64-يبدو من خلال الوثائق المعتمد عليها من طرف الكاتب أن مرفي في الحقيقة، لم يقم سوى بتأكيد الشرطين اللذين وضعهما الجنرال جيرو مقابل تعاون فرنسا مع الأمريكان.
65-انظر لائحة المكتب المركزي في Egalité الصادرة بتاريخ 10/4/1945.
66-حديث أجريته في بيت الشيخ الحسين بن الميلي يوم 1/5/1981 مع كل من السادة: محمد الأمين دباغين وأحمد بوده ومسعود بوقموم وكلهم مسؤولون قياديون في حزب الشعب الجزائري.
67-حسب اللقاء الذي أجريناه مع المناضل سويلح الهواري الذي كان من القادة البارزين في ذلك الوقت، والذي أكد لنا أن مظاهرة وهران لم تكن أقل قيمة من مظاهرة العاصمة.
68-بعض الكتاب أو المؤرخين الذين عالجوا الموضوع لايذكرون محطة بلكور، لكن ذلك خطأ، لأن معظم المؤطرين وفي مقدمتهم محمد بن الوزداد كانوا من هناك، وقد عمل هذا الأخير على أن ينطلق عن بلكور موكبان حتى تنشغل الشرطة الاستعمارية بالأول الذي قصد ساحة أول مايو الحالية ويتمكن الثاني من التوجه بسهولة إلى ساحة البريد المركزي
69-نورد هذه العمليات من الحديث الذي أجريناه مع السيد أحمد بوده بتاريخ 8/12/1985.
69-يذكر السيد أحمد بوده أن الشهداء في ذلك المكان كانوا أربعة مضيفاً. أحمد بوعلام اللّه وعبد القادر قاضي.
70-من بين القياديين الذين ألقى علهيم القبض تجدر الإشارة إلى: أحمد مزغنه وحسين عو محمد هني وعبد الرحمن صفير.
71-كان المنشور مؤرخاً بيوم 3/5/1945 ومما جاء فيه "إن الاستفزاز صادر عن حزب الشعب الجزائري الذي يأتمر بأوامر هتلر من برلين. نفس هتلر الذي يذبح ويعذب الجنود الأشاوس العاملين في صفوف الجيش الفرنسي وذلك دون تمييز بين المسلمين والأوروبيين... حزب الشعب الجزائري، إذ ينشر في العمالات الثلاث شعارات استغلال الجزائر والجيش الجزائري وإذ أقدم على تنظيم هذه الاضطرابات إنما ذلك على أنه الحزب الذي يطبق التعليمات التي يبثها الهتليريون بواسطة الإذاعة النازية.
72-Bulletin mensuel
73-74 انظر نص المنشور في مركز دراسات الحرب العالمية الثانية بباريس، ملف تيبار. dinformation, Prefecture dAlger, mai 1945”
75-لقد كانت قيادة حزب الشعب الجزائري تدرك أن السلطات الاستعمارية لن تسمح لها بالمشاركة في الاحتفالات نظراً لكون الحزب ينشط في السرية فقط ولأن مواقفه متشددة ومطالبه مرفوضة مسبقاً. أما المؤسسات المقصودة فهي: البرلمان الوطني، والجيش الشعبي على وجه الخصوص.
76-”Bulletin mensuel dinformation” Prefecture dAlger, mai 1945.
77-لقد قال الحاكم العام إلى السيد فرحات عباس فيما بعد: "إنني سلمتكما إلى الجيش لحمايتكما من انتقام الكولون" انظر:
78- Benyoucef, Benkhedda, Les origines du ler november 1954, Edition Dahleb Alger 1989, P101. نذكر على سبيل المثال: سطيف سكيدة وبسكرة.
79-انظر خاصة: عياد ثابت في:
in RASJPE, n:4, 1972 pp “Le 08 mai 1945: Jaquerie ou revendicatiagraire” 1007-1016 وكذلك محفوظ قداش في:LE 08 mai 1945, Paris Ed du centenaire 1975.
80-ابن يوسف بن خده، نفس المصدر، ص100.
81-نفس المصدر.
82-في إطار إجراءات الترهيب، أقدمت السلطات الاستعمارية على اعتقال أعداد كبيرة من المناضلين بتهمة المساس بأمن الدولة من خلال توزيع البيانات والمنشورات بدون ترخيص. وفي نفس الإطار، أيضاً، ألقي القبض على مجموعة من صف الضباط الجزائريين بتهمة المشاركة في الاعداد للتمرد.
83-بايا (كلوه)، نفس المصدر، ص52.
84-جاء في جريدة الحرية (Liberte) الصادرة بتاريخ 21/2/1946 أن الحركة الجمهورية الشعبية الفرنسية قد احتجت على عمليات الإبادة التي تعرض لها الجزائريون في شهر مايو 1945، وذكرت في لوائحها أن "كاربونال بدأ يعد فرق الميليشيا ستة أشهر قبل الثامن من مايو 1945".
85-عباس (فرحات)، ليل الاستعمار الطويل، ص154.
86-نفس المصدر.
87- ”Rapport Tubert” in reve Algerienne des Sciences juridiques economiques et politiques (rasjep), volune 9 n4 december 1974, P288-289.
88-بغول (يوسف)، "بيان الشعب الجزائري" نفس المصدر، المجلد 11، ديسمبر 1974، ص262 ومابعدها.
89-مع العلم أن موريس توريز (Maurice Thorez) الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي كان نائباً لرئيس الحكومة في ذلك الوقت.
90-ابتدأت المسيرة على الساعة الخامسة بعد الظهر، أما فرق الجيش فإنها وصلت إلى عين المكان على الساعة السادسة. ففي ظرف ساعة فقد أعطيت الأوامر واستشيرت القيادات وتم الاستعداد ووقع الخروج من الثكنة.
91-عباس (فرحات) نفس المصدر، ص154، كذلك Tixier Adrien في كتابه
Un Programme, des reformes pour l’Algerie, Paris,1947, P.6.
92-Yousfi (mhamed), l'Algrie en marche, t1, Alger 1985, P59. وكذلك شهادة السيد إبراهيم حشاني التي استثنيناها منه يوم 25/4/1979 عندما كنا نعد دكتوراه الدولة حول "جبهة التحرير الوطني الجزائرية": المسار والفكر.
93-تيكسي، نفس المصدر.
