ليبيا، تاريخ. أطلق اليونان وعلى رأسهم المؤرخ الكبير هيرودوت تسمية ليبيا على كل منطقة شمال إفريقيا، ولم تكن تطلق فقط على موضع ليبيا الحالية. أما اليوم فإن أرض ليبيا تتوسط بين مصر في الشرق وتونس في الغرب.
تتألف ليبيا من أقاليم جغرافية ثلاثة، هي: برقة في القسم الشرقي من البلاد، وطرابلس في القسم الغربي منها، وفزان في القسم الجنوبي. ومن الشمال تطل على البحر المتوسط، وقسمها الجنوبي واحة في الصحراء. وعلى الرغم من أن ليبيا تطل على البحر المتوسط وساحلها يتمتع بمناخ البحر الأبيض المتوسط، إلا أنها تعتبر جزءًا من الصحراء الكبرى.
وسطح ليبيا في بعض مناطقه يتألف من هضبة، كما هو الحال بالنسبة لبرقة، تنزل فيها أمطار قليلة تسمح بقيام زراعة محلية محدودة على المدرجات، وتنمو في المنطقة غابات البحر المتوسط فوق السفوح الشمالية والشمالية الغربية. أما في الغرب فيوجد إقليم طرابلس الغرب، ويشبه في مناخه ونباتاته مناخ حوض البحر المتوسط. وتوجد فيه أحسن الأراضي الزراعية الليبية، وتزرع فيه أشجار الزيتون والحمضيات والموز والخضراوات والشعير والقمح. وفي هضابه يقوم الأهالي بتربية الغنم والماعز. أما المنطقة الجنوبية فزان فهي أشبه بمستطيل منخفض من الأرض، تحيط به المرتفعات، وأرض هذه المنطقة خصبة إذا ماتوافرت لها المياه، وتزرع فيها الحبوب بأنواعها وأشجار النخيل.
تبلغ مساحة ليبيا حوالي 1,757,000كم²، وتحتل موقعًا له أهميته الاستراتيجية على البحر الأبيض المتوسط، فإلى الشرق منها مصر وفي غربها تقع تونس والجزائر، ويحدها من الجنوب السودان، ومن الشمال البحر الأبيض المتوسط، وتشكل ليبيا حلقة وصل بين بلاد المغرب العربي والمشرق العربي. وليبيا جزء من هضبة كبيرة تعرف بهضبة إفريقيا. وتشكل معظم مساحتها أرضًا صحراوية أو شبه صحراوية قاحلة، تقدر بحوالي أربعة أخماس المساحة الكلية. وقد بقيت البلاد تعيش فقرًا مدقعًا إلى أن تم اكتشاف النفط بكميات تجارية كبيرة، وتعتبر الزراعة والتجارة مصدرين رئيسيين آخرين من مصادر الدخل في البلاد.
ومناخ ليبيا في الشمال والمناطق المطلة على البحر الأبيض المتوسط هو مناخ البحر المتوسط، أما مناطق الجنوب فمناخها صحراوي. وتسقط الأمطار على المناطق الساحلية، ومناخها معتدل، أما الجنوب فمناخه قاري حار جدًآ في النهار وبارد في الليل خاصة في فصل الشتاء.
يقدر عدد سكان ليبيا بحوالي خمسة ملايين نسمة، يتمركز معظمهم في المدن الساحليّة وبنسبة أقل في الواحات الليبيّة المنتشرة في ربوع البلاد. وأهم مدن ليبيا: مدينة طرابلس الغرب، وهي مدينة ساحلية على البحر الأبيض المتوسط، وتعتبر من أكبر المدن الليبية من حيث الكثافة السكانية، وهي ذات تاريخ إنساني تليد، وتجمع بين النمط العمراني الإسلامي والقديم، وبين نمط عمراني إيطالي وهكذا طبعت المدينة بالطابعين القديم والحديث. ومدينة طرابلس الغرب هي عاصمة ليبيا، وهي أيضًا قاعدة مقاطعة طرابلس. أما مدينة بنغازي فهي قاعدة مقاطعة برقة. وهي مدينة ساحلية تطل على البحر الأبيض المتوسط، وتطل أيضًا على خليج سرت. وهي مدينة ذات تاريخ قديم، وتُعد ثانية مدن ليبيا بلا منافس. ومدينة بنغازي من المدن التي عمرت في العهد الإغريقي حين كانت المنطقة خاضعة لسيطرة الإغريق، وتعد جزءًا من اتحاد المدن الإغريقية الليبية. ومدينة البيضاء، وهي من المدن الليبية الرئيسة، مدينة حديثة نسبيًا بنيت على أنقاض إحدى المدن الإغريقية القديمة. وقد أنشأ فيها الملك إدريس السنوسي جامعة إسلامية كبيرة. وهي مدينة قريبة من الساحل الشمالي الشرقي لليبيا في مقاطعة برقة ومنطقة الجبل الأخضر. ومدينة مرزوق، وهي قاعدة مقاطعة فزان، وتقع في عمق الداخل الليبي. ومدينة سبها، وهي مدينة داخلية في الواحات الجنوبية الغربية من البلاد الليبية، بالإضافة إلى عدد من المدن الصغيرة نسبيًا مثل: طبرق ودرنة وسرت ومصراتة وزوارة وغيرها من بلدان ليبيا.
تدفق النفط الليبي عام 1959م، مما أدى إلى انتعاش الحياة الاقتصادية وتحسن وضع السكان المعيشي، وانتعاش الحياة الحضرية بشكل خاص. وقد أصبح النفط في ليبيا مصدرًا للثروة، اعتمدت البلاد عليه كمصدر رئيسي للدخل لا ينافسه مصدر آخر، مما وجّه فئة من سكان ليبيا للعمل في الصناعة النفطية. وقد استخرج النفط الليبي من الصحراء، ومدت أنابيب النفط لنقله من إلى موانئ التصدير على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ويعمل العديد من المواطنين الليبيين في مراكز استخراجه وتكريره وتصديره. وقد شيدت عدة موانيء ساحلية لتصدير النفط إلى الخارج مثل موانئ: سدرة وبريقة والحريقة وغيرها.كما يعمل آخرون في التجارة، وقد ازدهرت التجارة في ليبيا بعد تصدير النفط وازداد دخل الفرد الليبي، وتضاعفت القوة الشرائية للسكان. ويعمل آخرون من السكان في الزراعة، في المناطق الزراعية الساحلية، وفي الواحات، والمراعي، بالإضافة إلى العاملين في صيد الأسماك، والعاملين في الصناعات الخفيفة المحليّة.
