سيرة أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب
شخصيته وعصره
دراسة شاملة
تأليف
علي محمد محمد الصلابي
الفصل الأول
على بن أبى طالب رضي الله عنه بمكة
المبحث الأول
اسمه ونسبه وكنيته وصفته وأسرته
أولاً: اسمه وكنيته ولقبه:
1- اسمه ونسبه: هو على بن أبى طالب (عبد مناف) ( ) بن عبد المطلب، ويقال له شيبة الحمد ( ) بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان( ), فهو ابن عم رسول الله × ويلتقي معه في جده الأول عبد المطلب بن هاشم، وولده أبو طالب شقيق عبد الله والد النبي ×، وكان اسم علىٍّ عند مولوده أسد، سمته بذلك أمه رضي الله عنها باسم أبيها أسد بن هاشم، ويدل على ذلك ارتجازه يوم خيبر حيث يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة( )
كليث غابات كريه المنظرة ( )
وكان أبو طالب غائبًا فلما عاد، لم يعجبه هذا الأسم وسماه عليًا ( ).
2- كنيته: أبو الحسن، نسبه إلى أبنه الأكبر الحسن وهو من ولد فاطمة بنت رسول الله ×، ويكنى أيضًا بأبى تراب، كنية كناه بها النبي ×، وكان يفرح إذا نودي بها، وسبب ذلك أن الرسول × جاء بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يجد عليًا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل ( ) عندي، فقال × لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله × وهو مضطجع وقد سقط رداءه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله × يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب( ), ومن رواية البخاري: والله ما سماه إلا النبي ( ), ومن كناه: أبو الحسن والحسين وأبو القاسم الهاشمى ( ), وأبو السبطين ( ).
3- لقبه: أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين ( ).
ثانيًا: مولده:
اختلفت الروايات وتعددت في تحديد سنة ولادته، فقد ذكر الحسن البصري أن ولادته قبل البعثة بخمس عشرة أو ست عشرة سنة ( ), وذكر ابن إسحاق أن ولادته قبل البعثة بعشر سنين ( ), ورجح ابن حجر قوله ( ), وذكر الباقر محمد بن على قولين: الأول: كالذي ذكره بن إسحاق، ورجحه ابن حجر، وهو أنه ولد قبل البعثة بعشر سنين ( ), وأما الثاني: فيذكر أنه ولذ قبل البعثة بخمس سنين ( ), وقد ملت إلى قول ابن حجر وابن إسحاق فيكون مولده على التحقيق قبل البعثة بعشر سنين ( ).
وذكر الفاكهي ( ), أن عليًا أول من ولد من بنى هاشم في جوف الكعبة، وأما الحاكم فقال: إن الأخبار تواترت أن عليًا ولد في جوف الكعبة ( ).
ثالثًا: الأسرة وأثرها في الأعقاب:
لقد دل علم التشريح، وهو دراسة التركيب الجسدي، ولعم النفس، وعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع، على تأثير الدم والسلالات في أخلاق الأجيال وصلاحياتها ومواهبها، وطاقاتها، إلى حد معين، في أكثر الأحوال، وذلك عن ثلاث طرق:
(أ) القيم والمثل التي مازال آباء هذه الأسرة وأجدادها يؤمنون بها أشد الإيمان ويحافظون عليها، أو يحاولون أن يحافظوا عليها أشد المحافظة، ويتنبلون لها ويمجدون، ويعتبرون من جار عليها من أبناء الأسرة، أو خالفها وحاد عنها شاردًا غريبًا، ويرون في ذلك غضاضة، وسقوط همة وقلة مروءة، وعقوقًا للآباء وإساءة إليهم لا تغتفر في قوانين هذه الأسرة العرفية المتوارثة.
(ب) حكايات الآباء وعظماء الأسرة في البطولة والفتوة والفروسية، والشهامة، والأنفة والإباء، والجود والسخاء، وحماية المظلومين والضعفاء، تتناقلها الأجيال وتتباهى بها، وذلك في سن مبكرة، ومن أيام الصبا إلى سن الشباب والكهولة، فتؤثر في تكوين عقليتها ومشاعرها، وتعيين المقاييس للعظة والرجولة، والبر بالآباء، وتبرير شهرة الأسرة والسلالة.
(ج) تأثير الدم الموروث في أعضاء الأسرة كابرًا عن كابر، في أسرة حافظت على أنسابها وأصالتها، وذلك ما أيده علم السلالات( ), وهذا ليس على إطلاقه، وقاعدة مطردة، لا تقبل استثناء، ولا شذوذًا كالسنن الإلهية التي قال الله عنها +فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً" [فاطر:43]، وإلى ذلك أشار النبي × في قوله: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»( )، وقوله ×: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» ( ), وليس في ذلك من تقديس الدم الموروث الدائم، وتركيز الرئاسة الدينية والزعامة الروحية العلمية في أسرة معينة، واحتكارها لقيادة امة، دينيًا وروحيًا وعلميًا بشكل دائم، وهو الذي عانى منه العالم القديم – قبل الإسلام – فسادًا اجتماعيًا وخلقيًا جارفًا، واستبدادًا فظيعًا، واستغلالً ماديًا شنيعًا، تزخر به كتب التاريخ وشهادات المؤرخين للإمبراطوريتين الرومية والساسانية، والمجتمعين الإغريقي والهندي ( ), وغيرها من الجاهليات، ولذلك يحسن بنا أن نشير إلى وضع الأسرة والسلالة- اللتين ولد ونشأ فيهما أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه – العرقي والاجتماعي، وما كانتا تمتازان به من خصائص وأعراف، وتقاليد وتراث خلقي ونفسي، وكيف كان العرب ينظرون إليهما ويقرون لهما بالفضل، ونبدأ في ذلك بقريش، ثم ببنى هاشم ( ).