94-نعني بذلك خاصة الطابور المغربي والوحدات المكونة في أغلبها من السينغاليين. وفي هذا الإطار لابد من التذكير بما أورده السيد أحمد بوده من أن الطابور المغربي المكون من 200 جندي والمعسكر بنواحي مدينة الأربعاء كان قد وعد بالانضمام كاملاً إلى القوات الوطنية عندما تنفجر الثورة "لقاء أجريناه مع السيد بوده في بيت الشيخ الحسين بن لميليوم 8/12/1985.
95-انظر ملف قازان: التقرير رقم 12/4 الصادر بتاريخ 11/5/1945 عن قائد مجموعة الدرك الوطني ببني عزيز.
96-Bernard (jh.pil), Les deux villes de tenes et de Boumaza, Alger 1864, P.166.
97-نفس المصدر.
98-مستعمرة فرنسية تقع شرقي أوستراليا. استولت عليها فرنسا في القرن 18.
99-بيرار، نفس المصدر.
100-يايا، ص35.
101-البريد الجزائري (le courrier algerien) الصادر بتاريخ 26/5/1945.
102-انظر تقرير الجنرال تيبار، ص22.
103-ذي ستارز آند ستربز (the stars and stripes) العدد الصادر بتاريخ 31/5/1945.
104-أورد الزميل علي تابليت، خطأ، في مجلة الذاكرة، عددها الثاني بتاريخ مايو 1995، ص:68 أن المجاهد الاسبوعية هي التي قدرت الضحايا بعدد ثمانين ألف، وذلك في عددها الصادر بتاريخ 8 مايو 1985.
105-دارناند جوزيف (Dernand Joseph) سياسي فرنسي من مواليد 1897 وضع تحت تصرف القوات الألمانية، إبان احتلال فرنسا، فأسس المليشيات المناهضة للمقاومة سنة1943 وحينما تم تحرير فرنسا نفذ فيه حكم الإعداد في يوم النصر.
106-مقتطف من المنشور الذي وزعه السيد فرحات عباس بمناسبة فاتح مايو 1946. انظر النص الكامل في كولو، ص:219. وذلك في بريد الجزائري الصادر بتاريخ أول مايو 1964، وفي صارزان: الأزمة الجزائرية، ص:208، ومابعدها.
107-كلود يايا، المأزق (le guepier) ج1، ص:56.
108-مذكرات الأمل، ج1، ص:58.
109-كانت القيادة مكونة من: الدكتور محمد الأمين دباغين، محمد طالب، أحمد بزغنة، محمود عبدون والحاج شرشالي.
110-مثل زروالي محمد في منطقة القبائل وأحمد بن مهل في ناحية الجنوب.
111-ظلت المعارك تدور رحاها إلى غاية منتصف شهر جوان سنة 1945.
112-بريد الجزائري، العدد الصادر بتاريخ 2/4/1946.
113-بريد الجزائري، العدد الصادر بتاريخ 26/5/1946.
114-ابن عامل عمالة الجزائر قد استدعى، في الواقع، كلاً من السادة: الشيخ البشير الإبراهيمي، الشيخ العربي التبسي، عبد العزيز كسوس، أحمد بومنجل، قدور ساطور، عبد القادر ميموني ومحمد خير الدين، لكن النص الذي لم يكن طويلاً، إنما كان من صياغة أحمد بومنجل وعبد العزيز كسوس.
115-انظر نص النداء في النشرية الإخبارية الشهرية الصادرة بتاريخ مايو 1945، عن عمالة الجزائر.
116-كان شون هو المسؤول عن التجسس على الجزائريين والمكلف بخرق صفوف الحركة الوطنية.
117-انظر تقرير الوالي العام في يايا، ص:78.
118-نفس المصدر.
119-لومانيتي، عددها الصادر بتاريخ 12/5/1945.
120-LHUMANITE، عددها الصادر بتاريخ 16/5/1945.
121-انظر ليبرتي وألجي ريبيبلكان في عدديهما الصادرين بتاريخ 12/5/1945.
122-ليبرتي، عددها الصادر بتاريخ 16/5/1945.
123-جاء ذلك في خطاب ألقاه بمناسبة انعقاد المؤتمر في شهر جوان 1945، وقد قال بالحرف الواحد: "إن الذين يطالبون باستقلال الجزائر إنما هم، بوعي أو بغير وعي، عملاء امبريالية أخرى ونحن لانريد استبدال حصاننا الأعور بحصان أعمى".
124-PCA, histoire de huit annees de combat, 1937-1946, Alger 1946, P.128.
125-انظر كولووهنري (Collot et Hinry)، ص: 210.
126-127- نفس المصدر.
تطور التشكيلات السياسية الجزائرية
في الفترة مابين 1946و1954
يرى معظم المؤرخين وجميع الذين كتبوا في تاريخ الجزائر المعاصر، حتى اليوم، أن حركة مايو 1945 هي التي أنضجت فكرة الكفاح المسلح في أواسط الحركة المصالية وشكلت القاعدة الأساس لانطلاق ثورة نوفمبر 1954. إن هذا الرأي- المنقول والمتناقل- بعيد كل البعد عن أن يكون هو الصواب، بل أن إخضاعه للمقاييس العلمية التي تتحكم عادة في البحوث الجادة، سوف يبين بكل سهولة أن فيه إجحافاً كبيراً لجهد الرواد من المناضلين الذين آمنوا مبكرين، بفكرة الكفاح المسلح كأفضل وسيلة لاسترجاع الاستقلال الوطني، وبذلوا كل مافي وسعهم من أجل تجسيدها على أرض الواقع.
فالقرن التاسع عشر، في ثلثيه الأخيرين، قد شاهد مقاومة شعبية مسلحة في أماكن متعددة من البلاد وفي فترات زمنية مختلفة، وإذا كنا، هنا، في غير حاجة إلى تعداد تلك المقاومة، فإننا، بالمقابل، نعتقد مفيداً الإشارة إلى أنها كانت تندلع، دائماً، تحت إشراف وبقيادة الطلائع المثقفة، الأمر الذي جعل الإدارة الاستعمارية تبذل كل ما في وسعها من وسائل القمع والإبادة من أجل القضاء على مصادر الثقافة الوطنية التي كانت تتولى نشر الوعي في أوساط الجماهير، وتؤمن للإنسان الجزائري مناعة تحميه من إصابات الاعتداءات العقائدية والفكرية التي كانت جزءاً مهماً من مخطط الغزو الاستعماري.