تاريخ ليبيا القديم
يعدّ الفينيقيون من أوائل الشعوب السامية التي وصلت إلى مناطق الساحل الإفريقي، وأقاموا فيه مراكز استيطان لهم على ساحل برقة في الجزء الساحلي الشرقي من ليبيا، وعلى ساحل طرابلس الغرب في الجزء الساحلي الغربي منها. وكانت هناك اتصالات حضارية وتجارية بين سكان ليبيا وبين سكان مصر في عهد الفراعنة. وقد وقعت منطقة برقة تحت النفوذ اليوناني الإغريقي، واستوطن الإغريق المنطقة، وأصبحوا يشكلون نسبة لا بأس بها من سكان برقة قديمًا. كما وقعت منطقة طرابلس الغرب تحت النفوذ القرطاجي والروماني، وقد استوطن القرطاجيون والرومان تلك المنطقة وشكلوا نسبة كبيرة من سكانها. وانتشر البربر في أنحاء ليبيا. واستطاع الرومان ضم منطقتي برقة وطرابلس الغرب إلى الإمبراطورية الرومانية التي شكلت دولة مترامية الأطراف، لها نظام حكمها المطلق، ولها طابعها الحضاري المميز الذي ما زالت آثاره شاهدة عليه حتى أيامنا هذه. وقد شكلت تلك المستوطنات مراكز تجارية مهمة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. تتجمع فيها البضائع القادمة من داخل إفريقيا، ومنها تصدر إلى بلاد أوروبا حيث كانت تصل إلى المراكز التجارية الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط بوساطة الإبل مارة بطرق القوافل الداخلية في ليبيا. وقد خضعت منطقة طرابلس للحكم الوندالي من القوط الذين استوطنوا أسبانيا، وذلك بعد زوال الحكم الروماني عنها. وفي مراحل لاحقة خضعت برقة وطرابلس الغرب معًا للحكم البيزنطي. وقد قاومه السكان المحليون من بعد الفتح العربي الإسلامي في شمال إفريقيا حتى أجبروا البيزنطيين على الرحيل.
الفتح الإسلامي لليبيا
من المعروف أن سكان ليبيا خليط من العناصر، أقدمهم البربر، ثم الفراعنة، والفينيقيون، والإغريق والرومان، ثم العرب الذين قدموا إلى المنطقة بعد وصول الفتح الإسلامي.
فقد استمر القائد العربي المسلم عمرو بن العاص بعد فتح مصر في زحفه صوب ليبيا في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقُدِّر عدد الجيش الإسلامي الزاحف على برقة بحوالي اثني عشر ألفًا من الرجال، استولوا على المنطقة دون عناء يذكر، ودفع أهالي برقة الجزية بعد توقيع صلح مع المسلمين، وتوجَّه المسلمون بعد ذلك صوب طرابلس الغرب ففتحوها عنوة. ثم أرسل عمرو بن العاص مجموعة من الجند المسلمين وعلى رأسهم عقبة بن نافع صوب فزان في الداخل، فوصلوا إلى زويلة. وهكذا دانت بلاد الساحل الليبي وجزء من مناطق الداخل للحكم العربي الإسلامي، واستمر الفتح لمناطق شمالي إفريقيا في عهد ولاية عبدالله بن أبي السرح، والي مصر بعد عمرو بن العاص. وقد تعاقبت على حكم ليبيا عدة دول إسلامية مثل دولة الأغالبة، والدولة الفاطمية، ودولة الموحدين، والحفصيين. كما تعرضت الأراضي الليبية للهجمات الصليبية كهجوم النورمنديين، وهجوم فرسان القديس يوحنا.
العثمانيون في ليبيا
تعرض الشمال الإفريقي لموجة من الهجوم النصراني تمثل في البرتغاليين والأسبان والإيطاليين وجماعة فرسان القديس يوحنا. وقد احتل الأسبان في الفترة من 1505- 1511م مرسى الكبير، ووهران، وبجاية، وطرابلس الغرب، وجربة. وظل الأسبان يركزون احتلالهم على الساحل دون التوغل في داخل إفريقيا بسبب الصعوبات وعنف المقاومة المحلية التي كانت تواجههم. ولانشغالهم في حروب أخرى في الجبهة الأوروبية. وفي مراحل لاحقة صعد الضغط النصراني على المسلمين في شمالي إفريقيا مما جعلهم يطلبون العون من البحارة الأتراك الذين يقودهم البحار التركي المسلم عروج باشا، لإنقاذهم. وتمكن هؤلاء الأتراك بمساعدة القوى المسلمة المحلية من طرد الأسبان، وأخذ الأتراك يشكلون حكومات محلية صغيرة اعترفت بها الدولة العثمانية بشكل تدريجي. ولكن هذه الحكومات لم تكن حكومات مستقرة، فقد واجهت اضطرابات محلية، كما أنها لم تكن حكومات منظمة خاصة في المجالات الإدارية، وإنما ظلّت تستند على القوة العسكرية والجهاد البحري ضد سفن النصارى وبحارتهم الذين واصلوا هجومهم على المناطق الإسلامية في شمال إفريقيا، خاصة بعد خروج المسلمين من الأندلس.
وعلى الرغم من أن تبعيّة الدويلات القائمة في مناطق شمالي إفريقيا للدولة العثمانية كانت اسمية، إلا أن تلك الحكومات تقوّت بفضل احتمائها وتبعيتها الاسمية للعثمانيين الذين كانوا أسياد الموقف الدوليّ آنذاك، وقد كانت المواجهات البحرية بين تلك الدويلات وبين الغزاة الأسبان فاتحة الطريق أمام وجود عثماني مركز في شمالي إفريقيا. وبالفعل فإن خير الدين بربروسا الذي خلف أخاه عروج اتصل بالسلطان العثماني سليم الأول وأعلن تبعيته له، فوافق السلطان العثماني على ذلك وعينه برتبة بيلزبي (بك البكوات)، ولقبه بلقب باشا، وأرسل إليه ألفي جندي انكشاري منظم وأربعة آلاف آخرين متطوعين، ومعهم مؤن وعتاد وغير ذلك من مستلزمات. وفي عهد السطان العثماني سليمان القانوني، أقرَّ السلطان خير الدين في منصبه، وأعطاه رتبة قبطان باشا على الأسطول العثماني في البحر الأبيض المتوسط، واستدعاه إلى إسطنبول من أجل التخطيط للقيام بحملات بحرية ضد أسبانيا في عهد شارل الخامس.
ولما وطد العثمانيون وجودهم في تونس والجزائر ضموا إلى حكمهم مدينة طرابلس الغرب بعد أن كان سكانها قد تخلصوا من الحكم الحفصي وشكلوا حكومة خاصة بهم، ولكنهم تعرضوا لهجوم أسباني احتل بلادهم، لكن القائد طرغوت تمكن من استعادتها من الأسبان وعينه العثمانيون على ولاية طرابلس الغرب، وأعطوه لقب بيلزبي (بك البكوات)، ثم أخذ طرغوت يمد النفوذ العثماني تدريجيًا إلى مناطق الداخل. وخلف علج علي طرغوت في حكم طرابلس والداخل، وتمكن من فرض الأمن والهدوء في المنطقة. ثم خلفه جعفر على حكم طرابلس، واستطاع جعفر أن يحتل فزان ومنطقتها عام 1577م. وكانت برقة وفزان تحت تأثير التبعية الاسمية للعثمانيين في مصر، ولكنهما ضمتا أخيرًا إلى الحكم العثماني في طرابلس الغرب، وهكذا بدأت تظهر خريطة ليبيا الموحدة في العهد العثماني، المؤلفة من: ولاية طرابلس، وبرقة، وفزان. واستطاع الحكم العثماني في ليبيا أن يثبت السيادة على الأرض الليبية المتحدة، وظل الوجود العثماني يتحدى القوى الأوروبية القائمة على الساحل الآخر من البحر الأبيض المتوسط ردحًا من الزمن.
حكم ليبيا أثناء العهد العثماني عدد كبير من الولاة العثمانيين. وقد تقلَّص النفوذ العثماني في البلاد الليبية عندما تسلمت أسرة أحمد باشا القرمانلي الحكم عام 1711م في طرابلس الغرب، وظلت تحكم منطقة ليبيا مدة قرن وربع القرن، ولم يبق للعثمانيين في ليبيا غير الولاء الاسمي فقط، وظل الأمر كذلك حتى ضعف حكم أسرة القرمانلي، فزادت الضائقة الاقتصادية في ليبيا، وأصبحت البلاد عرضة للأطماع الأوروبية من فرنسيين وإنجليز، وأمريكيين. وكثرت في ليبيا الثورات في أواخر عهد أسرة القرمانلي، ممّا أدى بالعثمانيين إلى إرسال حملة عسكرية تحت قيادة نجيب باشا توجهت إلى طرابلس في عام 1835م، وألقت القبض على آخر حكام أسرة القرمانلي علي باشا، وبذلك أنهى العثمانيون حكم هذه الأسرة. وأعاد العثمانيون سيادتهم الفعلية على ليبيا، ولم يكن الحكم العثماني المباشر على ليبيا بحال من الأحوال أفضل من حكم أسرة القرمانلي. بل كان حكمًا غير مستقر تعاقب عليه الكثير من الولاة بحيث كان معدّل ولاية الواحد منهم في حدود العالم الواحد أو أكثر في بعض الأحيان.
ومع أن العثمانيين طبقوا في ليبيا نظام الولايات: ولاية طرابلس الغرب وولاية برقة، وولاية فزان، إلاّ أن وجودهم في المنطقة كان اسميًا فقط. وأخذت ليبيا كغيرها من الولايات العثمانية تُهدَّد من قبل الفرنسيين، خاصة بعد احتلالهم للجزائر عام 1830م، وفرض الفرنسيون حمايتهم الاستعمارية على تونس عام 1881م. وبناءً عليه رأت الدولة العثمانية أن تعزز وجودها في ليبيا، فزادت من قوتها العسكرية في المنطقة. وتمسك الليبيون بحكم الدولة العثمانية على الرغم من ضعفه، لأنهم شعروا أنها الدولة الإسلامية التي يمكن أن تدافع عنهم وتحميهم ضد هجوم الفرنسيين الذين احتلوا تشاد وبدأوا يهددون ليبيا.
السنوسية في ليبيا
هاجر محمد بن علي السنوسي المولود ببلدة مستغانم في الجزائر عام 1787م، إلى مقاطعة برقة، ومكث في برقة، وأسس فيها الزاوية البيضاء في منطقة الجبل الأخضر. ثم توجه بعد ذلك إلى جغبوب، وأقام فيها، وتوفي هناك عام 1859م. وقد دعى محمد بن علي السنوسي لإصلاح الناس، وذلك بالرجوع إلى تعاليم الإسلام، وكان تنظيمه لأتباعه يقوم في المقام الأول على أساس صوفيّ، ومع أن حركته كانت دينية في جذورها إلاّ أنها طبعت بالمظهر السياسي. اجتهد السنوسي في إقامة الزوايا الصوفية لأتباعه في الواحات البعيدة عن المنطقة الساحلية مثل فزان وكانم وجغبوب وغيرها، وأصبحت تلك الزوايا المنتشرة في ربوع البلاد الجنوبية مراكز تعليم ديني صوفي، ومراكز عبادة وتدريب على أعمال الجهاد ضد المحتلين الأجانب. فلقد كانت السنوسية تهدف إلى إيقاظ الهمم الإسلامية وتحفيزها لمواجهة الفرنسيين وغيرهم من الذين يطمعون في السيطرة على شمالي إفريقيا. ومن هنا برزت فكرة ضرورة التمسك بالروابط الدينية، وفكرة الوحدة الإسلامية، والجامعة الإسلامية كسبيل لمقاومة العدوان الاستعماري على الوطن.
وعلى هذا الأساس فإن السنوسية دعوة وحركة ارتبطت إلى حد بعيد بمقاومة الغزو الخارجي الأجنبي. وهكذا كان الهدف الأول للسنوسية مقارعة الاستعمار الأوروبي الطامع بأرض ليبيا. وقد ظلت الحركة السنوسية تتحمل مسؤولية التنظيم والتدريب والإعداد للسكان كي يتحملوا مسؤولية عبء الجهاد ضد الاستعمار.
الاحتلال الإيطالي لليبيا
تفاهمت الدول الأوروبية فيما بينها عام 1906م في مؤتمر الجزيرة الخضراء بأسبانيا على تقسيم شمال إفريقيا، وقبلت بأن تأخذ إيطاليا البلاد الليبية من الدولة العثمانية، التي كانت في أوج ضعفها، وأن تبسط كل من فرنسا وأسبانيا يدهما على بلاد مراكش. بدأت إيطاليا تتغلغل تدريجيًا في ليبيا. فقام المنصرون الإيطاليون الكاثوليك مدعومين من قبل الحكومة كسلطة سياسية، ومن البابا كسلطة دينية كاثوليكية، بإنشاء المدارس التنصيرية والمستشفيات والمراكز الصحية، والمصارف، ونشطوا في العمل التجاري داخل مدن ليبيا، وأقاموا بنوك التسليف الزراعي لإمداد المواطنين الليبيين بالقروض، تمهيدًا لاغتصاب أرض المدينين في حال عدم قدرتهم على تسديد ما عليهم من قروض.
النزاع العثماني الإيطالي. أبلغت إيطاليا الحكومة العثمانية عن نيتها باحتلال ليبيا، وطلبت منها تسهيل الاحتلال بحجة حماية رعاياها من الاضطهاد العثماني، والمحافظة على المصالح الاقتصادية للإيطاليين. وكان الموقف العثماني في ظل عهد جماعة الاتحاد والترقي ضعيفًا جدًا أمام التهديد الإيطالي، فاكتفت بدعوة إيطاليا للجلوس إلى طاولة المفاوضات تجنبًا لاستخدام القوة. ولكن الحكومة الإيطالية رفضت ذلك لعدة أسباب من أهمها: أ- ضعف الموقف الحربي العثماني في ليبيا. ب- الموقف الإيطالي المدعوم من قبل الدول الأوروبية باستثناء ألمانيا والنمسا. جـ- ما كانت تتمتع به إيطاليا من قوة بحرية وبرية. د- ضعف الموقف الداخلي في ليبيا، إذ إن المقاومة العسكرية في ليبيا تظل محدودة الطاقات والإمكانات بالنسبة للهجوم الإيطالي المركز.
أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية في سبتمبر عام 1911م، وهي الحرب التي عرفت بالحرب الإيطالية ـ الطرابلسية. فحاصر الأسطول الإيطالي مدينة طرابلس الغرب مدة ثلاثة أيام، بعدها سقطت المدينة بيد المستعمرين الإيطاليين. لم تتوفر للمقاومة الشعبية القوة اللازمة لقهر الإيطاليين وردهم على أعقابهم. كما لم تكن قدرة الدولة العثمانية القتالية بالمستوى المطلوب. ولم تكن القوة بين الطرفين متكافئة، ورغم المقاومة العثمانية المحلية التي قادها السنوسيون، تمكن الإيطاليون من احتلال ليبيا عام 1911م.
وأثناء الحرب، وكوسيلة ضغط على الدولة العثمانية نقل الإيطاليون الحرب ضد مواقع عثمانية أخرى، فضرب الأسطول الإيطالي ميناءي بيروت والحديدة. واحتلوا جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط، ثم احتلوا مجموعة جزر الدوديكانيز. وهاجمت السفن الإيطالية الحربية ممر الدردنيل وغير ذلك من المواقع العثمانية الأخرى. ورأت الدولة العثمانية أنها وقعت في حرب لا قدرة لها عليها. ولاحت في الأفق بوادر حرب جديدة ضد الدولة العثمانية في البلقان. فاضطرت الدولة العثمانية إلى قبول المفاوضات مع الإيطاليين. وقد أدت بريطانيا دورًا بارزًا في المفاوضات التي دارت بين الدولة العثمانية والحكومة الإيطالية. وتخلت جميع الدول الأوروبية عن الدولة العثمانية في محنتها أثناء هذه الحرب فأصدرت فرنسا بيانًا أعلنت فيه حيادها، ونهجت كل من روسيا وبريطانيا النهج نفسه. ووقفت كل من ألمانيا والنمسا موقف المتفرج. وبذلك خلا الجو السياسي والعسكري لإيطاليا لتنفرد بالدولة العثمانية.
وأمام الأزمات الداخلية والعسكرية والاقتصادية التي مرت بها الدولة العثمانية رأت حكومة مختار باشا الغازي أن تصل بالمفاوضات مع إيطاليا إلى نتيجة حاسمة، فأرسلت وزير الزراعة العثماني وزودته بصلاحيات واسعة، وتم الاتفاق على عقد معاهدة صلح بين الدولة العثمانية والحكومة الإيطالية في 18 أكتوبر عام 1912م بعد توسط من قبل حكومة بريطانيا، وقد عرفت تلك المعاهدة باسم معاهدة أوشي لوزان. وقد حوت المعاهدة إحدى عشرة مادة. تعهدت فيها الدولتان بإيقاف حالة الحرب بينهما، وسحب القوات من جبهات القتال، فتسحب الدولة العثمانية قواتها من طرابلس وبرقة. وتسحب إيطاليا قواتها وسفنها من الجزر العثمانية التي احتلتها في بحر إيجة. كما أن الدولة العثمانية سحبت جميع الموظفين الإداريين العاملين في ليبيا. وأعلن السلطان العثماني منح ليبيا استقلالاً تامًا، أي أن السلطان العثماني جرّد الدولة العثمانية من كل أنواع السيادة على ليبيا. وبالمقابل أعلنت إيطاليا عملاً بقوانينها جعل ليبيا خاضعة تمامًا للسيادة الإيطالية، وأعلنت العفو العام في ليبيا تقربًا للسكان. ووعدت بالإبقاء على الخطبة باسم الخليفة العثماني، وأقرت بأن يكون في طرابلس نائب خاص للسلطان يضمن حكم البلاد على أسس الشريعة الإسلامية.
وقد جاء توقيع معاهدة أوشي لوزان، بعد أن احتل الفرنسيون الجزائر وتونس، واحتل البريطانيون مصر، وأصبحت الدولة العثمانية مطوقة في إفريقيا. وهكذا نفذ الأوروبيون اتفاقياتهم السرية الرامية إلى تقسيم شمال إفريقيا فيما بينهم.
سيطر الاستعمار الإيطالي على البلاد الليبية، ووضع الأحرار في السجون، ونهب خيرات البلاد، وارتكب أبشع الجرائم ضد الشعب الليبي، ففي محاولة للقضاء على مقاومة الشعب الليبي نفذ الجنود الإيطاليون في 23 أكتوبر عام 1911م مجزرة في طرابلس الغرب ذهب ضحيتها العديد من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب. وأباح الجنرال كانيفا، قائد الحملة بلدة المنشية مدة ثلاثة أيام.
المقاومة الليبية ضد إيطاليا. ثار الشعب الليبي المسلم ضد الحكومة الإيطالية. وظلت الدولة العثمانية تعمل على تعزيز المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي رغم أنها كانت قد استسلمت أمام الإيطاليين وهجومهم. فقد زار أنور باشا القائد العثماني واحة جغبوب والتقى الشيخ أحمد السنوسي الذي قاد المقاومة الليبية ضد الإيطاليين في 20 نوفمبر 1912م. وكان الشيخ أحمد السنوسي قد اتخذ من واحة الكفرة مقرًا له، ومنها انتقل إلى واحة جغبوب، حيث قاد المقاومة الليبية ضد الطليان (الإيطاليين) ودعى الشعب الليبي للكفاح لطرد المستعمر المحتل والدفاع عن الوطن، مؤججًا الحماس في نفوس الليبيين. فدخلوا معارك التحرير ضد الاحتلال الإيطالي.
هبّ الشباب الإسلامي من مصر وسورية والعراق للتطوع في صفوف المجاهدين في ليبيا. وكان في المقدمة منهم الشباب المسلم: عزيز علي المصري، وتحسين العسكري، وصبحي الطرابلسي، ومحمود حلمي، وعيسى البغدادي، وإسماعيل الطرابلسي، يناصرون جهاد إخوانهم الليبيين.
وأثبت المجاهدون قدرتهم على مقاومة الإيطاليين على الرغم من عدم تكافؤ القدرات بينهم وبين المستعمر الإيطالي. وقد اضطرت هذه المقاومة ملك إيطاليا إلى إصدار مرسوم يقضي بالمحافظة على شعائر الإسلام، وسمح بالدعاء للسلطان العثماني في خطبة الجمعة على منابر المساجد والجوامع الليبية، إلا أن المجاهدين رفضوا الانخداع بهذه الوعود وواصلوا جهادهم ضد المستعمر.
ولم تقتصر دعوة الجهاد ضد الطليان على الليبيين وحدهم، وإنما انتشرت تلك الدعوة في ربوع العالم الإسلامي، ودعمها المسلمون في كل مكان، وساندها رؤساء الحكومات العربية وعلى رأسهم الملك عبدالعزيز آل سعود وإمام اليمن، كما ساندتها المنظمات والهيئات العربية والإسلامية، وقد كان لمصر دور رائد ومتميز في هذه المساندة، فهي لكونها تجاور ليبيا من الشرق، فإن من السهل عليها إدخال الأسلحة والعتاد والمؤن والأدوية عبر حدودها إلى ليبيا لدعم المجاهدين. وقد كان موقف الشعب العربي في مصر رائعًا تجاه دعم المقاتلين وتقوية جذور المقاومة الليبية ضد الاستعمار. فقد تأسست في مصر الجمعية المصرية لدعم الجهاد الليبي ضد الإيطاليين، وكانت برئاسة الأمير عمر طوسون. كما تألفت لجان لجمع التبرعات من الأهالي، وكان من أهمها اللجنة المصرية العليا لجمع تبرعات المصريين وإرسالها إلى ليبيا بطرق سرية، وكان يرأسها في مطلع تشكيلها الشيخ علي يوسف. وأخذ الدعم للمجاهدين الليبيين يتعاظم، ممّا ساهم في استمرار مقاومتهم. وتتابعت المعونات والمساعدات من أهالي الحجاز وبلاد الشام وتركيا والهند وكذلك من بلدان المغرب العربي.
الحرب العالمية الأولى ومحاولات استقطاب ليبيا. شكل المجاهدون الليبيون جيشًا لمقاومة الإيطاليين بقيادة المجاهد عمر المختار، وهو أول جيش للمقاومة الليبية. وقد استمرت المقاومة حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م، ولم تتمكن السلطات الإيطالية من القضاء على هذه المقاومة رغم استخدامها لمختلف الوسائل. وقد أبدى الاتحاديون الأتراك استعدادهم لمساعدة الليبيين ضد الإيطاليين، خاصة عندما دخلت تركيا العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول الوسط بزعامة الإمبراطورية الألمانية ضد دول الوفاق، بزعامة بريطانيا صاحبة النفوذ القوي في مصر. وعليه أصبح موقف المجاهدين حرجًا فهم لا يستطيعون دخول الحرب مع الدولة العثمانية، لأن معنى ذلك حرمانهم من المؤن والعتاد الذي يأتيهم عن طريق مصر. وهم في نفس الوقت لا يمكنهم إيقاف قتالهم ضد إيطاليا التي دخلت الحرب إلى جانب دول الوفاق.
وكان العثمانيون يريدون إقناع المجاهدين السنوسيين ليكونوا إلى جانبهم في الحرب ضد بريطانيا حتى يدعموا صمود الجبهة التركية في بلاد الشام، خاصة فلسطين، وليكونوا أيضًا أداة ضغط عسكري على البريطانيين في مصر ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، عن طريق شن هجمات عسكرية على الوجود العسكري البريطاني في مصر عبر الحدود الليبية، وهو أمر ظل السنوسي مترددًا تجاهه لأنه كان يقدر أن الموقف ليس في صف جبهة الأتراك وأنصارهم من الألمان والنمساويين، وإنما إلى جانب بريطانيا ودول الوفاق ذات الجيش والعتاد الأقوى.
إلا أن إحساس السنوسي بالتعاطف مع الدولة العثمانية المسلمة، واتهامه من قبل الأتراك بموالاة الإنجليز قد جعلته في نهاية الأمر يقبل بالتنسيق عسكريًا مع العثمانيين.
والواقع أن السنوسي كان على حق في تخوفه من الانضمام إلى الأتراك ضد دول الوفاق، فالدولة التركية دولة ضعيفة، وقد زجت بجيشها في حرب ضد دول أقوى، هي دول الوفاق. وحاربت إلى جانب الطرف الخاسر. كان السنوسي يعلم جيدًا أن الأتراك لن يفعلوا شيئًا قويًا ضد الإيطاليين عندما هاجموا ليبيا. وحين استدعت الحكومة التركية الشيخ أحمد السنوسي إلى الأستانة في عام 1918م على ظهر غواصة ألمانية لأجل التخطيط للضغط على بريطانيا، كان الوقت متأخرًا، فقد فَقَد العثمانيون العراق وفلسطين وبلاد الشام الأخرى وأصبحوا في وضع لا يحسدون عليه وقد أدى ذلك إلى إضعاف موقف الشيخ السنوسي في مقاومته للإيطاليين للأسباب التالية:
أ - لم يقدر أن يحافظ في سياسته على مبدأ التوازن بين القوى العالمية المتصارعة. ب- لم يستطع أن يبعد عن العثمانيين، بعد أن بدت علامات انهزام جبهة دول الوسط. ج- ضغط الإنجليز على السنوسي من أجل إضعاف حركته، خاصة وأن بريطانيا حليفة في الحرب مع إيطاليا البلد الاستعماري المسيطر على ليبيا. د - ضعف زعامة السنوسي أمام أتباعه، فقد انتقلت سلطته إلى السيد محمد إدريس السنوسي.
جاء السيد محمد إدريس السنوسي إلى السلطة في ظل ظروف حرجه يمكن تلخيصها في: أ- شدد الإنجليز والإيطاليون حصارهم على ليبيا من الغرب والشمال والشرق. وأغلق طريق مصر، وانقطع حبل الإمدادات التي كانت تصل إلى ليبيا عن طريق الحدود المصرية تحت عِلم الإنجليز ومسمعهم، مما أربك المجاهدين الليبيين.
ب- زاد الوضع الاقتصادي سوءًا في ليبيا بسبب تطويق البلاد وحصارها اقتصاديًا من جهة، ولقلة الأمطار التي تقوم عليها الزراعة من جهة أخرى. بالإضافة إلى أن معظم الأيدي العاملة الليبية كانت قد انخرطت في صف حركة الجهاد الليبي ضد الإيطاليين، فأصاب الزراعة نوع من الشلل الذي أدى إلى وقوع المجاعة في البلاد، مما زاد في إحراج موقف السنوسيين، وكان على المسؤولين الليبيين أن يخرجوا من هذا المأزق، فاتجهوا إلى أسلوب التفاوض مع إيطاليا وبريطانيا. وكان همّ السنوسية الأوّل التفاوض مع بريطانيا علها تفتح أمام ليبيا طريق مصر، فيتحرك الاقتصاد الليبي وتتحسن معه حال المقاومة الليبية. تفاوض السنوسيون مباشرة مع الدولتين في عكرمة وتوصلوا إلى اتفاق، تم بموجبه فتح طريق مصر في وجه حركة الاقتصاد والتنقل الليبي. واعترف بسيادة السنوسيين على برقة وواحة جغبوب. واعترف السنوسيون بالسيادة الإيطالية على منطقة طرابلس الغرب.وسمح لكافة الأطراف بحُرية التنقل بين برقة وطرابلس الغرب. وأعيدت للسنوسيين أملاكهم المصادرة. وأُعلن عن مراعاة الإيطاليين تطبيق الشريعة الإسلامية في ليبيا. وصدر أمر بسحب السلاح من أيدي رجال القبائل الذين أزعجوا السلطات الإيطالية في كل الأرض الليبية. وعمّت حالة من الهدوء النسبي بين السنوسية والطليان والإنجليز في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
وأصدر ملك إيطاليا قانونًا أساسيًا كان أشبه بدستور يطبق على منطقة طرابلس الغرب، وجاء هذا الدستور الجديد لعام 1919م في أربعين مادة موضحًا حقوق الأهالي وواجباتهم، فنص على تكوين مجلس نيابي من الأهالي، وافتتاح المدارس، واحترام اللغة العربية ومكانتها، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وإلغاء التجنيد الإجباري، وأن تكون المحاكم التشريعية هي المسؤولة عن القضايا الدينية والحقوق الشخصية والعائلية. وعمّم الإيطاليون مواد هذا الدستور لتطبق في منطقة برقة باتفاق مع الشيخ محمد إدريس السنوسي. وبهذا الإجراء يكون الإيطاليون قد مدوا نفوذهم إلى منطقة برقة بشكل دستوري، وعملوا على تهدئة الأوضاع في ليبيا لتكون في صالحهم.