1- قبيلة قريش:أقر العرب كلهم بعلو نسب قريش، وسيادتها، وفصاحة لغتها، ونصاعة بيانها، وكرم أخلاقها وشجاعتها وفتوتها، وذهب ذلك مثلاً لا يقبل نقاشًا ولا جدالاً ( ),وكانوا حلفاء متآلفين متمسكين بكثير من شريعة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ولم يكونوا كالأعراب الذين لا يوقرهم دين، ولا يزينهم أدب، وكانوا يحبون أولادهم، ويحجون البيت، ويقيمون المناسك، ويكفنون موتاهم، ويغتسلون من الجنابة، ويتبرءون من الهرابذة ( ),ويتباعدون عن المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت، غيرة وبعدًا من المجوسية، ونزل القرآن بتأكيد صنيعهم وحسن اختيارهم، وكانوا يتزوجون بالصداق والشهود ويطلقون ثلاثًا ( )، ومما زاد شرفهم أنهم كانوا يتزوجون من أي قبيلة شاءوا، ولا شرط عليهم في ذلك، ولا يزوجون أحدًا حتى يشترطوا عليه أن يكون متحمسًا ( ) على دينهم، يرون ذلك لا يحل لهم ولا يجوز لشرفهم، حتى يدان إليهم وينقاد( ).
2- بنو هاشم:أما بنو هاشم فكانوا واسطة العقد في قريش، وإذا قرأنا ما حفظه التاريخ وكتب السيرة من أخبارهم وأقوالهم – وهو قليل من كثير جدًا – استدللنا به على ما كان يمتاز به هؤلاء من مشاعر الإنسانية الكريمة، والاعتدال في كل شيء، ورجاحة العقل، وقوة الإيمان بما للبيت من مكانة عند الله، والبعد عن الظلم ومكابرة الحق، وعلو الهمة، والعطف على الضيف والمظلوم، والسخاء، والشجاعة، وما تشتمل عليه كلمة (الفروسية) عند العرب من معان كريمة وخلال حميدة، والسيرة التي تليق بأجداد الرسول الكريم×، تتفق ويتفق مع ما كان يفضله ويدعو إليه من مكارم الأخلاق، غير أنهم عاشوا في زمن الفترة، وسايروا أبناء قومهم في عقائد الجاهلية، وعباداتها ( ) ولم يصل بنو هاشم إلى هذه المكانة في مجتمعهم إلا بالتضحية والعطاء والبذل وخدمة الناس.
3- عبد المطلب بن هاشم:جد الرسول × وعلىّ بن أبى طالب رضي الله عنه: ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة ( ), بعد عمه المطلب، فأقامهما للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم ( ).
ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع، كما كان قُصى، إذا كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالا وسلطانًا، إنما كان وجيه قومه، لأنه كان يتولى السقاية والرفادة، وبئر زمزم، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت ( ), ويتجلى إيمان عبد المطلب بأن لهذا البيت مكانة عند الله، وأنه حاميه ومانعه، وتتجلى نفسية سيد قريش السامية، وشخصيته القوية الشامخة في حديث دار بينه وبين أبرهة ملك الحبشة، وقد غزا مكة وأراد أن يهين البيت ويقضى على مكانته، وقد أصاب لعبد المطلب مائتى بعير، فاستأذن له عليه، وقد أعظمه أبرهة ونزل له عن سريره فأجلسه معه، وسأله عن حاجته، فقال: حاجتي أن يرد علىّ الملك مائتى بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك زهد فيه الملك وتفادته عينه، وقال: أتكلمني في مائتى بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟! قال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه، قال: ما كان يمتنع مني، قال: أنت وذاك ( ), وقد كان ما قاله عبد المطلب، فحمى رب البيت بيته، وجعل كيد أبرهة وجيشه في تضليل، قال تعالى: +وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ" [الفيل:3-5].
وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات الأمور ( )،ومات عبد المطلب بعد أن جاوز الثمانين، وعمر الرسول ثماني سنين، ومعنى ذلك أنه توفى حوالي سنة 578للميلاد ( ), وذكر أنه لم تقم بمكة سوق أيامًا كثيرة لوفاة عبد المطلب ( ).
4- أبو طالب والد على بن أبى طالب رضي الله عنه: أبو طالب لا مال له، كان يحب ابن أخيه حبًا شديدًا، فإذا خرج خرج معه، فقد كان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله × بعد جده، فكان إليه ومعه ( ), وعندما أعلن رسول الله × الدعوة إلى الله وصدع بها وقف أبو طالب بجانب رسول الله × وصمم على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غمًا وحسدًا ومكرًا، وإن المرء ليسمع عجبًا ويقف مذهولاً أمام مروءة أبى طالب مع رسول الله ×، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن اخيه محمد ×، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بنى هاشم، وبنى المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت، دفاعًا لرسول الله ×، مسلمهم ومشركهم على السواء ( ), وأجار ابن أخيه محمدًا × إجارة مفتوحة لا تقبل التردد والإحجام، ولما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جهدهم معه، وحدبهم عليه، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، وفضل رسول الله فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحبوا معه على أمره ( ) فقال:
إذا اجتمعت يومًا قريش لمفخر
فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أشراف عبد منافها
ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يومًا فإن محمدًا
هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديمًا لا نقر ظلامة
إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نقيمها
ولما خشى أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرمة مكة، وبمكانة منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم في ذلك من شعره، أنه غير مسلم رسول الله ×، ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونه فقال:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة
يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة
وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطى وإخوتي
وأمسكت من أثوابه بالوصائل
وتعوذ بالبيت وبك المقدسات التي فيه، وأقسم بالبيت بأنه لن يسلم محمدًا ولو سالت الدماء أنهارًا، واشتدت المعارك مع بطون قريش:
كذبتم وبيت الله نُبْزى ( ) محمدًا
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونُسلمه ( ) حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل( )
وينهض قوم في الحديد إليكم
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل( )
واستمر أبو طالب في مناصرة ابن أخيه واستطاع أن يغزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة التي هزت كيانه هزًا، ولما تغلغل الإسلام في قلوب أبناء بعض القبائل، اجتمعت قريش فائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة، وتواثقوا على ذلك، وانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه في شعبه ( ), وذلك في محرم سنة سبع من النبوة ومكث بنو هاشم على ذلك نحو ثلاث سنوات لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، ثم كان ما كان من أكل الأرضة للصحيفة، وإخبار النبي × أبا طالب بذلك، وتمزيق الصحيفة، وبطلان ما فيها ( ), ومات أبو طالب في النصف من شوال في السنة العاشرة من النبوة، وهو ابن بضع وثمانين سنة، ولم يسلم أبو طالب ( ), وهو العام الذي ماتت في خديجة زوج النبي ×، وتتابعت على رسول الله × المصائب، وسمى هذا العام بعام الحزن ( ).
5- أم أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه: هي الصحابية الجليلة السيدة الفاضلة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصى الهاشمية ( ),وهي أول هاشمية ولدت هاشميًا ( ), وقد حظيت برعاية النبي × حينما كفله عمه أبو طالب بناء على وصية أبيه عبد المطلب، فكانت له أمًا بعد أمة تقوم على شئونه وترعي أموره ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وقد قضى الحبيب المصطفى قرابة عقدين من حياته في كنفها، وقد استجابت لدعوة الإسلام وأصبحت من السابقات الأوليات وصارت من صفوة النساء ممن أخذن المكانة العليا في ساحة الفضيلة، وكانت رضي الله عنها مثالاً للرأفة والرحمة في معاملة الزهراء رضي الله عنها، إذ كانت تقوم بمساعدتها برًا بها وبوالدها ×، وروى عن أمير المؤمنين على رضي الله عنه أنه قال: قلت لأمي: أكفي فاطمة بنت رسول الله سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك هي الطحن والعجن ( ).كما أن صلتها بالنبي × أضافت إلى شخصيتها مكرمة حفظ الحديث وروايته، فقد روت عن النبي × مجموعة من الأحاديث، وقد كانت لها مكانة كبرى عند رسول الله ×، ويخصها بالهدية، فقد أورد ابن حجر بالإصابة أن عليًا رضي الله عنه قال: أُهدى إلى رسول الله حلة إستبرق فقال: «اجعلها خُمُرًا بين الفواطم» ( ). فشققتها أربعة أخمرة، خمارًا لفاطمة بنت رسول الله ×، وخمارًا لفاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وخمارًا لفاطمة بنت حمزة رضي الله عنها، ولم يذكر الرابعة( ).
ولقد كان حظ السيدة فاطمة مباركًا في حياتها وعند وفاتها، وحظيت بالتكريم إذ توفيت في حياة الحبيب المصطفى × ( ), وأما ما روى عن أنس في دفنها فهو واه ضعيف شديد الضعف ولا يتقوى من طرقه الأخرى التي جاءت لأنها كلها ضعيفة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم على رضي الله عنها دخل عليها رسول الله × فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيننى، وتعرين وتكسيننى، وتمنعين نفسك طيبا وتطعميننى، تريدين بذلك وجه الله والدار الأخرة، ثم أمر أن تغسل ثلاثًا ثلاثًا، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله بيده، ثم خلع رسول الله قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلامًا أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله × بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله × فاضطجع فيه وقال:«الله الذي يحيى ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقتها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي. فإنك أرحم الراحمين» وكبر عليها أربعًا وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر رضي الله عنهما ( ).
وقد احتج من احتج ( ) بهذا الحديث على جواز التوسل بالذوات، وقد قام الأستاذ أبو عبد الرحمن جبلان بن خضر العروسى في رسالته لمرحلة الماجستير بتتبع طرق الحديث وبين ضعفها وبطلانها ( ),ووضح أن الحديث قد روى من خمسة طرق: ثلاثة موصولة، ومرسلتان، فلم تخل واحدة منها من عدة علل فهو شديد الضعف، ومع هذا لم يرد التوسل المزعوم إلا في طريق واحدة، وهي طريق أنس، فهذه الأحاديث يمكن أن يعل بها الحديث لأن الكل ضعيف فيعل بعضه البعض ولا يزيدها إلا وهنا وضعفا، وأما من ناحية المتن فهو منقوض من عدة وجوه:
- إن في هذا الحديث مبالغة وإطراء وتجاوزًا للمألوف في ذلك العهد النبوي.
- هذا الحديث يخالف هدية وسننه في غسل جنازة المرأة، وذلك في أمور منها:
- سكبه بيده الشريفة لم يرد إلا في هذه القصة، وأما الذي ورد في غسل بنته زينب أنه أمرهم بالغسل، ولم يسكب بنفسه، فقد روى البخاري ومسلم عن محمد بن سيرين عن أن أم عطية قالت: دخل علينا النبي × ونحن نغسل ابنته فقال: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورًا، فإذا فرغتن فآذننى» وقالت:فلما فرغنا ألقى إلينا حقوه فقال: «أشعرنها إياه»، ولم يزد على ذلك ( ).
- إن الحفر بيده وإخراجه التراب بيده والاضطجاع فيه كلها لم تعهد إلا في هذا الحديث الضعيف، مخالفًا هديه المشهور عنه وهو من المبالغة والإطراء.
- ثم لفظ الدعاء الذي بدأ بلفظة الغيبة ثم الخطاب بعيد عن أسلوبه المعهود في الدعوات المأثورات «اللهم أنت...» ولم نر في غير هذا الدعاء «الله الذي...».
- ومما يدل على ضعفه أن الراوى اعترف بأن النبي × لم يفعل هذه الأفعال إلا في هذه المرة، ولكنه أراد أن يبرر ذلك بما ذكره، وهيهات ( ).
6- إخوة علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه: كان لأبي طالب أربعة أبناء، وهم: طالب، وهو الذي تكنى به، وعقيل، وجعفر، وعلى، وبنتان هما: أم هانئ، وجمانة، وكلهم من فاطمة بنت أسد، وكان بين كل واحد منهم وبين أخيه عشر سنوات، فطالب كان أكبر من عقيل بعشر سنوات، وكذلك الشأن مع جعفر وعلى، فكان جعفر أكبر من على بعشر سنوات ( ), وهذه نبذة مختصرة عن إخوة على رضي الله عنه.
(أ) طالب بن أبى طالب:هلك طالب مشركًا بعد غزوة بدر، وقيل إنه ذهب فلم يرجع، ولم يدر له موضع ولا خبر، وهو أحد الذين تاهوا في الأرض، وكان محبًا لرسول الله ×، وله فيه مدائح، وكان خرج إلى بدر كرهًا، وجرت بينه وبين قريش حين خرجوا إلى بدر محاورة فقالوا: والله يا بنى هاشم لقد عرفنا- وإن خرجتم معنا- أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال شعرًا وقصيدة ثناء على النبي × وبكى فيها أصحاب قليب بدر ( ).
(ب) عقيل بن أبى طالب:فكان يكنى أبا يزيد، تأخر إسلامه إلى عام الفتح، وقيل أسلم بعد الحديبية، وهاجر في أول سنة ثمان، وكان أسر يوم بدر ففداه عمه العباس، وقع ذكره في الصحيح في مواضع، وشهد غزوة مؤته، ولم يسمع له ذكر في الفتح وحنين، لأنه كان مريضًا، أشار إلى ذلك ابن سعد، لكن روى الزبير بن بكار بسنده إلى الحسن بن على أن عقيلا كان ممن ثبت يوم حنين ومات في خلافة معاوية، وفي تاريخ البخاري الأصغر بسند صحيح أنه مات في أول خلافة يزيد قبل الحرة ( ),وعمره ست وتسعون سنة ( ).
(ج) جعفر بن أبى طالب: فهو أحد السابقين إلى الإسلام وكان يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم، ويحدثهم ويحدثونه، وهاجر إلى الحبشة، فأسلم النجاشى ومن تبعه على يديه، ولقد تحدثت عنه في كتابي السيرة النبوية..عرض وقائع وتحليل أحداث، واستشهد بمؤتة من أرض الشام مقبلاً غير مدبر ( ).
(د) أم هانئ بنت أبى طالب: ابنه عم النبي ×، قيل اسمها فاختة، وقيل اسمها فاطمة وقيل هند، والأول أشهر، وكانت زوج هبيرة بن عمرو بن عائذ المخزومي، وكان له منها عمرو، وبه كان يكنى، وفي فتح مكة أجارت أم هانئ رجلين من بنى مخزوم، وقال لها
رسول الله ×: أجرنا من أجرت يا أم هانئ.وروت أم هانئ عن النبي × في الكتب الستة وغيرها( ), قال الترمذي وغيره: عاشت بعد على رضي الله عنه ( ).
(هـ) جمانة بنت أبى طالب: هي أم عبد الله بن أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ذكرها ابن سعد في ترجمة أمها فاطمة بنت أسد، وأفردها في باب بنات عم النبي ×، وقال: ولدت لأبى سفيان بن الحارث ابنه جعفر بن أبى سفيان، وأطعمها رسول الله من خيبر ثلاثين وسقا ( ).
7- أزواجه وأولاده: ولد له من فاطمة ( ) بنت رسول الله ×: الحسن والحسين (وسيأتي الحديث عنهما مفصلا)...وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى، وولد له من خولة بنت جعفر ابن قيس بن مسلمة، محمد الأكبر (محمد ابن الحنفية)،وُولد له من ليلى بنت مسعود بن خالد من بنى تميم، عبيد الله وأبو بكر، وولد له من أم البنين بنت حزام ( ) بن خالد بن جعفر بن ربيعة: العباس الأكبر، وعثمان، وجعفر الأكبر، وبعد الله، وولد له من أسماء بنت عميس الخثعمية: يحيى وعون ( ),وولد له من الصهباء ( ), عمر الأكبر ورقية، وولد له من أمامة ( ) بنت العاص بن الربيع، محمد الأوسط، وولد له من أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي، أم الحسن، ورملة الكبرى، وولد له من أمهات أولاد، محمد الأصغر، وأم هانئ وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الصغرى، وأم كلثوم الصغرى، وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم سلمة، وأم جعفر، جمانة ونفيسة، وولد له من محياة بنت أمرئ القيس، ابنة هلكت وهي جارية. قال ابن سعد: لم يصح لنا من ولد على رضي الله عن غير هؤلاء( ), وجميع ولد على بن أبى طالب رضي الله عنه لصلبه أربعة عشر ذكرًا، وتسع عشرة امرأة، وقيل: سبع عشرة امرأة، وكان النسل من ولده لخمسة، الحسن والحسين، ومحمد ابن الحنفية، والعباس ابن الكلابية، وعمر ابن التغلبية ( ),وسيأتي الحديث عن السيدة فاطمة وذريتها، الحسن والحسين، وأم كلثوم في ثنايا هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
8- صفاته الخَلقية:يقول ابن عبد البر رحمه الله: وأحسن ما رأيت في صفة على
رضي الله عنه أنه كان ربعة من الرجال إلى القصر ما هو، أدعج العينين، حسن الوجه، كأنه القمر ليلة البدر حسنًا، ضخم البطن، عريض المنكبين، شئن الكفين (عَتَدًا) ( ) أغيد، كان عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه، كبير اللحية، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضارى، لا يتبين عضده من ساعده، قد أدمجت دمجًا، إذا مسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، وهو إلى السمن ما هو، شديد الساعد واليد وإذا مشى للحرب هرول، ثابت الجنان، قوى شجاع ( ).
المبحث الثاني
إسلامه وأهم أعماله في مكة قبل الهجرة
أولا: إسلامه:
كان من نعمة الله عز وجل على علىّ بن أبى طالب وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله × للعباس عمه – وكان من أيسر بنى هاشم-: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه عياله، آخذ من بيته واحدًا وتأخذ واحدًا، فنكفيهما عنه،فقال العباس: نعم.. فانطلق حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله × عليًا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرًا رضي الله عنه فضمه إليه، فلم يزل على بن أبى طالب رضي الله عنه مع رسول الله × حتى بعثه الله نبيًا، فاتبعه علىّ، فأقر به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه ( ).
ونلاحظ أن رسول الله × أراد أن يرد الجميل والمعروف لعمه أبى طالب الذي كفله بعد وفاة جده عبد المطلب، فكان هذا من أكبر نعم الله عز وجل على علىّ رضي الله عنه، إذ رباه وأدبه الذي أدبه الله، عز وجل، وحفظه وعصمه ورعاه، والذي كان خلقه القرآن، فانعكس هذا الخلق القرآني على علىّ رضي الله عنه، وكفى بتربية النبي × تربية لعلى رضي الله عنه، فقد نشأ في بيت الإسلام وتعرف إلى أسراره في مرحلة مبكرة من حياته، وذلك قبل أن تتخطى الدعوة حدود البيت وتنطلق إلى البحث عن أنصار يشدون أزرها وينطلقون بها في دنيا الناس، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، وقد اختلف العلماء فيمن آمن بعد السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، هل هو أبو بكر الصديق أم على رضي الله عنهما؟ والذي أميل إليه من بين أقوال العلماء، أن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان على، ومن النساء خديجة، وهي أول من آمن على الإطلاق، ومن الموالي زيد بن حارثة رضوان الله عليهم ( ), وبهذا يكون أمير المؤمنين أول الصغار إسلامًا.