لقد كان الجيش الفرنسي، كلما خرج منتصراً من معركة، وكلما تمكن من إخماد مقاومة، يوجه آلته التدميرية إلى المدرسة الجزائرية بجميع أنواعها وإلى المسجد الجامع خاصة، بعد أن يتولى قادته نهب المكتبات وإتلاف ماتعذر حمله من نفائس المخطوطات والكتب، وفي ذات الوقت، تشن حملة واسعة النطاق قصد التنكيل بالأحياء من المثقفين الذين كثيراً مايرغمون على الهجرة إلى البلاد العربية الإسلامية أويساقون إلى سجون فرنسا في سائر مستعمراتها النائية إلى جانب كل ذلك، تؤمم الأوقاف، في جميع المستويات ثم توزع الغنائم على الغزاة وعلى من تميز بالعمالة من أعوانهم.
ومما لاريب فيه تلك الأعمال التخريبية التي كانت تبدو، في الظاهر، موجهة ضد أعداد معلومة من الأفراد أو ضد أشياء تكاد تكون غير ملموسة، إنما هي في الواقع أخطر من العمل العسكري الذي كان يأتي على الأخضر واليابس بالإضافة إلى مايتسبب فيه من قتلى ومعطوبين وأرامل وأيتام. وتكمن تلك الخطورة في القضاء على المصادر الثقافية وإلغاء المثقفين بشتى الوسائل إنما تظهر نتائجه في الأمد البعيد وهي تتمثل في حرمان البلاد من الإنتاج الفكري الأصيل الذي يكون في أساس تكوين المواطن الصالح الذي لابد منه لبناء المجتمع القادر على بناء الدولة القوية وحمايتها.
هكذا، تمكن التخطيط الاستعماري، بالتدريج وطيلة عشرات السنين، من تغييب المثقف الجزائري وتهميشه، وبالموازاة مع ذلك راح يصنع مصادر جديدة لثقافة غربية لاعلاقة لها بواقع المجتمع، وهي الثقافة التي شرع في توظيفها ابتداء من مطلع القرن العشرين قصد تكوين من سوف يطلق عليهم تسمية النخبة التي ستؤدي دوراً أساسياً في محاولة ترسيخ قواعد الاستعمار وإعداد الأرضية الملائمة لنشر منظومة الأفكار التي أوصلت البلاد إلى ماهي عليه اليوم.
فالفكر والثقافة الاستعماريان قد استطاعا التغلب على الأصالة في الجزائر، وبفضلهما تخلصت الإدارة الفرنسية من بقايا الحراس أمثال الدكتور محمد بن العريبي الشرشالي، وتمكنت، من غرس المفاهيم والمصطلحات التي سوف تكون في أساس تكوين الإنسان الجزائري القابل للأمر الواقع والمستعد للتكيف معه بدون عقدة. وشيئاً فشيئاً ظهر على الساحة السياسية خاصة عدد من الأقطاب الذين لم يترددوا، نتيجة جهلهم، في التنكر لتاريخهم، متحمسين لتاريخ الآخرين وعاملين بجد على الذوبان في صفوف الشعب الفرنسي الذي لم يكن مستعداً لذلك، ولامرتاحاً حتى لمجرد السماح لهم بممارسة بعض الحريات التي قد تجعل منهم أناساً قد يطمحون إلى المطالبة بالمواطنة ومايتبع ذلك من حقوق في المساواة بجميع أنواعها.
وإذا كان هذا النهج الاستعماري قد حقق كثيراً من النتائج التي خططت لها فرنسا قصد التوصل إلى استئصال الشعب الجزائري، فإنه لم يتمكن من القضاء، نهائياً، على المقاومات الأساسية للشخصية الوطنية التي ظلّت رغم كل الإصابات، ثابتة في جزئها الشكلي على الأقل، وقادرة على تأجيج روح المقاومة لدى عدد لايستهان به من الإطارات الطلائعية الذين استطاعوا التموقع في المجالين السياسي والثقافي ثم راحوا يعملون بشتى الوسائل على استنهاض الهمم ونشر الوعي في أوساط الجماهير الشعبية الواسعة.
ومما لاشك فيه أن أولئك الطلائعيين قد نجحوا في جل مساعيهم، واستطاعوا، رغم العنف والإرهاب الاستعماريين، أن يحافظوا على تقاليد النضال بسائر أنواعه وأن يضمنوا تواصل حلقات المقاومة المسلحة التي يزعم تلاميذ المدرسة الفرنسية للتاريخ أنها انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر، واضعين في طي النسيان دماء الشهداء الذين سقطوا في الأوراس والهقار سنة 1916 وفي الأوراس والشمال القسنطيني سنتي 1934 و 1935.
على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق نؤكد أن فكرة الكفاح المسلح في الجزائر ليست وليدة مابعد الحرب الامبريالية الثانية بل وجدت منذ اللحظات الأولى للعدوان الفرنسي وظلت طوال الفترة الاستعمارية هي الوسيلة المفضلة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة؛ ولم تكن حركة مايو الثورية إلا واحدة من حلقات المسلسل الطويل الذي يروي للعالم جهاد شعب لم يتوقف عن دفع قوافل الشهداء إلى أن استرجع استقلاله سنة اثنين وستين وتسعمائة وألف.
وعندما يتوقف الدارس عند تلك الحلقات يجد أن كل واحدة منها متميزة عن الأخرى لكنها تلتقي جميعها حول الوسيلة والهدف؛ وكلما مرت حلقة استفادت التالية من إيجابياتها وسلبياتها. وظل الأمر كذلك إلى أن كان نوفمبر عام أربعة وخمسين وتستعمائة وألف. ويعنينا في هذا الفصل، أن نمسح الفترة الممتدة من شهر مارس سنة ست وأربعين وتسعمائة وألف إلى شهر نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف. وسوف نركز على تاريخ سائر التشكيلات السياسية وتطورها في جميع الميادين.
الفصــل الــرابع
الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري
في إطار العفو الشامل، الذي قررته الإدارة الاستعمارية، تم الإفراج عن السيد فرحات عباس يوم 16/3/1946 وقد كانت الفترة التي قضاها بالسجن والتي دامت واحداً وأربعين أسبوعاً كافية ليعيد النظر في تجربة حركة أحباب البيان والحرية وليتوقف، ملياً، عند مقررات مؤتمره الأول والوحيد.
وإذا كان الاعتقال التعسفي قد ساهم في حد الانطلاقة الثورية لدى ذلك الزعيم الذي ارتبط اسمه ببيان الشعب الجزائري، فإنه، بالمقابل، قد رسخ قناعته بضرورة بعث الجمهورية الجزائرية المستقلة استقلالاً داخلياً في إطار الاتحاد الفرنسي. وبمجرد خروجه من السجن راح يكثف الاتصالات بالإطارات القريبة منه سياسياً يطرح أمامهم أفكاره الجديدة ويسترشدهم من أجل ضبط الخطوط العريضة لكيفية إنشاء حزب جديد ووضع برنامجه السياسي الذي يجب أن يكون قادراً على تعبئة جزء كبير من الطاقات الحية في أوساط المجموعتين الفرنسية والإسلامية على حد سواء. ولكي يعطي لنشاطه إطاراً قانونياً، رحل إلى فرنسا يطلب رأي ذائع الصيت Achille Mestre مدرس الحقوق بكليتي تولوز وباريس (1) حول موقف دستور الجمهورية الرابعة من إمكانية تحويل ولايات الجزائر إلى دولة تحتفظ فيها فرنسا بشؤون السيادة.
وعلى الرغم من قناعات الأستاذ أشيل اليمينية، فإنه اعترف، بعد فحص دقيق لنصوص الدستور الجديد، بعدم مخالفة الفكرة لروح النص. وكان ذلك أيضاً هو رأي السيد Charlier، أستاذ القانون العام بجامعة الجزائر(2).
هكذا، إذن، أخذ السيد فرحات عباس جميع الاحتياطات السياسية والفنية قبل أن يقوم بصياغة ذلك النداء الذي وجهه إلى الشبان المسلمين والفرنسيين بمناسبة عيد الطبقة الشغيلة في فاتح مايو سنة 1946 أي بعد خروجه من السجن بستة أسابيع فقط.
لقد كان النداء، في مقدمته، تدليلاً على براءة عباس وسعدان مما وقع في شهر مايو 1945 حيث أن الرجلين لم يطلعا على حقيقة ماحدث في شهر سبتمبر بعد أن قضيا كل ذلك الوقت في عزلة مطلقة. وتوسعا في المقدمة، قدم صاحب النداء لمحة سريعة وموجزة عن حياته السياسية التي يقول حولها: "إنه خصصها لتجسيد روح التعاون الفرنسي الإسلامي ولنشر الثقافة العصرية باعتبارها القاعدة الأساسية لذلك؛ ثم يؤكد عدم تمييزه بين المسلمين واليهود والمسيحيين لأن عقيدته السياسية كانت تأمره بذلك وتدعوه إلى النضال المتواصل في سبيل الوحدة ضمن الديمقراطية والأخوة في إطار العدالة.
إن هذه العقيدة السياسية نفسها التي ظلت تقود خطاه منذ ثلاثينات هذا القرن. ويرى أنه استطاع، بفضل صدقه في العمل وإخلاصه للمبادئ والمثل العليا، أن يحقق الكثير في مجال تقريب وجهات النظر وميادين الترقية الاجتماعية وتهدئة الخواطر وتوحيد معظم ذوي الإرادة الخيرة في البلاد، لكن الإدارة الاستعمارية بتآمرها مع الرجعية والامبريالية حالت دون تواصل المسعى واتخذت من مايو 1945 وسيلة لتوسيع الهوة بين المجموعتين الإسلامية والفرنسية، وذريعة للقضاء على حركة أحباب البيان والحرية التي أجمع قضاة التحقيق على أنها بالإضافة إلى كونها لم تنظم أية مظاهرة، قد اكتفت بالدعوة إلى الهدوء والانضباط في إطار الشرعية الجمهورية"(3).
ولئن كانت سياسة التوحيد قد انهارت ومعها جهود المصالحة الوطنية، ووقع حل حركة أحباب البيان والحرية، فإن روح البيان، يقول عباس، لم تمت وبفضلها اتضحت الرؤية وأصبحنا قادرين على التمييز بين ما كان عليه من حالة القبول الإمعي المعمي ومايجب أن نرقى إليه وصولاً إلى الوطن الجزائري الذي تتوفر فيه شروط المساواة والحرية للجميع(4).
والوصول إلى الوطن الجزائري يستلزم سياسة ترتكز على برنامج جعل في مقدمته: لا للاندماج، لا لسادة جدد ولا للانفصال، وعلى الرغم من أن هذه اللاءات لا تتضمن الشحنة الثورية اللازمة لاسترجاع الاستقلال الوطني، إلا أن تبنيها، في ذلك الوقت، من طرف السيد فرحات عباس كان يعتبر انتصاراً كبيراً بالنسبة للحركة الوطنية خاصة وأن حزب الشعب الجزائري كان عند تأسيسه، قد رفع نفس الشعار من أجل استمالة من كانوا يسمون بالمعتدلين، علماً بأن ذلك اعتبر في وقته، انحرافاً وقاد إلى استقالة السيد عمار عيمش الذي كان مساعداً للسيد الحاج مصالي(5). أما تبني السيد عباس لذات الشعار، فإن المقصود منه لم يكن سوى مراعاة الرأي العام الفرنسي، كان مناهضاً لفكرة الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة لتقويض أركان الاستعمار.
ومن جهة أخرى تضمن البرنامج المذكور مجموعة من المحاور ارتأى عباس أنها ضرورية لتشييد الجزائر "على أسس واقعية وتاريخية تكون كفيلة بأن تعبد لها طريق الديمقراطية العالمية"(6). ومن أهم تلك المحاور مايلي:
1-المساواة المطلقة: ويكون ذلك بواسطة القضاء على الاختلافات العرقية وعلى الأحقاد التي تنخر في جسم المجتمع، وعلى واقع التحقير الذي كان مسلطاً على الجزائريين. والمقصود من واقع التحقير تلك القوانين والمراسيم والإجراءات العسفية التي كانت تحمل أسماء متعددة لكنها ترمي في مجملها إلى تهميش الشعب الجزائري وإبقائه في حالة التبعية الدائمة.
