قصة الحروب الصليبية
د. راغب السرجاني
قصة الصراع بين النصرانية والإسلام
قبيل بعثة النبوة كانت القوة المسيحية ممثَّلة أساسًا في الدولة البيزنطية (خريطة 1) أو ما يعرف بالإمبراطورية الرومانية الشرقية، وذلك بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية سنة 476م (قبل ميلاد الرسول بمائة سنة تقريبًا).
وكانت الدولة الرومانية الشرقية تسيطر على شرق أوربا بكامله، إضافةً إلى الأناضول، وفوق ذلك فإنها كانت تحتل بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا، فصارت بذلك أعظم دولة في العالم، ولقد عرف البحر الأبيض المتوسط ببحر الروم لأن الأملاك الرومانية كانت تحيط به من كل جانب.
وكان المسيحيون في خارج الدولة البيزنطية لا يمثِّلون كيانًا كبيرًا إلا في بقاع متفرقة:
غرب أوربا: إنجلترا، فرنسا، إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا.
إفريقيا: الحبشة أساسًا.
الجزيرة العربية: نصارى الشام من العرب (الغساسنة\ تغلب\...)، نصارى اليمن ونجران.
آسيا: لم يكن فيها نَصَارى تقريبًا.
ثم ظهرت الدعوة الإسلامية في بدايات القرن السابع الميلادي، وهي دعوة للناس كافة.
يقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ).
ويقول الرسول : "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" .
استلزم ذلك أن يُرسِل رسول الله الرسائل إلى ملوك وأمراء العالم، وذلك في بدايات العام السابع الهجري بعد صلح الحديبية. وأهمهم: هرقل قيصر الروم، وكذلك: النجاشي ملك الحبشة، والمقوقس زعيم مصر .
ومع يقين هرقل بصدق النبوة كما سيظهر من حواره مع أبي سفيان إلا أنه لم يؤمن ؛ وذلك حفاظًا على ملكه، بل سنراه بعد ذلك يجهِّز الجيوش لحرب المسلمين عدة سنوات. كذلك حدثت تطورات خطيرة في العلاقة الإسلامية المسيحية، عندما قُتل بعضُ رسل رسول الله إلى زعماء النصارى، وتحديدًا الحارث بن عُمَيْر الأزديّ الذي قتله شُرَحْبِيل بن عمرو الغسَّاني ؛ مما أدى إلى الصدام العسكري الأول بين المسلمين والمسيحيين في موقعة مؤتة سنة 8هـ، التي انتهت بانتصار المسلمين وتراجع الرومان، وكذلك انسحاب خالد بن الوليد بالجيش مكتفيًا بزوال هيبة الجيش النورماني العملاق .
وأتبع ذلك ببوادر صدام ضخم لم يتم، وكان ذلك في تبوك سنة 9هـ؛ حيث انسحبت الجيوش الرومانية ولم يحدث قتال، وإن كان ظهر للعيان قوة الدولة الإسلامية الناشئة .
ولم تكن كل العلاقة الإسلامية المسيحية علاقة حروب، بل كانت هناك علاقات أخرى كثيرة من التعايش والتعاهد، مثلما حدث مع الحبشة ونصارى نجران ونصارى أيلة وغير ذلك.
ولكن وضح في الصورة أن الدولة البيزنطية ستحمل لواء الصراع مع المسلمين في السنوات، بل القرون المقبلة.
ثم كان الصدام مباشرًا وقويًّا أيام خلافة الصديق ، ثم عمر ، وكانت المعارك الشهيرة التي انتصر فيها المسلمون مثل أجنادين وبيسان ، ثم موقعة اليرموك الكبرى، ثم فتح دمشق وحمص وحماة، ثم سقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين، وبالتالي فتح كل مدن فلسطين ولبنان وسوريا وأجزاء من تركيا، كل ذلك في غضون سبع سنوات فقط؛ حيث بدأت هذه المعارك في (12هـ) 633م، وسقطت قيصريَّة سنة (19هـ) 640م، وهي آخر معاقل الدولة البيزنطيَّة جنوب جبال طوروس .
ثم تطوَّر الصدام ليكسب المسلمون جولة ثانية مهمة جدًّا بعد الشام وفلسطين وهي مصر؛ حيث انتصر المسلمون على جيوش الرومان التي كانت تحتل مصر أكثر من تسعمائة سنة، فكان الفتح الإسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص في سنة (20هـ) 641م، ثم وصلت الفتوح إلى برقة بليبيا سنة (22هـ) 643م .
وفي جولة جديدة، وحلقة أخرى من حلقات الصراع وصل المسلمون إلى شمال إفريقيا في زمن الخلافة الأموية أيام معاوية بن أبي سفيان ، حيث قام عقبة بن نافع بفتح تونس سنة (43هـ) 664م، ودارت حروب شتى بين المسلمين والدولة البيزنطية مشتركة مع البربر، انتهت بضم كل شمال إفريقيا للدولة الإسلامية، ودخول البربر بأعداد كبيرة في الإسلام .
ثم فتحت في سنة (92هـ) 711م جبهة جديدة لحرب الصليبيين، حيث فتحت الأندلس بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد ، وأتمَّ المسلمون السيطرة عليها في غضون ثلاثة سنوات ونصف، بل وتجاوزوها إلى فرنسا، ودارت هناك مواقع كثيرة اقتسم فيها الفريقان النصر، وإن كان النصر في فرنسا في النهاية كان للصليبيين في موقعة بلاط الشهداء سنة (114هـ) 732م (خريطة 2)، التي أوقفت المد الإسلامي في أوربا، ونشأت بعض الممالك النصرانية في شمال الأندلس، أهمها ليون وقشتالة وأراجون ثم البرتغال بعد ذلك، ودارت بينهم وبين المسلمين حروب متعددة على مدار عدة قرون.