ثانيًا: كيف أسلم على؟
روى ابن إسحاق أن على بن أبى طالب رضي الله عنه جاء إلى النبي × بعد إسلام خديجة رضي الله عنها، فوجدهما يصليان، فقال على: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي ×:«دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحد وإلى عبادته، وتكفر باللات والعزى» فقال له على: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرًا حتى أحدث أبا طالب، فكره رسول الله × أن يفشى عليه سره، قبل أن يستعلن أمره، فقال له: «يا على إذا لم تسلم فاكتم»، فمكث على تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب على الإسلام، فأصبح غاديًا إلى رسول الله ×، حتى جاءه فقال: ما عرضت علىَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله ×: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل علىّ وأسلم، ومكث علىّ يأتيه على خوف من أبى طالب، وكتم على إسلامه ولم يظهر به( ).
ثالثًا: بين على رضي الله عنه وأبى طالب:
قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله × كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه على بن أبى طالب مستخفيًا من أبيه أبى طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه، يصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يومًا وهما يصليان، فقال لرسول الله ×: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي تدين به، قال: «أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم»،أو كما قال ×: «بعثني رسولا إلى العباد وأنت – أي عم – أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابنى إليه وأعانني عليه»،أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يُخلص إليك ( ) بشيء تكرهه ما بقيت، ذكروا أنه قال لعلى:أي بنى، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله وبرسول الله وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته، فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه ( ).
رابعًا: هل كسر على رضي الله عنه الأصنام مع رسول الله في مكة؟
عن علىّ رضي الله عنه، قال: انطلقت أنا والنبي × حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله × (اجلس) وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفًا، فنزل، وجلس لي نبي الله × قال: اصعد على منكبي، قال: فصعدت على منكبيه، قال: فنهض بي، قال: فإنه يخيل إلىّ إني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت، وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله، وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله × «اقذف به»، فقذفت فانكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت، فانظلقت أنا ورسول الله × نستبق حتى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد من الناس ( ),وهذا الحديث إسناده ضعيف، وبالتالي لا يمكن أن يبني عليه حكم كما زعم بعض الناس، ويبقى الأصل الثابت في الفترة المكية، في منع النبي × للصحابة لاستخدام القوة مع الخصوم أو الاعتداء على أصنامهم وأوثانهم بالقوة، وقد قام رسول الله × بتطهير مكة في عام الفتح من الأوثان وأرسل السرايا بعد ذلك الفتح العظيم لهدم وتطهير الجزيرة العربية، من مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على إزالتها وإبطالها.
خامسًا: هل دفن على رضي الله عنه أبا طالب بإرشاد رسول الله؟
عن على رضي الله عنه: أنه أتى النبي × فقال: إن أبا طالب مات، فقال له النبي ×: اذهب فواره، فقال: أنه مات مشركًا. فقال: اذهب فواره، قال: فلما واريته رجعت إلى النبي ×، فقال لي: اغتسل ( ). وجاء في رواية: اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئًا حتى تأتينى، قال: فاغتسلت ثم أتيته، قال: فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها، قال الراوى عبد الرحمن السلمي: وكان علىّ رضي الله عنه إذا غسل ميتًا اغتسل ( ).
سادسًا: الحس الأمنى عند علىّ رضي الله عن ودوره في إيصال أبى ذر رضي الله عنه لرسول الله ×:
إن من معالم المرحلة المكية، الكتمان والسرية، حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وقد قام على رضي الله عنه بدور عظيم في أخذ أبى ذر إلى مقر الرسول ×، فقد كان رضي الله عنه منكرًا لحال الجاهلية، ويأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله، وكان يصلى لله قبل إسلامه, بثلاث سنوات، دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويظهر أنه كان على نهج الأحناف، ولما سمع بالنبي × قدم إلى مكة، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علىّ رضي الله عنه، فعرف أنه غريب، فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادر صباحًا إلى المسجد الحرام، فمكث حتى أمسى فرآه على فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول ×، فقال له علىّ: فإنه حق، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني، فتبعه وقابل الرسول ×، واستمع إلى قوله، فأسلم، فقال له النبي ×:«ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري»، فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فثار القوم حتى أضجعوه فأتى العباس بن عبد المطلب، فحذرهم من انتقام غفار والتعرض لتجارتهم، التي تمر بديارهم إلى الشام، فأنقذه منهم ( ), وكان أبو ذر قبل مجيئة قد أرسل أخاه، ليعلم له علم النبي × ويسمع من قوله ثم يأتيه، فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبى ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني ( ) مما أردت، وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله ×، فقال أخوه له: كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا ( ).
ومن الدروس والعبر والفوائد من هذه الحادثة:
1- التأني والتريث في الحصول على المعلومة:
حيث يعرف أبو ذر رضي الله عنه كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول ×، وهذا التأني تصرف أمنى، تقتضيه حساسية الموقف، فلو سأل عنه لعلمت به قريش، وبالتالي قد يتعرض للأذى والطرد ويخسر الوصول إلى هدفه الذي من أجله ترك مضارب قومه وتحمل في سبيله مصاعب ومشاق السفر.
2- الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة:
حين سأل على رضي الله عنه أبا ذر رضي الله عنه عن أمر وسبب مجيئة إلى مكة، لم يخبره بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي الوقت ذاته يرشده، فهذا غاية في الاحتياط وتم ما أراده.
3- التغطية الأمنية للتحرك:
الاتفاق بين على وأبى ذر رضي الله عنهما على إشارة، أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء، وذلك عندما يرى على رضي الله عنه من يترصدهما أو يراقبهما، فهذه تغطية أمنية لتحركهما تجاه المقر (دار الأرقم)، هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من على فيعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ قد يحدث أثناء الحركة.
4- تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، وتوافر الحس الأمنى لديهم: وتغلغله في نفوسهم، حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة، فأتت تحركاتهم منظمة ومدروسة، فما أحوجنا لمثل هذا الحس الذي كان عند الصحابة، بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الدول والحضارات، وضعف وقوة الأمم والشعوب، والجماعات والمؤسسات والمنظمات، وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامة، والمعلومات الأمنية تباع بأغلى الأثمان، ويضحى في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر، وما دام الأمر كذلك فعلى المسلمين الاهتمام بالنواحي الأمنية حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم( ).
سابعًا: على رضي الله عنه مع رسول الله × في طوافه على القبائل، وعرضه للدعوة عليها، وحضوره المفاوضات مع بنى شيبان:
عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس: حدثني على بن أبى طالب، قال: لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدمًا في كل خير، وكان رجلاً نسابة.. إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر، عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ×، وقال: بأبى وأمي، هؤلاء غُرَر الناس، وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالاً، وكانت له غديرتان تسقطان على ترِيَبَتْه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبى بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فكيم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف ولن تُغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا مرة أخرى، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا. فقال مفروق، إلام تدعونا يا أخا قريش؟
قال رسول الله ×: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد»، فقال مفروق: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا، فتلا رسول الله × +قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [الأنعام:151].
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا، واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا، لا أول له ولا آخر لذل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة. إن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع، وننظر، ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى- وأسلم بعد ذلك -:قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك، وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيَنْ، أحدهما اليمامة، والأخر السَّمامة، فقال له رسول الله ×: «ما هذان الصريان؟»، قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ألا نحدث حدثًا، ولا نؤوى محدثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب، فعلنا، فقال رسول الله ×: «ما أسأتم في الرد، إذا أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن تلبثوا إلا قليلاً، حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه»، فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك ( ).
وهذا الحديث فيه دروس وعبر وفوائد تعلمها على بن أبى طالب رضي الله عنه منها:
1- تعلم على رضي الله عنه، أن النبي × رفض أن يعطى القوى المستعدة لتقديم نصرتها، أية ضمانات بأن يكون لأشخاص شيء من الحكم والسلطان على سبيل الثمن، أو المكافأة لما يقدمونه من نصرة وتأييد للدعوة الإسلامية، وذلك لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية وليس طمعًا في نفوذ أو رغبة في سلطان، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء هي التي تكيف نشاط الإنسان في السعي إليه، فلابد إذن من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة، عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدعم لها، وتقديم التضحيات في سبيلها ( )، فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله ألا يشترط عليها منصبًا، أو عرضًا من أعراض الدنيا؛ لأن هذه الدعوة لله والأمر لله يضعه حيث يشاء، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتغاء وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبها ( ),لذلك قال يحيى بن معاذ الرازي: لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة ( ).
2- وتعلم على رضي الله عنه من رسول الله × أن صفة النصرة التي كان يطلبها رسول الله لدعوته من زعماء القبائل أن تكون غير مرتبطة بمعاهدات دولية، تتناقض مع الدعوة، ولا يستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها وتهديدًا لمصالحها ( )، إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى، لو أراد القبض على رسول الله × وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات ( ).
3- إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، كان هذا الرد من النبي × على المثنى بن حارثة، حين عرض على النبي × حمايته على مياه العرب، دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة ير بُعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى ( ).
4- لمس على رضي الله عنه أثر الإسلام على المثنى وقومه بعد أن أسلموا، وكيف تحملت قبيلة بنى شيبان عبء مواجهة الفرس، وكان المثنى بن حارثة – فيما بعد- من قادة فتح العراق في عهد الصديق رضي الله عنه، فقد أكسبهم الإيمان بهذا الدين جرأة على قتال الفرس.
هذه بعض المفاهيم والدروس والعبر التي استفادها على رضي الله عنه من رسول الله عند مفاوضاته لزعماء بنى شيبان.
ثامنًا: تقديمه نفسه فداء للنبي ×:
عندمات اجتمعت قبيلة قريش في دار الندوة، وأجمعوا على قتل النبي × والتخلص منه، أعلم الله نبيه × بذلك، وكان النبي × أحكم خلق الله، فأراد أن يبقى من أراد قتله ينظر إلى فراشه ينتظرونه يخرج عليهم، فأمر على بن أبى طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه تلك الليلة، ومن يجرؤ على البقاء في فراش رسول الله × والأعداء أحاطوا بالبيت يتربصون به ليقتلوه؟ من يفعل هذا ويستطيع البقاء في هذا البيت هو يعلم أن الأعداء لا يفرقون بينه وبين الرسول الله × في مضجعه؟ إنه لا يفعل ذلك إلا أبطال الرجال وشجعانهم بفضل الله ( ) – تعالى-، وقد أمره النبي × أن يقيم بمكة أيامًا حتى يؤدي أمانة الودائع والوصايا التي كانت عنده إلى أصحابها من أعدائه كاملة غير منقوصة، وهذا من أعظم العدل، وأداء الأمانة ( ), وقد جاء في رواية: أن رسول الله × قال له: نم في فراشي، وتَسَجَّ ببردي هذا الخضري، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم ( ). وقال ابن حجر، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: فرقد علىُّ على فراش رسول الله يوارى عنه، وباتت قريش تختلف، وتأتمر، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعلى، فسألوه، فقال: لا علم لي، فعلموا أنه قد فر ( ), وعن ابن عباس: إن عليًا قد شرى نفسه تلك الليلة حين لبس ثوب النبي، ثم نام مكانه ( ), وفي على وإخوانه من الصحابة المجاهدين الذين يبتغون رضوان الله والدار الآخرة نزل قوله تعالى: +وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ" [البقرة: 207].
وفي هذا الموقف دروس وعبر وفوائد منها:
1- إن خطة الهجرة كما رسمها رسول الله × كانت تتطلب أن يأخذ مكانه في البيت رجل تشغل حركته داخل الدار أنظار المحاصرين لها من مشركي قريش، وتخدعهم بعض الوقت عن مخرج رسول الله ×، حتى يكون وصاحبه أبو بكر قد جاوزوا منطقة الخطر ( ).
2- في تلبية على رضي الله عنه لأمر النبي × مثلا للجندي الصادق، المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة الدعوة، وفي هلاكه خذلانها، ووهنها، فما فعله على رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول × يعتبر تضحية غالية، إذ كان من المحتمل أن تهوى سيوف فتيان قريش على رأس على رضي الله عنه، ولكن عليًا رضي الله عنه لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله نبي الأمة، وقائد الدعوة ( ).
3- في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله × مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله، دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه، ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون، أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقًا، فكانوا لا يضعون حوائجهم، ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفًا على زعامتهم وطغيانهم ( ), وصدق الله العظيم: +قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ" [الأنعام:33].
4- وفي أمر الرسول× لعلى- رضي الله عنه- بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، على الرغم من هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، على الرغم من ذلك فإن الرسول × ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره ( )، فقد أبى أن يخون من ائتمنه ولو كان عدوًا يحرض عليه، ويؤذيه؛ لأن خيانة الأمانة من صفات المنافقين، ويتنزه عنها المؤمنون ( ).
5- هذا الحديث العظيم فيه دلالة قاطعة على شجاعة على رضي الله عنه، فإنه يعلم وهو يقوم بتنفيذ ما أمر به أنه معرض لخطر عظيم، فقد يقتحمون عليه داره ويقتلونه دون أن يتثبتوا من هويته، وقد يباغتونه وهو خارج في الصباح من غير أن يتبينوا من هو، والقوم يتربصون به طوال الليل يترقبون هذه اللحظة وقد بلغ منهم الجهد كل مبلغ، فأصبحوا غير قادرين على التأكد من شخصية الخارج من الدار، أهو محمد × أم رجل آخر؟ لابد أن ذلك كله قد دار في عقل على لكنه بادر وسعد بالتنفيذ فهو أولاً: يحب الله ورسوله حبًا ملك عليه قلبه، فجعل سلامة رسول الله × هدفه الأسمى ولو كلفه ذلك التضحية بحياته، ثانيًا: هي عملية لابد منها لكي يخرج الرسول سالمًا من تدبير الأعداء حتى يتمكن من نشر الإسلام في كل مكان، فالأمر إذن يتعلق بمصلحة الإسلام أولاً وثانيًا، وقد نام على رضي الله عنه في فراش رسول الله × مع كل هذه التوقعات، وهذا دليل على عمق إيمانه بقضاء الله وقدره، فهو بحق مؤمن بقوله تعالى: +قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" [التوبة:51]. وإننا لنلمح في اختيار رسول الله × لعلى- ليقوم بهذا الدور الخطير- ثقة تامة لا تعدلها ثقة، واطمئنانًا إلى قدرات خاصة امتاز بها على قد لا تتوافر في غيره، فإنه لم يتردد حين دعاه الرسول × لينام على فراشه، وهو يعلم أنه
ليس وراء ذلك إلا الموت الذي أعد له المشركون أشجع فتيان قريش ولم يسمح لنفسه
أن يفكر في العاقبة؛ لأنه يعلم أنه حين يكون فداء لرسول الله ينال بذلك شرفًا لا يناله
بغير هذا الطريق( ).
يتبع باقي الموضوع