: M.Loew وقدمته للقراء بكثير من الأطناب جريدة I,humanitè في عددها الصادر بتاريخ 25/2/1936 لكن قيادة الحزب الشيوعي سرعان ما سحبته من السوق وقررت يوم 19 مارس طرد مؤلفه من الصفوف.
4-انظر نص المشروع كاملاً في ملفات لجنة الإصلاحات، المركز الوطني للمحفوظات، الجزء الثاني، ويشتمل النص على ستة مواد فقط بما في ذلك مادة التطبيق
5-هذه الشروط هي بإيجاز كبير: (1) المتخرجون من الجيش برتبة ضابط -(2) المتخرجون برتبة رقيب أمضى على الأقل 15 سنة في صفوف الجيش مع شهادة حسن السيرة (3) الحاصلون على الوسام العسكري والصليب الحربي (4) الحاصلون على شهادات التعليم العالي والثانوي- (5) المنتخبون في الغرف التجارية والفلاحية- (6) المندبون الماليون والنواب البلديون ورؤساء الجماعات (7) الباشغوات والآغوات والقواد بعد عمل ثلاث سنوات على الأقل- (Cool الحاملون لوسام جوقة الشرف- (9) الحاملون لوسام العمل وأمناء النقابات المعترف بها بعد عشر سنوات من الممارسة.
6-آجرون (روبرت) تاريخ الجزائر المعاصر، ج2- ص385
7-نفس المصدر، ص380
8-مذكرات الحاج مصالي- 1898-1938 باريس 1982- ص247
9-آجرون، ص386
10-نشرية الحكومة العامة، العدد الصادر بتاريخ 14/1/1940 جاء في النشرية على لسان ابن علي بوخراط: "إن الاتحاد السوفياتي اليوم، يتبع نفس أساليب وسلوكات العنف والاحتلال التي تتبعها النازية، وعليه فإني أتحلل من سياسته ومن سياسة الأممية الشيوعية.
11-بكثير من الإيجاز، فإن أمرية الجنرال ديغول التي تحمل تاريخ 7/3/1944 لا تختلف عن مشروع فيوليت لكن ونظراً للتطور السكاني وللنمو الديموغرافي، فإن عدد الذين صارت تتوفر فيهم شروط المواطنة الفرنسية قد بلغ حوالي ستين ألف بدلاً مما ذكرنا سابقاً فيما يتعلق بالمشروع.
12-القانون الأساسي لحركة أحباب البيان والحرية (المادة الأولى)
13-نفس المصدر
14-نشرية للجنة الفرنسية للتحرير الوطني، العدد الصادر بتاريخ 1/4/1944
15-عباس (فرحات) حديثنا معه يوم 28/9/1963
16-"الحرية" عددها الصادر بتاريخ 12/9/1944
17-انظر النشرية التي طبعها ونشرها السيد عمر أوزقان بالجزائر في شهر مايو 1944 تحت عنوان "الحزب الشيوعي في خدمة السكان الجزائريين" ص13
18-انظر المنشور في مركز دراسات الحرب العالمية الثانية بباريس -ملف تيبار
19-لومانيتي، عددها الصادر بتاريخ 12/5/1945
20-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 17/5/1945
21-جاء ذلك في خطاب ألقاه بمناسبة انعقاد المؤتمر في شهر جوان 1945، وقد قال بالحرف الواحد: "إن الذين يطالبون باستقلال الجزائر إنما هم، بوعي أو بغير وعي، عملاء امبريالية أخرى. ونحن لا نريد استبدال حصاننا الأعور بحصان أعمى.
22-الحزب الشيوعي الجزائري "ثماني سنوات من الكفاح 34-46 الجزائر 1946، ص128
23-بوهالي (العربي) افريل 1947 مايو 1949 عامان من الكفاح في سبيل الحرية والأرض والخبز، الجزائر بدون تاريخ
24-نفس المصدر
25-دفاتر الشيوعية، عدد سبتمبر 1947 ص851 وما بعدها
26-”Le parti communiste et l'avenir de I'Algèrie” l'ecole élementaire du parti, Alger Mai 1947 p 6 et suivantes
27-نفس المصدر
28-انظر لائحة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في دورتها المنعقدة يومي 27/28-12/1947
29-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 9/6/1948
30-نفس المصدر
31-الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، "لائحة السياسة العامة المصادق عليها من طرف المجلس الوطني بتاريخ 4/9/1947 المغرب العربي، العدد الصادر يوم 12/9/1947.
32- المصدر نفسه
33- المصدر نفسه
34-P.C.A Cours élémentaire du parti communiste Algérien, Alger, Avril 1947, p11 et Suivantes
35-Hadj Messali, La Justice n du 17/8/1937 أما بوخرط فهو في ذلك الحين أحد أمناء الحزب الشيوعي الجزائري
36-الحزب الشيوعي الجزائري، نفس المصدر
37-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 16/6/1949
38-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 2/6/1949
39-حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني بين الخيال والحقيقة، ص78
40-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 30/3/1950
41-نفس المصدر، العدد الصادر بتاريخ 30/11/1950
42-الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية، لائحة السياسة العامة التي صادق عليها المجلس الوطني بتاريخ 4/9/1947
43-نفس المصدر
44-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 30/3/1950
45-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 2/6/1949
46-نفس المصدر
47-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 28/2/1952
48-نفس المصدر
49-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 12/11/1953
50-نفس المصدر
51-كل ما يتعلق بالنداء، انظر ليبرتي في عددها الصادر بتاريخ 12/11/1953 (النص الكامل والتعاليق).

52-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 23/9/1954
53-نفس المصدر
54-Khatib (Hafid), ler juillet 1956 L'Accord El N - PCA, OPU Alger 1991


يتبع باقي الموضوع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://newmultkaschool.yoo7.com
 
تاريخ الجزائر المعاصر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» موجز تاريخ مصر القديم
» تاريخ سومر
» تاريخ اليابان
» تاريخ ايران على مر العصور
» مصادر ومراجع تاريخ اليمن

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
newmultkaschool :: الأقسام التاريخية :: قسم التاريخ القديم-
انتقل الى: