عثمان بن عفان
على محمد محمد الصلابي
الفصل الأول
ذو النورين عثمان بن عفان بين مكة والمدينة
المبحث الأول
اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته
وأسرته ومكانته في الجاهلية
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته وألقابه:
1- هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ( ), ويلتقي نسبه بنسب رسول الله × في عبد مناف. وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.( ) وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي شقيقة عبد الله والد النبي ×، ويقال: إنهما ولدا توأما (حكاه الزبير بن بكار)، فكان ابن بنت عمة النبي ×، وكان النبي × ابن خال والدته. وقد أسلمت أم عثمان وماتت في خلافة ابنها عثمان, وكان ممن حملها إلى قبرها( )، وأما أبوه فهلك في الجاهلية.
2- كنيته: كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما ولد له من رقية بنت رسول الله غلام سماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله( ).
3- لقبه: كان عثمان يلقب بذي النورين، وقد ذكر بدر الدين العيني( ) في شرحه على صحيح البخاري، أنه قيل للمهلب بن أبي صفرة( ): لم قيل لعثمان ذو النورين؟ فقال: لأنا لا نعلم أحدا أرسل سترا على بنتي نبي غيره.( ) وقال عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي: قال لي خالي حسين الجعفي: يا بني، أتدري لِمَ سمي عثمان ذا النورين؟ قلت: لا أدري، قال: لم يجمع بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان، فلذلك سمي ذا النورين.( ) وقيل: سمي بذي النورين لأنه كان يكثر من تلاوة القرآن في كل ليلة في صلاته، فالقرآن نور وقيام الليل نور( ).
4- ولادته: ولد في مكة بعد عام الفيل بست سنين على الصحيح ( )، وقيل: ولد في الطائف، فهو أصغر من رسول الله × بنحو خمس سنين( ).
5- صفته الْخَلْقيَّة: كان رجلا ليس بالقصير ولا بالطويل، رقيق البشرة، كث اللحية عظيمها، عظيم الكراديس( )، عظيم ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفِّر لحيته. وقال الزهري: كان عثمان رجلا مربوعا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع، أروح الرجلين( ), وأقنى( ), خدل الساقين( ), طويل الذراعين، قد كسا ذراعيه جعد الشعر، أحسن الناس ثغرا، جُمَّته( ) أسفل من أذنيه، حسن الوجه، والراجح أنه أبيض اللون، وقد قيل:
أسمر اللون( ).
ثانيًا: أسرته:
تزوج عثمان ثماني زوجات كلهن بعد الإسلام وهن: رقية بنت رسول الله وقد أنجبت له عبد الله بن عثمان، ثم تزوج أم كلثوم بنت رسول الله بعد وفاة رقية، وتزوج فاختة بنت غزوان، وهي أخت الأمير عتبة بن غزوان، وأنجبت لعثمان عبد الله الأصغر، وأم عمرو بنت جندب الأزدية، وقد أنجبت لعثمان عمرا وخالدا وأبان وعمر ومريم، وتزوج فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومية، وأنجبت لعثمان: الوليد وسعيدا وأم سعد، وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، وأنجبت لعثمان: عبد الله، وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة الأموية، وأنجبت لعثمان: عائشة وأم أبان وأم عمرو، وقد أسلمت رملة، وبايعت رسول الله ×، وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية، وكانت على النصرانية وقد أسلمت قبل أن يدخل بها وحسن إسلامها.( )
وأما أبناؤه فقد كانوا تسعة أبناء من الذكور من خمس زوجات وهم: عبد الله وأمه رقية بنت رسول الله × ولد قبل الهجرة بعامين، وأخذته أمه معها عندما هاجرت مع زوجها عثمان إلى المدينة. وفي أوائل أيام الحياة في المدينة نقره الديك في وجهه قرب عينه، وأخذ مكان نقر الديك يتسع حتى طمر وجهه حتى مات في السنة الرابعة للهجرة، وكان عمره ست سنوات.