التقارب الإيطالي السنوسي. حدث انفراج في العلاقات بين السنوسية والإيطاليين، فاعترف الإيطاليون بمحمد إدريس السنوسي حاكمًا مدنيًا على الجزء الجنوبي من منطقة برقة، ولقبوه بالأمير، وأصبحت إمارة برقة وراثية في الأسرة السنوسية، وهكذا أصبحت برقة مقسمة إلى قسمين: قسم ساحلي مع الإيطاليين، وقسم داخلي مع السنوسيين. وقد أراد الإيطاليون من وراء هذا التقارب والاعتراف بالأمير السنوسي تصفية الجهاد الليبي. فقد اشترط عليه ألا يزيد جيشه على ألف رجل فقط، وإذا ما حدث زيادة على هؤلاء فلابد أن يكون برضا إيطاليا وموافقتها. وقد عرف هذا الاتفاق باتفاق الرجمة عام 1920م.
شكّل السنوسي دولة في مناطقه، وأجرى انتخابات برلمانية في المناطق التابعة له، وافتتح المجلس النيابي، وانتخب السنوسي رئيسًا للبرلمان بالإجماع. إلا أنه ووجه بمشكلة رفض رجال القبائل حل معسكراتهم ومراكز تدريبهم، واضطرت إيطاليا والسنوسية إلى القبول ببقاء المعسكرات ولكنها أصبحت تحت إشرافها. وقد هدفت إيطاليا من وراء ذلك إلى تحجيم عدد المجاهدين الليبيين، والإشراف على حركاتهم وتنظيماتهم، وبناءً عليه عقدت إيطاليا مع السنوسية اتفاقية جديدة في شأن المعسكرات عرفت باتفاق بومريم عام 1921م.
وكما كان جهاد الليبيين ضد الإيطاليين في برقة، كانت هناك مقاومة ليبية في طرابلس تقلق الإيطاليين في فترة الحرب العالمية الأولى قادها سليمان الباروني الذي عينته الدولة العثمانية حاكمًا على طرابلس الغرب، فقاد حركة الجهاد الإسلامي في المنطقة ضد إيطاليا. وبفضل المقاومة الليبية في برقة والمقاومة الليبية في طرابلس انحسر النفوذ الإيطالي في مناطق الساحل الليبي، وهو أمر يدل على مدى ضغط المقاومة الليبية على إيطاليا، خاصة أثناء انشغالها في الحرب العالمية الأولى. ولولا الدعم الذي لقيه الإيطاليون من حليفتهم بريطانيا لكان بإمكان المقاومة الليبية إلحاق خسائر أكبر في القوات الإيطالية في ليبيا.
وكما أقام السنوسي في مناطق برقة الداخلية والجنوب دويلة صغيرة تعمل في ظل مجلس نيابي لإدارة شؤون المنطقة داخليًا، فإن أهل طرابلس الغرب أقاموا الجمهورية الطرابلسية منذ عام 1918م، وطالبوا إيطاليا بالاعتراف بهذه الجمهورية وإلاّ ظلت المقاومة سارية المفعول ضدهم، فاضطرت إيطاليا كإجراء مؤقت أن تعترف بالجمهورية الطرابلسية لأنها كانت مشغولة في أمور الحرب العالمية الأولى، ولا تريد أن تفتح بابًا واسعًا من المقاومة ضدها. وبعد انتهاء الحرب تفاهمت إيطاليا مع قيادة الحركة الوطنية الليبية في طرابلس، وسرى على منطقة طرابلس الدستور الإيطالي الجديد الذي أصدره ملك إيطاليا بخصوص طرابلس عام 1919م. واعترف فيه بالإدارة المحلية لليبيين في طرابلس الغرب تحت السيادة الإيطالية. وتم انتخاب مجلس نيابي في طرابلس، ومجلس حكومي يشتركان معًا في إدارة الحكم المحلي في المنطقة الطرابلسية.
اتحدت المقاومتان الليبيتان في كل من طرابلس وبرقة تحت قيادة السنوسية عام 1921م في مؤتمر غرياف الذي تقرر فيه توحيد الجهاد الليبي تحت زعامة السنوسي. ووافق السنوسي على ذلك في عام 1922م. وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل الكفاح الليبي ضد الإيطاليين، وهي مرحلة مريرة، استخدمت فيها إيطاليا أبشع أنواع القهر والبطش ضد المجاهدين الليبيين.
موسوليني على رأس السلطة في إيطاليا. أسس بنيتو موسوليني حزبه الفاشي في إيطاليا في 23 مارس 1919م في ميلانو في شمال إيطاليا، وظل هذا الحزب ينمو تدريجيًا حتى تمكن من الفوز بالأغلبية، واستولى موسوليني على مقاليد السلطة المطلقة عام 1923م.
ألغى موسوليني كل الاتفاقيات التي عقدتها المملكة الإيطالية مع الليبيين. وأخذ يعد العدة للقضاء على المجاهدين الليبيين وعلى رأسهم السنوسي، فاضطر السنوسي للخروج إلى مصر بسبب المرض تاركًا رئاسة المجاهدين للشيخ عمر المختار، وترك الزعامة الدينية لأخيه الشيخ محمد رضا السنوسي. قرر موسوليني القضاء على المقاومة الليبية، فأرسل حاكمًا إيطاليًا جديدًا على ليبيا هو القائد العسكري بونجيوفاني، ومنحه سلطة مطلقة في حكم ليبيا. فأمر المفوّض السامي الإيطالي الجديد بحل معسكرات القبائل في ولاية برقة. وأمر قواته باحتلال مركز القيادة السنوسية أجدابية في عام 1923م.