وعلى هذا فقد صار هناك جبهتان للصراع بين الأمة الإسلامية وبين نصارى أوربا؛ أما الجبهة الأولى فهي بين الدولة الإسلامية في المشرق متمثلة في الخلافة الأموية، ثم العباسية ضد الدولة البيزنطية.
وأما الجبهة الثانية فكانت بين الدولة الإسلامية في الغرب وهي الأندلس، وبين الممالك النصرانية في شمال الأندلس متعاونة كثيرًا مع فرنسا، وأحيانًا مع إنجلترا وألمانيا وإيطاليا.
وحيث كانت الخلافة الأموية تتخذ من بلاد الشام مركزًا لها، فإن الحروب بينها وبين الدولة البيزنطية كانت كثيرة، بل كانت هناك محاولات حقيقية لفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، ولكن كلها لم تفلح .
وفي عهد الدولة العباسية الذي بدأ من سنة (132هـ) 750م، خَفَتَ إلى حد كبير حدة الصراع بين الدولة الإسلامية والبيزنطية؛ وذلك لأن الخلافة العباسية اتخذت من بغداد والعراق مركزًا لها، وبالتالي صار قلب العالم الإسلامي بعيدًا نسبيًّا عن الدولة البيزنطية ، وإن كانت الحروب لم تتوقف، وكان ميدانها في غالب الأحيان أرض آسيا الصغرى، ومن أشهر الصدامات تخريب الدولة البيزنطية لمدينة زبطرة مسقط رأس الخليفة العباسي المعتصم، وذلك في سنة (223هـ) 838م، ثم بعدها حدث الانتصار الإسلامي الكبير بفتح عَمُّورِيَّة مسقط رأس الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل سنة (223هـ) (838م) (خريطة3).
ثم شهدت الدولة العباسية ابتداءً من منتصف القرن الثالث الهجري (منتصف القرن التاسع الميلادي) تدهورًا ملحوظًا، وظهرت الدُّوَيلات المتفرقة بداخلها، ومنها على سبيل المثال: الدولة الغزنوية، والدولة السامانية، والدولة الزيارية، والدولة الحمدانية، والدولة البويهية، والدولة الإخشيدية، وغيرهم .
وهكذا ضعفت الشوكة، وأدى ذلك إلى أن بدأت الدولة البيزنطية تقف موقفًا حازمًا من المسلمين، حتى إنها في بداية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ضمت معظم مدن الجزيرة تحت السيطرة البيزنطية، ثم سقطت الجزر التي كان المسلمون قد سيطروا عليها في البحر الأبيض المتوسط مثل كريت وقبرص وذلك في سنة (350هـ) 961م؛ مما أعاد للأساطيل البيزنطية السيطرة من جديد على البحر الأبيض المتوسط، ثم حدث أمر كبير في سنة (358هـ) 969م حيث سقطت أنطاكية، وهي من أهم المدن في يد البيزنطيين، وكان لهذا دويٌّ هائل في العالمين الإسلامي والمسيحي .
ثم حدث أمر ضخم في الأمة الإسلامية حيث سقطت مصر تحت سيطرة الدولة العبيديّة الشيعية المعروفة بالفاطمية، وذلك في سنة (358هـ)969م ، وبذلك انقسم العالم الإسلامي إلى قسمين كبيرين وهما: الخلافة العباسية السُّنِّية الضعيفة التي وقعت تحت سيطرة دولة بني بويه الشيعية، والدولة الفاطمية الشيعية التي تسيطر على شمال إفريقيا ومصر وأجزاء من الشام. وهكذا ازدادت الأمة الإسلامية ضعفًا وفُرقة، وهذا أعطى للدولة البيزنطية الفرصة لكي تزداد جرأة في حربها للأمة الإسلامية، فكان النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي) ميدانًا واسعًا للبيزنطيين، اجتاحوا فيه أعالي الشام والعراق، حتى وصل الأمر إلى أن دفعت الموصل وميافارقين وديار بكر، بل وحمص ودمشق الجزية للإمبراطور البيزنطي حنا شمشقيق (تزمستكيس) .
ومن الجدير بالذكر أن هذه الحملة الأخيرة للإمبراطور البيزنطي كانت تستهدف بيت المقدس إلا أنه لم يستطع الوصول له، وكانت تفيض من كلماته ورسائله العبارات الدينية التي تؤكد الروح الصليبية التي كان مشحونًا بها في حربه .
وهذا الوجود البيزنطي في بلاد الشام وأنطاكية سيفسِّر لنا النزاع المستقبلي الذي سيدور بينهم وبين الصليبيين الغربيين حول الحق الشرعي في امتلاك هذه الأراضي والمدن.
أما القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) فقد شهد نموًّا للدولة الفاطمية، وتراخيًا من الدولة البيزنطية؛ نتيجة انشغالهم بحرب البلغار، وأيضًا لانشغالهم بضم بمملكة أرمينية النصرانية، التي كانت قد بلغت حدًّا مغريًا من الرخاء والتقدم، شجَّع البيزنطيين على بذل الجهد لضمها، وهذا أدى إلى أن بسطت الدولة الفاطمية سيطرتها على معظم الشام باستثناء حلب وأنطاكية.
وفي هذا القرن الخامس الهجري أيضًا ظهرت دولة السلاجقة الإسلامية العظيمة، وكان لها دور كبير في الصراع الإسلامي النصراني، وسوف نفرد لها صفحات كثيرة في هذا الكتاب للحديث عن مواقفها في هذا الصراع.
كان هذا هو الوضع في المشرق الإسلامي من بداية البعثة النبوية إلى أواخر القرن الخامس الهجري (خمسة قرون متتالية من الحروب المستمرة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية).
وعلى الصعيد الآخر كانت الحروب كذلك مستمرة في غرب العالم الإسلامي بين مسلمي الأندلس والدول النصرانية الغربية (شمال إسبانيا وفرنسا في الأساس)، وكانت الأيام دُولاً بين الفريقين؛ فيوم للمسلمين ويوم للصليبيين، إلا أن القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) كان في معظمه للصليبيين، وهو العصر الذي عُرِف في التاريخ بعهد ملوك الطوائف، حيث تفرقت جدًّا كلمة المسلمين؛ مما أدى إلى اجتياح صليبي لقطاع كبير من شمال الأندلس، وخاصةً في زمن ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة، الذي أسقط في سنة (478هـ) 1085م مدينة طليطلة العتيدة؛ مما أحدث دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي .
غير أن نهاية هذا القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) كانت سعيدة للمسلمين؛ حيث ظهرت دولة المرابطين القوية بالمغرب وغرب إفريقيا، وعبرت إلى بلاد الأندلس، وأنزلت بالصليبيين هزيمة فادحة في موقعة الزَّلاَّقَة سنة (479هـ) 1086م، أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة، وبسطت دولة المرابطين سيطرتها على أجزاء كبيرة من الأندلس، إلا أنهم فشلوا في استرجاع طليطلة .
وكتقييم عام للموقف في نهاية القرن الخامس الهجري (نهاية القرن الحادي عشر الميلادي)، فإن العالم الإسلامي كان منقسمًا بين الخلافة العباسية تحت سيطرة السلجوقيين وبين الدولة الفاطمية ومقرها القاهرة، وكانت نهايات القرن الخامس الهجري تمثِّل ضعفًا وفُرقة واضحين في الشرق الإسلامي، بينما كانت نهاية القرن الخامس الهجري في الأندلس تحمل قوة بارزة للمسلمين بظهور دولة المرابطين الفتيَّة تحت قيادة القائد الفذِّ يوسف بن تاشفين رحمه الله.
ومن ثَمَّ فإنه عند ظهور الحركة الصليبية في غرب أوربا في هذا التوقيت - على نحو ما سنشرح في الصفحات القادمة بإذن الله - فكَّروا في غزو الشرق الإسلامي الضعيف، وهذا للمرة الأولى في تاريخ غرب أوربا، بدلاً من الانطلاق إلى الأندلس القوية تحت زعامة المرابطين. وهكذا بدأت الحروب الصليبية من نهايات القرن الخامس الهجري وحتى نهايات القرن السابع الهجري (أكثر من مائتي سنة؛ من نهاية القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي).
استمرت هذه الحروب الشرسة فترة الخلافة العباسية ودولة السلاجقة، وكذلك الدولة الزنكية فالأيوبية فدولة المماليك، وانتهت بطرد الصليبيين الغربيين وعودة الأراضي الإسلامية للمسلمين، كما ذكرنا في أواخر القرن السابع الهجري.
وعلى الناحية الأخرى فإنه على الرغم من هزيمة الصليبيين من دولة الموحدين التي ورثت دولة المرابطين في موقعة الأرك سنة (591هـ) 1194م فإن أوائل القرن السابع الهجري شهد في الأندلس تقدمًا ملحوظًا للصليبيين، حيث انتصروا على دولة الموحدين في موقعة العقاب سنة (609هـ) 1212م (خريطة 4)، ثم توالى سقوط المعاقل الإسلامية الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية ، ولم يتبقَّ للمسلمين في نهاية القرن السابع الهجري إلا مملكة غرناطة الصغيرة في جنوب الأندلس، التي قُدِّر لها أن تعيش حوالي قرنين ونصف القرن من الزمان .
وكانت نهايات القرن السابع الهجري قد شهدت أيضًا ظهورًا لدولة العثمانيين، الذين حملوا راية الجهاد ضد الدولة البيزنطيَّة، وذلك بعد رحيل الصليبيين الغربيين.
وفي القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) كانت الفتوحات العثمانية الإسلامية في منطقة آسيا الصغرى مستمرة، بينما استقرت أوضاع الأندلس أو غرناطة نسبيًّا.
أما القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) فقد شهد استمرارًا لحروب العثمانيين ضد البيزنطيين، وتُوِّجت هذه الحروب بانتصار مهيب، حيث فتحت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857هـ\ 1453م؛ مما فتح الطريق للمسلمين لينساحوا في شرق أوربا .
ومع هذا السرور العظيم الذي نَعِمَ به العالم الإسلامي على الجبهة الشرقية للنزاع بين المسلمين والنصارى، إلا أن القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) شهد حادثًا مؤسفًا جدًّا، وهو سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وبالتالي خروج المسلمين بالكُلِّيَّة من الأندلس بعد أكثر من ثمانية قرون، وذلك في سنة (897هـ) 1491م .
ورغم محاولات الدولة العثمانية لنجدة المسلمين في الأندلس إلا أن محاولتهم باءت بالفشل؛ لانشغال العثمانيين بالحروب مع شرق أوربا من جهة، والصفويين الشيعة في إيران من جهة أخرى .
أما القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) فكان عثمانيًّا خالصًا؛ إذ وصلت الفتوحات العثمانية الإسلامية إلى منتصف أوربا تقريبًا، واستطاع العثمانيون في عهد سليم الأول وسليمان القانوني أن يضما معظم أملاك الدولة البيزنطية إلى المسلمين، وبذلك دخلت اليونان وألبانيا ويوغوسلافيا والمجر وبلغاريا في نطاق الدولة الإسلامية، ووصلت الجيوش الإسلامية إلى فيينا عاصمة النمسا، وقَبِل ملك النمسا آنذاك أن يدفع الجزية للمسلمين.
وفي هذا القرن حاول الأسبان والبرتغال احتلال دول شمال إفريقيا إلا أن المحاولات لم تكن ناجحة في الأغلب، اللهم إلا نجاح الأسبان في انتزاع سبتة ومليلة من المغرب سنة (987هـ) 1580م، وبقائهما تحت الاحتلال حتى الآن. وفي القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) بدأ التقلص العثماني في أوربا، واستطاعت بعض الدول الأوربية الانتصار على الدولة العثمانية في عدة لقاءات.
وعلى الساحة الغربية كان التفوق الإسباني والبرتغالي ملحوظًا، وإن كان التفوق الهولندي كان أشدَّ وأكثر.
أما القرون الثلاثة التالية وهي القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر الهجري (الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون الميلادي)، فقد كان التفوق الصليبي واضحًا، وبدأت الدولة العثمانية في التقلص التدريجي تحت ضربات إنجلترا وفرنسا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، وسقطت معظم دول العالم الإسلامي تحت الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والروسي والصيني والهندي، وكذلك اليهودي في فلسطين بمساعدة الإنجليز (خريطة 5).
ثم شهد منتصف القرن الرابع عشر الهجري (منتصف القرن العشرين) موجة تحرر واسعة النطاق في العالم الإسلامي، بدأت في لبنان سنة (1360هـ)1941م، ثم سوريا (1362هـ) 1943م، ثم ليبيا (1370هـ) 1951م، ثم مصر (1371هـ) 1952م. وهكذا تتابعت الدول الإسلامية في التحرر حتى لم يبق إلا فلسطين، وسبتة ومليلة في المغرب، هذا فضلاً عن الدول المحتلة من دول غير نصرانية، كالدول المحتلة من الاتحاد السوفيتي أو الصين أو الهند.
ثم كانت الهجمة الصليبية الأخيرة على العالم الإسلامي؛ حيث احتلت الصرب البوسنة سنة (1412هـ) 1992م، ثم تحررت سنة (1415هـ)1995م، ثم احتلت أمريكا أفغانستان سنة (1421هـ) 2001م، ثم العراق سنة (1422هـ) 2003م (خريطة 6).
وهكذا رأينا أنه منذ أيام البعثة النبوية الأولى وحتى أيامنا هذه لم تتوقف أبدًا حلقات الصراع الإسلامي- النصراني، ولم يكن هناك عَقْد - فضلاً عن قرن - خلا من معارك ونزال، وهذا أمر ليس مستغربًا؛ حيث قال تعالى في كتابه الكريم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ). وقال أيضًا: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ).
وهكذا باستعراض هذه الحلقات نعرف أن قصة الحروب الصليبية التي نحن بصددها ليست قصة مستغربة، بل إن المستغرب فيه حقيقة ألا توجد فترة فيها تصادم وتصارع. ومع عدم رغبتنا في الصدام أو الصراع إلا أنه سنةٌ من سنن الكون، ذكرها ربُّنا سبحانه وتعالى في كتابه حين قال: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين ).
العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية
في القرن الرابع الهجري وفي النصف الأول من القرن الخامس الهجري، كان العالم الإسلامي كله إلا قليل القليل، واقعًا تحت سيطرة المذهب الشيعي (خريطة7).
ففي منطقة العراق كانت هناك الخلافة العباسية السُّنية، ولكنها دخلت في طورٍ شديد من أطوار الضعف؛ مما جعلها تقع فريسة للسيطرة الشيعية من بني بويه, الذين كانوا يسيطرون على فارس (إيران) في ذلك الوقت، واستمرت هذه السيطرة حتى منتصف القرن الخامس الهجري.
وإلى الشرق من الخلافة العباسية وإيران حيث أقاليم آسيا الوسطى، كان السامانيون يسيطرون على شرق إيران ومنطقة أفغانستان وجنوب روسيا وما حولها.
أما الجزيرة العربية فكانت تحت حكم القرامطة.
ثم في وسط العالم الإسلامي وغربه كانت الدولة الفاطمية العبيدية الشيعية الإسماعيلية تسيطر على أرجاء واسعة؛ حيث سيطرت على مصر سنة (358هـ) 969م ، وظلت مسيطرة عليها قرابة قرنين كاملين من الزمان، وامتدت سيطرتها بعد ذلك لتشمل أرض فلسطين والشام والجزيرة العربية .
وفي أوائل القرن الخامس ظهرت قوة جديدة على الساحة الإسلامية، هي قوة الأتراك السُّنَّة القادمين من وسط آسيا، وهم أكثر من قبيلة، وإن كان يجمعهم العرق التركي.
وكان أبرز هذه القبائل هي قبيلة الغزنويين الأتراك، الذين استغلوا حالة الضعف التي اعترت دولة بني بويه وكذلك آل سامان، فبدأت تنتشر وتسيطر على مناطق شرق إيران وأفغانستان والهند.
ثم ظهرت قبيلة أخرى من قبائل الأتراك هي قبيلة السلاجقة (نسبة إلى جَدِّهم سلجوق بن دقاق)، وتوغلت هذه القبيلة في إقليم خراسان، وصارت تحت تبعية الغزنويين فترة من الزمان، إلا أنهم في النهاية قاموا بالثورة عليهم، واستقلوا بإقليم خراسان (شرق وشمال إيران) تحت قيادة طغرل بك، وكان ذلك في (428هـ) 1037م ، ثم أخذ السلاجقة في التوسع على حساب القوى الإسلامية المحيطة، وكذلك على حساب الدولة البيزنطية التي كانت قد دخلت في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) في طور من أطوار ضعفها، وبذلك شملت دولة السلاجقة مساحات واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينية وآسيا الصغرى . ثم حدث تطور خطير في سنة (447هـ) 1055م، حيث استنجد الخليفة العباسي القائم بأمر الله بطغرل بك لينجده من سيطرة بني بويه الشِّيعة، وبالفعل دخل طغرل بك بغداد في سنة 447هـ ، ليبدأ عهد السيطرة السلجوقية على الخلافة العباسية، ولا شكَّ أن هذا أعطى مكانه كبيرة لطغرل بك في العالم الإسلامي السُّني؛ مما أدى إلى توحيد أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تحت سيطرته، خاصةً فارس والعراق وأجزاء من الشام وآسيا الصغرى، وكانت هجمات السلاجقة متوالية على منطقة آسيا الصغرى خاصَّةً ؛ مما أزعج الدولة البيزنطية جدًّا، على الرغم من أن هذه الهجمات لم تكن منظمة بشكل كبير، ولم تكن تستهدف الاستقرار في آسيا الصغرى.
وفي سنة (455هـ) 1063م تُوفِّي طغرل بك ليخلفه القائد الإسلامي الفذُّ ألب أرسلان، الذي غيَّر كثيرًا من سياسة السلاجقة في آسيا الصغرى، حيث أصبحت تستهدف البقاء والسيطرة على الأراضي البيزنطية والأرمينية، وأدى ذلك إلى نشوب معركة كبرى بين السلاجقة والدولة البيزنطية، وذلك في سنة (463هـ) 1071م، وهي معركة ملاذكرد (مانزكرت)، وهي من أقوى المعارك في تاريخ المسلمين، حيث استطاع السلاجقة بقيادة ألب أرسلان وبجيش قوامه عشرون ألفًا فقط، أن يهزموا جيش الدولة البيزنطية المكوَّن من أكثر من مائتي ألف جندي بقيادة رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية.
وكان جيش الدولة البيزنطية مكوَّنًا من خليط من الجنود البيزنطيين والجنود النورمان الإيطاليين المرتزقة، وكذلك من جنود غربيين مرتزقة، إضافةً إلى فرق من التركمان الآسيويين، وقد سُحِق الجيش البيزنطي في هذه المعركة، وقُتل منه عشرات الآلاف، وأسر رومانوس الرابع نفسه، وتمَّ فداؤه بمليون دينار، إضافةً إلى إطلاق سراح كل أسرى المسلمين لدى الدولة البيزنطية ؛ وانهارت الدولة البيزنطية في منطقة آسيا الصغرى، وأصبح دورها في حماية البوابة الشرقية لأوربا دورًا مشكوكًا فيه؛ مما أقلق النصارى في غرب أوربا جدًّا، ولعل هذا من الأمور التي مهَّدت للحروب الصليبية بعد ذلك (بعد 25 سنة فقط من ملاذكرد).
وانشغل ألب أرسلان بتثبيت دعائم دولته الكبرى، واهتم بالمنطقة الشرقية بصورة أكبر، ولكن سرعان ما قُتِل في أحد معاركه في بلاد ما وراء النهر بعد ملاذكرد بسنة واحدة في (464هـ) 1072م، ليخلفه ابنه ملكشاه الذي حكم من سنة 465 إلى سنة 485هـ (1072 إلى 1092م)، ووصلت دولته من الصين شرقًا إلى بحر مرمرة غربًا، وهي الدولة التي عرفت بدولة السلاجقة الكبرى .
وعلى الرغم من هذا الاتساع الضخم إلا أنه - للأسف - فإن القاعدة الأصيلة تقول: إنه عند انفتاح الدنيا واتِّساع الأملاك، يحدث التصارع والتنافس بين الإخوة؛ وهذا مصداق حديث رسول الله : "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" .
وقد حدث التنافس بين أبناء البيت السلجوقي؛ مما أدى إلى انقسام الدولة إلى خمسة أجزاء، بل وكان في داخل كل جزء عدة انقسامات أخرى، مما أعطى طابع الفُرقة والتشتُّت في أواخر القرن الخامس الهجري (أواخر القرن الحادي عشر الميلادي)، وهي الفترة التي شهدت الحركة الصليبية الغربية.
وعلى هذا، فبالنظر إلى حال الأمة الإسلامية في هذا التوقيت ندرك يقينًا أن الأمة ستقع في أزمة كبيرة. وتعالَوْا نلقي نظرة سريعة على الإمارات والدويلات الموجودة في ذلك الوقت، لنفهم بعد ذلك، لماذا اختار الصليبيون هذا التوقيت خصوصًا لغزو العالم الإسلامي؟ ولماذا اختاروا هذه البقاع خاصَّةً؟
لقد حدث صراع كبير بين السلاجقة الذين كانوا يعيشون في منطقة الأناضول (آسيا الصغرى) بقيادة سليمان بن قتلمش، وبين السلاجقة الذين يعيشون في الشام بقيادة تتش بن ألب أرسلان ويعاونهم سلاجقة فارس، وكان هذا الصراع في سنة (478هـ) 1086م، ونتج عن هذا الصراع مقتل سليمان بن قتلمش، وهو أقوى ملوك السلاجقة الروم ؛ مما أدى إلى فراغ سياسيٍّ ضخم في آسيا الصغرى، خاصةً أنه ترك ولدًا صغيرًا على ولاية عهده هو قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، وبالتالي تفككت منطقة آسيا الصغرى إلى عدة دويلات صغيرة منفصلة، بل ومتناحرة.