2-التربية التي تستهدف الإنسان من أجل تكوين مواطن حر يكون متشبعاً بالواجب الاجتماعي ومدركاً لمهمته الحضارية. وفي هذا المجال يكون التركيز على تعميم الفكرة القائلة: "إن أبناء الوطن الواحد لايكونون بالضرورة على دين واحد"(7).
3-العلم والتكنولوجيا اللذان لايمكن، بدونهما، أن ترقى الجزائر إلى مصاف الأمم المتقدمة، لأجل ذلك، فإن أبوابهما يجب أن تفتح واسعة لجميع أبناء الجزائريين بدون أي تمييز عرقي أو ديني كما ينبغي أن يعاد للغة العربية اعتبارها كلغة وطنية ورسمية في البلاد.
ويرى السيد فرحات عباس أن تجسيد برنامجه السياسي على أرض الواقع ممكن تحقيقه بدون عوائق تذكر شريطة أن يكون منطلق النشاط هو بيان الشعب الجزائري وأن توظف التجارب التي خاضتها حركة أحباب البيان والحرية.
ولقد كان السيد فرحات عباس، قبل نشر النداء وتوزيعه، في سائر أنحاء البلاد قد تمكن من أن يجمع حوله كوكبة من الإطارات المؤمنة بأفكاره والمستعدة للنضال في سبيلها(
، واتفق معهم على بعث حزب جديد أسماه "الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري" وقدم قانونه الأساسي إلى المصالح المختصة في النصف الثاني من شهر أبريل قصد الاعتماد والحصول على الترخيص القانوني. ومباشرة بعد الاعتماد قررت قيادة الحزب المشاركة في الانتخابات التشريعية الفرنسية التي تحدد إجراؤها يوم 2/6/1946 لتعيين المجلس التأسيسي الثاني الذي خصص فيه للجزائريين ثلاثة عشر مقعداً.
في نفس تلك الفترة، كان حزب الشعب الجزائري الذي ينشط في السرية التامة، قد أصدر أوامره إلى القواعد المناضلة كي تتحرك في اتجاه مقاطعة الانتخابات(9).
حول هذه الفترة من تاريخ الحركة الوطنية نشرت بعض المعلومات المتناقضة في أساسها لكنها وجدت مكانها في كتابات المعاصرين الفرنسيين والجزائريين على حد سواء. فالسيد محفوظ قداش ينقل على سبيل المثال أن تأسيس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري إنما جاء نتيجة تخطيط الإدارة الاستعمارية التي "أعدت عشية العفو الشامل عملية واسعة لتقسيم حركة أحباب البيان والحرية إلى كتلتين متعارضتين الأمر الذي جعل حزب الشعب الجزائري يكلف فرقة خاصة يرأسها السيد حسين عسله(10) من أجل خرق مصالح الولاية العامة والتصدي لمناورة الإدارة الفرنسية. غير أن هذه الفرقة لم تتمكن من تغيير وجهة نظر عباس ورفاقه"(11).
فمثل هذا الادعاء باطل في أساسه ولايمكن إخضاعه لأي معيار علمي خاصة في الصيغة التي ورد بها، ذلك أن حركة أحباب البيان والحرية قد وقع حلها رسمياً بموجب قرار حكومي يحمل تاريخ 14/5/1945 وإلى جانب قرار الحل حجبت Egalite وتم حجز سائر أملاك الحركة وسحب الاعتماد من "مدينة الأطفال" التي كانت قد أنشئت لتسوية مشاكل الطفولة المشردة والمتسكعة في شوارع المدن الكبرى خاصة، بعد كل هذا، كيف يمكن الحديث عن تآمر الإدارة الاستعمارية لتقسيم قيادة حركة ليس لها وجود رسمي ولا فعلي لأن المنتخبين ومن كانوا يسمون بالإطارات المعتدلة قد انسحبوا، تلقائياً، على إثر ما اصطلحنا على تسميته بحركة مايو الثورية.
ومهما يكن من أمر، فإن عباس ورفاقه قد حصلوا على اعتماد الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وتحت عنوانه وضعوا قوائم المرشحين لانتخابات المجلس التأسيسي الثاني في التاريخ المشار إليه أعلاه.
عن مشروع الدستور الجزائري:
لقد تعود المؤرخون، عند الكتابة عن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، أن يقولوا عن السيد فرحات عباس وأتباعه أنهم يمثلون التيار البورجوازي الإصلاحي في الجزائر(21).
ونحن نعتقد في ذلك خلطاً وتمويهاً يتطلبان وقفة جدية فاحصة؛ ذلك أن البورجوازية بمفهومها التاريخي، لم تكن موجودة في الوسط الجزائري بجميع ميولاته السياسية والثقافية، لأن الحديث عنها لايكون إلا في إطار المجتمع الفرنسي الذي يعيش الجزائريون على هامشه في أحسن الحالات.
وعلى فرض أن جل الأعضاء القياديين وجزءاً كبيراً من المناضلين يمارسون مهناً حرة أوهم من المتعلمين الذين يشتغلون خاصة بسلك التدريس، فإن ذلك لايعني أنهم اندمجوا في شرائح المجتمع الفرنسي الذي ظل، في أغلبيته الساحقة، ينظر إليهم نظرته إلى سائر أبناء المستعمرات؛ ولو كانوا بورجوازيين بالفعل، لوجدوا مكانتهم في صفوف الطبقة البورجوازية الفرنسية التي كانت أسسها ثابتة في أوساط المجتمع الفرنسي(13).
إن المتتبع لمختلف المراحل التي مر بها الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري خلال عشر سنوات من الوجود الفعلي يكتشف بكل سهولة، أن أعضاءه لم يكونوا سوى جزء لايتجزأ من أولئك الذين كانوا يسمون بالأهالي الذين تتحكم فيهم فقط إرادة الكولون والحاكم العام؛ ولأنهم أدركوا ذلك، وعز عليهم أن تتواصل حالة الاضطهاد والتهميش والتبعية، فإنهم سلكوا طريق النضال في سبيل التصدي للهيمنة الاستعمارية ومحاربة النظام الاجتماعي وقوانين العسف والاستبداد المفروضة على الشعب الجزائري بأكمله ومن أجل إقامة جمهورية جزائرية متحدة مع فرنسا بمحض إرادتها، لها ألوانها الوطنية وتسيرها حكومة مستقلة.
وهذا الطريق المعبر عنه بكل وضوح خاصة في مشروع الدستور الذي قدم للمجلس التأسيسي الثاني بتاريخ 9/8/1946 لم يتم الوصول إليه هكذا صدفة، بل تطلب الأمر أكثر من عشر سنوات قضاها السيد فرحات عباس في خبرة سائر توجهات الحركة الوطنية وفي محاولة إيجاد ثغرة تمكنه من الوصول إلى إقناع السلطات الاستعمارية بضرورة الاهتمام بمصائر أبناء الشعب الجزائري الذين أثقلت كواهلهم إجراءات الاستغلال والتهميش. وعندما يجرأ الدارس، اليوم، على العودة إلى تلك الفترة والتأمل بموضوعية في مختلف القناعات التي مر بها زعيم الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإنه يلحظ أهمية الجهد المبذول ويعترف بأن الطرح الجديد الذي اهتدى إليه عباس وأتباعه إنما هو انتصار كبير بالنسبة للحركة الوطنية وذلك رغم كل ماتضمنه من هنات ومواطن ضعف ورغم مايبدو للمحلل، اليوم، من أنه كان من دون مستوى التضحيات التي قدمها الشعب الجزائري من خلال سلسلة المقاومات التي لم تتوقف أبداً.
وكان دخول الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري معركة الانتخابات التشريعية قراراً وجد معارضة لاجدال فيها من طرف حزب الشعب الجزائري ومناضليه الذين رفعوا شعار: من انتخب كفر، ثم راحوا ينعتون كل من خالفهم الرأي بالغدر والخيانة؛ وسوف يشكل ذلك عقبة كأداة في طريق السيد الحاج مصالي عندما يخرج من السجن ويقرر لأسباب متعددة، المشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي التي كان قد تحدد إجراؤها بتاريخ 10/11/1946.
وإذا كان تأثير حزب الشعب الجزائري قد بلغ أقصى مايمكن أن يبلغه تأثير حزب محظور وملاحق، إذ امتنع عن التصويت حوالي نصف عدد الناخبين من المجموعة الثانية، فإن الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري قد فاز بحصة الأسد بالأصوات المعبر عنها إذ نال أحد عشر مقعداً من جملة ثلاثة عشر كانت هي نصيب الشعب الجزائري بأكمله. ومن ثمة نستطيع القول: إن هاتين التشكيلتين السياسيتين تمثلان، بالفعل، الرأي العام الجزائري حتى ولو أن الإحصائيات تدل على أن الحركة المصالية هي الأكثر تجذراً في أوساط الشعب وأن أعداداً كبيرة من مناضليها لم يلتزموا بأوامر قياداتهم وصوتوا إلى جانب مرشحي الاتحاد.
وسواء كان الاختلاف أو الاتفاق بين تلك التشكيلتين الوطنيتين، فإن السيد فرحات عباس ورفاقه النواب قد أحدثوا المفاجأة الكبرى بمشروع الدستور الآنف الذكر(14) خاصة وأن الرأي العام الفرنسي قد تعود على سماع "المعتدلين الجزائريين" يدعون إلى تحقيق المساواة وبعض الحقوق الاجتماعية والسياسية.
فالمادة الأولى من مشروع القانون تنص على أن فرنسا تعترف بالجمهورية الجزائرية وحكومتها وألوانها الوطنية، وذلك على الرغم من أن المادة الثانية تجعل السياسة الخارجية والدفاع مشتركين مع فرنسا. أما المادتان الثالثة والرابعة فتنصان على أن للجمهورية الجزائرية كامل السيادة على ترابها الوطني وأن هذه السيادة يمارسها النواب الذين تنتخبهم الأمة الجزائرية بواسطة الاقتراع العام والذين يشكلون البرلمان الجزائري.
إن مجرد تقديم مثل هذه الوثيقة إلى مكتب المجلس التأسيسي الفرنسي يعتبر انتصاراً ثانياً بالنسبة للحركة الوطنية الجزائرية. وتعد انتصاراً كذلك، استماتة منتخبي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري في الدفاع عن مشروعهم الذي استبعد، في النهاية، لفائدة مايسمى بالقانون الأساسي الذي تمت المصادقة عليه من طرف البرلمان الفرنسي يوم 20/9/1947 والذي سنعود إليه فيما بعد.
-الاتحاد والعمل الميداني:
إن هذه الوقفة الخاطفة مع مشروع الدستور الجزائري لم تكن لتنسينا الحديث عن بدايات الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري الذي شرع منذ تأسيسه ينشط على ثلاث جبهات متكاملة هي على التوالي:
1-جبهة التنظيم الحزبي حيث شرعت القيادة مباشرة إثر الحصول على الاعتماد، في تنصيب الخلايا والقسمات والاتحادات مستثمرة رصيد حركة أحباب البيان والحرية ومستغلة حالة السرية التي كان يمر بها حزب الشعب الجزائري. وفي يوم 13 أكتوبر سنة 1946 عقد الاتحاد مؤتمراً تحضيرياً(15) قيم فيه سير الانتخابات ونتائجها ثم حدد استراتيجية المستقبل على ضوء الأفكار الأساسية الواردة في مشروع الدستور، وعين لجنة مديرة مكونة من السادة: عباس، فرانسيس، طالب، بويجر، وابن خداش.
2-الجبهة الأيديولوجية قصد ضبط منظومة الأفكار التي كانت تشكل مشروع المجتمع الجزائري كما كان يتصوره قادة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وفي مقدمتهم السيد فرحات عباس.
لقد استفاد السيد فرحات عباس من تجربته النضالية الخاصة واقتنع، بعد لأي، أن فكرة دمج الشعب الجزائري في الشعب الفرنسي غير قابلة للتنفيذ لأنها لم تأخذ في الاعتبار واقع الشعبين ولأن الكولون يرفضونها دفاعاً عن مصالحهم الخاصة، ويحاربها الوطنيون الجزائريون لأنها تتنافى مع مقومات الأمة وثوابتها. واستفاد، أيضاً، من تجربة العلماء والمصاليين في مجالي الفكر والنضال، واستطاع، بذكاء فائق، أن يحوصل ناتج التجربتين مركزاً على محاور أساسية هي:
أ-تحرير الجزائر من النظام القديم للسيطرة الاستعمارية أي كان نوعها، مع احترام مبدأ الجنسيات، وبتعبير آخر، بناء مستقبل البلاد على أسس الواقع والتاريخ(16).
ب-إقامة جمهورية جزائرية مستقلة استقلالاً ذاتياً ومتوحدة مع الجمهورية الفرنسية المتجددة، والمناهضة للاستعمار وللامبريالية. وكان يرى السيد فرحات عباس أن ذلك يأتي نتيجة منطقية لتطور التاريخ إذ يقول: "لقد استعمرت الجزائر وهذه حقيقة وفي أوساطنا زرع الاستعمار مليون أوروبي مسيحي وهذه حقيقة ثانية. وتعايش المسلمون والمسيحيون مدة أكثر من قرن وهي حقيقة ثالثة وكل هذه المعطيات هي التي أسست الجمهورية الجزائرية التي فرضت وتفرض نفسها على جميع الملاحظين"(17).
ج-الدولة الجزائرية يجب أن تكون متعددة المجموعات لأن السيد فرحات عباس لايرى لزاماً على جميع أبناء الوطن الواحد أن يكونوا على دين واحد، وأن الجزائري المسيحي أو اليهودي يجب أن يكون أخاً للجزائري المسلم بعيداً عن كل عمليات الاستغلال والإقصاء والاستعباد (18).
د-التعليم الإجباري والمجاني بالنسبة لجميع أطفال الجزائر، والنضال من أجل ترقية اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية والرسمية ولأنها بالنسبة للإسلام "مثل الكنيسة بالنسبة للمسيحية فالمسجد، يقول السيد فرحات عباس، لايعني شيئاً عندنا ولكن تلاوة القرآن هي كل شيء"(19) لأجل ذلك، يرى الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري أن الاهتمام باللغة العربية أساسي لأنه يشكل قاعدة الإيمان.
هـ-تخليص الإسلام من الواقع الذي آل إليه بفعل اعتداءات الإدارة الاستعمارية عليه، وهو واقع يصفه السيد Lechatelier مدير مجلة العالم الإسلامي بقوله: "لقد أوجدنا، في الجزائر، إسلاماً وحيداً من نوعه: الأوقاف منعدمة والمساجد خاضعة للإدارة بواسطة أئمة مأجورين، والقضاة موظفون والحج بإذن والقانون عبارة عن نتاج هجين لالتقاء الشريعة الإسلامية بالعرف الفرنسي"(20).
و-إلغاء الملكية الإقطاعية والتركيز على إصلاح زراعي واسع لفائدة الخماسين المعدمين من سكان الريف ومما لاريب فيه أن هذه الفكرة مقتبسة مباشرة من البرنامج السياسي الذي كان نجم شمال أفريقيا قد صادق عليه سنة 1933، هذا في الظاهر لكن الواقع غير ذلك لأن نصوص الاتحاد الرسمية تؤكد بما لايدع أي مجال للشك أن "الحكومة الجزائرية تضمن الملكية العقارية الإسلامية والفرنسية على حد سواء، ولايمكن أن يلجأ إلى التأميم إلا إذا كان للصالح العام في إطار القانون وبعد تعويض عادل"(21).
1-الجمهورية الجزائرية علمانية، وعلى هذا الأساس فإن موقفها حيادي من جميع الأديان، وهي إذ تضمن حرية العبادة لكل مواطنيها، فإنها تخضع النظر في منازعاتهم إلى المحاكم المدنية التي تطبق القانون الفرنسي. إن هذه النقطة تتناقض مع موقف الاتحاد من الإسلام لكننا نعتقد أنها مستمدة من الرغبة في الالتزام بما جاء في النقطة الثالثة.
2-نبذ العنف كوسيلة لتقويض أركان الاستعمار، وحمل فرنسا على تلبية مطلب الشعب الجزائري كما هو مسطور في نصوص الاتحاد، والاكتفاء، فقط، بالنضال السياسي في إطار ما يسمح به القانون الفرنسي. في هذا الإطار كتب السيد فرحات عباس يوم أول مايو 1946: "على الرغم من جرائم الاستعمار وعلى الرغم من تجافي بعض النفوس الكريمة والتي ماتزال مكدورة، وعلى الرغم من الانتفاضات الأخيرة لنظام يحتضر، فإن الجزائر الجديدة، المتحدة بحرية مع فرنسا الجديدة، سوف ترى النور بفضل تضافر جهود الديمقراطيين الفرنسيين والمسلمين"(22).
3-جبهة النشاط السياسي وتتميز خاصة بعمل القيادة الحثيث على إعادة الربط مع الشركاء في حركة أحباب البيان والحرية من جهة، وعلى محاولة إقناع الرأي العام الفرنسي بسلامة توجه الحزب الجديد من جهة ثانية.
وإذا كانت قيادة الاتحاد لم تجد أدنى صعوبة لاستمالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خاصة بعد أن تبنت أهم مطالبها وثبتت عدداً من أهدافها في النصوص الأساسية للحزب(23)، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للعلاقة مع حزب الشعب الجزائري وسيلته الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية.
وعلى الرغم من أن السيد الحاج مصالي بادر، أثناء أول مهرجان شعبي حضره في باريس مباشرة بعد إطلاق سراحه يوم 11/8/1946 إلى الدعوة للاتحاد حول حزب الشعب الجزائري، فإنه لم يقدم أي اقتراح ملموس للسيدين سعدان وبومنجل اللذين قصداه في نفس المناسبة ملتمسين توضيح الفكرة(24). وكان إحجام السيد مصالي مدفوعاً برغبته في عدم تجاوز موقف القيادة المؤقتة التي كانت تشرف على أجهزة الحزب أثناء غيابه والتي سبق لها أن عابت على السيد فرحات عباس وجماعته عدم التزامهم بمحتوى بيان الشعب الجزائري وبروح النشرة التي صادق عليها مؤتمر مارس سنة 1945.
لكن الاتحاد لم يقف مكتوف الأيدي أمام ذلك التردد، واغتنم السيد فرحات عباس فرصة انعقاد المؤتمر التأسيسي في نفس اليوم الذي وصل فيه السيد مصالي إلى الجزائر فجعل المؤتمرين يصادقون على نشرة يدعون فيها إلى الاتحاد مع حزب الشعب الجزائري وأخرى يرحبون فيها بعودة الزعيم إلى أرض الوطن ويطالبون بتمكين حزبه من العودة إلى الحياة العلنية في إطار النضال الشرعي(25).
وكان من الممكن أن يساعد ذلك المسعى على تقريب وجهات النظر وفتح طريق التعاون من جديد بين الجناحين الرئيسيين في الحركة الوطنية الجزائرية، لكن الاستقبالات الشعبية التي لاقاها السيد الحاج مصالي حالت دون ذلك بطريقة غير مباشرة إذ جعلت الزعيم يعتقد أن حزبه هو الأقوى وأنه، والحال هذه، ليس في حاجة إلى الاتحاد مع أية قوة سياسية أخرى لربح معركة الانتخابات التشريعية التي كان قد تقرر إجراؤها بتاريخ 10/11/1946.
وعندما يعود الدارس اليوم إلى الحجج الذي تذرع بها حزب الشعب في ذلك الوقت ليفرض عرض الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإنه لا يجد لها أساساً سليماً لأن الاختلاف الإيديولوجي الذي قيل، يومها، إنه يحول دون اتحاد التشكيلتين السياسيتين لم يكن مطروحاً بفعل قبول الطرفين المشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي. ومعلوم أن مجرد المشاركة في تلك الانتخابات تعتبر اعترافاً بالسيادة الفرنسية على الجزائر. وعلى الرغم من أننا لا نريد مناقشة هذا الموقف ولانرغب في التوقف عند الذرائع التي يستظهر بها كل جانب لتبرير إقدامه على المشاركة في الانتخابات، فإننا لا نرى بداً من التأكيد على أن رفض مصالي عرض عباس لم يكن بدافع إيديولوجي.
ولم يكتفِ الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري بتسجيل ذلك الرفض، بل إنه قرر الامتناع عن المشاركة في انتخابات المجلس الوطني الفرنسي ليس لتوجه إيديولوجي ولكن، فقط، ليترك المجال فسيحاً أمام الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وحتى يتجنب الصراع بين قوتين سياسيتين هدفهما الأساسي هو تحرير الشعب الجزائري. في هذا الصدد كتبت "Egalité" تحت عنوان: "لن يكون هناك تنافس بين مصالي وعباس". إن مصالي ورفاقه قد أبدوا رغبتهم في خوض المعركة دون الاشتراك مع أي حزب سياسي آخر. وقد رأينا أنه ليس من حقنا الاعتراض على هذه التجربة أو الإنقاص منها خاصة وأنها شرعية تماماً ومليئة بالعبر للجميع".(26).
أما فيما يتعلق بمحاولة إقناع الرأي العام الفرنسي بسلامة توجه الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، فإن السيد فرحات عباس قد جند لها وسيلتين كانتا، يومها، في منتهى الأهمية وهما: الصحافة ومنبر كل من المجلس التأسيسي ومجلس الجمهورية. ولقد كانت المهمة شاقة وتحتاج إلى كثير من المهارة السياسية والثقافية الواسعة والإيمان الراسخ بالقضية العادلة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن ممثلي الاتحاد لم يهنوا واستطاعوا، في مناسبات عديدة، أن يقوموا بأكثر مما كان ينتظر منهم.
فعلى مستوى الصحافة، وظفت أعمدة اللسان المركزي للحزب من أجل التعريف بمشروع الدستور الجزائري والدفاع عنه والعمل على تعميمه، فكرة وهدفاً، في أوساط الجماهير الشعبية ولدى الرأي العام الفرنسي بجميع مكوناته، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الأعضاء القياديين كانوا يلجأون إلى علاقاتهم الشخصية قصد النفاذ إلى ميادين الإعلام الفرنسي.
وفيما يخص منبر المجلس التأسيسي، فإن الصراع كان مريراً بسبب نشاط غلاة الكولون الذين تمكنوا، بفضل إمكانياتهم المادية، من تعبئة جميع الأوساط السياسية الفرنسية كي تغلق جميع الأبواب في وجه نواب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وأن إطلالة سريعة على فحوى المداولات المنشورة على أعمدة الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية خلال السداسي الأخير من سنة 1946 والسداسي الأول من عام 1947، تكفي وحدها للتدليل على ماكان يلقاه عباس ورفاقه من معاناة للتعبير عن آرائهم المجسدة لفكرة الجمهورية الجزائرية المستقلة. فعلى سبيل المثال، فقط، نذكر أن الدكتور سعدان، في جلسة المجلس التأسيسي الثاني المنعقدة بتاريخ 22/08/1946، قد حاول الحديث مطولاً عن الظاهرة الوطنية في الجزائر لكنه منع من ذلك بواسطة المقاطعات ووسائل الإزعاج المختلفة. وفي اليوم الموالي تدخل رئيس الجمهورية المؤقتة السيد جورج بيدو (27) Georges Bidault وختم مداخلته قائلاً: "إن فرنسا ستبقى في الجزائر، لأنها فرنسا ولأنها إنسانية"(28).
وبعد انتخابات المجلس الوطني الفرنسي وما تخللها من عمليات التزييف والتحليل في تفسير القوانين ابتكرت الإدارة الاستعمارية أسلوباً جديداً في التعامل مع الحركة الوطنية التي أصبحت، بالفعل، تحظى بتأييد أغلبية الشعب الجزائري، وقد تميز ذلك الأسلوب بقرار اتخذته وزارة الداخلية يلغي انتخاب أعضاء مجلس الجمهورية بواسطة الاقتراع العام، ويسند تلك المهمة الخطيرة إلى المستشارين في البلديات كاملة الصلاحيات ورؤساء الجماعات في البلديات المختلطة الذين كانوا قد انتخبوا في شهري يوليو وأغسطس(تموز/يوليو/آب/)، سنة 1945(29).
وبما أن الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية كانت تعرف أن أولئك المنتخبين موالون، في أغلبهم للإدارة الاستعمارية، فإنها فضلت عدم تقديم مرشحين عنها للمجلس الجمهوري، الأمر الذي فسح المجال للسيد فرحات عباس فبادر إلى دخول المعركة وخرج منها منتصراً حيث انتزع حزبه أربعة مقاعد من جملة السبعة المخصصة للمجموعة الثانية.(30).
ومن الجدير بالذكر أن ممثلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري لدى مجلس الجمهورية هم الذين تولوا إثراء مشروع الدستور الذي كان قد عرض على المجلس التأسيسي الثاني بتاريخ 09/08/1946 ثم صاغوه في شكل مشروع قانون لم يحظ إلا بأصوات أصحابه.
يتبع باقي الموضوع