عمر المختار يقود الجهاد الليبي. قاد الشيخ عمر المختار حركة الجهاد في ليبيا حيث ترأس جهاد أهالي برقة مدة ثماني سنوات من 1923- 1931م. ولم تكن الظروف العامة في صالح المجاهدين وذلك للأسباب التالية: أ- النشاط العسكري العنيف الذي قاده أتباع الإدارة الفاشية في ليبيا. ب- انقطاع الإمدادات التي كانت تصل إلى المجاهدين، خاصة بعد أن ركزت إيطاليا استعمارها في واحة جغبوب عام 1925م، ممّا أدّى إلى مراقبة الحدود المصرية مراقبة شديدة. ولم يبق الإيطاليون في واحة جغبوب فحسب، بل مدّوا نفوذهم إلى مناطق أخرى في داخل ليبيا مثل: مرزوق، وغات، والعقيلة، وأخضعوا كل مقاطعة فزان. وواصلوا زحفهم العسكري شرقًا فاحتلوا أوجلة وجالو والكفرة، ممّا أدى إلى تطويق المقاومة الليبية، وحصرها في منطقة الجبل الأخضر. لم يقلل عنف الجهد الحربي الإيطالي ضد المجاهدين من نشاطهم ضد إيطاليا، ولم يضعف فيهم الروح المعنوية على الرغم من عدم تكافؤ قدرتهم القتالية مع القدرة الحربية للإيطاليين.
بدأ الإيطاليون يفاوضون كلاً من عمر المختار ومحمد رضا السنوسي. واستسلم السنوسي في يناير 1928م. واستمرت المفاوضات مع الشيخ عمرالمختار حتى نوفمبر عام 1929م، ولم يتوصل الطرفان إلى اتفاق، فاستأنف عمر المختار جهاده ضد الإيطاليين الذين سيطروا على الأمور تدريجيًا بقيادة كل من المارشال بادليو والجنرال غوازياني اللذين تمكنا من تطويق المجاهدين في منطقة الجبل الأخضر، ووقع عمر المختار أسيرًا في سبتمبر عام 1931م، وأعدمه الإيطاليون بعد محاكمة غير عادلة. وبعد إعدام عمر المختار عام 1931م وأسلوب القمع الذي تعرَّض له المجاهدون الليبيون على يد أتباع موسوليني، خبت جذوة النضال حتى فترة الحرب العالمية الثانية. وقد لقي الليبيون أثناء حكم موسوليني أبشع ضروب التعذيب والاعتقال، من قصف بالطائرات ومصادرة للأراضي بالقوة، كما طبقت على السكان الخدمة العسكرية الإجبارية للقتال مع الإيطاليين في الحبشة والصحراء الغربية.
في يناير عام 1939م، العام الذي نشبت فيه الحرب العالمية الثانية. ضم الإيطاليون برقة وطرابلس إلى إيطاليا مباشرة. ومنحت إيطاليا الليبيين في المنطقتين الجنسية الإيطالية، وطبقت ضدهم نظام التمييز العنصري.
الجهاد الليبي في الخارج
أسس الأستاذ بشير السعداوي عام 1928م في دمشق جمعية الدفاع الليبي الطرابلسي البرقاوي، وشارك فيها كل من بكري قدورة، وكامل عياد، وعبدالغني الباجقني. وهي جمعية تهدف إلى إسماع صوت ليبيا في المجالات والهيئات الدولية. وأعلنت الجمعية عن مطالبها وهي : تشكيل حكومة ليبية وطنية يكون على رأسها زعيم مسلم تختاره الأمة. ويكون حكم هذه الدولة مبنيًا على الإسلام والأسس البرلمانية الديمقراطية، ولغتها الرسمية اللغة العربية. وطالبت الجمعية بجلاء القوات الإيطالية عن ليبيا. ومارست الجمعية أنشطتها في العالم العربي الإسلامي خدمة للقضية الليبية، كما أسس الأستاذ أحمد السويحلي في مصر جمعية تناصر القضية الليبية، وتشكلت جمعيات أخرى تناصر القضية في أرجاء العالم الإسلامي. وفتحت فروع لجمعية الدفاع الليبي في العديد من الدول لإسماع صوت الليبيين وجمع المساعدات والتبرعات لهم كي يتمكنوا من طرد الاستعمار الإيطالي من بلادهم. ونشط أعضاء جمعية الدفاع الليبي في العالم الإسلامي، وشاركوا في المؤتمر الإسلامي الذي عقد بمدينة بيت المقدس عام 1931م، وطالبوا بدعم قضيتهم والضغط على إيطاليا كي تتجاوب مع مطالب الشعب الليبي المتمثلة في إنشاء حكومة وطنية ليبية، ووضع دستور للبلاد، والمحافظة على السمات الوطنية والدينية للشعب الليبي مثل الاهتمام باللغة العربية، والقيام بتطبيق الشريعة الإسلامية، والعناية بالأوقاف الإسلامية، وتوقيع معاهدة مع إيطاليا على أساس الند للند تحدد العلاقات الليبية الإيطالية.
السنوسي والجهاد ضد الإيطاليين. دخلت إيطاليا الحرب العالمية الثانية مع دول المحور ضد دول الحلفاء. لذلك شجعت بريطانيا، العضو المؤثر في مجموعة الحلفاء؛ إثارة القلاقل والاضطرابات ضد الإيطاليين في ليبيا المتاخمة لمناطق نفوذها في البحر الأبيض المتوسط، وأيدت الليبيين في ثورتهم ضد إيطاليا وعقدت اجتماعًا سريًا مع السنوسي في الإسكندرية في أكتوبر عام 1939م حضره بعض الوطنيين الليبيين مثل: أحمد السويحلي، ومحمد العيساوي وأحمد المريض. وكان الدعم البريطاني للمقاومة الليبية فرصة جيدة لاستئناف الجهاد الليبي ضد إيطاليا عام 1940م، فشكَّل السنوسي جيشًا ليبيًا في ذلك العام بمساعدة بريطانيا وتشجيعها. وساعد هذا الجيش في الحروب التي دارت رحاها بين دول المحور ودول الحلفاء في شمالي إفريقيا.
كان هدف الوطنيين الليبيين هو طرد الاستعمار الإيطالي من البلاد فالتقت مصلحتهم مع دول الحلفاء في القضاء على قوة دول المحور في مناطق شمالي إفريقيا. وعلى هذا الأساس حارب الوطنيون الليبيون إلى جانب بريطانيا في معركة العلمين الشهيرة التي هزم فيها المحور في شمالي إفريقيا على أمل أن تساعدهم هزيمة الإيطاليين في نيل الإستقلال. إلا أن الحلفاء بدلاً من أن يسلموا السلطة لممثلي الشعب الليبي وقياداته، قاموا بإدارة البلاد عسكريًا. وهكذا تبدل احتلال باحتلال، وبقيت ليبيا تحت وطأة الاستعمار. فالبريطانيون قد احتلوا طرابلس الغرب وأقاموا بها إدارة عسكرية، والفرنسيون احتلوا مقاطعة فزان وقسموها إلى ثلاثة أقسام هي: غات وفزان، وغدامس. وهكذا قسمت ليبيا إلى نفوذين: بريطاني وفرنسي، وتمسك كل نفوذ بما تحت يديه من أراض.
حقًا لقد كان هذا وضعًا غير مقبول بالنسبة لليبيين. ولذلك ثار الشعب الليبي ضد هذا الوضع. فأيد أهالي برقة زعامة السنوسي الذي أصبح يركِّز على قيام إمارته في برقة لتكون نواة الدولة الليبية.
إمارة السنوسي في برقة. على الرغم من أن عمر المختار طالب بسيادة وطنية على ليبيا المتحدة تحت زعامة إدريس السنوسي، لكن السنوسي عندما تسلم إمارة برقة بعد موافقة بريطانيا وترتيباتها، وافق على أن يحكم برقة حكمًا داخليًا مطلقًا، ولم تكن علاقة السنوسي بالقوى الوطنية في برقة وغيرها علاقة طيبة، بل كانت علاقة يخيم عليها الشك والريبة.
تسلم إدريس السنوسي إمارة برقة بموافقة بريطانية، وكان أول عمل قام به داخليًا هو حل جميع الأحزاب والهيئات الوطنية الليبية في ديسمبر عام 1947م. وأسس في يناير عام 1947 حكومة محلية تحت إشراف بريطانيا سميت باسم المؤتمر الوطني البرقاوي العام، وهو الهيئة التأسيسية الوحيدة في برقة. وعين السنوسي أعضاء المؤتمر وعددهم (67) ممن لهم خبرة في الوظائف الإدارية والعسكرية خاصة أولئك الذين عملوا في خدمة الدولة العثمانية في المجالين: الإداري أو العسكري، أو من الجماعة التي عملت في خدمة بريطانيا أو إيطاليا أو فرنسا.
وأصر المؤتمر الوطني البرقاوي العام على رفض عودة الإدارة الإيطالية إلى برقة. وركز على حكومة إدريس الوراثية في برقة، ولم يهتم في المقام الأول بأمر جمع المقاطعات الليبية في دولة متحدة مستقلة، بل اعتبر هذا الأمر مرحلة ثانوية.
القضية الليبية أمام الدول الكبرى
شكلت الدول الأربع الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي عام 1947م لجنة رباعية أرسلها وزراء خارجية هذه الدول للتحقيق في شأن استقلال برقة تحت زعامة السنوسي. وأظهرت التحقيقات أن السنوسي يريد استقلالاً، يكون على شكل حكومة سنوسية وراثية متحالفة مع بريطانيا.
بدأ السنوسي يتصل ببريطانيا لتطبيق آرائه السياسية هذه، فأرسل عمر منصور الكيخيا رئيس ديوانه عام 1948م لمناقشة موضوع استقلال برقة. وفي خطاب عام أمام أعضاء المؤتمر البرقاوي العام في مدينة بنغازي عام 1949م أعلن السنوسي رسميًا قيام الدولة السنوسية في برقة، وكانت بريطانيا أول دولة اعترفت بهذا الاستقلال وبالحكومة السنوسية في برقة، بعد اتفاقات أجرتها مع السنوسي ضمنت تحالفه معها.
لم يوافق الليبيون ولا العديد من الدول والجمعيات والهيئات الغربية على أسلوب تجزئة الكيان الليبي، وعمّت المظاهرات الأرض الليبية ضد هذا المشروع وطالب الجميع بالوحدة الليبية ضمن دولة ليبية وطنية مستقلة.
توجَّه السنوسي إلى لندن، ووافق هناك على مبدأ قيام إمارة برقة تحت زعامته وزعامة أسرته من بعده، على الرغم من أنه وعد الليبيين بإجراء محادثات مع الإنجليز في شأن توحيد البلاد الليبية في دولة مستقلة، وصرف النظر عن أسلوب قبول التجزئة والدولة الليبية في مقاطعة برقة.
لم يقبل الليبيون بقيام إمارة برقة، وطالبوا بالوحدة الليبية الكاملة. وتأسس الحزب الوطني عام 1945م، ودعا في ميثاقه إلى مقاومة عودة إيطاليا إلى حكم ليبيا، ومنع هجرة الإيطاليين إلى طرابلس الغرب. وتشكل حزب الكتلة الوطنية الحرة، وحزب الجبهة الوطنية المتحدة، وحزب الاتحاد المصري الطرابلسي، وحزب الأحرار وغيرها من الأحزاب التي تجمعت حول هدف المطالبة بوحدة ليبيا واستقلالها.
وبدأت الأحزاب الليبية في الاتصال بالسنوسي وإقناعه برفض مبدأ التجزئة، والعمل على توحيد الجهد الليبي من أجل استقلال كل المقاطعات الليبية وصهرها في دولة ليبية متحدة تحت زعامته. وتمخض عن هذه الاتصالات الاعتراف بإمارة إدريس السنوسي على البلاد الليبية، وضرورة الانضمام إلى جامعة الدول العربية التي كانت قد تشكلت عام 1945م.
هيئة الأمم المتحدة والقضية الليبية. تأسست هيئة الأمم المتحدة عام 1945م، وشرع وزراء خارجية الدول الأربع الكبرى في دراسة وضع ليبيا. فطالب السوفييت أن تكون ليبيا تحت وصايتهم، إلاّ أن الولايات المتحدة الأمريكية عارضت ذلك تمامًا، واقترحت أن تكون ليبيا تحت الوصاية الإيطالية، وأيدت فرنسا الموقف الأمريكي لكنها طالبت بتعديل الحدود لصالحها. أما بريطانيا فلم تأبه بالأمر ولم تعره اهتمامًا كبيرًا خاصة بالنسبة لمسألة طرابلس الغرب، وكل ما أصرت عليه بريطانيا هو عدم عودة إيطاليا إلى حكم برقة حسب ما كانت قد تفاوضت بشأنه مع السنوسي.
ناقش وزراء خارجية الدول الكبرى الأربع مصير ليبيا مرة أخرى عام 1946م، فعدل السوفييت موقفهم وطالبوا أن تكون طرابلس تحت الوصاية الإيطالية. أما بريطانيا فأيدت تعديل بعض الحدود لصالح فرنسا، ولكنها رأت ضرورة وحدة مقاطعات ليبيا. وأصرت بشكل قاطع على عدم عودة إيطاليا إلى حكم مقاطعة برقة.
مارس الحكام العرب في جامعة الدول العربية ضغطًا على الرأي العام، فأيد الملوك والرؤساء العرب استقلال ليبيا ودعموه في مؤتمرهم المنعقد في إنشاص عام 1946م، وأيدته الحكومات العربية ثانية في مؤتمر بلودان بسوريا.
وعقدت دول الحلفاء صلحًا مع إيطاليا عدوتهم في الحرب العالمية الثانية، وبموجب هذا الصلح المعقود عام 1947م تنازلت إيطاليا رسميًا عن ممتلكاتها الاستعمارية. فأرسل وزراء خارجية الدول الكبرى الأربع لجنة تحقيق إلى ليبيا بعد تنازل إيطاليا عنها، ولكن هذه اللجنة فشلت لأنها لم توفق في الوصول إلى قرار موحد بصدد المسألة الليبية عام 1948م.
بحثت الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة مسألة استقلال ليبيا ومصيرها السياسي عام 1949م. فغير الاتحاد السوفييتي موقفه وقال باستقلال ليبيا الموحدة. أما بريطانيا فوافقت على استقلال ليبيا ولكنها عارضت وحدة مقاطعاتها وأيدت بريطانيا مطالب فرنسا في فزان. أما فرنسا فعارضت وحدة ليبيا واستقلالها السريع. أما الولايات المتحدة الأمريكية