وكان من الآثار السيئة الأخرى لهذا الصراع أن فَقَد سلاجقة الروم وسلاجقة الشام أي ثقة في التعاون والاتحاد، وكان لهذا أشد الأثر في انهيار المقاومة أمام الصليبيين بعد ذلك .
وهكذا صار ملك السلاجقة موزَّعًا على الصورة الآتية في نهاية القرن الخامس الهجري (نهاية القرن الحادي عشر الميلادي) (خريطة
:
أولاً: دولة السلاجقة الكبرى وهي التي خلفها ملكشاه الأول، وظلت تحكم أقاليم واسعة أهمها العراق وإيران، وكانت لها السيطرة المباشرة على الخلافة العباسية، وهذه كان بها صراعات داخلية، وإن كانت ظلت متماسكة إلى حدٍّ ما، وكان يحكمها خلفًا لملكشاه ابنه الأكبر بركياروق، وقامت ضده عدة ثورات من أقاربه وأعمامه، ولكنه ظل حاكمًا حتى وفاته (498هـ) 1104م .
ثانيًا: بيت سلاجقة كرمان (جنوب إيران ومنطقة باكستان)، وهم عشيرة قاروت بك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وهو أخو القائد الكبير ألب أرسلان.
ثالثًا: سلاجقة عراق العجم وكردستان (في شمال العراق).
رابعًا: سلاجقة الشام، وهم بيت تتش بن ألب أرسلان، وهؤلاء انقسموا على أنفسهم عدة انقسامات، وفتَّتوا الشام إلى عدة إمارات، سنأتي لتفصيلها بإذن الله.
خامسًا: سلاجقة الروم بآسيا الصغرى، وهم بيت قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق، والذي كان أكبرهم سليمان بن قتلمش أقوى ملوكهم، الذي قُتل سنة (478هـ) 1086م كما بينا.
ونتيجة هذه الصراعات المتتالية صار الوضع مزريًا قبيل دخول الجيوش الصليبية إلى أرض المسلمين.
ففي أرض الشام صارت حلب إمارة مستقلة تحت زعامة رضوان بن تتش، وصارت دمشق أيضًا إمارة مستقلة تحت حكم دقاق بن تتش، أما فلسطين فقد كانت تحت حكم سقمان وإيلغازي أولاد أرتق التركماني، وهو أحد القادة الذين كانوا يتبعون تتش بن ألب أرسلان .
ثم إن الدولة العبيدية (الفاطمية) - التي كانت تحكم مصر آنذاك - كانت متفوقة في أسطولها البحري عن السلاجقة؛ مما مكَّنها من السيطرة على موانئ الشام، وأهمها صور وصيدا وعكا وجبيل، غير أن ميناء طرابلس كان إمارة مستقلة تحت حكم ابن عمار أبي طالب، وهو من الزعماء الشيعة المنشقِّين عن الدولة العبيديّة .
فكان هذا هو حال الشام! وهي المنطقة التي ستوجَّه إليها الحملات الصليبية القادمة.
ولم يكن حال آسيا الصغرى بأفضل من حال الشام، وخاصةً بعد مقتل سليمان بن قتلمش سنة (478هـ) 1086م ، وكان السلطان ملكشاه قد أخذ ابن سليمان بن قتلمش وهو قلج أرسلان إلى فارس تحت رقابته ، غير أنه عند وفاة ملكشاه وولاية ابنه بركياروق أطلق سراح قلج أرسلان ليصبح بذلك زعيم السلاجقة الروم ، وإن لم يتمكن من السيطرة على كل آسيا الصغرى. ولا يخفى على أحد أنه كان لا يمتلك الخبرة الكافية لهذه المهمة الكبيرة، وهي قيادة منطقة تموج بالمشاكل والفتن، سواء من المسلمين أو من غير المسلمين؛ فالمشاكل الداخلية بين الأتراك، والمشاكل مع سلاجقة الشام كانت مستمرة ومستعرة، إضافةً إلى وجودها إلى جوار الدولة البيزنطية العدو اللدود والتقليدي للمسلمين على مدار خمسة قرون متتالية.
ثم إن آسيا الصغرى لم تكن وحدة واحدة، فأزمير مثلاً كانت تحت إمرة زاخارس، بينما كانت هناك إمارة الدانشمند، وهي إمارة أسسها أمير تركماني اسمه أحمد غازي، وكانت تشغل الشمال الشرقي من آسيا الصغرى، وكانت على خلاف مستمر مع السلاجقة في آسيا الصغرى، ومن ثَمَّ كان التحالف بينهما نادرًا ما يحدث، وفي ظروف ضيقة جدًّا .
وليس هذا فقط، فقد شهدت سنة (490هـ) 1095م توسُّعًا بيزنطيًّا في غرب آسيا الصغرى، واستولت على الجهات الساحلية في نيثنيا وأبونيا ، ومما زاد الموقف تعقيدًا في آسيا الصغرى وجود أعداد كبيرة من الأرمن كانوا يعيشون في دولتهم في هذه المنطقة منذ فترات طويلة، لكن الدولة البيزنطية ضمت أرمينيا إلى أملاكها في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، لكن مع توسع السلاجقة في القرن الخامس الهجري في آسيا الصغرى على حساب أملاك الدولة البيزنطية اجتاح السلاجقة الكثير من أقاليم أرمينيا؛ مما جعل الأرمن يهاجرون إلى الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى حيث الطبيعية الجبلية الصعبة في إقليم قليقية، كما تركزوا في ثلاث مناطق أخرى متفرقة هي ملطية والرُّها وأنطاكية ، مع العلم أن هذه المناطق الثلاثة الأخيرة كانت تجمعات بيزنطية قديمة، ومن ثَمَّ أصبحت خليطًا من الأرمن الكاثوليك والبيزنطيين الأرثوذكس، غير أن سليمان بن قتلمش استطاع ضم أنطاكية لحكم السلاجقة سنة(477هـ) 1085م، وتسرب إليها المسلمون ليعيشوا فيها جنبًا إلى جنب مع البيزنطيين والأرمن ، وكذلك الرها فقد سيطر عليها ملكشاه، لكنه أقر على حكمها أحد الأرمن وهو ثوروس مع دفع الجزية ، ونفس الأمر حدث في ملطية فقد سيطر عليها أحد رجال الأرمن يُدعى جبريل، وكان كذلك يعلن الولاء للسلاجقة .
ومن هنا نرى أن هذا الوجود الأرمني المكثف جعل الأمور غير مستقرة وغير آمنة في هذه المناطق الثلاثة، إضافةً إلى إقليم قليقية في الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى، وهذا كله سيكون له آثار مباشرة في نجاح الحملة الصليبية الأولى كما سيتضح لنا.
وهكذا نرى أن التركيبة السكانية الصعبة في آسيا الصغرى والمكوَّنة من سلاجقة وأرمن وبيزنطيين، والتفتُّت الواضح في مراكز الحكم، والعلاقات السلبية بين الطوائف المختلفة، والتوتر الشديد مع المناطق المحيطة، كل هذا أدَّى إلى وضع معقد جدًّا في هذه المناطق، لعله يفسِّر الاقتحام الصليبي المرتقب لمنطقة آسيا الصغرى وما حولها.
كان هذا هو الوضع في شرق العالم الإسلامي، وهو - كما رأينا - وضعٌ لا ينذر بخير، سواء في مناطق آسيا الصغرى والشام وفلسطين أو في مناطق العراق وفارس.
ولم يكن الوضع في بقية بلاد العالم الإسلامي طيِّبًا، اللهم إلا في بعض البقاع المتفرقة، ولعل أهم المناطق التي تعنينا في هذه القصة هي منطقة مصر لقربها من الأحداث، بل ولتعرضها لبعض الحملات الصليبية كما سيتبين لنا.
وكانت مصر في هذه الأثناء تحت حكم العبيديين (الملقَّبين بالفاطميين)، وقد بدأ حكمهم في مصر سنة (358هـ) 969م بعد عدة محاولات لاحتلالها على مدار أكثر من خمسين سنة سابقة، ثم آلت لهم في النهاية مع شمال إفريقيا، بل وامتد حكمهم إلى الشام والحجاز.
والعبيديون طائفة متطرفة جدًّا من الشيعة، يقولون بكل عقائد الشيعة وأكثر، ويحرِّفون تحريفاتهم وأشد، وهم يدَّعون النسب إلى فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله ، وكذبوا في ذلك، بل نسبهم إلى أحد اليهود الذين عاشوا في المغرب، وقد سيطروا على المغرب سنة (296هـ) 908م، ثم انتشروا في شمال إفريقيا، وأقاموا ما يسمونه بالخلافة الفاطمية، وهي ليست في الأصل خلافة ولا فاطمية، إنما هي دولة خبيثة قامت على قتل علماء السُّنَّة واضطهادهم، وأذاقت الناس العذاب ألوانًا، وأظهرت من الفسق والفجور والمنكرات، وتغيير العقائد والأخلاق ما لا يتخيل، وكانوا جميعًا من طائفة الإسماعيلية، وهي إحدى الطوائف المنشقة عن الشيعة والمنتسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ؛ يقول الإسماعيلية: إن الإمام السابع هو ابنه إسماعيل. بينما يقول الشيعة الاثنا عشرية: إن الإمام السابع هو موسى الكاظم الابن الآخر للإمام جعفر الصادق. ويقول الإسماعيلية أيضًا: إنه كان بعد الإمام إسماعيل خمسة أئمة مستورين، ثم الإمام الثالث عشر هو المهدي مؤسس الدولة العبيدية. ويدَّعون في أئمتهم أشياء عجيبة وخوارق منكرة، ووصل الأمر إلى ادِّعائهم أن الله حلَّ في أئمتهم - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا - ولذلك فهناك منهم من ادَّعى الألوهية وليس النبوة، ومن أشهرهم الحاكم بأمر الله الذي كان زعيمًا لدولتهم في مصر، وهو الذي خاطبه الشاعر بقوله:
ما شئتَ لا شاءت الأقدار *** فاحكمْ فأنتَ الواحد القهارُ
وأنشأ هؤلاء الفُسَّاق الجامع الأزهر في مصر لينشر سمومهم وأفكارهم المتطرفة، ولكن ردَّ الله كيدهم في نحورهم، فأصبح الجامع الأزهر على مدار عدة قرون من مراكز إشعاع السُّنة في العالم. وكانوا يُظهِرون سبَّ الصحابة بل والأنبياء، بل ورسول الله ؛ ومن ذلك ما كان ينادي به القائم بن المهدي في الأسواق: "العنوا عائشة وبعلها، العنوا الغار وما حوى". وكانوا يضربون عنق من أظهر حُبَّ أبي بكر أو عمر، ويقطعون لسان من قال في الأذان (حي على الفلاح)؛ لأنهم يستبدلون بها (حي على خير العمل)، ومنكرات أخرى كثيرة مطولة مسجلة في كتب التاريخ .