( ) وعبد الله الأصغر, وأمه فاختة بنت غزوان، وعمرو, وأمه أم عمرو بنت جندب وقد روى عن أبيه، وعن أسامة بن زيد, وروى عنه علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وأبو الزنَّاد، وهو قليل الحديث، وتزوج رملة بنت معاوية بن أبي سفيان، توفي سنة ثمانين للهجرة. وخالد, وأمه أم عمرو بنت جندب. وأبان، وأمه أم عمرو بنت جندب، كان إمامًا في الفقه، يكنى أبا سعيد، تولى إمرة المدينة سبع سنين في عهد عبد الملك بن مروان، سمع أباه وزيد بن ثابت، له أحاديث قليلة، منها ما رواه عن عثمان: «من قال في أول يومه وليلته: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره ذلك اليوم شيء أو تلك الليلة». فلما أصاب أبان الفالج قال: إني والله نسيت هذا الدعاء ليمضي في أمر الله.( ) ويعتبر من فقهاء المدينة في زمنه، وقد توفى سنة خمس ومائة.( )
وعمر، وأمه أم عمرو بنت جندب. والوليد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومية. وسعيد، وأمه فاطمة بنت الوليد المخزومية، تولى أمر خراسان عام ستة وخمسين أيام معاوية بن أبي سفيان. وعبد الملك، وأمه أم البنين بنت عيينة بن حصن، ومات صغيرا، ويقال: ولدت نائلة بنت الفرافصة ولدا لعثمان سمى عنبسة.( )
وأما بناته، فهن سبع من خمس نساء، منهن: مريم وأمها أم عمرو بنت جندب. وأم سعيد، وأمها فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية. وعائشة، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة. ومريم بنت عثمان، وأمها نائلة بنت الفرافصة. وأم البنين، وأمها أم( ) ولد.
وأما شقيقة عثمان، فهي آمنة بنت عفان، فقد عملت ماشطة في الجاهلية، ثم تزوجت الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي، وأسرت سرية عبد الله بن جحش الحكم بن كيسان، وفي المدينة أسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله ×، حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا في بداية السنة الرابعة للهجرة، وبقيت آمنة بنت عفان في مكة على شركها حتى يوم الفتح؛ حيث أسلمت مع أمها وبقية أخواتها، وبايعت رسول الله × مع هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن ولا يزنين.( )
وأما إخوة عثمان من أمه فله ثلاثة إخوة وهم: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قتل أبوه يوم بدر صبرا وهو كافر، وخرج الوليد مع أخيه عمارة بعد الحديبية لرد أختهما أم كلثوم التي أسلمت وهاجرت، فأبى رسول الله × ردها، أسلم يوم الفتح. ومن إخوة عثمان لأمه عمارة بن عقبة، تأخر إسلامه، وخالد بن عقبة. وأما أخواته من أمه فهن: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، أسلمت بمكة، وهاجرت وبايعت رسول الله × وهي أول من هاجر من النساء بعد أن عاد رسول الله × إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ومن أخوات عثمان لأمه: أم حكيم بنت عقبة، وهند بنت عقبة( ).
ثالثـًا: مكانته في الجاهلية:
كان في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه؛ فهو عريض الجاه ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب خمرا قبل الإسلام وكان يقول: إنها تُذْهب العقل والعقل أسمى ما منحه الله للإنسان، وعلى الإنسان أن يسمو به، لا أن يصارعه. وفي الجاهلية كذلك لم تجذبه أغاني الشباب ولا حلقات اللهو، ثم إن عثمان كان يتعفف عن أن يرى عورة( ). ويرحم الله عثمان فقد يسر لنا سبيل التعرف عليه؛ حيث قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، و لا مسست ذكري بيمني منذ بايعت بها رسول الله ×، ولا شربت خمرًا في جاهلية ولا إسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام.( ) وكان على علم بمعارف العرب في الجاهلية ومنها الأنساب والأمثال وأخبار الأيام، وساح في الأرض فرحل إلى الشام والحبشة، وعاشر أقواما غير العرب فعرف من أحوالهم وأطوارهم ما ليس يعرفه غيره.( ) واهتم بتجارته التي ورثها عن والده، ونمت ثرواته, وأصبح يعد من رجالات بني أمية الذين لهم مكانة في قريش كلها، فقد كان المجتمع المكي الجاهلي الذي عاش فيه عثمان يقدر الرجال حسب أموالهم، ويهاب فيه الرجال حسب أولادهم وإخوتهم ثم عشيرتهم وقومهم، فنال عثمان مكانة مرموقة في قومه، ومحبة كبيرة.
ومن أطرف ما يروى عن حب الناس لعثمان لما تَجَمَّع فيه من صفات الخير أن المرأة العربية في عصره كانت تغني لطفلها أغنية تحمل تقدير الناس له وثناءهم عليه، فقد كانت تقول:
أحبك والرحمن
حبَّ قريش لعثمان( )
رابعًا: إسلامه:
كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تكلؤ أو تلعثم بل كان سباقا أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين حتى قال أبو إسحاق: كان أول الناس إسلاما بعد أبى بكر وعلي وزيد بن حارثة عثمان.( ) فكان بذلك رابع من أسلم من الرجال، ولعل سبقه هذا إلى الإسلام كان نتيجة لما حدث له عند عودته من الشام، وقد قصه على رسول الله × حين دخل عليه هو وطلحة بن عبيد الله، فعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما القرآن، وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما الكرامة من الله فآمنا وصدقا، فقال عثمان: يا رسول الله، قدمت حديثا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام فإذا منادٍ ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا بك.( )
لا شك أن هذه الحادثة تترك في نفس صاحبها أثرًا إيجابيًا لا يستطيع أن يتخلى عنه، عندما يرى الحقيقة ماثلة بين عينيه، فمن ذا الذي يسمع بخروج النبي قبل أن يصل إلى البلد الذي يعيش فيه، حتى إذا نزله ووجد الأحداث والحقائق تنطق كلها بصدق ما سمع به ثم يتردد في إجابة الدعوة؟ لا يستطيع الإنسان مهما كان مكابرا إلا أن يذعن للحق، ومهما أظهر الجفاء فإن ضميره لا يزال يتلجلج في صدره حتى يؤمن به أو يموت، فيتخلص من وخز الضمير وتأنيبه, ولم تكن سرعة تلبيته عن طيش أو حمق، ولكنها كانت عن يقين راسخ وتصديق لا يتطرق إليه شك.( ) فقد تأمل في هذه الدعوة الجديدة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبذ الرذيلة، دعوة إلى التوحيد وتحذير من الشرك، دعوة إلى العبادة وترهيب من الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيئة، ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، ويأكلون الميتة، ويسيئون الجوار، ويستحلون المحارم من سفك الدماء وغيرها.( ) وإذا بالنبي محمد بن عبد الله × صادق أمين يعرف عنه كل خير, ولا يعرف عنه شر قط، فلم تعهد عليه كذبة ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة والصوم, وألا يعبد غير الله( ), فأسلموا على يد أبي بكر الصديق، ومضى في إيمانه قُدُمًا قويا هاديا، وديعا صابرا, عظيما راضيا، عفوا كريما، محسنا رحيما، سخيًّا باذلا، يواسي المؤمنين، ويعين المستضعفين، حتى اشتدت قناة الإسلام.( )
وفي إسلام عثمان قالت خالته سعدى بنت كريز:
هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى
وأرشده والله يهدي إلى الحق
فتابع بالرأي السديد محمدا
وكان برأي لا يصد عن الصدق
وأنكحه المبعوث بالحق بنته
فكان كبَدْر مَازَجَ الشمس في الأفق
فداؤك يا ابن الهاشميين مهجتي
وأنت أمين الله أرسلت للخلق( )
خامسًا: زواجه من رقية بنت رسول الله ×:
فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحًا شديدًا، وتوثقت بينه وبينهم عرى المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله × رقية، وقصة ذلك أن رسول الله × كان قد زوجها من عتبة بن أبي لهب، وزوج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة المسد +تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ" [المسد: 1- 5]. قال لهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية +حَمَّالَةَ الْحَطَبِ" فارقا ابنتي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من الله تعالى لهما، وهوانًا لابني أبي لهب( ), وما كاد عثمان بن عفان يسمع بخبر طلاق رقية حتى استطار( ) فرحا، وبادر فخطبها من رسول الله × فزوجها الرسول الكريم × منه، وزفتها( ) أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وقد كان عثمان من أبهى قريش طلعة، وكانت هي تضاهيه قسامة وصباحة، فكان يقال لها حين زفت إليه:
أحسن زوجين رآهما إنسان
رقية، وزوجها عثمان( )
وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي: أن رسول الله × دخل على ابنته وهي تغسل رأس عثمان، فقال: «يا بنية أحسني إلى أبي عبد الله، فإنه أشبه أصحابي بي خُلُقًا». ( )
ظنت أم جميل بنت حرب وزوجها أبو لهب أنهما بتسريح رقية وأم كلثوم -رضي الله عنهما- سيصيبان من البيت المحمدي مقتلا أو سيوهنانه، ولكن الله -عز وجل- اختار لرقية وأم كلثوم الخير، وباءت أم جميل وأبو لهب بغيظهما لم ينالا خيرا, وكفى الله البيت النبوي شرهما، وكان أمر الله قدرا مقدورا( ).
سادسًا: ابتلاؤه وهجرته إلى الحبشة:
إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام، وتحملوا من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فقد أوذي عثمان وعُذب في سبيل الله تعالى على يد عمه الحكم ابن أبي العاص بن أمية الذي أخذه فأوثقه رباطا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أحلُّك أبدا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان : والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه.( )
واشتد الإيذاء بالمسلمين جميعا، و تجاوز الحد حيث قتل ياسر وزوجته سمية، والنبي × يتألم أشد الألم، إلى أين يذهب المسلمون؟ ثم اهتدى رسول الله × إلى الحبشة حيث قال للمسلمين: «لو خرجتم إلى الحبشة، فإن بها ملكا صالحا لا يُظْلم عنده أحد». ( ) وبدأت الهجرة والنبي × يتألم، وهو يرى الفئة المؤمنة تتسلل سرًّا( ) خارجة من مكة، ويركبون البحر، وخرج يمتطي بعضهم الدواب، والبعض الآخر يسير على الأقدام، وتابعوا السير حتى وصلوا ساحل البحر الأحمر، ثم أمَّروا عليهم عثمان بن مظعون، وشاءت عناية الله أن يجدوا سفينتين، فركبوا مقابل نصف دينار لكل منهم، وعلمت قريش فأسرعت في تعقبهم إلى الساحل ولكنهم كانوا قد أبحرت بهم السفينتان.( ) وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية عثمان بن عفان ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله ×، وكان وصولهم للحبشة في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة، فوجدوا الأمن والأمان وحرية العبادة، وقد تحدث القرآن الكريم عن هجرة المسلمين الأوائل إلى أرض الحبشة، قال تعالى: +وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" [النحل:41]. وقد نقل القرطبي -رحمه الله- قول قتادة رحمه الله: المراد أصحاب محمد ×، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.( ) وقال تعالى: +قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [الزمر: 10]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة.( ) وقد استفاد عثمان من هذه الهجرة وأضاف خبرة ودروسا لنفسه استفاد منها في مسيرته الميمونة، ومن أهم هذه الدروس والعبر:
1- أن ثبات المؤمنين على عقيدتهم بعد أن ينزل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله -جل شأنه- أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب وحرمان واضطهاد؛ لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين تكون دائما وأبدا لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطلب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة، وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات( ).
2- وقد تعلم عثمان من هدي النبي × الشفقة على الأمة، وظهرت هذه الشفقة لما تولى الخلافة وقبلها لَمَّا كان في المجتمع المدني في عهد النبي × وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فقد رأى بعينه وبصيرة قلبه شفقة النبي × على أصحابه، ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عن أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد، فكان الأمر كما قال × فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل.( ) فالرسول × هو الذي وجه الأنظار إلى الحبشة، وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه، فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده( ).
3- وتعلم عثمان من هدي النبي × في هجرة الحبشة أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد وأهله ورَحِمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة، فهو منهج بعيد عن نهج النبي ×.( ) ولهذا لما تولى ذو النورين الخلافة كان أقرباؤه في مقدمة الجيوش، فهذا عبد الله بن أبي سرح في فتوحات أفريقية، وذاك عبد الله بن عامر في فتوحات المشرق، وألزم معاوية أن يركب البحر ومعه زوجته وأن يكون في مقدمة الجيوش الغازية، وسيأتي تفصيل ذلك -بإذن الله- عند حديثنا عن الفتوحات.
4- كان عثمان أول من هاجر إلى الحبشة بأهله من هذه الأمة( ), قال رسول الله ×: «صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط» ( ).
ولما أشيع أن أهل مكة قد أسلموا، وبلغ ذلك مهاجري الحبشة أقبلوا، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فدخلوا في جوار بعض أهل مكة، وكان فيمن رجع عثمان بن عفان وزوجه رقية رضي الله عنهما.( ) واستقر المقام به حتى أذن الله بالهجرة إلى المدينة، ومنذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم النبي × حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه، أو في مهمة من المهام التي يندب لها ولا يغني أحد فيها غناءه، شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعا، كأنما هي خاصة من خواصهم رشحهم لها من رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين.( ) لقد كان ذو النورين على صلة وثيقة بالدعوة الكبرى منذ سنتها الأولى، فلم يفته شيء من أخبار النبوة الخاصة والعامة في حياة النبي × ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية( ).
* * *
المبحث الثاني
حياة عثمان مع القرآن الكريم
كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عثمان بن عفان وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، فهو المصدر الوحيد للتلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج الذي يتربى عليه الفرد المسلم والأسرة المسلمة والجماعة المسلمة، فكانت الآيات الكريمة التي سمعها عثمان من رسول الله × مباشرة لها أثرها في صياغة شخصية ذي النورين الإسلامية؛ فقد طهرت قلبه، وزكت نفسه، وتفاعلت معها روحه؛ فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته.( )
وقد تعلق عثمان بالقرآن الكريم، وحدثنا أبو عبد الرحمن السلمي كيف تعلمه من رسول الله ×، وله أقوال تدل على حبه الشديد للعيش مع كتاب الله تعالى؛ فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن -كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي × عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة( ), وذلك أن الله تعالى قال: +كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ" [ص: 29] وقد روى عثمان عن رسول الله × قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». ( ) وقد عرض القرآن الكريم كاملا على رسول الله × قبل وفاته. ومن أشهر تلاميذ عثمان في تعلم القرآن الكريم أبو عبد الرحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب وأبو الأسود، وزر بن حبيش.( ) وقد حفظ لنا التاريخ بعض أقوال عثمان في القرآن الكريم حيث قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل.( ) وقال: إني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله( ) (يعني المصحف). وقال: حُبب إليَّ من الدنيا ثلاث: إشباع الجيعان، وكسوة العريان، وتلاوة القرآن.( ) وقال: أربعة ظاهرهن فضيلة وباطنهن فريضة: مخالطة الصالحين فضيلة والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة واتخاذ الوصية منه فريضة.( ) وقال : أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يُسْأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل، ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه، وخيل لا تُرْكب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره.( ) وكان حافظا لكتاب الله، وكان حجره لا يكاد يفارق المصحف، فقيل له في ذلك فقال: إنه مبارك جاء به مبارك.( ) وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم( ) النظر فيه. وقالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة( ), وقد ذكر عنه أنه قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها( ), وقد تحقق فيه قول الله تعالى: +أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ" [الزمر: 9].
لقد تشرب عثمان بالمنهج القرآني وتتلمذ على يدي رسول الله × وعرف من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي × يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة، فقد حرص × أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة ذي النورين إلى الله عز وجل، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي ×.
فالله -سبحانه وتعالى- منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى، فهو سبحانه (واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا). وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية وهذا التوحيد في القرآن الكريم،( ) وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى: +قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [فصلت: 9- 12]. وأما هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير، قال تعالى: +إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [يونس: 24].
وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة، فأصبح هذا التصور رادعًا في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله، فيرى المتتبع لسيرة ذي النورين عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدة خوفه من عذاب الله وعقابه، وسنرى ذلك في صفحات هذا البحث بإذن الله تعالى.
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله × له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه في كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء: +وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" [يونس: 61].
وأن الله تعالى قد كتب كل شيء كائن: +إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ" [يس: 12]. وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة: +أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا" [فاطر: 44]. وأن الله خالق لكل شيء +ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" [الأنعام: 102].
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر ثمار نافعة ومفيدة، ظهرت في حياته، وسنراها -بإذن الله تعالى- في هذا الكتاب. وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبني الإنسان, وأن حقيقة خلقه ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة، قال تعالى: +الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ" [السجدة: 7- 9].
وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز، وسخر له ما في السموات والأرض وفضله على كثير من خلقه، وكرمه بإرسال الرسل له. وإن من أروع مظاهر تكريم المولى -عز وجل- للإنسان أن جعله أهلا لحبه ورضاه، ويكون ذلك باتباع النبي × الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة، قال تعالى: +مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل: 97].
وعرف عثمان من خلال القرآن الكريم حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يوسوس له بالمعصية ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعينا بالله على عدوه إبليس وانتصر عليه في حياته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم أن آدم هو أصل البشر، وجوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة, وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع الصحابة؛ لقول الله تعالى: +وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا" [الإسراء: 53].
لقد أكرم المولى -عز وجل- عثمان بن عفان بالإسلام، فعاش به وجاهد به من أجل نشره، واستمد أصوله وفروعه من كتاب الله وهدي النبي ×، وأصبح من أئمة الهدى الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، ولا ننسى أن عثمان بن عفان كان من كُتَّاب الوحي لرسول الله × ( ).
* * *
المبحث الثالث
ملازمته للنبي × في المدينة
إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عثمان وصقل مواهبه وفجر طاقته، وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله × وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عثمان لازم الرسول × في مكة بعد إسلامه كما لازمه في المدينة بعد هجرته؛ فقد نظم عثمان نفسه, وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فحرص على تعلم القرآن الكريم والسنة المطهرة من سيد الخلق أجمعين.
وهذا عثمان يحدثنا عن ملازمته لرسول الله × فيقول: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن، فهاجرت الهجرتين الأوليين، ونلت صهر رسول الله، ورأيت هديه.( ) لقد تربى عثمان على المنهج القرآني، وكان المربي له رسول الله ×، وكانت نقطة البدء في تربية عثمان هي لقاءه برسول الله ×، فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي ×، فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان وطرح الكفر، وقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل الإسلام وعقيدته السمحة. كانت شخصية رسول الله × تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض، والعظمة دائما تحب وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون ويلتصقون بها التصاقا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله × يضيف إلى عظمته تلك أنه رسول الله × متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بُعْد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضا لتلك النفخة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول × البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئا واحدا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية، حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول، ويرتبط حب الله بحب رسوله ×, ويمتزجان في نفسه فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.
كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطقها الذي تنطلق منه.( ) لقد حصل لعثمان وللصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله × وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، ولقد تتلمذ عثمان على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس، قال تعالى: +قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران: 64].
وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم خلال ملازمته رسول الله × في غزواته وسِلْمه، وقد أمدته تلك المعايشة بخبرة ودربة ودراية بشئون الحرب ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، وفي الصفحات القادمة سنبين -بإذن الله تعالى- مواقفه في الميادين الجهادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مع رسول الله × في العهد المدني.
أولاً: عثمان في ميادين الجهاد مع رسول الله ×:
شرع رسول الله × بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، فآخى بين المهاجرين والأنصار، فكل مهاجري يتخذ أخًا له من الأنصار، فكان نصيب عثمان بن عفان في المؤاخاة أوس بن ثابت،( ) ثم أقام النبي × المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود، وبدأت حركة السرايا، واهتم بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد. وكان عثمان من أعمدة الدولة الإسلامية، فلم يبخل بمشورة أو مال أو رأي، وشهد المشاهد كلها إلا غزوة بدر( ).
1- عثمان وغزوة بدر:
لما خرج المسلمون لغزوة بدر كانت زوجة عثمان السيدة رقية بنت رسول الله × مريضة بمرض الحصبة ولزمت الفراش، في الوقت الذي دعا فيه رسول الله × للخروج لملاقاة القافلة، وسارع عثمان للخروج مع رسول الله ×، إلا انه تلقى أمرًا بالبقاء إلى جانب رقية -رضي الله عنها- لتمريضها، وامتثل لهذا الأمر بنفس راضية وبقي إلى جوار زوجته الصابرة الطاهرة رقية ابنة رسول الله × إذ اشتد بها المرض، وطاف بها شبح الموت، كانت رقية -رضي الله عنها- تجود بأنفاسها وهي تتلهف لرؤية أبيها الذي خرج إلى بدر، ورؤية أختها زينب في مكة، وجعل عثمان يرنو إليها من خلال دموعه، والحزن يعتصر قلبه( ), ودعت نبض الحياة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولحقت بالرفيق الأعلى، ولم ترَ أباها رسول الله ×؛ حيث كان ببدر مع أصحابه الكرام، يعلون كلمة الله، فلم يشهد دفنها ×, وجهزت رقية ثم حمل جثمانها الطاهر على الأعناق، وقد سار خلفه زوجها وهو حزين، حتى إذا بلغت الجنازة البقيع، دفنت رقية هناك، وقد انهمرت دموع المشيعين، وسوى التراب على قبر رقية بنت رسول الله ×. وفيما هم عائدون إذ بزيد ابن حارثة قد أقبل على ناقة رسول الله × يبشر بسلامة رسول الله × وقتل المشركين وأسر أبطالهم، وتلقى المسلمون في المدينة هذه الأنباء بوجوه مستبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين، وكان من بين المستبشرين وجه عثمان الذي لم يستطع أن يخفي آلامه لفقده رقية رضي الله عنها. وبعد عودة الرسول × علم بوفاة رقية -رضي الله عنها- فخرج إلى البقيع ووقف على قبر ابنته يدعو لها بالغفران( ).
لم يكن عثمان بن عفان ممن تخلفوا عن بدر لتقاعس منه أو هروب ينشده كما يزعم أصحاب الأهواء ممن طعن عليه بتغيبه عن بدر، فهو لم يقصد مخالفة الرسول ×؛ لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ومتابعته، وعثمان خرج فيمن خرج مع رسول الله فردَّه × للقيام على ابنته، فكان في أجَلِّ فرض لطاعته لرسول الله وتخليفه، وقد ضرب له بسهمه وأجره فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر لطاعته الله ورسوله وانقياده لهما.( ) فعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من مصر حج البيت فقال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني أنشدك الله بحرمة هذا البيت، هل تعلم أن عثمان تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ فقال: نعم، ولكن أما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله فمرضت، فقال له رسول الله ×: «لك أجر رجل شهد بدرا وسهمه».( ) وعن أبي وائل، عن عثمان بن عفان أنه قال: أما يوم بدر فقد تخلفت على بنت رسول الله ×، وقد ضرب رسول الله × لي فيها بسهم. وقال زائدة في حديثه: ومن ضرب له رسول الله × فيها بسهم فقد شهد.( ) وقد عُد عثمان من البدريين بالاتفاق( ).
2- عثمان وغزوة أحد:
في غزوة أحد منح الله -عز وجل- النصر للمسلمين في أول المعركة، وأخذت سيوف المسلمين تعمل عملها في رقاب المشركين، وكانت الهزيمة لا شك فيها، وقتل أصحاب لواء المشركين واحدا واحدا، ولم يقدر أحد أن يدنو من اللواء، وانهزم المشركون، وولولت النسوة بعد أن كن يغنين بحماس ويضربن بالدفوف، فألقين بالدفوف وانصرفن مذعورات إلى الجبل كاشفات سيقانهن، ولكن مال ميزان المعركة فجأة، وكان سبب ذلك أن الرماة الذين أوكل إليهم النبي × مكانا على سفح الجبل لا يغادرونه مهما كانت نتيجة المعركة قد تخلوا إلا قليلا عن أماكنهم، ونزلوا إلى الساحة يطلبون الغنائم لما نظروا المسلمين يجمعونها، وانتهز خالد بن الوليد قائد سلاح الفرسان القرشي فرصة خلو الجبل من الرماة، وقلة من به منهم فكرَّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل، فقتلوا بقية الرماة ومعهم أميرهم عبد الله بن جبير الذي ثبت هو وطائفة قليلة معه, وفي غفلة المسلمين، وأثناء انشغالهم بالغنائم أطبق خالد ومن معه عليهم، فأعملوا فيهم القتل، فاضطرب أمر المسلمين اضطرابا شديدا، وانهزمت طائفة من المسلمين إلى قرب المدينة منهم عثمان بن عفان ولم يرجعوا حتى انفض القتال، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي × قد قتل، وفرقة ثبتت مع النبي ×، أما الفرقة التي انهزمت وفرت فلقد أنزل الله فيها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" [آل عمران: 155] غير أن أصحاب الأهواء لا يرون إلا ما تهوى أنفسهم، فلم يروا من المتراجعين إلا عثمان ، فكانوا يتهمونه دون سائر المتراجعين من الصحابة، وهل يبقى وحده؟ ولو فعل لخاطر بنفسه( ), وبعد أن عفا الله عن المتراجعين فالحكم واضح جليّ، لا لبس فيه ولا غموض، فلا مؤاخذة بعد ذلك على عثمان بن عفان( ) , فيكفي أن الله عفا عنه بنص القرآن الكريم، وحياته الجهادية بمجموعها تشهد له على شجاعته.
3- في غزوة غطفان (ذي إمر):
ندب رسول الله × المسلمين وخرج في أربعمائة رجل ومعهم بعض الجياد، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان فأصابوا رجلا منهم (بذي القُصَّة) يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله × فأخبره من خبرهم، وقال: لن يلاقوك، لما سمعوا بمسيرك هربوا في رؤوس الجبال وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله × إلى الإسلام فأسلم، وضمه رسول الله × إلى بلال ولم يلاقِ رسول الله × أحدا، ثم أقبل رسول الله × إلى المدينة ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشر ليلة( ).
4- في غزوة ذات الرقاع:
بلغ رسول الله × أن جمعًا من غطفان من ثعلبة وأنمار يريدون غزو المدينة، فخرج في أربعمائة من أصحابه حتى قدم صرارًا، وكان رسول الله × قد استخلف على المدينة قبل خروجه عثمان بن عفان، لقي المسلمون جمعا غفيرا من غطفان، وتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله × بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بالناس، وقد غاب عن المدينة خمسة عشر يوما( ).
5- في بيعة الرضوان:
عندما نزل رسول الله الحديبية رأى من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم فيها نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، وحرصه على احترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول × إلى قريش (خراش بن أمية الخزاعي) وحمله على جمل يقال له (الثعلب), فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله × وأخبره بما صنعت قريش، فأراد رسول الله × أن يرسل سفيرا آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله ×، ووقع الاختيار في بداية الأمر على عمر بن الخطاب( ), فاعتذر لرسول الله × عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله × أن يبعث عثمان مكانه،( ) وعرض عمر رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء, وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققا بالنسبة لعمر ، فقد أشار على النبي × بعثمان لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله ×( ), وقال لرسول الله ×: إني أخاف قريشا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم( ), فلم يقل رسول الله × شيئا، قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله × عثمان فقال: «اذهب إلى قريش فخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف»، فخرج عثمان بن عفان حتى أتى بلدح( ) فوجد قريشا هناك، فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله × إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في دين الله كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويَلِي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم، فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا، فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأجاره وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة فأتى أشرافهم رجلا رجلا؛ أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وغيرهما من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا.( ) وعرض المشركون على عثمان أن يطوف بالبيت فأبى( )، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله × إلى المستضعفين بمكة وبشرهم بقرب الفرج والمخرج،( ) وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله × جاء فيها: اقرأ على رسول الله × منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة.( ) وتسربت شائعة إلى المسلمين مفادها أن عثمان قتل، فدعا رسول الله × أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت( ) سوى الجد بن قيس وذلك لنفاقه.( ) وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر( ), وفي رواية على عدم الفرار( )، ولا تعارض في ذلك؛ لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار.( ) وكان أول من بايعه على ذلك أبا سنان عبد الله بن وهب الأسدي( )، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته( ), وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات؛ في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم.( ) وقال النبي × بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده.( ) وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول × المبايعة تحت الشجرة ألف وأربعمائة صحابي.( ) وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان، وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، منها:
1- قال تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [الفتح: 10].
2- قال تعالى: +لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" [الفتح: 17، 18].
3- قال جابر بن عبد الله : قال لنا رسول الله × يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض»، وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة.( ) هذا الحديث صريح في فضل أصحاب الشجرة؛ فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما.. وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليٍّ على عثمان؛ لأن عليا كان من جملة من خوطب بذلك، وممن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان حينئذ غائبا، وهذا التمسك باطل؛ لأن النبي × بايع عنه فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعض.( )
وفي الحديبية ذكر المحب الطبري اختصاص عثمان بعدة أمور، منها: اختصاصه بإقامة يد النبي الكريمة مقام يد عثمان لما بايع الصحابة وعثمان غائب، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله × إلى مَنْ بمكة أسيرا من المسلمين، وذكر شهادة النبي × لعثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة( )، فعن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي × بايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لأبي عبد الله الطواف بالبيت آمنا، فقال النبي ×: «لو مكث كذا ما طاف حتى أطوف» ( ).
يتبع باقي الموضوع