لقد كانت هذه الدولة الخبيثة هي التي تحكم مصر في ذلك الوقت، بل وإنها انقسمت على نفسها في سنة (487هـ) 1094م، عندما تُوفِّي خليفتهم المستنصر، وتكوَّنت فرقتان كبيرتان؛ الأولى هي التي تقطن بمصر وتحكمها، وهي المستعلية (نسبة إلى المستعلي بن المستنصر). أما الفرقة الثانية فهي أشد شرًّا من كل ما سبق وهي فرقة النزارية، وهي المنتسبة إلى نزار بن المستنصر أخي المستعلي بن المستنصر، وهذه الطائفة ألغت الشعائر الدينية، وامتنعوا عن إقامة الفرائض، ومع ذلك ظلوا يدَّعون الإسلام، وهم الذين عرفوا في التاريخ باسم الباطنية، وهم يُظهِرون شيئًا ويبطنون أشياء أخرى، وكان من همِّهم الأكبر قتل علماء السُّنة ومجاهديهم، وسيكون لهم أثر سلبي شديد على حركات الجهاد التي تهدف إلى إخراج الصليبيين من أرض المسلمين، وكان هؤلاء الباطنية أهل حرب وحصون وقلاع، وبأس شديد في القتال، وكانوا يشنِّون حروب العصابات على القرى الآمنة، وعاثوا في الأرض فسادًا، وكانوا أشدَّ على المسلمين من الروم والصليبيين.
أما الطائفة التي كانت تحكم مصر في أواخر القرن الخامس الهجري، أيام قدوم الحملة الصليبية فكانت طائفة المستعلية الإسماعيلية، وكانوا قد فقدوا السيطرة تمامًا على مناطق شمال غرب إفريقيا، ولم يعُدْ لهم في ملكهم إلا مصر، وكانت لهم أطماع كبيرة في الشام وفلسطين؛ ولذلك فإنهم كانوا في حروب مستمرة مع السلاجقة السُّنة، ولم يكونوا يمانعون أبدًا في التحالف مع الروم البيزنطيين تارة، ومع الصليبيين أنفسهم تارة أخرى في سبيل القضاء على السلاجقة، واقتطاع جزء من أرض الشام وفلسطين.
لقد كان الوضع مؤسفًا حقًّا! وكان الجيش المصري آنذاك - وعماده في الأساس العبيديون الإسماعيلية - شوكةً في حلق الأمة الإسلامية، وظل كذلك فترة من الزمان حتى ظهر نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، كما سيتضح لنا من مجريات الأحداث بإذن الله.
إذن كانت هذه هي الحال في مناطق آسيا الصغرى والشام والعراق ومصر، وكلها كما رأينا كان سيِّئًا لسبب أو لآخر، ولم يكن الحال في بقية أطراف العالم الإسلامي بأفضل من ذلك.
فقد كان الغزنويون يسيطرون على أفغانستان والهند، ولكنهم - للأسف الشديد - كانوا قد دخلوا في وقت أفولهم، وبالتالي ضعفت قوتهم جدًّا عن نصرة بلاد الشام، فضلاً عن بُعد مسافاتهم عن هذه الأراضي.
وكانت اليمن مقسَّمة بين ثلاث طوائف هم: بنو نجاح، والصليحيون، وبنو زريع؛ وكانت الحروب بينهم مستمرة، وكان يغلب على معظمهم التشيُّع، وكانوا يدينون بالولاء للدولة العبيديّة في مصر.
وكانت تونس تحت حكم آل زيري، وكانوا أيضًا قد دخلوا في طور من الضعف؛ مما أدى إلى فَقْد ثغر من أعظم الثغور الإسلامية، وهي جزيرة صقلية، حيث استطاع الإيطاليون النورمانيون أن يسيطروا عليها تمامًا سنة (484هـ) 1091م، وزال نفوذ آل زيري عنها، وبالتبعية زال وجود المسلمين من الجزيرة بعد حكم دام مائتين وسبعين سنة متصلة .
أما المكان الوحيد الذي كان يشهد قوة إسلامية في ذلك الزمن، فكان بلاد المغرب العربي وغرب إفريقيا والأندلس؛ حيث كانت هذه المناطق تابعة لدولة المرابطين العظيمة تحت قيادة قائدهم الفذِّ يوسف بن تاشفين رحمه الله، وهو من أعظم القادة في تاريخ الإسلام، وهو الذي أنزل بالصليبيين القادمين من شمال إسبانيا وفرنسا الهزيمة الساحقة في معركة الزَّلاَّقة سنة (479هـ) 1086م في وسط بلاد الأندلس.
وهذه الدولة الكبيرة - على قوتها - لم تكن تستطيع أن تساعد بلاد المشرق في حروبهم ضد الحملات الصليبية، لا لبُعد المسافة فقط ولكن لانشغالهم الشديد في حرب الصليبيين شمال الأندلس، والوثنيين في غرب إفريقيا ووسطها.
فهذه كانت نظرة عامة على بلاد العالم الإسلامي في أواخر القرن الخامس الهجري (أواخر القرن الحادي عشر الميلادي)، وهو الوضع الذي مهَّد لدخول الصليبيين إلى معاقلنا، وليس دخول الصليبيين - كما سنتبين - راجعًا إلى قوتهم، ولكنه يرجع في الأساس لضعفنا، وفرقة صفِّنا، وتشتت قوتنا، وبُعدنا عن ديننا، وهي عوامل مهلكة لا تخفى على لبيب، ولا ينكرها عاقل.
كان هذا هو وضع بلاد العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية، فكيف كان وضع أوربا في هذه الآونة؟ هذا ما سنتعرف عليه في الفصل القادم.
يتبع باقي الموضوع